الأربعاء ٢٧ تموز (يوليو) ٢٠١٦

رواية معيوف في اليوم السابع

رنا القنبر

ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس رواية "معيوف" للأديب المقدسيّ عبدالله دعيس، وتقع الرّواية الصّادرة قبل أسابيع قليلة عن دار الجنديّ للنّشر والتّوزيع في القدس في 388 صفحة من الحجم المتوسّط، ويحمل غلافها لوحة للفنّانة التّشكيليّة جيهان أبو رميلة.

ويجدر التّنويه هنا أنّه صدرت للأديب دعيس من قبل رواية "لفح الغربة" التي تشكّل الجزء الأوّل لهذه الرّواية، وفي كلتا الرّوايتين يستفيد الأديب من سيرة قريته بيت حنينا إحدى أبرز قرى القدس.

بدأ النقاش ابراهيم جوهر فأشاد بالرواية، وبتطوّر الأدوات الكتابيّة لكاتبها.

وقال جميل السلحوت:

ويتّضح من هذه الرّواية أنّ هاجس الغربة الذي اشتهر به أبناء بيت حنينا، وكانوا السّباقين إليه لا يزال يشكّل كابوسا يؤرّق أديبنا. لكنّه في رواية "معيوف" يعود إلى جذور مواطني هذه القرية الرّابضة بين مدينتي القدس ورام الله. مستذكرا شيئا من بعض العادات والتّقاليد من خلال شخصيّة معيوف بطل الرّواية الرّئيسيّ.

اسم الرّواية: معيوف هو الشخصيّة الرئيسة في الرّواية، واسمه الحقيقيّ رضوان، لكنّ اللقب "معيوف" طغى على الاسم الحقيقيّ.

زمن الرّواية: تمتد الرّواية على طول القرن العشرين، وإن ابتدأت أحداثها بشكل جدّي منذ بداية الانتداب البريطاني على فلسطين بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى.

عادات وتقاليد: من يتابع أحداث الرّواية سيجدها تعجّ بمسمّيات وعادات وتقاليد سادت في مرحلة ما من مسيرة شعبنا الفلسطينيّ، وواضح أنّ الكاتب مطّلع بشكل واسع على تاريخ قريته، وما فيها من عادات وتقاليد. وتبدأ هذه العادات من اسم بطل الرّواية الذي حملت الرّواية اسمه وهو معيوف، ومعيوف الشّخص الذي يعافه النّاس، أيّ يرفضونه ولا يتقبّلونه، وقد لقّبوه بهذا لدرء العين الحاسدة عنه، بعد أن مات أشقّاؤه الأكبر منه سنّا نتيجة للفقر وسوء الرّعاية الصّحّيّة. وطغى اللقب معيوف على الاسم الحقيقيّ رضوان. ومن هذه العادات أنّ المولود الذي يخاف ذووه عليه من العين الحاسدة فإنّهم لا يحمّمونه في السّنوات السبعة الأولى من ولادته، كي تكون رائحته نتنة، تجعل الآخرين يتقزّزون منه، وبالتّالي لا ينتبهون له ولا تصيبه العيون الحاسدة. ومعروف أنّ العين الحاسدة تصيب الأبناء الذّكور دون الاناث حسب المعتقد الشّعبيّ في المجتمعات الذّكوريّة.
ومن الأمور التّراثيّة التي وردت في الرّواية ما جاء حول تصنيع "القطّين" – التّين المجفّف- و"الزّبيب"- العنب المجفّف- وهذا يعني أنّ أراضي بيت حنينا كانت تعجّ بكروم التّين والعنب. و"العلّيّة" وهي البيت المرتفع وكانت تستعمل كمضافة لأبناء القرى، وغالبا ما كان يملكها المختار.

وورد وصف لموسم النّبي موسى، ويأتي مصاحبا لعيد الفصح عند النّصارى، وقد ابتدع في العصر الأيّوبي بعد تحرير القدس من الفرنجة في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، وأعاد احياؤه الحاج أمين الحسيني بقوّة زمن الانتداب البريطاني على فلسطين. كما ورد ذكر للكتاتيب التي كان يتعلّم فيها الصّبيان "أصول القراءة والحساب".

وورد ذكر لأسماء بعض الأماكن في بيت حنينا مثل ساحة"ورا الجامع" وجبل دعاس وغيرها.

وممّا جاء أيضا هو التأريخ لبعض الأحداث مثل : تأسيس مدرسة بيت حنينا عام 1928، وافتتاح مقر لجماعة الاخوان المسلمين في القدس عام 1944. وتأسيس شركة باصات لبيت حنينا القدس. وعودة أحد المغتربين في أمريكا من أبناء بيت حنينا عام 1932 بعد غياب عشرين عاما، وكان قد اغتنى بشراء العقارات في نيويورك أثناء الأزمة الاقتصادية في أمريكا عام 1928، وباعها بعد انتهاء الأزمة، فاغتنى وعاد إلى بلاده ليفتح باب الهجرة الواسع لأبناء قريته.

أبو حمار: وهو شخصيّة تراثيّة، كانت معروفة في القرى الفلسطينيّة حتى النّصف الأوّل من ستّينات القرن العشرين، حيث كان يأتي بائع متجوّل بضاعته على ظهر حمار، يبيع "الحامض حلو والحلاوة" للأطفال، وأبر الخياطة وخيطان التّطريز، والمناديل وبعض الأقمشة للنّساء، غير أنّ أبا حمار "بيت حنينا" كان شخصا مختلفا ظهر زمن الانتداب، ولم تكن هذه مهنته الحقيقيّة، وإنّما كانت وسيلة لتحقيق مآربه، فهو يهوديّ من أصول فلسطينيّة، يتمسكن في القرى ومنها بيت حنينا، ويكسب ودّ أهلها، ويشتري أراضي لا تصلح للزّراعة منهم بأسعار زهيدة، وواضح أنّه كان يشتريها لصالح المنظّمات الصهيونيّة الاستيطانيّة. وقد ظهر مع مجموعة من السّيّاح في أسواق القدس بعد قيام دولة اسرائيل، ولمّا تعرّف عليه معيوف، ترك كاميراته في يد معيوف وأخبر الشّرطة بأنّه سرقها، وكانت النتيجة الحكم على معيوف بالسّجن لمدّة عامين.

معيوف: هو بطل الرّواية الرّئيس، شخصيّة استثنائيّة مضطربة منذ طفولته الأولى، فوالدته منعت تحميمه بالماء في سبع سنوات عمره الأولى، حظي بحبّ والديه كون اخوانه الأكبر منه سنّا كانوا يموتون، شخصيّته انطوائيّة، يعرف الصّحيح ولا يستطيع البوح به، زوّجوه من ابنة عمّه اليتيمة "خضرة" التي كانت تكبره عمرا، لم يقبل بالّزّواج لكنّه لم يستطع الاعتراض، أنجب منها طفلين، وهرب منها وهي حامل في الطفل الثاني، أكمل تعليمه الثّانويّ في المدرسة الرّشيديّة، كان تائها، فهو متديّن بالفطرة، تأثّر بمعلّمه صالح، الذي كان من جماعة الاخوان المسلمين، ارتاد أماكن اللهو مع بعض أصدقائه ولم يستسغها، التزم الصّلاة في المسجد الأقصى، وحضر حلقات الذّكر، عمل في دير اللطرون، وتعرّف على أولغا الفتاة الحلبيّة التي جاؤوا بها إلى الدّير؛ لحمايتها من ذويها بعد أن حملت سفاحا، اتهموه بها ولم يدافع عن نفسه، عمل مدرّسا في مدرسة صورباهر، واعتقل هناك بتهمة الانضمام إلى الاخوان المسلمين، سافر إلى مصر لتكميل دراسته الجامعيّة، وهناك التقى بجماعة الاخوان المسلمين، واستمع لخطابات حسن البنّا مؤسّس الجماعة، واشترك معهم في حرب فلسطين عام 1948، وعاد إلى القدس، وشارك من قرية صورباهر مع معلمه صالح وغيره من جماعة الاخوان في الهجوم على التّجمعات اليهوديّة خارج أسوار القدس، كما شارك في الدّفاع عن القدس القديمة ومقدّساتها. وبعدها عمل مدرّسا في دار المعلّمين في بيت حنينا، ولم يتعرّف عليه أبناء بلدته لطول غيابه عن القرية، ولانتشار اشاعة عنه بأنّه قتل قبل ذلك بسنوات، وهناك رأى ابنيه من "خضرة" ولم يتعرّف عليهما. وفي تلك الفترة تزوّج من المقدسيّة سميرة التي رفض والداها تزويجه منها قبل ذلك لأنّه قرويّ! وسجن لمدّة سنتين بعد أن تعرّف على أبي حمار الذي دخل القدس القديمة مع فوج من السّيّاح، وخرج من السجن ليجد سميرة قد ماتت، سافر إلى أمريكا والتقى هناك بأخيه الأصغر مصطفى، والذي وفّر له عملا معه لا غير، وهناك سجن وأبعد إلى الأردنّ.

شخصيّة معيوف كما جاءت في الرّواية شخصيّة حائرة متقلّبة، لم تعرف طريقها بشكل واضح إلا في الفترة التي كانت فيها تحت راية جماعة الاخوان المسلمين، لكنّها كانت شخصية خاسرة باستمرار، مثلها مثل غيرها من الفلسطينيّين الذين تكالبت عليهم أمور أكبر من قدراتهم.

البناء الرّوائي: الدّور الرّئيس في السّرد الرّوائي جاء على لسان "معيوف" الذي كان يسرد بلغة الأنا، ممّا يوحي بأنّ الرّواية تقترب من سرد الذّكريات، فقد جاءت مجموعة حكايات وقصص وأحداث متشابكة ومتداخلة، لخدمة الهدف الرّئيس.

وقال عماد الزغل:

قصة معيوف.. والذاكرة الحيّة للقريّة الفلسطينيّة

الكثير من النقاد سيتناولون قصة معيوف بالتحليل لشخصيّة معيوف الذي تتقاذفه الأحداث، فيبدأ طفولته "نجوسيّا" لحفظ حياته، وتنتهي به الأمور مناضلا، لكنّه متردد دائما لا يستطيع حسم الأمور، حتّى أنّ رصاصته تتلكّأ في لحظة الحزم ولا تقتل عدوه. وتلك هي شخصية الفلسطيني ورصاصته الحائرة، وبندقيته الثائرة التي حرفت السياسة بوصلتها؛ فغدت مذبذبة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

لا، لن أحلل معيوفا ولن أغوص في نفسيته، ولكنني سأتتبّع خيط المكان في الرواية، لأن القصّة مكانيّة، والكاتب مسكون بالمكان، كما كان نجيب محفوظ مسكونا بأحياء القاهرة التي عنون بها الكثير من رواياته.

ما زال الكاتب في روايته الثانية بعد (لفح الغربة) يؤرّخ لبلدته (بيت حنينا) التي يعشق ترابها، ويحنّ لماضيها يوم كانت بلدة واحدة لا يفصلها جدار، بل إنّي ومن خلال معرفتي الشخصيّة بعبد الله دعيس، أعلم تمام العلم أنّه يعلم تاريخ كلّ بقعة فيها وسبب تسميتها وتاريخ عائلاتها، بل واختلاف لهجاتهم ومنابعهم وأصولهم، حتى كأنك تتحدث إلى شخص طاعن في السن مع أنه ما يزال شابا لم يتجاوز الخمسين.

ولعلّه في هذه المرة قد خرج من بيت حنينا قليلا؛ ليطوّف في البلدة القديمة بالقدس، ويرتحل جنوبا إلى صور باهر، ويعاصر شيئا من اختلاف الحياة الماديّة في أواسط وبدايات القرن العشرين، فهو يؤرخ لقرن من الزمان مرّ على بلدته التي أضحت اليوم من أجمل ضواحي القدس.

إنّها بيت حنينا ذات البيوت المقبّبة، والعليّات ذات الإطلالة على الخضرة الدائمة حيث الدوالي وأشجار الزيتون والمشمش، حيث الفرح يجتاح القرية من أولها إلى آخرها فرحا بعريس، حيث السحجة والفرح، والحزن والسواد الذي يعمّ القرية إذا فقدت عزيزا من أبنائها، وحيث الهجرة التي فتكت بالقرية وخيرة أبنائها بعد نجاح تجربة الراحل عبد الحميد شومان مؤسس البنك العربي.

وانظروا إلى لغته الموغلة في الفلاحة والأرض عندما يقول:
"ثم تقوم خضرة منفردة بالتقاط الذّبيل، ونشره في المسطاح، وتقوم بتقليب القطّين في المسطاح وتنظيفه من التراب." ولهذا فهو يلجأ إلى شرح هذه الألفاظ التي لن يفهمها إلا أهل القرية.

والكاتب مغرق في الميثولوجيا الفلسطينية، والأساطير والأمثال الشعبية وأحاديث الجدات، وهو جزء من ثقافة الكاتب، فالقصة تبدأ بالعين والحسد وهو التعليل الساذج لموت الأطفال، وحرق القماش لدفع العين، وتدثير المصاب بالحصبة بالغطاء الثقيل. والمثل الشعبي: "صاحب العمر الطويل ما بتهينه الشدّة." وتسمية الطفل بالأسماء السيئة لحفظ حياتهم وهو سر تسمية "معيوف" بهذا الاسم. "وعمر النعجة ما بتصير ناعوق." وهو مثل يقدح بالإناث، وحكاية المارد، وألقاب الرجال التي تلازمهم طيلة حياتهم، والموسى الملجوم، والكبّانيّة، ومواسم النبي موسى والنبي صمويل، والأساطير التي حاكها الناس حول مقامه الذي يتربّع على قمّة بيت حنينا، ثمّ قبة الصخرة وقصة العطر المنبعث من الصخرة ومصارين الكذاب. وقد قرأت قبل فترة كتاب "الحياة الاجتماعية والثقافية في القدس خلال القرن العشرين" للدكتور صبحي غوشة فوجدت تقاطعا بين ما قاله الكاتب وما جمعه الدكتور صبحي غوشة.

لقد أجاد الكاتب في تصوير قرية بيت حنينا، وأرّخ عن قصد أو دون قصد لشكل قريته في أوائل وأواسط القرن العشرين، ودخول أول خط للحافلات إلى قريته، فالقصة حديث جميل وسرد واقعي رائع لعلاقة القرية بالقدس.

وكتبت نزهة الرملاوي:

قراءة في رواية معيوف

إلى المتمسكين بعرى الحق، الذين يكتوون بجمر الجهل والخيانة والتضليل، وهم يحملون الشعلة لتضيء لغيرهم طريق الحرية والكرامة.

بكلمات الإهداء الجميلة، بدأت رواية "معيوف" للأديب المقدسيّ عبدالله دعيسظن الراوي (معيوف) أن العالم ينتهي عند أطراف قريته بيت حنينا، وهي إحدى قرى القدس، وقد ركز الكاتب بإبراز جمال قريته، حين وصفها ووصف محيطها بلغة أدبية راقية، أخرجته من عالمه الصغير، ليبدأ رحلة التفكير والتساؤل، عما يختبئ خلف الوادي المجهول، ووراء الجبال المحيطة بها.

لقد تجسدت مفردات الخوف والجهل والإشاعة والخرافة، في صفحات الرواية الأولى، حيث أبدع الكاتب في اختيار زاوية يدخل منها الى الزمن الذي ساد به الجهل والتخلف، ورافق حياته الصغيرة، عن طريق الحكايا و( الخراريف ) التي حكتها له أمه فتأثر بها، وراح ينسجها في خياله، بلغة تعبيرية شيقة، وهنا يحاول الكاتب إيصال رسالة الى القارئ مفادها، أننا كنا نصنع الحزن والخوف والجهل بأنفسنا، فضاع الأمان والفرح من حياتنا، وبالحكايا التي كانت شائعة في القرى والمدن الفلسطينية في أوائل القرن الماضي، صور جسده الصغير بين ضخامة المارد والغولة والوحوش الضارية، إلا أنه اكتشف في كبره، أن العالم مملوء بالوحوش الآدمية، ولم تكذب عليه أمه، ولعل شخصية (أبو حمار) الذي كان يتودد إلى القرية بحجة بيع أهلها والشراء منهم لصالح المنظمات الصهيونية، واكتشاف ذلك من قبل معيوف أثناء تجوله في البلدة القديمة، جعله أحد تلك الوحوش.

سيطرت مشاعر الحزن في الرواية على فقد الأم، فقد كانت ملاذ الراوي ( البطل) في أوقات خوفه، وإن كانت من اصطنعت الخوف لحمايته، سواء عن طريق حرمانه من الاغتسال لسنين طويلة، أو تجريده من ملابسه العفنة، أو حتى من اسمه الحقيقي (رضوان)، ظانة أنها ستبقيه على قيد الحياة، فاغتال الموت الحق أنفاسها وهو صغير، صعد الجبل ليلحق بها في السماء كما قالوا له، فقد كانت قمته قريبة منها، وعندما وصل القمة هربت السماء منه.

تطرق الكاتب إلى ظاهرة الإغتراب في قرية بيت حنينا، وخاصة إلى أمريكا للعمل فيها، وتحدث عن ظروف القهر التي تحياها النساء هناك مع أبنائهن في ظل أبوة مفقودة، أبوة في عداد الموتى، والموتى المغتربون لا يعودون، وهذا حاله مع زوجته (خضرة ) وأبنائه.

امتازت تعدد الأماكن والسفريات في الرواية، فقد سافر معيوف إلى مصر وتعرف إلى "أولغا" وبيروت وباريس، حتى وصل أمريكا للعمل.

رنا القنبر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى