الاثنين ٢٥ نيسان (أبريل) ٢٠١٦

مصطفى عكرمة.. شاعراً معلماً

جمانة طه

من يتعرف إليه يدرك منذ الوهلة الأولى أنه شاعر، فالقلق يسكن في عينيه والريح تستريح بين يديه، والشعر يقف على شفتيه، هذا هو حال مصطفى عكرمة الشاعر المطبوع، الذي ينساب الشعر منه بلا تكلف، لطيفاً ناعماً مثل خد أسيل.

يقول الشاعر اليوناني هوراس الذي ولد عام 65 قبل الميلاد: «إن الشعراء قد اكتسبوا بين الناس مكانة الحكماء والنبيين، من جراء توسطهم في حل مشاكل الخلق»، فكرة هوراس هذه لم تكن جديدة، بل قديمة وشائعة، فالرومان القدماء نظروا إلى الشاعر والنبي وكأنهما واحد، ونحتوا من لغتهم لفظة (فاتيس)، التي تشير إلى الشاعر وإلى النبي، هذا اللقب السماوي جاد به ذلك الشعب، على ذلك الفن الذي يأسر القلب.

وإذا كان أفلاطون قد شن على الشعراء حملة لا هوادة فيها وأقصاهم عن جمهوريته، لأن الشعر على حلاوته وطراوته يحمل في موضوعاته ميوعة وفسوقاً تفسد الفتيان وتضلل النشء، فإن اليونانيين القدماء خالفوا رأيه وموقفه ورأوا أن للشعر وظيفة تعليمية، وجعلوا مقام الشاعر في المجتمع مقام المعلم الذي يهذب الناس ويرقى بهم، فكانوا يطلقون على شعرائهم الكبار صفة الشعراء المعلمين، والشاعر مصطفى عكرمة قد سيطرت عليه طبيعتان: طبيعة الشاعر المرهف الإحساس، وطبيعة المعلم والمرشد، قبض على هذا السر اليوناني ومارسه في كتاباته للأطفال، فقدم للنشء الصغير شعراً تربوياً، يصلح لأن يكون نواة لمنهج تعليمي تربوي في المرحلة التعليمية الأولى، فها هو يلفت النظر بلسان أحد الأطفال إلى ضرورة القيام بزيارة طبيب الأسنان، للحفاظ على الأسنان سليمة نظيفة: ‏

ربي أوجد لي أسناني كي تخدمني لا تنساني ‏

فيها أمضغ كل طعامي حتى ‏

يسهل هضم طعامي ‏

أذهب كي أحمي أسناني عند ‏

طبيبٍ للأسنان ‏

كي يحفظها ويداويها ويعلمني ما يحميها ‏

وينبه في قصيدة أخرى إلى دور الإشارة الضوئية، وأهمية ألوانها ودلالاتها، ليتعلم الأطفال منها كيف يعبرون الطريق بأسلوب حضاري، يؤمن لهم السلامة ويجنبهم المخاطر: ‏

الضوء الأحمر قد بانا ل ‏

ا تعبر يا طفل الآنا ‏

*** ‏

الضوء الأحمر إنذار قد تأتي منه الأخطار ‏

وثوان يتلوه الأخضر فيمر الناس من المعبر ‏

الفرق ثوان لا أكثر ‏

ما بين الأخضر والأحمر ‏

*** ‏

ستون عاماً ويزيد، ريعانها في مدينة الحفة التي تطل على اللاذقية من علٍ، وشبابها وشيبها في دمشق حاضرة التاريخ، فتغذت شاعريته من جمال الطبيعة في الحفة: ‏

ويا كروماً أنا في حضنها ولد هل تذكرين قليلاً شقوة الولد ‏

الشمس كانت بها ملكي وطوع يدي والبدر كالشمس ما أحلاه طوع يدي ‏

ونهلت، أي شاعريته، من ثقافة دمشق وجلال تاريخها: ‏

شآم المجد ظلمك مستطاب به ألهمت عن قومي الخطابا ‏

فأسلس واستطال وطاب شعري ولولا أنت لم يك مستطابا ‏

وخلال هذه الفسحة من الزمن التي عاشها بين الحفة ودمشق، عبر العصامي مصطفى عكرمة مفازات حياتية وشعرية عديدة بكثير من التعب والمجاهدة، لكنه خرج في كثير منها منتصراً حاصداً النجاح. ‏

وفي عودة إلى كتاب فن الشعر لهوراس، نجد أنه جعل غاية الشعراء من شعرهم هي الإفادة أو الإمتاع، ويرى أن شأن القصيدة كشأن الصورة، واحدة تعجب المرء لو وقف بالقرب منها، وأخرى تأخذه لو وقف بعيداً عنها، فهذه أرضت الناس مرة واحدة، والأخرى ترضيهم حتى لو عرضت عليهم عشر المرات، وينطبق الشق الأخير من قول هوراس على قصائد مصطفى عكرمة، التي كلما تكرر سماعنا لها أحببناها واكتشفنا فيها مواطن جمالية جديدة ومعاني إنسانية عالية، هذه الجمالية في الصورة والسمو في المغزى والتألق في الإلقاء والحرص على التوحيد بين الشعر والدين والأخلاق توحيداً بنائياً ووظيفياً، منح الشاعر وشعره حضوراً لافتاً في جميع ما عرض من موضوعات، سواء أكانت دينية أم وظيفية وحتى عاطفية، فهو لم يتجاهل مشاعره الإنسانية الخاصة، على الرغم مما يظهر من تحفظ في هذا المجال، ولأن أعذب الشعر أكذبه، لفتتني أشعاره في الغزل ووجدتها تفيض شفافية وتطرب النفس عذوبة. ‏

فالمرأة حين تتوهج سحراً في الكلمة، تمنح الحياة سناً والقلب ضوءاًٍ والحلم فرصاً جديدة. ‏

لقد أبحر الشاعر عكرمة في فضاءات العشق بحرفية ومهارة، واستطاع أن يعوم في بحر من التجلي والإبداع من غير أن يغرق فيه، ومثالنا على ذلك أبيات من قصيدة يصف فيها مشاعره نحو امرأة لامست يدها يده، مع أنه في العادة يتحرج من مصافحة النساء: ‏

مددت له كفي.. فغاب وغيبا وأيقظ أحلام الحياة وطيبا ‏

وطاف بروحي في عوالم حبه وجاب بها الدنيا.. وأدنى وقربا ‏

مددت له كفي.. فروّته وارتوت فما كان أحلى ما سقينا وأعذبا ‏

فلا الكف كفي.. لا.. ولا الثغر ثغره ‏

ولكنما قلبان.. في الكف ذوِّبا ‏

ترى هل كانت الصورة تعبيراً عن حالة حقيقية، أو أنها من تخيلات الشاعر وأحلامه، لاسيما أن الفن يقع في الوسط بين الحلم والواقع. ‏

وفي مقطع من قصيدة أخرى يصف لحظة التقاء نظراتهما، يقول: ‏

سلمت بالطرف لما عبرت ويح نفسي.. أسرت أم سحرت ‏

رعشة منها سرت في أضلعي ليتها ما بين جنبيها سرت ‏

قد نسيت الأمس واضيعته وبدأت العمر لما نظرت ‏

*** ‏

وإذا كان الشعراء، كما يقول شيلي، هم الكهنة الذين يترجمون وحياً لا يدركون كنهه، وهم المرايا التي تعكس الظلال الماردة التي يرمي بها الغد على الحاضر، وهو الأبواق التي تنشد في المعركة، وهم الأثر الذي يحرك ولا يتحرك. ‏

فإن مصطفى عكرمة الذي جعل من شعره مرآة للشعب وقضاياه، اشتغل بقناعة وتصميم على مشروعه الشعري الديني والأخلاقي، فجاءت كلماته جريئة وصادقة، ولأنه أدرك أثر شعره وتأثيره، لم يغن أحلامه الشخصية بل تماهى فيها مع أحلام أمته وتطلعاتها، فمن كلماته يطل وجه الوطن، ومن حروفه يفوح عبق الرياحين: ‏

الحسن أنت وأنت المجد يا بلدي هل أنت من كبدي أم أنت لي كبدي ‏

صاغتك بالحسن كف الله منفرداً يا طيب فردٍ بزهو الحسن منفرد ‏

فاسلم، فديت، لحب أنت ناظمه أيا تراباً به أشفى من الرمد ‏

فمجد الأمة وعزة الأوطان، لا يتحققان إلا بالعودة إلى ينابيع الدين الإنسانية والأخلاقية: ‏

فلا الأوطان أوطان ‏

أذا ما ساد طغيان ‏

وبالإيمان كل الناس ‏

لي أهل وأعوان ‏

يشد عرى أخوتنا بدين الله إيمان ‏

ولا سبيل أمام العرب للتخلص من الظلمة والظلام، إلا بالاتحاد: ‏

فكم مرت بأمتنا خطوب وزادتها ثباتاً واحتداما ‏

شموس الحق نحن إذا اتحدنا فلن تلق الظلوم ولا الظلاما ‏

أما الإنسان الذي هو أحد المحاور المهمة في أشعار مصطفى، فيتوجه إليه طالباً منه أن يجعل من حياته مسيرة محبة وتراحم، فالموت يقف بالمرصاد مهما طالت السنوات: ‏

يا أيها الإنسان إنك ميت مهما تعش ستموت يوماً راغما ‏

لا.. لن يؤخر ساعة عنك الردى مال.. ولا مجد.. ولو بلغ السما ‏

فعلام لا تحيا الحياة محبة وتزيد فيها للأنام تراحما ‏

*** ‏

معالم كثيرة يمكن تلمسها في شعر مصطفى عكرمة، والإشارة إليها، ومحطات عديدة تستحق منا التوقف عندها، لكن المجال لا يسمح لي بأكثر مما توقفت عنده أو أشرت إليه، مع أن البحر لا يختصر بقطرة. ‏

ويكفي مصطفى عكرمة فخراً، أنه استطاع أن يؤسس لشعره موقعاً مميزاً في مدونة الشعر العربي المعاصر، وأن ينبت في خميلة الوطن شجرة، أغصانها محبة وورقها خلق وإيمان.

جمانة طه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى