الاثنين ١٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦
عبد الله

رمزاً في شعر حميد سعيد

حمدي مخلف الحديثي

كلنا نعرف إن العالم المعاصر، لا بل منذ أن خلق وخلقنا، هو عالم مزدحم بالإيجابيات والسلبيات، عالم متناقض، فيه الخير والشر، الخراب والإعمار.

لكن هذا العالم مؤطر بقوانين سماوية، وأخرى أرضية، تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الناس في كل مكان وزمان، ومن هنا، حاول المبدعون البحث عما يخرجهم من تلك الأطر ليصنع كل منهم عالمه الخاص، عالم إبداعه للوصول إلى ما يطمح إليه لآن يعيش في عالم نظيف ومثالي، عالم الحرية وتجاوز القيود، من خلال خلق رموزه، وآحياناً من أجل إبعاد الدوافع الشخصية عما يقوله آخرون لتكون شخصية إنسان ما، موزونة ونظيفة.

والرمز، قد تكون الأسطورة مصدره، وقد يكون الواقع أيضاً، وعلى هذا المنحى، يكون الرمز مادة خصبة للمبدع وبخاصة الشاعر، باعتباره معطىً مهماً من معطيات القصيدة الحديثة.

قال أحد النقاد:" الخطاب الأدبي – عموماً – خطاب رمزي في الاعتبار الأول، فهو رمزي في محصلته النهائية، ورمزي أيضاً في حلقاته الجزئية النامية، أي أنه جهد تعبيري يحتشد بالدلالات الرمزية التي تتفاوت حيوية وفرادة، من شاعر إلى آخر "1

أمعنى هذا إذا غاب الرمز عن النص، يكون الخطاب بصورة عامة هو الرمز؟

كان هذا قول الشاعر الناقد علي جعفر العلاق، قبل سؤالي، ومن ثم نجد:" يمكن القول، إذن، إن كل عمل أدبي مهما كانت قيمته أو مدى تماسكه يشتمل على مدلول رمزي"2
فهل وجود الرمز في النص من أجل أن يكون الخطاب قد استوفى مقوماته الفنية وذلك من خلال استخدام الرمز؟

2-

الرمز أحد مكونات النص الشعري المعتمد على تجربة صادقة، عاشها الشاعر، وللرمز – هنا – أسبابه وتفاعله مع المكونات الأخرى، كما وجوب وضوح مضمونه، ليكون الرمز صادقاً، وما دام الشاعر يعيش في صراع لحظة كتابة نصه الشعري، يكون قد اقتنع بنتيجة اختياره الرمز، وعقله هو الذي يحدد موقفه.

ولن يكتمل النص الشعري إلا من خلال توازن المكونات الشعرية ومن أجل إظهار الرمز الذي يكون حاضراً ومقنعاً، وليس ضائعاً بين مكونات النص الشعري.

كما أن الزمان، المكان، الروح الإنسانية، الوجود، العمق، البعد، وغير هذا من مقومات الرمز التي تظهر في النص، وإن ما يستحق النظر، هو اكتساب الرمز وجوده القوي من حيث إيصاله مغزى النص، ومن الخطأ اعتبار الرمز مجرد إضافة رؤيوية للنص، إنما هو الرؤيا وهو الروح الإنسانية الشعرية، هو إنسان الشعر.

3-

وإذا كان الرمز شخصاً" تاريخي أو معاصر "ماذا يكون؟ ابتكار الشاعر أو تحريك الشخصية من فضاء واقعي بسيط إلى فضاء شعري متحرك؟

الرمز الشخصي يكون في حالة حيوية، عندما يكون في القصيدة في إطار صورة شعرية، ويحقق حضوراً في عقل المتلقي، وعبر هذا الرمز سيكون الصراع، من نوع خاص، ما بين ذات الشاعر الشعرية وذات الشاعر الإنسانية، والشاعر إنسان مختلف بمشاعره عن الإنسان العادي، إذ يمتلك ذاتين، وذاته الشعرية هي الغالبة على الذات الإنسانية، وأقصد بالإنسانية، الكيان الجسدي، وليس القيم الإنسانية التي يتعامل من خلالها مع الآخر.

الشاعر يتعامل مع الآخر عبر إنسانيته الشعرية ومهما كانت ظروف التعامل وأسبابها وأهدافها، فإذا تخلى عن هذه الذات وتعامل مع الآخر عبر ذات إنسانية عادية، يكون بعيداً عن الشعر.

وختام القول: لا يجد الشاعر رمزه الشخصي – الإنساني، من دون وجود الروح الإنسانية داخله، ومن هذه الروح ينشأ الرمز.

ثانياً

1-

كثيرة هي رموز الشاعر الكبير حميد سعيد، وبخاصة الشخصية " تاريخية أو معاصرة " والرموز الشخصية عنده ثرية وفضاؤها الرمزي واسع ولا تدور في مناخ دلالي واحد، بل في عدد من المناخات وحسب مضمون القصيدة.
لكن ما يلفت النظر من هذه الرموز هو " عبد الله " الشخص الذي اتخذه الشاعر رمزاً، لا بل ظلاً، وصديقاً يحاوره في لحظات التأمل وحين القراءة والكتابة، في لحظات الوجع والشجن ولحظات الفرح والحزن.
حتى أن الشاعر حميد سعيد، كتب " قال لي عبد الله " هذا الكتاب الناضج جماليا المكتنز بالمعرفة والتجربة الحياتية والوعي وثراء الحوار و" عبد الله" الصديق الودود الذي طالما حاور الشاعر واستمع إلى إجاباته وذهب معه إلى أقصى جغرافية الإبداع.

ومن يدقق في الرمز " عبد الله " سيجده شخصية متخيلة، لكنها تمثل الإنسان، الأبيض والأسود، تمثل التعددية في المكونات والانتماءات، تمثل الموت والحياة، الخير والشر، تمثل كل نزعات الإنسان، كما تمثل الإنسان نفسه، تمثل الفقير والغني، إنه عبد الله الإنسان والإنسان عبد الله.

لقد لعبت عوامل عديدة في تشكيل هذا الرمز، سواء كانت معرفية أو سايكولوجية وواقعية أيضاً.
إن قصيدة واحدة، تمثلت عبد الله الحقيقي، هي قصيدة " بستان عبد الله " وفي هذه القصيدة، كان عبد الله، مالك البستان.

وألقى الرمز عبد الله بظلاله على جميع الرموز الشخصية المتخيلة، وبعيداً عن الرموز الشخصية، التاريخية والمعاصرة،التي تمثلها الشاعر في عدد من قصائده.

عبد الله، موجة رمزية هادرة حاملة دلالات مترابطة، وراسخة في الصور الشعرية التي وقف عندها المتلقي، وما دام الرمز عبد الله يمثل الإنسان حسب رؤية الشاعر.

فلماذا اختار هذا الاسم؟

لماذا لم يكن على سبيل المثال، محمود، صابر، أحمد؟ والحقيقة إن اسم عبد الله، يفصح بوضوح عن الإنسان، في إيمانه وبساطته وطيبته، وهو الفضاء الرمزي الواسع الذي تتحرك فيه الصورة الشعرية من دون قيود، وأصبح هذا الرمز على قدر كبير من الفاعلية الشعرية في شعر حميد سعيد.
2-
ديوان.. طفولة الماء

*من قصيدة.. بستان عبد الله

بستان عبد الله، من بساتين مدينة الحلة، وهذا هو اسمه، لم يتخيله الشاعر إنما أبدع باستذكاره قصيدة رائعة تتحدث عن زمن كان فيه الشاعر وأقرانه، يومئذ كانت الطفولة حلوة والصبا أحلى، يترددون على هذا البستان ويخافون منه مع حبهم له.

ومن عبث الطفولة انطلق الصوت الشعري فكان:

" وكان عبد الله يضحك حين يبتعدون من هلعٍ
ففي طرفٍ من البستان أفعى..
لم تغادر نبع عبد الله..
آمنةً تعيش بظل عبد الله "

صورة شكلها سرد شعري بالغ الألق، مما يجعل المتلقي أمام صورة حيوية مصدرها ذاكرة الطفولة، أفعى في البستان، قد تكون موجودة في الواقع وقد تكون من مخيلة صاحب البستان، ليبعد العابثين عنها. ولكن..

" لكن عبد الله يرعاها.. ويمنحها الأمان"
" غير عبد الله.. أن تمتد أيدينا إليها "
" وإن خفنا تذكرناهْ
عبد الله..
عبد الله "
" وعبد الله.. يحلم بالمياه "
" يدنو إليك الفجر عبد الله.. خذ بيد النجوم إلى صباها "
" وعبد الله.. يعرف كل داليةٍ"

تتوالى الصور من دون أن يغيب عبد الله، إنها رواية شعرية مكثفة، في بناء شعري يوحد بين المعنى والجمال.
ديوان.. مملكة عبد الله

قصائد هذا الديوان، هي قصائد الإنسان ومملكته، بما فيها من إيجابيات وسلبيات، وهي عن الإنسان المقاتل، المتفائل، الباذل.

وهو – الشاعر – من خلال هذه القصائد كان محايداً بين إنسان الشعر والإنسان العادي الذي يعيش يومه، وراح يكتب ما قاله إنسان الشعر عن الإنسان، في رمزه عبد الله.
وجاء الديوان في قسمين، هما:

1-هبد الله المقاتل
2- عبد الله المتأمل
وجاء الشعر من السهل الممتنع الذي يفتح أفقاً واسعاً في فضاء الإبداع الشعري.

*من قصيدة.ز رملٌ وحناءْ
جاء عبد الله بوجه جديد، غير الوجه الذي كان في " بستان عبد الله " إذ جاء من " الفاو " مقاتلاً مضحياً صامداً:
" ويجيء عبد الله من دمه..
وتصحبه الأغاني"
" وعبد الله مشغولٌ برصد تحرك الأعداء "
فهو الذي سطر ملحمة الفاو، وصحبته الأهازيج والأغاني ورافقه الفرح، ولم يعط اسماً آخر لمقاتل آخر، وكأن الشاعر أراد أن يكون عبدالله اسماً لجميع المقاتلين.

*من قصيدة.. ليلة الصيادين

" أفتحُ كل الأبواب لعبد الله..
لضحكته.."
" الأسماك تعود إلى النهر..
وعبد الله يعود إلى الدارْ"
" تهرع نحو الشاطئ.. تبحث عن عبد الله "
" وليطلق عبد الله.. على الضفة الأخرى إطلاقة تنوير "
وهنا أيضاً هو عبد الله المقاتل، تقترن سيرته بأبجدية الوطن، ليدون تاريخاً لشعب دافع عن أرضه.
*من قصيدة.. فحل التوث
" في بال عبد الله.. خضرته.. وظلٌ غامقٌ في الماء"
" وكان يكبر قبل عبد الله..
تقصده العصافيرُ"
" يا أمَ عبد الله..
أين أخي الذي ودعت عند النبع؟!
تصمتُ أمً عبد الله "
يا لهذه العلاقة التي تبدو لي عصية على الوصف بين الإنسان – عبد الله – والشجرة – فحل التوث –
هو أخوه، ويتحقق هذا الإخاء، بالشعر وليس بسواه.
إن الأفق الذي خلقه عبد الله في جملة الصور التي استشهدنا بها منذ قصيدة " بستان عبد الله " حتى قصيدة " فحل التوث " هو أفق الإنسان الصابر الصامد، تكشف مضمون النص الشعري، لكن بعد قصيدة " فحل التوث" اختفى عبد الله، وهذا الاختفاء ليس بسبب ضمور أهمية عبد الله الإنسان، بل بسبب طبيعة مضامين القصائد التي جاءت في دواوين الشاعر اللاحقة، فلم يفكر الشاعر في وضع عبد الله في فضاءات شعرية غير الفضاءات التي تعبر عنه ويعبر عنها.
وهكذا يظهر عبد الله في العام 2008 في ديوان " مشهد مختلف، بعد أن اختفى منذ ديوان " مملكة عبد الله ".
ديوان.. مشهد مختلف

*من قصيدة.. رسالة اعتذار إلى أبي جعفر المنصور
" أورثتنا حُلُماً جميلاً..
أيها الحلمُ الجميلُ
مُذْ جاء عبد الله يحملها إلى الضفتين.. شمساً "
ثم:
" مذْ كان عبد الله.. أطلق في ملاحمها الوعول "
" مُذْ كان عبد الله.. كانت هذه القرشيةُ الخضراءُ"
" سيلمُ عبد الله..
أشتات الأساطير.. الأقاويل التي تروى.. إشارات الكواكب والرؤى..
ويقيم فيها.. بيت عبد الله "
" يظلُ عبد الله..
من سَمَرٍ إلى سَمَرٍ.. ومن خبَرٍ إلى خبَرٍ "
" سألت عبد الله.. هل كان المنجِمُ قد روى من قبلُ..
عن وحش الكوابيس "
" وسألت عبد الله.. هل كان الفريسيون في الزمن الجميل..
يتواطأون على مفاتنها؟"
" من هؤلاء؟!
يقوم عبد الله..
أبواب ثمانيةٌ.. سيفتحها لنا "

أيقظ الشاعر عبد الله، فدبت فيه قوة الشاعرية التي جسدت هموم الإنسان، وروح الوطن، روح عبد الله هنا، تعني الحياة والتاريخ والوطن وتعني بغداد جوهرة التاريخ.
*من قصيدة.. بستان قريش
" كان هنا عبد الله.. وكانت سيدة الشجر الناهد..
في بستان قريشْ
فلماذا يهجرها عبد الله.. ويجفوها رغدُ العيش "
" يُقتلُ عبد الله.. وتُنفى عشتار "

هذه الصور الإنسانية لا تتوقف عن محاورة عقل المتلقي وروحه، وكأننا أمام موجة ضوء جاءت بروح الشعر لتحدد ما للإنسان وما عليه.
ديوان.. من أوراق الموريسكي
*من قصيدة.. الموريسكي
" وفي فردوس عبد الله..
في مملكة الماء.. وفي اليباب "
*من قصيدة.. زمن آخر للموريسكي
" ومات عبد الله.. وانقطع البريد "
عبد الله هو موريسكي الحاضر، موريسكي بلدنا، وقد تعايش معه الشاعر منذ اليوم لاحتلال بغداد، واختاره اسماً للموريسكي العراقي، فكان له موقفه من الاحتلال بكل نتائجه.
وختاماً، ما الذي يدعو حميد سعيد إلى خلق عبد الله الموريسكي الآن؟ غير الوعي بما حدث وما سيحدث، الآن وفي المستقبل.

الهوامش

1،2- في حداثة النص الشعري-دراسات نقدية – علي جعفر العلاق – دار فضاءات – عمان ط3 2013
3 – قال لي عبد الله – حميد سعيد –دار دجلة –عمان ط1 2015

حمدي مخلف الحديثي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى