الأحد ١٤ آب (أغسطس) ٢٠١٦
بقلم حسين سرمك حسن

(109) صندوق النقد الدولي

ملاحظة

هذه الحلقات مترجمة ومُعدّة عن مقالات ودراسات وكتب لمجموعة من الكتاب والمحللين الأمريكيين والبريطانيين.

("فتيان شيكاغو" التكنوقراط الذين طبقوا برامج الصندوق في شيلي، تسبّبوا برفع معدلات البطالة، التي توقفت عند 3٪ في عام 1973، إلى 18.7٪ بحلول نهاية عام 1975، ورفعوا في وقت واحد التضخم إلى 341٪ ليغرقوا أفقر شرائح السكان في فقر مدقع أعمق. وفاقموا عدم المساواة لعقود قادمة: في عام 1980، جمع أغنى 10٪ من السكان في شيلي 36.5٪ من الدخل القومي وتوسعت حصتهم إلى 46.8٪ في عام 1989، بينما في نفس الوقت فأن حصة أفقر الناس من الدخل القومي انخفضت من 50٪ إلى 20.4٪ ثم إلى 16.8٪).

(أصرّ صندوق النقد الدولي (ولا يزال يصر) على أن الاتفاقات المُبرمة بين صندوق النقد الدولي والمدينين له لا ينبغي اعتبارها معاهدات دولية، وبالتالي لا ينبغي أن تكون خاضعة لموافقة البرلمان في الدولة المدينة. أخيرا، صدر مرسوم صندوق النقد الدولي القاضي بأن أي اتفاقات تُعقد معه لن تكون مخصصة لاطلاع الجمهور ومناقشة الرأي العام ، ولا بد من التعامل معها على أنها معلومات سرية. هذا المخطط يسري حتى هذا اليوم).

(رسميا، تتمثل المهمة الرئيسية لصندوق النقد الدولي في تحقيق الاستقرار في النظام المالي العالمي ومساعدة الدول المضطربة في أوقات الأزمات. ولكن في الواقع، فإن عملياته تذكرنا أكثر بالجيوش المتحاربة. أينما يتدخل، فإنه يقوض سيادة الدول من خلال إرغامها على تنفيذ التدابير التي يرفضها غالبية السكان، وبالتالي يترك وراءه ذيلا طويلا من الدمار الاقتصادي والاجتماعي).

الباحث الاقتصادي

"إرنست وولف"

(نهب العالم ؛ التاريخ والسياسة وصندوق النقد الدولي)

المحتوى

(تمهيــــد: أينما يتدخل صندوق النقد الدولي فإنه يقوّض سيادة الدول- صندوق ابتزازي أحقر من اي مرابي- صندوق النقد الدولي بدأ بالابتزاز منذ تاسيسه- الإهانة ترتد على بريطانيا- أمريكا تضع للعالم نظاما ماليا يخدمها ليس له مثيل في التاريخ- أمريكا توزع حقوق التصويت في الصندوق بصورة بعيدة عن الديمقراطية- من خلال الصندوق انتزعت أمريكا حق الاطلاع على حسابات جميع دول العالم- أمريكا تذل بريطانيا- هذه أهداف الصندوق المعلنة وكلها كاذبة- أوّل مدير للصندوق وزير بلجيكي خدم مصالح أمريكا أكثر من بلاده !- تغيّرات ما بعد الحرب تزعج الصندوق- الطفرة في مرحلة ما بعد الحرب: صندوق النقد الدولي يلقي شباكه ويبدأ بتطبيق "المشروطية" الاستعمارية- الصندوق المرابي يُدخل خدعة "خطاب النوايا"- الإبتزاز من خلال تقسيم القرض إلى "شرائح/دفعات"- اتفاقات الصندوق سرية وممنوع اطلاع الجمهور عليها ولا تخضع لموافقة البرلمان !!!- نادي باريس نادي عبودية الدول النامية- احتقار الدول الأفريقية الأعضاء: 44 دولة لها 5% من الأصوات- صندوق النقد ينقذ امريكا في السبعينات بفصل الدولار عن الذهب دون استشارة اي دولة- أمريكا تنهي دور صندوق النقد وتحوّله إلى مرابي عالمي فقط- الصندوق ينصب فخّ القروض المميتة لدول العالم الثالث لينقذ البنوك الغربية- نقطة بدء مخطط الصندوق الاستعماري هو تدمير تشيلي 1973: الشروع في مسار الليبرالية الجديدة- سادية امريكا جعلتها تستخدم الصندوق لتدمير حتى حليفتها بريطانيا- مصادر هذه الحلقات)

تمهيــــد: أينما يتدخل صندوق النقد الدولي فإنه يقوّض سيادة الدول

يقول الباحث الاقتصادي "إرنست وولف" في دراسته "نهب العالم ؛ التاريخ والسياسة وصندوق النقد الدولي" :
"لا توجد أي مؤسسة مالية أخرى أثّرت على حياة غالبية سكان العالم بشكل أعمق على مدى السنوات الخمسين الماضية أكثر من صندوق النقد الدولي (IMF). منذ تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية، وسّع مجال نفوذه إلى أقاصي الأرض. يضم في عضويته حاليا 188 دولة من خمس قارات.

على مدى عقود، كان صندوق النقد الدولي ينشط بشكل رئيسي في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية. لا يكاد يكون هناك بلد في هذه القارات لم يتم تنفيذ سياساته بالتعاون الوثيق مع الحكومات الوطنية المعنية. عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية في عام 2007، حوّل صندوق النقد الدولي اهتمامه إلى شمال أوروبا. منذ بداية أزمة اليورو في عام 2009، تحول التركيز الرئيسي إلى جنوب أوروبا.

رسميا، تتمثل المهمة الرئيسية لصندوق النقد الدولي في تحقيق الاستقرار في النظام المالي العالمي ومساعدة الدول المضطربة في أوقات الأزمات. ولكن في الواقع، فإن عملياته تذكرنا أكثر بالجيوش المتحاربة. أينما يتدخل، فإنه يقوض سيادة الدول من خلال إرغامها على تنفيذ التدابير التي يرفضها غالبية السكان، وبالتالي يترك وراءه ذيلا طويلا من الدمار الاقتصادي والاجتماعي.

ومن أجل تحقيق ومتابعة أهدافه فإن صندوق النقد الدولي لم يلجأ إلى استخدام الأسلحة أو الجنود. هو ببساطة يطبق الآليات الرأسمالية، وتحديدا سياسة القروض. استراتيجيته بسيطة بقدر ما هي فعالة: عند تعرض البلاد إلى الصعوبات المالية، فإن صندوق النقد الدولي يوفر الدعم في شكل قروض. في المقابل، يطالب بتنفيذ التدابير التي من شأنها ضمان قدرة البلاد المالية على سداد هذه القروض.

صندوق ابتزازي أحقر من اي مرابي

بسبب وضعه العالمي باعتباره "ملاذ الإقراض الأخير" وعادة ما يكون ليس لدى الحكومات من خيار سوى قبول عرض صندوق النقد الدولي والخضوع لشروطه - وبالتالي الوقوع في شبكة من الديون، التي، نتيجة للمنافع، والفائدة المركبة، ستغرق أعمق فإعمق في بحر الديون، والذي بسبب من الضغط على ميزانية الدولة ونضوب الاقتصاد المحلي يؤدي حتما إلى تدهور وضع هذه الدول المالي، حيث يستخدم صندوق النقد الدولي هذا التدهور كذريعة للمطالبة بتنازلات جديدة أقسى من أي وقت مضى في شكل "برامج التقشف".

وتكون العواقب وخيمة على الناس العاديين في البلدان المتضررة (التي هي في معظمها دول من ذات الدخل المنخفض) لأن الحكومات جميعها تتبع نفس النمط، وتوقع آثار التقشف على الأجراء والفقراء.

وبهذه الطريقة، كلفت برامج صندوق النقد الدولي الملايين من الناس وظائفهم، وحرمتهم من الحصول على الرعاية الصحية الملائمة، ومن النظم التعليمية ومن السكن الائق. لقد جعلت طعامهم لا يمكن توفيره، وزادت من تشرد كبار السن بسرقة ثمار عمل أدّوه مدى الحياة، وسببت انتشار الأمراض، وانخفاض متوسط ​​العمر المتوقع وزيادة معدل وفيات الرضع.
ولكن، في الطرف الآخر من السلم الاجتماعي، ساعدت سياسات صندوق النقد الدولي طبقة صغيرة من الأغنياء والمنتفعين في زيادة ثرواتهم بدرجة هائلة حتى في أوقات الأزمات. وقد ساهمت هذه التدابير على نحو حاسم في جعل التفاوت العالمي يصل إلى مستويات غير مسبوقة تاريخيا. والفرق في الدخل بين الملك الشمس ومتسول في نهاية العصور الوسطى يتضاءل مقارنة بالفرق بين دخل مدير صندوق تمويل ومواطن مستلم للإعانة الاجتماعية اليوم.

وعلى الرغم من أن هذه الحقائق معروفة عالميا واحتج مئات الالاف من البشر على آثار إجراءاتها التي دمّرت حياتهم في العقود الماضية، فإن صندوق النقد الدولي ما زال يتمسك بعناد باستراتيجيته. على الرغم من كل الانتقادات ، وعلى الرغم من العواقب الضارة لأفعاله، فإنه لا يزال يحظى بدعم غير مشروط من حكومات جميع الدول الصناعية الكبرى.
لماذا؟ كيف يمكن أن المنظمة التي تسبب مثل هذه المعاناة الإنسانية الهائلة في أنحاء العالم لا تزال تعمل مع الإفلات من العقاب وبدعم من أقوى الدول في عصرنا؟ في مصلحة من يعمل صندوق النقد الدولي؟ ومن المستفيد من أفعاله؟

صندوق النقد الدولي بدأ بالابتزاز منذ تاسيسه

في حين أن الحرب العالمية الثانية كانت لا تزال مستعرة في أوروبا، دعت الولايات المتحدة في يوليو 1944 وفودا من 44 دولة إلى منتجع صغير للتزلج في بريتون وودز بولاية نيوهامبشير. والهدف الرسمي للمؤتمر، الذي عقد لمدة ثلاثة أسابيع في الفندق الفاخر "ماونت واشنطن"، هو تحديد السمات الأساسية لنظام اقتصادي لفترة ما بعد الحرب، وتوفير حجر الزاوية في نظام من شأنه أن يضمن استقرار الاقتصاد العالمي ويمنع العودة الى الوضع الذي كان قائما بين الحربين العالميتين في الثلاثينات ولا سيما من خلال ارتفاع معدلات التضخم، والحواجز التجارية، والتقلب الشديد في أسعار الصرف، ونقص الذهب وانخفاض النشاط الاقتصادي بنسبة أكثر من 60٪. وعلاوة على ذلك، فأن التوترات الاجتماعية كانت تهدد باستمرار بتحطيم النظام القائم.

الإهانة ترتد على بريطانيا

وقد سبق هذا المؤتمر عدة سنوات من المفاوضات السرية بين البيت الأبيض وداوننغ ستريت التي سبق أن عملت على وضع خطط لنظام نقدي عالمي جديد منذ عام 1940. تعليق ساخر ومهين من رئيس الوفد البريطاني، الخبير الاقتصادي الشهير اللورد كينز، سلط الضوء على موقف النخبة السابقة تجاه مصالح واهتمامات الدول الصغيرة: "لقد دعي واحد وعشرون دولة من التي ليس لديها بوضوح شيئا للمساهمة سوى وجودها على الأرض ...".

ولم يستغرق الأمر وقتا طويلا قبل ان يرتد موقف الازدراء هذا على اللورد كينز ومواطنيه وبلده نفسه. فخلال المؤتمر، أصبح من الواضح بشكل متزايد مدى اختلال توازن القوى العالمي بصورة هي ليست في صالح بريطانيا العظمى. كان الانفاق المفرط على الحرب قد حول البلاد، التي كانت أصلا تعاني من ضعف شديد بسبب الحرب العالمية الأولى، إلى أكبر مدين في العالم، ودفعها إلى حافة الإفلاس. كان اقتصاد بريطانيا العظمى على ركبتيه وكان صعود حركات التحرر في جميع أنحاء العالم يبشّر بالفعل بتفكك نهائي لإمبراطوريتها الاستعمارية التي كانت عالمية ذات مرة.

كان الطرف المنتصر بلا منازع في الحرب العالمية الثانية، هو الولايات المتحدة. بعد أن أصبحت أكبر دائن دولي، وحصدت ما يقرب من ثلثي احتياطيات الذهب في العالم، وحسمت نصف الإنتاج الصناعي العالمي. وعلى النقيض من معظم البلدان الأوروبية كانت بنيتها التحتية سليمة. وبينما كان وفدها يشارك في المفاوضات في بريتون وودز، كانت هيئة الأركان العامة للجيش الامريكي تخطط لهجوم نووي على مدينتي هيروشيما وناغازاكي من أجل التأكيد على حق أميركا في الهيمنة العالمية.

ونتيجة لهذا التوازن الجديد في القوى العالمية، رُفضت خطة اللورد كينز لنظام اقتصادي جديد رفضا قاطعا. لقد كان يمثل بلدا يعاني من مشاكل كبيرة في ميزان المدفوعات، كان قد اقترح تشكيل "اتحاد المدفوعات الدولي" الذي من شأنه أن يوفر للبلدان التي تعاني من التوازن السلبي في ميزان المدفوعات سهولة الحصول على القروض، وعرض وضع وحدة محاسبية دولية تسمى "بانكور Bancor" تكون بمثابة عملة احتياطية.

أمريكا تضع للعالم نظاما ماليا يخدمها ليس له مثيل في التاريخ

لكن، الولايات المتحدة، لم تكن راغبة في الاضطلاع بدور الدائن الرئيسي الذي صمّمه لها كينز في خطته. رئيس الوفد الأمريكي، الاقتصادي "هاري ديكستر وايت"، قدم بدوره خطته الخاصة التي اعتُمدت أخيرا من قبل المؤتمر. رسمت خطة وايت نظام عملة عالمي لم يسبق له مثيل في تاريخ المال. كان الدولار الأمريكي يشكل مركزها الوحيد وكان من المقرر أن ترتبط به جميع العملات الأخرى بسعر صرف ثابت بينما يكون سعر صرفه من خلال علاقته بالذهب بـ 35 دولارا للأونصة الواحدة من الذهب الخالص. وتطلب استكمال خطة الولايات المتحدة هذه إنشاء العديد من المنظمات الدولية المخصصة لرصد النظام الجديد وتحقيق الاستقرار فيه من خلال منح القروض للدول التي تواجه مشاكل في ميزان المدفوعات.

بعد كل شيء، فإن واشنطن، نظرا لحجم اقتصادها ونموه السريع، كانت تمضي قدما من أجل الحصول على المواد الخام وخلق فرص المبيعات العالمية لفائض إنتاجها. وهذا يتطلب استبدال العملة التي كانت حتى الآن الأكثر استخداما على نطاق واسع، وهو الجنيه البريطاني، بالدولار. أيضا، يبدو أن الوقت قد حان لاستبدال مدينة لندن بوول ستريت، وبالتالي وضع الولايات المتحدة في موقعها الجديد كنقطة محورية في التجارة الدولية والتمويل العالمي.

وربط الذهب بالدولار وإنشاء أسعار الصرف الثابتة أعاد جزئيا معيار الذهب، الذي كان قائما بين عام 1870 واندلاع الحرب العالمية الأولى - وإن كان ذلك في ظل ظروف مختلفة جدا. عن طريق تحديد جميع أسعار صرف العملات مقابل الدولار الأمريكي، حرمت واشنطن جميع البلدان الأخرى من الحق في السيطرة على السياسة النقدية الخاصة بها لحماية صناعاتها المحلية - وهي الخطوة الأولى نحو الحد من سيادة بقية العالم من خلال هيمنة الولايات المتحدة.

أمريكا توزع حقوق التصويت بصورة بعيدة عن الديمقراطية

تم توزيع حقوق التصويت التي اقترحتها الولايات المتحدة للمنظمات بصورة بعيدة عن الديمقراطية. لم تتم معاملة الدول الأعضاء على قدم المساواة أو منحها حقوق التصويت وفقا لحجم سكانها، وإنما وفق المساهمات المالية التي تدفعها - وهو ما يعني أن واشنطن، عن طريق التفوق المالي، ستضمن السيطرة المطلقة على جميع القرارات.

حقيقة أن حكومة دكتاتورية الفصل العنصري في جنوب أفريقيا قد دُعيت لتصبح عضوا مؤسسا لصندوق النقد الدولي تسلط ضوءا كاشفا على الدور الذي لعبته الاعتبارات الإنسانية في هذه العملية. فيا للسخرية !

أحسّت الحكومة الأمريكية أنه لن يكون من السهل كسب الرأي العام لمشروع من الواضح أنه يتعارض مع روح الدستور الأمريكي ومع فهم الكثير من الاميركيين لـ "الديمقراطية". ولذلك تم التعتيم على الأهداف الحقيقية لصندوق النقد الدولي ببذل جهد دعائي كبير والضجيج حول "التجارة الحرة" و "إلغاء الحمائية". وتحدثت صحيفة نيويورك هيرالد تريبيون عن "أضخم حملة دعائية في تاريخ البلاد".

من خلال الصندوق انتزعت أمريكا حق الاطلاع على حسابات جميع دول العالم

كانت المهمة الأولى لصندوق النقد الدولي هي تدقيق الأوضاع المالية لجميع الدول الأعضاء من أجل تحديد معدلات مساهمة كل منها. بعد كل شيء، كان على الصندوق أن يقوم بمارسة طويلة الأجل تتمثل في وظيفة "الرصد" لحماية النظام. هكذا انتزعت الولايات المتحدة لنفسها الحق في الحصول على المعلومات بشكل دائم حول الأوضاع المالية والاقتصادية لجميع البلدان المعنية.

أمريكا تذل بريطانيا

عندما أصرت بريطانيا بعد عام ونصف العام من المؤتمر على إجراء تحسين في صالحها من ناحية العقود، فإنها قد قدمت بشكل لا لبس فيه البيّنة على من الذي كان مسؤولا عن صندوق النقد الدولي. ودون الحاجة إلى مزيد من اللغط، ربطت واشنطن حصول بريطانيا على قرض مقداره 75،3 مليار دولار تحتاجه بشكل عاجل لدفع ديون الحرب ، بشرط موافقة بريطانيا العظمى على بنود الاتفاق كلها دون أي استثناءات، أو تحفظات. بعد أقل من أسبوعين أستسلم داوننغ ستريت ووافق على ابتزاز واشنطن.

في 27 ديسمبر 1945، وقّعت 29 دولة الاتفاق النهائي. في يناير 1946، التقى ممثلون من 34 دولة معا لعقد اجتماع تمهيدي لمجلس محافظي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في سافانا، بجورجيا. في هذه المناسبة، خرج اللورد كينز ومرافقوه مرة أخرى خالي الوفاض: فخلافا لاقتراحه بإنشاء مقر صندوق النقد الدولي، الذي كان في هذه الأثناء قد أعلن عنه كوكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، في مدينة نيويورك، أصرت الحكومة الأمريكية على حقها في تحديد مقر الصندوق والبنك. في 1 مارس 1947، بدأ صندوق النقد الدولي أخيرا عملياته في وسط مدينة واشنطن.

كانت قواعد الحصول على عضوية صندوق النقد الدولي بسيطة: الدول التي تقدم الطلب تفتح سجلاتها ليتم فحصها بدقة وتقييمها. بعدها تقوم بإيداع مبلغ معين من الذهب ودفع مساهماتها المالية للمنظمة وفقا لقوتها الاقتصادية. في المقابل، يؤكد لها الصندوق أنه في حالة حصول مشاكل في ميزان المدفوعات يحق لها الحصول على ائتمان يوازي مساهمتها - في مقابل أسعار الفائدة التي يحددها صندوق النقد الدولي والالتزامات التعاقدية المتعلقة بأطر ديونها لصندوق النقد الدولي قبل أي شىء آخر.

تلقى صندوق النقد الدولي أخيرا راس المال الابتدائي وهو 8.8 مليار دولار من أسهم الدول الأعضاء فيه الذين دفعوا 25٪ من مساهماتهم بالذهب و 75٪ بالعملة الخاصة بهم. الولايات المتحدة ضمنت لنفسها أعلى معدل بإيداع 2.9 مليار دولار. كان المبلغ ضعف مساهمة بريطانيا العظمى وضمن للولايات المتحدة ليس فقط حق التصويت المضاعف، ولكن أيضا عرقلة حقوق الأقلية وحق النقض.

تم تشغيل صندوق النقد الدولي من قبل مجلس محافظين، يخضع لهم اثنى عشر مديرا تنفيذيا؛ سبعة منهم انتخبهم أعضاء صندوق النقد الدولي، وتم تعيين الخمسة الآخرين من قبل أكبر الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة. تم إنشاء مكاتب لصندوق النقد الدولي، فضلا عن تلك التي لتوأمه الشيطان ، البنك الدولي، في شارع بنسلفانيا في واشنطن على مسافة قريبة من البيت الأبيض.

هذه أهداف الصندوق المعلنة وكلها كاذبة

حدّد النظام الاساسي لصندوق النقد الدولي أهداف المنظمة، كالتالي :

 تعزيز التعاون الدولي في مجال السياسة النقدية،
 تسهيل التوسع والنمو المتوازن في التجارة الدولية،
 تعزيز استقرار سعر الصرف والمساعدة في إنشاء نظام متعدد الأطراف للمدفوعات،

 تزويد البلدان الأعضاء التي تواجه صعوبات في ميزان المدفوعات صعوبات بإماكنية الحصول المؤقت على الموارد العامة للصندوق وتحت ضمانات كافية،
 تقصير مدة وتقليل درجة الخلل في التوازنات الدولية لمدفوعات الدول الأعضاء.

هذه الشروط الرسمية تجعل الأمر يبدو كما لو أن صندوق النقد الدولي هو مؤسسة غير متحيزة، وضعت فوق الأمم ومستقلة عن التأثيرات السياسية، هدفها الرئيسي يتمثل في ادارة الاقتصاد العالمي بافضل طريقة ممكنة، وتصحيح الأخطاء بأسرع وقت. وهذا الأمر ليس من قبيل المصادفة. لقد غُرس هذا الانطباع من قبل الكتّاب والصحفيين وفي الواقع حقق الأثر المطلوب . وهذه الفكرة بالضبط هي التي تم نقلها للجمهور العالمي لأكثر من ستة عقود من قبل السياسيين والعلماء ووسائل الإعلام الدولية.

في الواقع الفعلي، صندوق النقد الدولي، منذ البداية، هو مؤسسة أطلقت من قِبَل، ومُسيطر عليها، ومُصممة لخدمة مصالح الولايات المتحدة، وتهدف إلى تأمين سيطرة القوة العسكرية العظمى على العالم الاقتصادي الجديد. لإخفاء هذه النوايا بشكل أكثر فعالية، بدأ الآباء المؤسسون لصندوق النقد الدولي في عام 1947 تقليدا سارت عليه المنظمة حتى يومنا هذا وهو تعيين شخص غير أمريكي في منصب المدير المنتدب.

أوّل مدير للصندوق وزير بلجيكي خدم مصالح أمريكا أكثر من بلاده !

كان أول أجنبي، تم اختياره مديرا للصندوق في عام 1946، هو "كميل جوت" من بلجيكا. كوزيرا لمالية بلاده خلال الحرب العالمية الثانية، كان الخبير الاقتصادي الذي ساعد في تغطية نفقات بريطانيا الحربية عن طريق إقراضها الذهب البلجيكي. وكان قد ساعد في المجهود الحربي من خلال تزويد حلفاء حكومته بالكوبالت والنحاس من مستعمرة الكونغو البلجيكية ، ودعم حكومة الولايات المتحدة بشحنات سرية من اليورانيوم الكونغولي لتنفيذ برنامجها النووي. في عام 1944 كان قد نفذ عملية إصلاح جذرية للعملة (عرفت فيما بعد باسم "عملية جوت") كلّفت السكان القادرين على العمل في بلجيكا كميات كبيرة من مدخراتهم.

ترأس جوت صندوق النقد الدولي من عام 1946 إلى عام 1951. وخلال الفترة التي قضاها في منصبه ركز بشكل كبير على تنفيذ ورصد أسعار الصرف الثابتة، وبالتالي الدخول في عهد جديد من الاستقرار غير معروف حتى الآن للولايات المتحدة والمؤسسات الدولية عند تصدير البضائع وشراء المواد الخام. كما انه مهد الطريق أيضا أمام البنوك الأمريكية الكبرى التي تسعى إلى التعامل في القروض على نطاق دولي وفتح الأسواق في جميع أنحاء العالم لرأس المال الدولي الباحث عن فرص الاستثمار.

تغيّرات ما بعد الحرب تزعج الصندوق

التغيرات السياسية الكبرى في العالم بعد الحرب العالمية الثانية سبّبت صداعا قويا لصندوق النقد الدولي، لأنها حدّدت من نطاق عمل المنظمة. وقبل كل شيء، استفاد الاتحاد السوفياتي من الوضع بعد الحرب، والذي تميّز بتقسيم العالم بين القوى الكبرى ورسم حدود جديدة في أوروبا. واعتمادا على المفهوم الاشتراكي لوسائل الإنتاج بعد الثورة الروسية عام 1917، فإن السلطات الستالينية أخضعت ما يسمى بـ "الكتلة الشرقية" في الغرب من أجل إدخال التخطيط الاقتصادي المركزي في هذه البلدان. لكن ، الهدف الرئيسي للبيروقراطية السوفيتية، لم يكن فرض مصالح الشعب العامل، ولكن ضمان خضوع الكتلة الشرقية تحت مصالحها الخاصة لغرض نهب هذه البلدان. وعلى أي حال، فإن تجزئة أوروبا الشرقية يعني أن بولندا وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا والعديد من الأسواق الأخرى أصبحت مناطق فارغة من رأس المال الدولي.

الاستيلاء على السلطة من قبل ماو تسي تونغ في عام 1949، وإدخال الاقتصاد المخطط في الصين من قبل الحزب الشيوعي حرم المستثمرين الغربيين من سوق ضخم آخر، وأدى في نهاية المطاف إلى الحرب الكورية. لتنفيذ سياسة "الاحتواء" في مجال نفوذ الاتحاد السوفيتي ، قبلت الولايات المتحدة ضمنا خسارة أربعة ملايين شخص فقط لتوصيل رسالة واضحة لبقية العالم: أن أكبر قوة اقتصادية على وجه الأرض لن تقف مكتوفة الأيدي إذا حُرمت من الحصول على المزيد من الأسواق العالمية.

الطفرة في مرحلة ما بعد الحرب: صندوق النقد الدولي يلقي شباكه ويبدأ بتطبيق "المشروطية" الاستعمارية

اتسمت سنوات ما بعد الحرب بالنمو الاقتصادي السريع لجميع الدول الصناعية الكبرى، وخصوصا "المعجزة الاقتصادية" في ألمانيا. وعلى الرغم من أن قروض صندوق النقد الدولي لعبت دورا ثانويا فقط خلال هذا الوقت، فإن قيادة المنظمة لم تبق مكتوفة الأيدي. على العكس: رئيس صندوق النقد الدولي الثاني إيفار روث، وهو المحافظ السابق للبنك المركزي السويدي ومدير سابق لبنك بازل للتسويات الدولية، وضع المسار الذي سوف يكتسب أهمية كبرى في تاريخ المنظمة اللاحق وهو إدخال الشروط "المشروطية" ، أي تحديد المتطلبات الإلزامية لمنح القروض.

كان هاري ديكستر وايت قد قدم بالفعل اقتراحا وفق هذه الخطوط في مؤتمر بريتون وودز، ولكن ووجه بمقاومة شرسة من قبل الوفد البريطاني. وفي الوقت نفسه، ومع ذلك، استمر وضع بريطانيا في التدهور. المستعمرات السابقة، ولا سيما في أفريقيا، كانت تقاتل من أجل استقلالها، وفي الشرق الأوسط كانت أزمة السويس تلوح في الأفق وتقدم للولايات المتحدة فرصة لتحقيق مصلحتها الخاصة في صندوق النقد الدولي بقوة أكبر. عن طريق إنشاء ما يسمى "الترتيبات الاحتياطية"، أضاف إيفار روث مبدأ "المشروطية conditionality" إلى أدوات صندوق النقد الدولي. منح القروض الآن سيخضع لشروط تذهب إلى أبعد من تحديد المواعيد النهائية لتسديد القرض ومستوى أسعار الفائدة.

الصندوق المرابي يُدخل خدعة "خطاب النوايا"

تنفيذ هذه التدابير، التي تم تشديدها بعد هزيمة بريطانيا في السويس وأدت إلى ارتفاع حدة التوتر في العلاقات الأنجلو أمريكية، وضع استراتيجية لصندوق النقد الدولي ساعدته على خداع الجمهور بذكاء. . ابتداء من عام 1958، صارت حكومات البلدان المدينة ملزمة بوضع "خطابات النوايا" التي كانت لديهم للتعبير عن استعدادهم لبذل "جهود معقولة" لتحقيق التوازن في مشاكل المدفوعات. وهذا جعل الأمر يبدو كما لو أن البلاد نفسها تقترح التدابير التي يطلبها منها صندوق النقد الدولي في الحقيقة.

الإبتزاز من خلال تقسيم القرض إلى "شرائح/دفعات"

ولكن حتى هذا الإجراء لم يكن كافيا بما فيه الكفاية لصندوق النقد الدولي. وكخطوة تالية، قام الصندوق بتقسيم كل قرض من القروض إلى "شرائح" حيث يمنح كدفعات على مراحل ، وبالتالي تكون هذه الدفعات مشروطة بخضوع البلد المدين وتنفيذه لما يُفرض عليه من التزامات.

اتفاقات الصندوق سرية وممنوع اطلاع الجمهور عليها ولا تخضع لموافقة البرلمان !!!

وبالإضافة إلى ذلك، أصرّ صندوق النقد الدولي (ولا يزال يصر) على أن الاتفاقات المُبرمة بين صندوق النقد الدولي والمدينين له لا ينبغي اعتبارها معاهدات دولية، وبالتالي لا ينبغي أن تكون خاضعة لموافقة البرلمان في الدولة المدينة. أخيرا، صدر مرسوم صندوق النقد الدولي القاضي بأن أي اتفاقات تُعقد معه لن تكون مخصصة لاطلاع الجمهور ومناقشة الرأي العام ، ولا بد من التعامل معها على أنها معلومات سرية. هذا المخطط يسري حتى هذا اليوم.

كانت الشروط المفروضة يجري تشديدها باستمرار في مجرى تاريخ صندوق النقد الدولي، وسوف تثبت أنها آلية حاسمة لزيادة الهيمنة الأجنبية على البلدان النامية. كما أسهمت هذه الشروط في تنامي قوة صندوق النقد الدولي، وذلك لأن البنك الدولي، ومعظم الحكومات، والغالبية العظمى من البنوك التجارية الدولية سوف تقدم القروض لتلك البلدان التي، على أساس استيفاء معايير صندوق النقد الدولي، تقدّم "صك الموافقة المطلق" وهو صك العبودية وعودة الاستعمار القديم.

نادي باريس نادي عبودية الدول النامية

في عام 1956 عقد اجتماع في باريس ستكون له أهمية تاريخية في التطور اللاحق لصندوق النقد الدولي. الأرجنتين التي كانت تكافح من أجل سداد القروض التي ترزح تحتها، جلست مع الدول الدائنة، وممثلين عن صندوق النقد الدولي من أجل تسلم شروط جديدة تمليها عليها. عقد الاجتماع في مكاتب وزير المالية الفرنسي بيير فليمين، الذي ترأسه أيضا. لم يبق هذا الاجتماع الوحيد من نوعه. في السنوات اللاحقة، عقدت اجتماعات بين ممثلي صندوق النقد الدولي والدائنين والمدينين في كثير من الأحيان في نفس المكان، وتطورت هذه الاجتماعات تدريجيا إلى مؤتمرات شهرية ثابتة ستصبح معروفة باسم "نادي باريس". تم اتخاذ نطاق من القرارات الهامة للغاية في هذا الإطار - دون موافقة برلمانية من قبل الدول المدينة ومخفية عن أعين الجمهور. البنوك التجارية في جميع أنحاء العالم تقريبا سارعت إلى الاعتراف بأهمية هذه المؤتمرات، وبالتالي بدأ ما سُمّي بـ "نادي لندن"، الذي عُقدت اجتماعاته (ولا تزال تُعقد) في وقت واحد مع اجتماعات نادي باريس.

احتقار الدول الأفريقية الأعضاء: 44 دولة لها 5% من الأصوات

بالكاد لاحظ المجتمع الدولي، تحوّل صندوق النقد الدولي إلى حقل من النشاط الذي أدى إلى تعزيز قوته بشكل كبير في وقت قصير نسبيا. موجة من إعلانات استقلال الدول الإفريقية في بداية الستينات كانت بداية عهد جديد. كانت البلدان التي تعرضت للنهب على مدى عقود من الاستعمار وترقد في حالة يرثى لها اقتصاديا، تحاول الآن أن تجد مكانها الصحيح في العالم، وخصوصا في الاقتصاد العالمي في ظل ظروف تتغير بسرعة كبيرة. ولذا يتعين على الحكومات الحصول على الأموال. ولأن معظم هذه الدول لا توفر للبنوك التجارية ظروف آمنة ومستقرة سياسيا بسبب التوترات الاجتماعية والاضطرابات السياسية والبنية التحتية المتهالكة، فقد استغل صندوق النقد الدولي هذا الوضع، وعرض خدماته بوصفه دائنا يوفر الأموال التي تحتاجها تلك الدول.

على الرغم من أن معظم البلدان الأفريقية كانت فقيرة جدا بحيث كانت تُمنح مبالغ متواضعة نسبيا، فإن حتى هذه المبالغ البسيطة كانت لها عواقب. ضمان تواريخ استحقاق الفائدة واسترداد الدفعات الأساسية كانت تجري بلا هوادة بحيث أن الدول التي هربت للتو من الاعتماد الاستعماري وقعت بسهولة في شبكة جديدة خانقة من الاعتماد المالي على صندوق النقد الدولي.
لأن الحصول على قروض صندوق النقد الدولي يتطلب أن تكون الدولة المدينة عضوا في الصندوق نفسه، فإن المنظمة، التي تضمنت فقط ثلاث دول افريقية بين الأعضاء المؤسسين هي مصر وإثيوبيا، وجنوب أفريقيا - انضم إليها أكثر من 40 دولة أفريقية أخرى بين عامي 1957 و 1969. وفي عام 1969، كان 44 من أصل 115 دولة في الصندوق من أفريقيا. على الرغم من أن هذه الدول تكون أكثر من ثلث دول الصندوق، فإن حقها في التصويت كان في تلك السنة أقل من 5٪.

صندوق النقد ينقذ امريكا في السبعينات بفصل الدولار عن الذهب دون استشارة اي دولة

مثلت بداية السبعينات نهاية الطفرة التي شهدتها مرحلة ما بعد الحرب؛ خمسة وعشرون عاما من التوسع الاقتصادي الذي منح العاملين في الدول الصناعية الكبرى تنازلات اجتماعية كبيرة وشهد تحسنا غير معروف حتى الآن في مستوى معيشتهم. وكان التفكك الداخلي لنظام بريتون وودز هو الذي مثل نهاية تلك الفترة. ونتيجة لارتفاع الاستثمارات الأمريكية في الخارج وتصاعد الإنفاق العسكري - ولا سيما في حرب فيتنام – فإن كمية الدولارات المتداولة عالميا قد ارتفعت بشكل هائل ومستمر. فشلت جميع المحاولات التي قامت بها حكومة الولايات المتحدة لوضع هذا الانتشار تحت السيطرة بسبب التحام رؤوس الأموال الأمريكية واختلاطها برؤوس المال الأجنبية، ولا توجد دولة على وجه الأرض قادرة على كبح جماح هذا التركيز الهائل في القوة المالية.

في عام 1971، واجهت الولايات المتحدة، للمرة الأولى في تاريخها، العجز في ميزان المدفوعات. في الوقت نفسه فإن عدم التوازن بين المعروض من الدولار العالمي واحتياطيات ذهب الولايات المتحدة المخزنة في فورت نوكس وصل مستويات بحيث أنه حتى رفع سعر الذهب إلى 38.00 دولارا ثم إلى 42.20 دولارا لم يعد قادرا على ضمان صرف عملتها مقابل أونصة من الذهب. في 15 أغسطس 1971، سحب الرئيس الامريكي ريشارد نيكسون الفرامل وقطع الصلة بين الذهب والدولار، وعرض غطرسة نموذجية من قبل دولة عظمى من خلال عدم استشارة ولا حليف واحد.

أمريكا تنهي دور صندوق النقد وتحوّله إلى مرابي عالمي فقط

في ديسمبر عام 1971، عُقد مؤتمر لمجموعة العشرة التي تأسست في عام 1962 من قبل الدول الصناعية العشرة الكبرى في العالم، وقرر المواءمة بين أسعار الصرف، والتي أسفرت عن إعادة تعديل قيمة الدولار مقابل العملات الأخرى. وأدى ذلك إلى انخفاض قيمة الدولار، بنسبة تتراوح بين 7.5٪ مقابل الليرة الإيطالية الضعيفة إلى 16.9٪ مقابل الين الياباني القوي. في فبراير 1973، تم تخفيض قيمة الدولار مرة أخرى، ولكن سرعان ما أصبح واضحا أن الحفاظ على نظام سعر صرف ثابت لم يعد ممكنا. في مارس 1973، عرضت مجموعة العشرة والعديد من البلدان الصناعية الأخرى نظام أسعار صرف مرن سيُعتمد من قبل البنوك المركزية - دون استشارة بلد واحد خارج مجموعة العشرة ، وعلى الرغم من أن هذا الإجراء يخالف بشكل صارخ المادة 6 من وثيقة تأسيس صندوق النقد الدولي بشأن أسعار الصرف الثابتة والاستقرار النقدي.
إلغاء أسعار الصرف الثابتة إنهى تاريخيا المهام الأساسية لصندوق النقد الدولي. كان الدور الوحيد الذي بقي له هو دور المُقرض المسؤول عن تخصيص الأموال للقروض والشروط المتعلقة بها، والتي تتضمن الحق في تفتيش حسابات الدول المقترضة، وبالتالي ممارسة التأثير المباشر على سياساتها. ومع ذلك، كانت هذه بالضبط هي الوظيفة التي ستنشأ ظروف مواتية للغاية لتحقيقها في وقت قريب.

الصندوق ينصب فخّ القروض المميتة لدول العالم الثالث لينقذ البنوك الغربية

في عام 1973، استخدم أعضاء منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، التي كانت قد تأسست في عام 1960، حرب تشرين بين مصر و "إسرائيل" للحد من كمية النفط الموردة إلى الغرب ( "الحظر النفطي") و رفع أسعار النفط بشكل كبير. وأدى ذلك إلى زيادة كبيرة في أرباح شركات النفط والدول المنتجة للنفط. وانتهت هذه المكاسب في البنوك التجارية، والتي حاولت بدورها استخدامها في استثمارات مربحة. عندما تراجع الاقتصاد العالمي واتجه إلى الركود في 1974-1975 وتضاءلت فرص الاستثمار في البلدان الصناعية، أخذت حصة الأسد من هذه الأموال توجّه على شكل قروض لبلدان العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، والتي - نتيجة لزيادة نفقاتها بعد ارتفاع أسعار النفط – كانت تحتاج المال على وجه السرعة. استجاب صندوق النقد الدولي نفسه إلى زيادة الاحتياجات الائتمانية للبلدان النامية من خلال تقديم "مرفق الصندوق الموسع" في عام 1974، والذي أتاح للبلدان الأعضاء أن تستفيد من قروض تصل إلى 140٪ من حصتها لمدد من أربعة ونصف إلى عشر سنوات.

على الرغم من أن هذا المرفق قد شُكل خصيصا لتمويل واردات النفط التي تشتد الحاجة إليها، فإن صندوق النقد الدولي - وكذلك البنوك – لم تهتم بشأن أوجه إنفاق هذه الأموال (القروض) أسواء توجهت مباشرة إلى جيوب الحكام المستبدين مثل موبوتو في زائير، أو سوهارتو في إندونيسيا أو تشاوشيسكو في رومانيا- الذين إما أنهم بدّدوها، أو نقلوها إلى حسابات أجنبية سرية أو استخدموها لأغراض عسكرية، وفي كل حالة كانت النتيجة تصاعد الدين الوطني - ولا يهتم صندوق النقد الدولي والبنوك طالما أنهم يتلقون مدفوعات الفائدة بشكل منتظم.

ومع ذلك، تغير الوضع فجأة عندما قرّر بول فولكر، الرئيس الجديد لمجلس الاحتياطي الاتحادي الامريكي سعر المتميز (سعر الفائدة الذي تدفعه البنوك التجارية كي تحصل على المال من البنوك المركزية) بنسبة 300٪ وذلك للحد من التضخم في عام 1979. انزلقت الولايات المتحدة في ركود آخر، مما يعني أن هناك حاجة إلى استيراد مواد خام أقل نظرا لانخفاض النشاط الاقتصادي.

بالنسبة للعديد من البلدان النامية فإن هذا المزيج من تراجع الطلب، وانخفاض أسعار المواد الخام والارتفاع الشديد في أسعار الفائدة يعني أنها لن تستطيع تلبية التزامات الدفع للبنوك الدولية. فبرزت أزمة مالية ضخمة. بلغ عبء ديون البلدان النامية في بداية عام 1980 إلى ما مجموعه 567 مليار دولار. ومن شأن التخلف عن سداد أقساط بهذا الحجم أن يؤدي إلى انهيار العديد من البنوك الغربية، وبالتالي كان لا بد من منع ذلك بأي ثمن.

كانت هذه هي النقطة التي أعطت صندوق النقد الدولي أول فرصة كبيرة للدخول في مرحلة لعب دور "مُقرِض الملاذ الأخير". في حين أن قسم العلاقات العامة نشر الأخبار والتحقيقات عن أن الصندوق يعمل على القيام بعمليات "إنقاذ" من أجل "مساعدة" االدول الغارقة في المديونية، فإن الصندوق استغل موقف هذه الدول العاجز وربط منح القروض بشروط قاسية جدا. وفي القيام بذلك، كان قادرا على الاعتماد على اثنتين من التجارب المختلفة المكتسبة في السنوات السابقة.

نقطة بدء مخطط الصندوق الاستعماري هو تدمير تشيلي 1973: الشروع في مسار الليبرالية الجديدة

أولا، كان الانقلاب العسكري الذي دعمته المخابرات المركزية الأمريكية في شيلي في سبتمبر 1973 قد انهى حكم الرئيس الاشتراكي سلفادور الليندي وجلب الديكتاتور الفاشي أوغستو بينوشيه إلى السلطة. ألغى بينوشيه فورا التأميم الذي قام به الليندي، ولكنه لم يجد علاجا ضد التضخم المتسارع الذي يعاني منه اقتصاد البلاد. في محاولة لاستعادة السيطرة على الوضع، قال انه قد لجأ الى مجموعة من 30 من الاقتصاديين التشيليين المعروفين باسم "فتيان شيكاغو" (شيكاغو بويز Chicago Boys لأنهم كانوا قد درسوا في مدرسة شيكاغو للاقتصاد، في ظل أستاذ الاقتصاد الأمريكي الحائز على جائزة نوبل ميلتون فريدمان) واقترح عليهم تقسيم واضح للعمل: سيقوم بقمع أي نوع من المعارضة السياسية والنقابية ويسحق كل الاحتجاجات العمالية، في حين يقومون بتنفيذ برنامج تقشف متطرف على أساس الأفكار الليبرالية الجديدة التي تروج لها الولايات المتحدة الأمريكية.

في غضون أسابيع قليلة تم وضع خطة واسعة من التدابير دعت إلى وجود قيود جذرية على طرح النقود، وتخفيضات هائلة في الإنفاق الحكومي، وتسريح العمال في القطاع العام والخصخصة في مجال الرعاية الصحية والتعليم، وخفض الأجور والرواتب، وزيادة الضرائب على العاملين، بينما في الوقت نفسه تم خفض الرسوم الجمركية والضرائب على الشركات !!. وأشار البرنامج صراحة إلى أنه "العلاج بالصدمة shock therapy".

كلّ مِنْ بينوشيه وشركائه، الذين قُدموا للجمهور على أنهم "حكومة تكنوقراط"، قد وفوا من جانبهم بالاتفاق إلى أقصى درجة. ففي حين أن الدكتاتور حطم بعنف أي معارضة للتدابير الجذرية للحكومة وضمن أن العديد من المعارضين السياسيين يختفون إلى الأبد، أطلق "فتيان شيكاغو" هجوما مباشرا على السكان العاملين. لقد تسبّبوا برفع معدلات البطالة، التي توقفت عند 3٪ في عام 1973، إلى 18.7٪ بحلول نهاية عام 1975، ورفعوا في وقت واحد التضخم إلى 341٪ ليغرقوا أفقر شرائح السكان في فقر مدقع أعمق. لقد فاقم برنامجهم في الواقع مشكلة عدم المساواة الاجتماعية لعقود قادمة: في عام 1980، جمع أغنى 10٪ من السكان في شيلي 36.5٪ من الدخل القومي وتوسعت حصتهم إلى 46.8٪ في عام 1989، بينما في نفس الوقت فأن حصة أفقر الناس من الدخل القومي انخفضت من 50٪ إلى 20.4٪ ثم إلى 16.8٪.

خلال انقلابه الدموي، كان بينوشيه يعتمد بشكل كامل على دعم نشط من وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية الامريكية تحت مسؤولية المجرم هنري كيسنجر. عند تنفيذ أصعب برنامج تقشف تم تطبيقه في أي بلد من بلدان امريكا اللاتينية، تلقى "فتيان شيكاغو" الدعم الكامل من صندوق النقد الدولي. بغض النظر عن كل انتهاكات حقوق الإنسان، تضاعفت قروض صندوق النقد الدولي لتشيلي في العام الذي تلا انقلاب بينوشيه، لترتفع إلى أربعة أضعاف ثم إلى خمسة أضعاف في العامين التاليين. (لمزيد من المعلومات راجع الحلقة (19) في شيلي قتلت الولايات المتحدة الرئيس المُنتخب من أجل تعزيز الديمقراطية (3 آلاف قتيل و30 ألف مُعتقل ومختفٍ)

سادية امريكا جعلتها تستخدم الصندوق لتدمير حتى حليفتها بريطانيا

التجربة الأخرى لصندوق النقد الدولي تتعلق بالمملكة المتحدة. كان التراجع الاقتصادي الذي لا يرحم في بريطانيا العظمى على مدى عقدين ونصف قد جعل البلاد أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي. من 1947-1971، كانت الحكومة في لندن قد أخذت قروضا بقيمة 25،7 مليار دولار. بعد ركود 1974-1975 وهجمات المضاربة على الجنيه، تعرضت الحكومة لضغوط أكبر. عندما حلّ عام 1976، اتجهت الحكومة البريطانية مرة أخرى إلى صندوق النقد الدولي طلبا للمساعدة، استغلت الولايات المتحدة الفرصة لإظهار قوتها. بتحالفها مع الألمان الناهضين، أجبرت حكومة حزب العمال برئاسة رئيس الوزراء هارولد ويلسون على الحد من الإنفاق العام، وفرض تخفيضات كبيرة في البرامج الاجتماعية، ومتابعة سياسة مالية تقييدية، والامتناع عن وضع ضوابط من أي نوع على الاستيرادات. هذا التدخل الجذري يمثل تعديا غير معروف حتى الآن على سيادة بلد أوروبي مقترض، مما أدى إلى ترسيخ حقيقة هي أنه بعد إذلال بريطانيا لم يقم أي بلد صناعي غربي بارز بتقديم طلب للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي.

مصادر هذه الحلقات

مصادر هذه السلسلة عن الدور التخريبي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي سوف تُذكر في الحلقة الأخيرة من السلسلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى