الأربعاء ٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٦
بقلم باسم جبير

متى تصحو السماء؟

بين ساعات نومي المتقطعة لقد تابعته منذ ليلة امس كان مطرا غير معهود متواصـــــــــــل وكان صوته يصلني من كلتا اذني ومن غرغرة المرزاب الذي بجانب غرفة نومي، وهو يهمس ما ان يماسس ماتجمع منه في ارض الشارع. جعل يتسع مشكلا بركا كبيرة يحول اتساعها دون اماكن خوضها مهما اتسعت الخطي وازدادت حذرا. اختفت ارض الشارع بكل معالمها وراء تلك المسطحات المائية، اتصلـــــــت، لتغدو مجاهيل غير مامونة كما لو كانت، وليس لدي ادنى شك في ذلك، قاع النهر الذي يستحيل وضع قدمي فيه. لذا فقد وجدت في ذلك معينا لي لتجنب مغادرة منزلي طول ليلة ونهارين كاملين.

اني لا اراه الان وقد استرخيت على الكرسي ومن وراء نافذتي الكبيرة يكاد يكون كل شيء في الشارع مقفرّ ولم اطق ان يحتجزي هذا يومٌ اخر فقد كنت بأمسَ الحاجة لتبديد ماتراكم فيَ من كسل، وان يكون الجهد الذي بذلته اول امس غير قليلاوحتى حين اتذكر اني قد قمت به وحده لتأخذني هزَة ولكن مع ذلك ليست طويلة لتحتل موضعا ليس صغير المساحة من تفكيري فالمسافة بيني وبين حلمي ليست كما هي في الحقيقة ولا المسافة بين حلمي وبيني هي كذلك مع كل سنة يضيفها الى عدد سنواتي محاسبٌ غير مرئي. ولكن ماقيمة هذه السنين ذهابا وايابا بيني وبين ذلك حلم قياسا بما لا يذرع بالامتار او الكيلو مترات اوحتى بسنة ضوئية. ان الموت ليقع خارج هذا المقاييس ويكون غريبا عليها، فكلما بدي لي ذلك الجثمان فلا يعنيني.. انه لميت وكفى. اما اذا قيض لي لاسباب غامضة غير مفهومة ان انهمك من بين الناس الموجودين في البيت جميعا في طقوس عملية دفن لم تكن واضحة هي الاخرى اذ ان هناك اشياء تبدو وكانها الصدفة وحدها هي التي تقوم بترتيبها وتظل حية لتستمد ممن تهيب بهم تنفيذ الاوامر التي غالبا ماتقع من مركزها على المحيط فيتسع دائما ويتراجع على وفق ذبذبات تتغذى ابداً على القلب.

عندئذ لايبدو ان ثمة جدوى في اي تساؤل ويطيش السؤال في المشهد الذي تتواصل على حبكهُ خيوط متوازية من المطر وهي تُستل من جزة السحب الهائلة مخططة الاشياء في عالم بعيد يُرى لشفافية مختلطة بزرقة قبل ان تنحل في مسطح اكثر غباراً من القطن نفسه. وبعد ان توقف زخ المطر وخروج الناس تذوب وتتحلل المسطحات المائية كما تفعل الجثث تماما وهي تحاول ان تتوارى وكانها لا تروم ان تبارح مكانها شيئا فدورها الجديد التي عليها ان تبالغ اتقانه، انها لتكتفي كما يفعل المطر أن تتبخر بطريقة ما.

كانت عيناي مفتوحتان وكلتاهما على الشارع ويدي اليمنى تحيط بقدح القهوة الذي امتلأ وفرغ اكثر من مرة، جذبته من اعلى النافذة، قربته الى فمي وارتشفت حثالته الباردة ونهضت. كأنما المطر يموت ايضا، والفيت نفسي مفعما براحة، انها تحديدا لا تدل الا على التخلص من شيء ما اكثر منها استعادة لقوى. فقد بذلت بسخاء على مالاجدوى فيه مطلقا وانها لتتجمع الآن بحيث تحتاج لمزيد من الشوارع لتستنفذ لمقهى بعد آخر بعيدا عن تلك التي في مثل هذا الطقس، لا تبلغها رجال، اماكن اجد نفسي فيها وحيـــــــــــــــــــــداً. بعدها اعدت قدح القهوة الفارغ الى مكانه والقيت على وجهي نظرة غير مكترثة وكانه قد قابل المرآة بما تستحق وهي تبديني على النحو الذي كنت به مسجلةً تلك التغيرات غير القلبلة للاكتشاف بقصدٍ سيء فقط لتيرني انه انا وكل مامررت به قبل يوميتن لايرقم على ملامحي الا ماهو مثبت فيها منذ ثلاثة ايام، انها لاتأخذ ولا تعطي على الرغم من عدم اعتراضها ابدا.. انها على الحيـــــــــــــــــاد.

بعدذلك خطيت خطوة اخرى نحو الباب واعقبتها بأكثر من واحدة بحيث لا اجد نفسي امام مرآة من السعة كونها استوعبتني بأكملي ولم استرعي انتباهي انه لاوجود لشبح لا على يميني ولا على يساري.. لافوقي ولا تحتي.. واني عللتها لا اكثر من مجرد صورة كتلك المرسومة وان وجودي بتمامي لايتجاوز محض رقاقة قابلة للنزع واني ليس انا بمقدار ما انا موجود. قبل الذهاب كشرت في المرآة على العتبة وقبل ان يستعيد جهي ملامحه تصلبت هذه الصورة و برزت وبدت كما لو كانت رديفا جبسيا لوجه آخر، لقد كانت بيضاء وبلون الجبس فعلا لولا انها خالية من طراوته قبل ان يجمد ويتحول الى كتلة مجرد النظر اليها يجرح.

تتداعى في سفح ذهني كائنات واشياء وكاني بذلك ألوذ بعبائتي عن الامساك بإسم منها. واشعرني ذلك برعب لا يوصف وهو الذي لم يعطي الى الخوف الا بمقدار مايركن عليه هذا من ذلك الهامش. وجعلت كلمة سدى تتراجع بازاء ماجُعل شيئاً فشيئاً ليتضح انني منغمس الان في الكثافة، اعتراني ذهول كانما انا فعلا قد امسكت بشيء يشبه الخيط واني لو استطعت ان اجذبه لن اتفاجأ بعد ذلك لولا انني اكتشفت ان العملية لا علاقة لها بالجذب طالما ان الصورة راحتتظهر من تلقاء نفسها وماكان لمحا من قبل جعله ياخذ هيئة شبح. انه لشبح فعلا في صورة لإنسان غير متاكد من انني اعرفه. كنت خفيفا وقد اضافت السرعة على حركتي مايمكن ان تضيف وقد راودني تفكير في مطرالليلتين الفائتتين نوعا من رشاقة لم آلفها في نفسي، فهي من المؤكد اكثر بكثير من مجرد طاقة متجددة. عندها وثقت ان السلالم لم تمتد الى مالا نهاية ولم تعد المسافة بيني وبين اعلى الشرفات ذات منزلة بعيدة وكانت كلتا يديّ وقدميّ تحملني وانا هنا بكاملي لاشيء مجرد وصلة تتقلص.. ترتخي وتتقلص من جديد لتجد نفسها بين القدمين والذراعين مرة اخرى. تخللني الهواء القوي ورحت بدون استقرار ارتجف حتى انفي بقي يرتجف وانا ارى ذلك الشيء الذي رآني قبل يومين.. انه يندثر لكنه قد يظهر في اللحظة التي تظنه فيها اختفى الى الابد.

وقد بدى لي ان المطر قد غسلني وكفنني وبدأ يحشرني في تابوت وانا لم اشغل نفسي الا باللامجدي من الاسألة حيث اتضح لي ان كل شيء من رحلتي بيني وبين حلمي لم اعد قادرا على فهمه كما لو كانت تلك العلاقات هي الاخرى لها جثث وانها لتموت ايضا كما يموت اصحابها وانها لتتعفن وتتفسخ مثلها. وعلى هذا النحو تتراجع المقاييس الى النقطة التي انتهت اليها بكونها وسائل يستحيل استخدامها مع الاحاسيس والمشاعر وان الموت ليس الا تركيزا لهذه في نقطة تقع عادة خارج الطقوس المجهدة المتعاقبة التي تلي ذلك الخط الفاصل. انها ليست الافكار ولا العواطف ماتبلور فيَّ شيئاً اشبه بصهير زجاج، انما الواقــــع. فالزمن كما هو دائما لايستعين الا بساعته وهو لايدير سواها وانه لا يحتاج لدهر لأداء تلك الحركة.

صرت اصغي الى مالايصل اليه صوتي حيث هناك اوراق تتساقط وتثير مالايُرى من هنا من شدة الضباب، لكنني لم اعد يهمني الضباب رغم انني مازلت الهث من شدة المطر، فلقد تركز مابذلت من جهدي وجعل قلبي كما لوكان طبلاً يدق واني وحدي اسمعه... الآن صار بوسعي انظر الى السماء، ونظرت. كانت صحو ليس ثمة ادنى ظن انها سوف تمطر ثانية قبل ان اخطي الخطوة النهائية في اتجاه ارض احلامي الا انها وعلى حين غرة بدات بالمطر، الغزير، مرة اخرى لتكون عائقا بيني وبين حلمي فأنتكس. وبقت الأسئلة الطائشة في داخلي تتسائل متى تصحو الســـــــماء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى