الاثنين ١٦ أيار (مايو) ٢٠١٦
بقلم وديع العبيدي

المنظور الاجتماعي في قصة ميسون أسدي

في قصتها القصيرة (التدريب الأخير) تتناول ميسون أسدي واحدة من الاسئلة الوجودية المضطرمة والحافلة بالتداعيات، تلك هي المشكلة الجندرية. والاسئلة الوجودية نادرة الحضور في الفكر العربي عموما، فإذا حضرت، يلزمها الاستفاضة في البحث لسد الفراغ الثقافي والتاريخي برمته.

مالذي يحدد الجنس في أصل الجنين؟ هذا سؤال علمي، ولكنه متصل بالبيئة الثقافية العامة وفضاء الحرية المتاح للبحث فيه. وللأسف، على عكس الشائع والمترسخ دينيا، فالأمر هو مسألة علمية فسلجية محض، بغير اية قوى خفية أو قدرية وراء الموضوع.

والانجاب عموما، والتوزيع الجندري والتشوه السكاني، اكثر ارتباطا بمجتمعات الجهل والتخلف، منه بالمجتمعات الأكثر تحضرا. والطريف، انه في زحمة وركام الارث الفقهي والمصنفات الضخمة عن المرأة والجنس في التراث العربي، فهي لم تتعد البعد الصوري وتكرار المقول، وترسيخ الاقطاع والعبودية الدينية لاغير.

الصمت في هذا الجانب يتبعه صمت عن مغزى الموقف الاجتماعي والديني من فكرة الذكورة ونبذ الانوثة. وندرك من النص القرآني ان بعض الاعراب كانوا يقتلون ولادات الاناث فورا : [وإذا الموؤودى سئلت، بأي ذنب قتلت!]- (التكوير 8، 9).
"وقوله: ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ ) اختلف القرّاء في قراءة ذلك فقرأه أبو الضحى مسلم بن صبيح ( وَإذَا المَوْءُودَةُ سألَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ ) بمعنى: سألت الموءودة الوائدين: بأي ذنب قتلوها.

* ذكر الرواية بذلك: حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، في قوله: ( وَإذَا المَوْءُودَةُ سألَتْ ) قال: طلبت بدمائها .

حدثنا سوّار بن عبد الله العنبري، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن الأعمش، قال: قال أبو الضحى ( وَإذَا المَوْءُودَةُ سألَتْ ) قال: سألت قَتَلَتها .

ولو قرأ قارئ ممن قرأ (سألَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ ) كان له وجه، وكان يكون معنى ذلك من قرأ ( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) غير أنه إذا كان حكاية جاز فيه الوجهان، كما يقال: قال عبد الله: بأيّ ذنْبٍ ضُرب
يقال: وأده فهو يئده وأدا، ووأدة.

* ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) هي في بعض القراءات: (سأَلَتْ * بِأيّ ذَنْب قُتلَتْ) لا بذنب، كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاب الله ذلك عليهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى النبيّ فقال: إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية، قال: " فأعْتِقْ عَنْ كُلّ وَاحِدَةٍ بَدَنَةً" .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) قال: كانت العرب من أفعل الناس لذلك .

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع بن خيثم بمثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) قال: البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهنّ، وقرأ: ( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ )"- (تفسير الطبري).

وفي تفسير البغوي: " وإذا الموءودة سئلت ) وهي الجارية المدفونة حية ، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيئدها ، أي يثقلها حتى تموت، وكانت العرب تدفن البنات حية مخافة العار والحاجة ، يقال : [ أود هذا ليس بصحيح من حيث البناء لأن الموءودة من الوأد لا من الأود يقال ] وأد يئد وأدا، فهو وائد، والمفعول موءود .

روى عكرمة عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت وكان أوان ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة ، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاما حبسته . ( بأي ذنب قتلت ) قرأ العامة على الفعل المجهول فيهما ، وأبو جعفر يقرأ : " قتلت " بالتشديد ومعناه تسأل الموءودة، فيقال لها: بأي ذنب قتلت؟ ومعنى سؤالها توبيخ قاتلها، لأنها تقول : قتلت بغير ذنب." وهو قول القرطبي ايضا.

والسؤال عادة ما يجري توجيه للفاعل وليس المفعول، كما يرد في نص التكوير، القائم على صيغة البناء للمجهول سياقا. وفيه يقول الشيخ صالح بن عواد المغامسي:" أن السؤال - قد يظن العبد - أنه من المفترض أن يوجه إلى من وأد لا إلى من وئدت ؟.
لكن قال أهل العلم في الجواب عن هذا :

أن المقصود أن من كان يئد البنات ..أي يُميتهن وهن أحياء ، أو يدفنهن وهن أحياء ، لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا .
ولذلك من ليس له كرامة عند الله لا يسأل مباشرة ، وإنما يوجه السؤال لغيره حتى يُعرف مقامة عند الله ، وأنه لا مقام له عند ربه ، قال الله عنه وعن أمثاله : ( فلا نقيم لهم يوم القيامةِ وزنا )." – (ملتقى أهل التفسير/
http://vb.tafsir.net/tafsir6970/#.VzBoTYQrKUk) .

ونجد تفسير تلك الظاهرة في سورة النحل (58- 60): ( وإذا بُشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ).

والواقع ان البعد الاجتماعي للموقف من الانثى، ليس قائما بذاته، وانما يستند الى مرجعية اقتصادية أو عسكرية. والتقييم الاجتماعي للفرد يقوم على مدى قدرته على منفعة الجماعة، وهو أمر يعتمد على القدرة العضلية المميزة للذكور عامة.
وبحسب المذهب الصوري، تبقى الأنثى متهمة بالنقص. وسوف تتحول فكرة النقص الى مفهوم رديف وملتصق بكيان الانثى في الثقافات المجتمعية العامة. الأمر الذي يتسبب في شرخ بنيوي ما يزال يلازم المجتمع البشري لليوم.
وفي قصة (التدريب الاخير) تقدم القاصة ميسون اسدي وصفا ظاهريا للموضوع، دون الغوص وراءها. فالاب الذي ينتظر مولودا، لا نعرف شيئا عن خلفيته الاجتماعية/ الثقافية/ الاقتصادية. لاستكناه سبب مهم، انتج لديه تلك الفكرة. هل هو فلاح، او عسكري، شخص متعلم أم امي. وفي كل الاحوال، لم يعد سهلا وجود رجال يتبنون تلك الفكرة القديمة؛ سواء بأثر التطور الاجتماعي، أو على أثر الحروب التي تقرض الذكور، أو الحاجة لفتاة ترعى أهلها افضل من الصبي الذي يترك العائلة بعد الزواج.

ربما يعود تاريخ القصة الى زمن ماضي، بضعة عقود مثلا. ومع ذلك كان لابد من عصرنة الموضوع، واعادة تأملها بعين الراهن الاجتماعي والسياسي.
السبب المباشر والوحيد المقدم في بداية القصة هو (الكنية). وطالما جهزت الكنية قبل الزواج، فثمة حاجة لتأثيث حياته بما يستكمل الصورة المرسومة مسبقا من قبل المجتمع.

المعالجة الفكرية..

رغم ان الفتاة، لا دور لها في ولادتها وكونها (أنثى)، فقد عمدت الكاتبة لنسبة البطولة اليها، وتنكبها مسؤولية الفعل وتدوير الأحداث [لاحظ رواية (الرواية) لنوال السعداوي].

ففي استهلال القصة تقول: (عندما ولدت) بصيغة المتكلم، وكأنها كانت موجودة قبل ولادتها، وفي موقع الرقابة وتحريك النص. (القلب يمتلئ برغوة كاوية، تجعل من مجرد التنفس عملية مرهقة.) مما يفهم معه ان ثمة عملية شاقة سوف تحدث، وانها لا ترغب فيه. أي أنها لا ترغب في الولادة، في الوجود. القلب يتنفس بصعوبة، أو لا يريد التنفس. [كل فكرة الوجود هي عضلة في القلب تتحرك وتجعل الفرد يعيش!]

وعقب عجزها عن اتخاذ القرار المناسب، تقع فريسة (الرعب). ولا ينتهي ذلك بالخروج الى العالم، (خرجت الى الليل). ان وصف العالم بالليل، ينطوي على بلاغة وحكمة عميقة في سياق القصة أو الفكرة.
وسوف نجد ان عالم الانثى، محكوم بقرارين: [رعب وظلمة] تعيش فيه حية وميتة. فثياب المرأة، وعالمها النسوي المحجوز عن المجتمع/ النهار، وقبوعها في قفص (الحريم/ الحرملك) هو كناية عن فكرة (الوأد) التاريخية تحت التراب.
ان مغزى (الوأد) يقوم على – إهالة التراب- على الجسم الحي العاجز عن حماية نفسه او تبني رد فعل فيزياوي. وهذا يعادل – نظريا- حياة الفتاة التقليدية في قياب سوداء، داخل حجرات مغلقة، صامتة، والثياب السوداء والعباءات السود والحجاب والنقاب وكل أطنان الأقمشة والظلمات، هي كنايات لغوية لفكرة الوأد القديمة والتي نهى عنها الفكر القرآني في وقت مبكر.
التقنية الثانية في المعالجة، تقوم على قيادة الفتاة نفسها لاستعادة أنوثتها المغتصبة. ولا أدري لماذا تركت (المحرك) بيد الرجل: (قال لي احد الاصدقاء مرّة: أنت امرأة جميلة..).

لماذا تحتاج الانثى الى حافز خارجي لبث الحياة في جسدها أو حياتها، وأين هي حوافزها الذاتية، أين هي إرادة الحياة والابداع والفعل فيها.. المرأة التي تصنع الحياة وعبدها الانسان القديم بوصفها شريكة في الالوهة والخلق، حرية ان تطلق الحوافز وتبدع الافكار وتحرك المشاعر وتدير عجلة التاريخ.. أما أن تتأثر من الخارج؛ وبغيره تستمر في السكون، في انتظار الأوامر والتعليمات، فهي امتداد لتقاليد النظام الاقطاعي.

في هذه النقطة، يظهر أثر المناهج الغربية المحدثة في علم النفس الاجتماعي والاقتصادي؛ والتي تجعل الفرد مشرفا ومديرا للخروج من أزمته النفسية أو حالة الاحباط والخذلان الاجتماعي، وكما يقال عادة: أقف أمام المرآة وأكرر بصوت مسموع، أنا انسان ناجح، انا انسان جميل ومرغوب.

ولفظة (انسان) تشمل الجنسين، بحكم ألف التثنية والنون في آخر اللفظ.
(أجبرتُ نفسي على الهدوء، أخذتُ نفسًا عميقًا وخزّنتُ الهواء داخل بطني لثوان معدودة، ثم زفرته مرّة واحدة، وأعدتُ الكرّة مرارًا، إلى أن شعرت بالهدوء التّام.)

وهكذا تتجاوز الفتاة أزمتها، أو تنسلخ من الصورة التي رسمها لها والدها، لتكون ما تريده (هي)، وربما ما يريده الآخر أيضا (الصديق)!

الواقع انني انتقد المناهج الحديثة في التربية، واعتبرها سطحية ورأسمالية، (بمعنى تخدم رأس المال على حساب الانسان). فالانسان في منظور الرأسمال الامريكي هو (أداة اقتصادية) قبل أي شيء آخر.. المفترض ان الانسان ليس قطعة غيار أو (روبوت) يتم التحكم به عن بعد كما في رواية جورج أورويل (1948).

انا لا اقمع انساني الداخلي واسحق ارهاصاتي ومشاعري السحيقة لارتدي قناعا يناسب المجتمع أو يلبي متطلباته. وانما اعيش الالم واهتصر المعاناة مهما كانت قوتها واتجاهاتها حتى يولد الانسان الجديد من داخلي، انسان ينسجم مع قناعاتي وأدواتي ولا يجعل مني مجرد روبوت.

قد نذكر هنا مصطفى سعيد بطل الطيب صالح في (موسم الهجرة الى الشمال) الذي حاولت الانجليزية ترويضه وتجعل منه ما تريد، ورغم نجاحاته وكفاءاته، لكنه في اللحظة الاخيرة عاد ليتمرد على الصورة النمطية او القناع المفروض عليه، حتى لو جعل منه استاذا ناجحا وعالما اقتصاديا وزوجا لفتاة انجليزية شقراء تحبه وتخدمه.
وما يحصل في قصة (ميسون اسدي) هو ان البطلة تفرض على نفسها قبول حالة ازدواجية، تجعلها اسيرة (انفصام) نفسي. انها تفصل نفسها عن نفسها وتجعل بينهما جسرا/ نافذة كشخصين داخل حجرة أو قفص واحد. وبتطبيع أو ترويض تلك الحالة المزدوجة، تعتقد انها عبرت الى الجانب الاخر. الواقع انها انتجت شخصية – تمثيلية- تؤدي دورا يناسب المرأة المطلوبة

(اليوم سأقول لها ذلك، وإذا جرت الأمور كما أتمنى، وعلى الغالب ستكون كذلك، سنتحدث عن تباريح الغرام، وكل مراراتي الماضية ستذهب إلى سلّة القمامة.)

عسف ذكوري..

(عاملني أبي منذ الصغر على أني ذكر، عملتُ معه في الأرض وعلّمني لعبة الملاكمة واستعمال الأدوات الزراعية الثقيلة وقيادة التراكتور وغيرها. منعني من التعبير عن مشاعري، منعني من البكاء، جعل كل تفكيري وتصرّفي كالرجال، كبرت وحقولي مقفرة لا تسكنها إلا الوحدة ورابية حزينة عشّشت بها).

هنا نلمس لوعة الانتظار المضني والذي يتحول الى تحرق وتحدي وعناد يواجه ارادة الطبيعة. لابد ثمة عوامل نفسية اكثر منها اجتماعية وعرفية وراء موقف هذا الاب. وليس الموضوع مجرد غرور ذكوري أو كبرياء أجوف.
وردت في البداية مسألة الكنية (ابو فلان)، ولها قدر واضح من الاهمية في المجتمعات المحلية الصغيرة ومنها القروية سابقا. وطبعا يتم تفضيل الكنى الذكورية، لان الرجل لا يكني بأنثى. لكن الزمن آخذ في تجاوزها، ثمة مشاهير وعظماء يكنون أو يدعون باسماء أمهات أو أخوات أو بنات.

لكن المهم في النص الادبي هو الحافز الشخصي/ الذاتي داخل القصة. والبصيص المؤذي لذلك هو جملة مقتضبة: (وبقيت الغصّة في حلقه)، دون معرفة ما وراء تلك الغصة.

اتصور عائلة لا يبقى لهم أطفال، بسب العقم او امراض معينة. وربما عائلة لا تنجب سوى الاناث، وهذا شائع. ولكن ثمة ظروفا اجتماعية أو اقتصادية، منها ما يتعلق بالارث، عندما يكون الشخص غنيا، فلا يذهب الميراث ليد غريبة خارج العائلة، باعتبار ان الانثى تذهب للغريب.

رواية (ختام) للسعودية رجاء عالم تناولت شخصية فتاة يتم تنشئتها كصبي وتجد صعوبة في الخروج من شخصيتها أو تقبل المجتمع لشخصيتها غير المألوفة. فكرة جنس المولود وطريقة تنشئته ليست عادية أو سهلة في المنظار الاجتماعي وانما محل خلاف ونزاع كثير من الروابط الاجتماعية والتي تنعكس على الاطفال ومستقبل العائلة. ومعظمنا (!!) خرجنا من عوائل متنازعة بين الابوين. فالعائلة المدينية غير التقليدية تعيش اعراض الصراع بين الزوجين، سلطة الزوجة المتأثرة بالحداثة أو سلطة الاب التقليدية. وهو موضوع لم يستثر كثيرا في واقع القرية الفلاحية أو البدوية، أو الجماعات غير المندمجة في التطور. ولهذه أمثلة في لندن، حيث يشكل الاب اقطاعا عائليا تمتد سلطته للاحفاد والاصهار والتحكم بالقرارات والمقدرات المالية غير المستقلة عن سلطة الاب/ الاقطاعي.

التطور الثقافي ومظاهر الحداثة جعلت عوائل المدينة تدفع فاتورة هذا الصراع بين الموروث والمحدث. فالتعليم ومظاهر الحداثة تنعكس وتغير من شخصية المرأة التقليدية. وقد يكون الزوج المتعلم وراء تعليم زوجته ومساعدتها لهضم واستيعاب الحداثة، ليكون هو نفسه ضحية عمله، عندما تبدأ الزوجة بمغادرة وظائفها التقليدية، ومنافسته والتعامل معه كند؛ مما ينتج نوعا من علاقة ديكية بين الزوجين.

فتنامي سلطة المرأة لا يكون على حساب سلطة الرجل، وانما على كرامته وانسانيته ايضا. وبكلمة عامة، أن العوائل المتعلمة تعيش حالة ازدواجية رسمية بعيدا عن عناصر العاطفة والانسانية والارتباط النفسي، بسبب تضخم عقدة الانا (الذات) لدى الام ، وانسحاق شخصية الرجل، تحت طائلة مسؤولياته التقليدية والاجتماعية من غير دعم أو مقابل داخلي.
ان مجتمعاتنا حافلة بالمشاكل والأمراض الاجتماعية والنفسية، بل نحن نعيش كأمة على مستنقع من الاشكالات والعقد التي لا يفطن ولا يجرؤ أحد على وضع اصبعه فيها. وما يحدث احيانا من دروس تثقيفية لا تخرج عن مجال المجاملة والتجميل، ولا تؤثر في جذور المشكلة التي تعيشها العوائل الحديثة، في مهب الخلافات والمناكفات اليومية والغيرة المرضية لمعظم النساء – الغيرة على مركزها وليس على الرجل-.

إزاء هاته المفصلية يعود الرجل ليلعب دورا ايجابيا في حياة المرأة، وتحريرها من سجن العائلة. وظيفة الزوج غالبا هي تحرير الفريسة من القفص، ولكن النتائج تبقى غير مضمونة، عندما تتحول الفريسة المحررة الى طاغية تستعبد محررها ولا ترحمه من التحطيم.

من الذي يطغى على الآخر، هل هو الرجل أم المرأة أذن؟.. الكاتبة حذفت دور الام واختزلت وجودها في بداية القصة، رغم كونها صاحبة المسؤولية في الانجاب، وتركت الساحة للاب، لتضخيم صورة الدكتاتور. ولا نعرف موقف الاب عندما تبدأ الفتاة بتعديل شخصيتها أمام المرآة.

(ليليات امرأة آرق) رواية الجزائري رشيد بوجدرة، تتعرض لفتاة، تكتشف علامة الدورة الشهرية في حياتها وجسدها. هاته الدماء التي تكتنف حياة الفتاة، توقظ لديها اسئلة وتقودها لاكتشاف جسدها وربما سر الحياة. وكان أولى لقطرات الدم تلك ان تكون جرس انذار الانوثة وليس غزل الصبيان. قد تكون الفتاة والمرأة عموما أكثر انتظارا للاطراء والكلام الناعم والتعزيز المعنوي الخارجي، وهذا بعد نفسي ربما رمت اليه الكاتبة. مما لا تحظى به الفتاة – عمليا- داخل اسرتها.
إذن، ثمة خطوط ومعادلات متعددة تتحكم بمجريات (التدريب الأخير) على مسرح المجتمع، وكلها أبعاد مفتوحة للدراسة والتحليل والتشخيص الموضوعي الصريح والجري، بعيدا عن عقدة الصراع بين الجنسين، مما يحول العلاقات الاجتماعية الى حلبة ملاكمة، يفوز فيها من يسدد أكثر الضربات وأوجعها، لارضاء غروره ومهانة الاخر، لا غير.

المعالجة الفنية..

اعتمدت القصة زاوية الكاميره، التصوير السينمائي الخارجي للحدث والشخصية. وهو اسلوب تقليدي اكثر نفعا في قصص المغامرات والاحداث البوليسيةـ ولكنه يختزل الابعاد النفسية والمشاعر الفاعلة تحت جلد الشخصية.
في هذه القصص تحضر النهاية قبل البداية، ويبقى التوليف، لذلك تأتي البداية مختصرة مخبونة سريعا، لتفسح المجال لتجسيد النهاية التي تستأثر بثلاثة ارباع حجم النص. ماذا لو تم اختصار النهاية على غرار البداية.
القصة حسب ارسطو هي اعادة تشريح المجتمع أمام نفسه، لمساعدته في اكتشاف عيوبه وتجاوزها لما هو افضل. لكن مجتمعاتنا تتحرك ببطء – في منظور التطور، وأكثر منه، تحب أن تدور على نفسها، وتترك الزمن يتجاوزها او يسحبها وراءه!.

قصة (التدريب الأخير) لميسون أسدي منشورة في موقع جماليا الالكتروني للثقافة والفنون.

ميسون اسدي: التدريب الاخير (قصة قصيرة)

عندما ولدت، كان القلب يمتلئ برغوة كاوية، تجعل من مجرد التنفس عملية مرهقة. في تلك اللحظة اجتاحني الشعور بالرعب، خرجت الى الليل المشع وجها لوجه.. كان أبي وامي ينتظران مولودًا ذكرًا. جئت بعد عامين على ولادة اختي الكبرى.. جهّز أبي اسمًا للمولود، لأنه كان يحب أن ينادوه "أبو سمير"، ولكنني جئت انا، فلم يألُ جهدًا بالبحث عن اسم لي، فقط عدّل اسم الولد لاسم بنت وأصبح اسمي سميرة.

عاملني أبي منذ الصغر على أني ذكر، عملتُ معه في الأرض وعلّمني لعبة الملاكمة واستعمال الأدوات الزراعية الثقيلة وقيادة التراكتور وغيرها. منعني من التعبير عن مشاعري، منعني من البكاء، جعل كل تفكيري وتصرّفي كالرجال، كبرت وحقولي مقفرة لا تسكنها إلا الوحدة ورابية حزينة عشّشت بها.
قال لي احد الاصدقاء مرّة: أنت امرأة جميلة..

غضبت من الصديق كثيرًا، وقلت له: لا تقل لي امرأة، قل أي شيء ولكن ليس امرأة..
سلمتني كلمة امرأة إلى مزيد من الكآبة والإحباط وهدّدتْ تفكيري وتصرفي.
لم يتضايق منّي ذلك الصديق، ونصحني بإجراء بعض التدريبات التي ستساعدني في إعادتي لطبيعتي الخلقية.

التدريب الاول

وقفت أمام المرآة، نظرت مباشرة إلى عيني وخاطبت نفسي:
أنت امرأة جميلة، كمهرٍ جموح، جذابة حلوة الملمس والمعشر، عيونك زرقاء، ولك تاج من الشعر الذهبي المتوهج بكبرياء الأنوثة. شامخة كحصان عربية أصيلة، انظري إلى هذا الأنف المدبّب والحاجبين المقرونين والشفتين الممتلئتين، لقد أبدع الباري في هندسة صدرك ومؤخرتك، فهما يتمشيان معًا بتكويرهما وتدويرهما وتنقلهما برشاقة الغزلان، انت لا تستعملين مساحيق المكياج، ولكن لو كحّلتِ عينيك الزرقاوين لأبهرتِ من يراك.. ماذا أقول لك يا مرآتي.. عيناي الزرقاوان شاهدتان على ما أقوله.
دوّنتُ كل ما قلته لمرآتي على ورقة وألصقتها على المرآة، حتى أتذكر كل ما قلته، حينما أعود وأتحدث إليها مرّة ثانية، حسب ما ينص عليه التدريب.

التدريب الثاني

بعد مرور نصف ساعة. هدأتُ وعدتُ للمرآة من جديد. نظرتُ ثانية إلى عينيَّ وأخذتُ أقرأ ما كتبت. سخرتُ من نفسي ومما كتبت، انتابتني الوسوسة المرضية، لا يمكن أن أخدع نفسي، فما قلته لمرآتي، هو ما كتبتُه على الورقة وبخطّ يدي..
أنا خجولة جدَّا إلى درجة المرض. بشعة وطويلة كالرجال الطوال، قلّة من النساء في العالم بطولي، وجهي أصفر كالإنسان المريض الذي قارب على الموت، شعري الأشقر يزيد من صفار وجهي.
يا إلهي كم هو السواد الذي يحيط بأسناني الرمادية وكأنني مدخّنة مدمنة، مع أنني لا أدخّن السجائر، عيناي صغيرتان جدَّا وزرقتهما غامقة كأنها تخجل من شكل وجهي المستطيل كوجه حصان.
على من تضحكين يا سميرة؟ انت تخدعين نفسك لا أكثر، فأنت من المولعات بالمظاهر والشكليات. انت جبانة وخائفة ومتردّدة. إن الشعور بالحياء الاجتماعي قد ترسّخ منذ الطفولة المبكرة داخلك، متجاوزًا في قوته حتى رهبة الموت.
انفجرتُ بالبكاء لمدة ساعة متواصلة، لم أجرؤ على النظر ثانية في المرآة، وقد أفرغتُ الصندوق الخشبي الممتلئ بالمحارم الورقية لمسح دموعي ومخاطي.

التدريب الثالث

هدأتُ وعدتُ من جديد، نظرت إلى نفسي في المرآة وبدأتُ أحادثها، أحاور هذا الجلاد الذي يعيش في داخلي، يوسوس في قلبي وفي روحي.
ماذا تريد مني ايها الجلاد؟ فأنا كعصافير الليل لا أؤذي ذبابة.
لماذا تكرهني؟ ماذا فعلتُ لك حتّى تجلدني وتجعلني أهوي إلى قاع الحياة البائسة؟
لماذا تعشش في داخلي وتقفز أمامي كل يوم وتذكِّرني بأنني ضعيفة حزينة وباردة كلوح الثلج- ومغلقة على ذاتي، فرغباتي جدُّ بسيطة؟

أخبرْني، ماذا تريد مني يا ابن امي وابي، هل يمكننا ان نتصالح وتتركني وشأني؟
عشتَ معي في الصغر وفي الكبر، فدأبت وثابرتَ كالعثة والسوس في جسدي، وأريدك ان تغادرني الآن.
اتركني وحدي أجابه الحياة بطريقة جديدة.
بكيت بكاءً مرًّا وبلا انقطاع، أصابني القلق على مصيري شعرت بذلك الإحساس الملحّ غير المتوقع داخل أحشائي، وبرغبة شديدة بالذهاب إلى المرحاض لأقضي حاجتي.. مددْتُ يدي إلى الصندوق الخشبي الذي بجانبي لأستلَّ ورقة فوجدته فارغًا، فقمت بكفكفة دموعي ومسحت عينيَّ بطرفَي كمَّي قميصي.

التدريب الأخير
أجبرتُ نفسي على الهدوء، أخذتُ نفسًا عميقًا وخزّنتُ الهواء داخل بطني لثوان معدودة، ثم زفرته مرّة واحدة، وأعدتُ الكرّة مرارًا، إلى أن شعرت بالهدوء التّام.
عدتُ من جديد إلى مرآتي. تجمّلتُ ولبستُ كامل زينتي، كحّلتُ عينيَّ الزرقاوين ونظرت اليهما، فرأيت أمامي فتاة جميلة وقلت: أنا امرأة جميلة وأنثى بكل معنى الكلمة، ويتمناني الكثير من الشبان والكثير منهم يحاولون التحرُّش بي ولكنني أقابلهم بجفاء. من اليوم، سأبدأ بالتغيير، سأخرج إلى المقهى الذي ارتاده كثيرًا، وإن حاول أحد الشبّان ملاطفتي فسأقابله بالمثل وسأفعل ذلك مع الآخرين حتى انتقي لي شابا يلائمني. سأكون مثل جارتي سهام التي تجاري الكثير من الشبّان، فلها عينا قطة برية، وجسدٌ مثير بالملابس وبدونه، سهام انثى جميلة جدًا، واحيانا تنظر إليّ نظرات إعجاب، فأُصاب بارتعاش بين ضلوعي. اعتقد بأن الشبّان يميلون لسهام أكثر مني، فهي تملك جاذبية تتعدّى الجمال، وأنا نفسي أنجذب إليها، وكثيرا ما قلت لنفسي: يا ليتني أحد الشبّان الذين يبادرون إلى ملاطفتها وأكثر من ذلك، حلمت بها كثيرا وتمنيت مرارًا ان أكون رجلا، ليتسنّى لي أن أكون معها في فراش واحد، ونغرق في الوصل.. فهي معجبة بي بوضعي الحالي، فكيف لو كنت رجلا..
تمعّنت في المرآة، فرأيت سهام تتجه نحوي، تضمني ورحنا في عناق طويل.. اكتشفتُ لذَّة تتجاوز حتى القدرة البشرية على تصورها، جرتْ في عروقي دفقةٌ ساخنة من الدماء..

هل يعقل أنها ستقبل إعجابي بها إذا بادرتُها بذلك؟

اليوم سأقول لها ذلك، وإذا جرت الأمور كما أتمنى، وعلى الغالب ستكون كذلك، سنتحدث عن تباريح الغرام، وكل مراراتي الماضية ستذهب إلى سلّة القمامة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى