السبت ١٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
علي الوردي: (76) الريادة في دراسة
بقلم حسين سرمك حسن

ظاهرة «الشقاوات» في علم الإجتماع العربي

((في صدر هذه الأغلال التقليدية نقرأ هجوما أقل عنفا ولكنه أكثر حنكة في كتابات العالم الاجتماعي العراقي علي الوردي. ففي هذه الكتابات يهدف الوردي في الأساس إلى تحذير الإنسان العادي من الأساطير التي هي في أصلها قد وضعت لتجسيد قيم خلقية غير أنها فقدت كل معانيها بمرور الزمن))
الدكتور (مجيد خدوري )

الشقاوات "ساموراي" العراق

في كتابه: (من النهضة إلى الردة - تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة ) يشير جورج طرابيشي إلى دور مهم للمبدع الكبير (نجيب محفوظ ) وذلك حين تناول في أعمال روائية كثيرة آخرها (ملحمة الحرافيش )، (( تلك الفئة الإجتماعية المتميزة التي لعبت في تاريخ مصر المملوكية دورا يشابه من بعض الوجوه دور الفرسان المحترفين في أوروبا قبل الثورة الصناعية أو دور الساموراي في اليابان في العهد الإقطاعي، والتي عُرفت في مصر باسم "الفتوات" مثلما عُرفت في المشرق العربي باسم "القباضايات"، والتي مالت وجوديا إلى الانحلال والإضمحلال طردا مع توطد السلطة المركزية للدولة الحديثة. فقد انفرد نجيب محفوظ دون سواه من الروائيين بإحياء تراث الفتوة وتقاليدها ودستور سلوكها وجدليتها الطبقية الخاصة (فتوّات / حرافيش ) حتى باتت ميثولوجيتها علامة فارقة لأدبه، ابتداء من " أولاد حارتنا " وانتهاء بـ " ملحمة الحرافيش ".. ولعلنا لن نفهم الوظيفة الدلالية لميثولوجيا الفتوات والحرافيش كما أعاد نجيب محفوظ بناءها ما لم نقارن بينها وبين مثال أكثر معاصرة وأدخل في الخيال المشترك للإنسان الحديث هو ذاك الذي تقدمه السينما الأمريكية، العظيمة التأثير على هذا الخيال، من خلال ميثولوجيا "راعي البقر". فالفتوة، بمعنى من المعاني، هو كاوبوي الرواية المحفوظية، ولكنه ليس ذلك الكاوبوي المسطح المنمط الذي يكرّر نفسه في نسخ لا عدّ لها كرجل مسدس وصائد هنود، بل ذلك الكاوبوي المتفرد القسمات، المتعدد الأبعاد، المشحون بالدلالات الإنسانية والرمزية والميتافيزيقية والراسم علامات استفهام حول مسلّمات الوجود )) (540).

دراسة ظاهرة الشقاوات لفهم التوازن الإجتماعي في المدينة العراقية

وفي مجال علم الإجتماع العربي يمكننا القول إن لواء الريادية يُعقد للدكتور علي الوردي في دراسة ظاهرة "الشقاوة" كما تُسمى ظاهرة الفتوة في العراق. بدأ ذلك في كتابه: (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي- 1965) حيث اعتبر دراسة شخصية "الأشقياء" مدخلا أساسيا لفهم الطبيعة الإجنماعية للمدينة العراقية:

( لكي نفهم طبيعة التوازن الاجتماعي في المدينة العراقية ندرس شخصية "الأشقياء". فهؤلاء كانوا يمثلون القيم الاجتماعية السائدة، المحمودة منها والمذمومة. إنهم كانوا يحترفون اللصوصية في كثير من الأحيان، ويفاخرون بسفك الدماء والإعتداء والسطو، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه ذوي نخوة وشهامة لا تُضاهى. فهم يحمون أبناء محلتهم ويدافعون عنهم ولا يسرقون منهم شيئا، وإذا استنجد بهم أحد فتلوا شواربهم وأسرعوا إلى مواطن النجدة دون مبالاة بالخطر ) (541).
ثم يذكر الوردي جانبا من القصص "الأسطورية" التي كانت تحيكها الذاكرة الشعبية عن الأشقياء وسلوكهم الأخلاقي العالي. فهناك قصة تحكي عن شقي حاول سرقة بيت وغفل عن نفسه وذاق شيئا من الملح، وترك البيت دون أن يسرقه لأنه أصبح مرتبطا بأهل الدار بحق "الزاد والملح". وهناك قصة عن مجموعة من الأشقياء سطو على بيت امرأة وحين سمعة حركتهم قالت لابنها الصغير قم وساعد أخوالك. فتركوا البيت لأنهم صاروا بمثابة إخوة لها. ويعلق الوردي على هذه القصص بالقول:

(( إن هذه القصص تصوّر لنا طبيعة التوازن الاجتماعي الذي كان سائدا في المدن آنذاك. فقد كان الناس يقدرون " الشقي " اللص على شريطة أن يكون ذا شهامة ورجولة، وهم لا يكترثون عندئذ لما يقترفه من سفك للدماء وسطو على البيوت وتخويف للآمنين ولعلهم يعتبرون ذلك منه دليلا على شجاعته وشدة بأسه )) (542).

ظاهرة "التغالب" في المجتمع العراقي

وتنطلق دراسة الوردي لشخصية الشقاوات من منطلق آخر هو أن الشقي صار مثالا يُحتذى من قبل الكثيرين الذين كانوا يحاولون تقليده، حتى أننا كنا نرى بعض الأغنياء يقومون بالسطو على البيوت ليلا ليس بقصد السرقة ولكن لإثبات شجاعتهم و"شقاوتهم". والأهم أن هذه القيم السلوكية امتدت إلى العامة، حيث مايزالون يحترمون " السبع " المخيف ويحتقرون " المخنث ".

ويعتبر الوردي أفضل مثال على روح التغالب هذه هو عدم قدرة العراقيين على الوقوف المنضبط في أي صف طويل عند الإزدحام على أي شيء. فسرعان ما يخترق بعضهم النظام ويتدافعون حد الإحتكاك الجسدي العنيف حيث يحاول كل منهم الحصول على الشيء قبل غيره، ويعدون ذلك من علامات القوة والغلبة. كما انتقلت روح الشقاوة إلى المجاملات بين أهل المدن:

(( مما يجدر ذكره أن المجاملات الشائعة بين أهل المدن لاتزال تحتوي على بعض المعاني المستمدة من روح " الشقاوة " القديمة. فإذا مررت بأحد منهم وتقدمت نحوه بالتحية الحسنة، رد عليك بتحية أحسن منها... أما إذا شمخت بأنفك عليه، وتوقعت أن يبدأك هو بالتحية، فسوف لا تحصل منه إلا على العبوس والحقد )) (543).

والوردي مقتنع بأن شخصية الشقاوة كامنة تحت جلد الشخصية "الحضارية" الظاهرة لدى المواطن العراقي، وأن المواطنين، حتى المثقفين منهم، يسترون "شقاوتهم" بطلاء من الفذلكة والمصطلحات الحديثة، وهم قد يستخدمون تلك المصطلحات الحديثة أسلحة ضد خصومهم مثلما يستخدم الشقاة الهراوات والأحجار.

في الجزء الأول من موسوعته الاجتماعية: (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث)، وفي باب "ظاهرة الشقاوة" يعد هذه الظاهرة الاجتماعية من أهم الدلائل على سيطرة الروح البدوية على العراق في العهد العثماني، ويرى ضرورة دراستها بالتفصيل لأنها تعطينا صورة واضحة لما كان عليه المجتمع العراقي آنذاك من تركيب وقيم. فـ:

(( الشقي من الناحية القانونية يُعتبر مجرما، غير أنه من الناحية الاجتماعية يُعد من الابطال الذين تفتخر بهم المحلة ويُشار إليهم بالبنان. إنه كان في الغالب يمتهن اللصوصية والسطو على البيوت وفرض "الخاوة"- أي الاتاوة - على الأغنياء، ولكنه في الوقت نفسه لا يخالف القيم المحلية السائدة فهو في محلّته شهم مغوار يحمي جاره ويراعي تقاليد الدخالة والنجدة.. أما سلوكه الإجرامي فهو موجه ضد الحكومة من ناحية، وضد الأفراد الذين لا ينتمون إلى عصبيته من الناحية الأخرى )) (544).

كان الشقاة " مقاومين " ضد سلطة الحكومة القائمة آنذاك. وحين يُعتقلون يكون ذلك مبعث فخر لهم ولأبناء محلتهم على أساس القاعدة التي يتداولونها والمتمثلة في أن " السجن للرجال ". أما حين يُقتلون فإن تشييع جنازتهم يكون مهيبا. وقد حصل هذا حين قتلت الجندرمة أحد شقاة بغداد المشهورين وهو " عباس السبع "- وبالمناسبة فإن هذا الشقي كان يحترم ويحمي والد علي الوردي ويفتديه - وقد خرجت الجماهير تبكي عليه والنساء يلطمن ويندبن.. وقد ربطت الجندرمة جثة عباس وزميل له بذيل حصان وسحبوهما في الطرقات لكي يكونوا عبرة لغيرهما من الشقاة. وبالمناسبة أيضا وفي لقاء تلفزيوني مع المبدع الراحل (نجيب محفوظ ) قال فيه إن آخر فتوة في القاهرة وكان اسمه "عباس" قد تعرض للإهانة وللضرب المبرح واقتيد ليعرض على الناس شبه عار.

الشقاوات ليسوا تاشطّاروالعيّارين

ويرى الوردي - بخلاف ما يعتقده الدكتور مصطفى جواد من أن تقاليد الاشقياء تعود إلى أخلاق العيارين والشطار وأهل الفتوة في العهد العباسي - أن الشقاوة يغلب عليها الطابع الفردي بينما كان العيارون وأضرابهم يخضعون لتنظيم جماعي يشبه تنظيم الجنود أحيانا ويشبه تنظيم " الأصناف " المهنية - أي النقابات- أحيانا أخرى. يقول الوردي:

(( يخيل لي أن العيارين وأضرابهم إنما نشأوا في محيط متحضر ويمثلون ثورة الفقراء على الأغنياء، أي أنهم ظهروا من جراء التمايز الطبقي الذي كان المجتمع البغدادي يزخر به في ذلك الحين حيث يعيش الأمراء والأغنياء في أقصى درجات الترف ويعيش الفقراء والكسبة في أقصى درجات الحرمان.... ولهذا ظهرت في بغداد قصور باذخة تحتوي على أعظم ما وصلت إليه الحضارة آنذاك من وسائل اللذة والعيش الرغيد، كما ظهرت فيها تجمعات بشرية يسودها الفقر والقذارة وتعشعش فيها عصابات اللصوص والعيارين والشطار ومن لفّ لفهم.. وكان العيارون واللصوص حين يقطعون الطرق على القوافل وينهبونها يحتجون بأنهم إنما يأخذون حقهم في الزكاة التي امتنع التجار عن دفعها لهم طوعا، فهم يزعمون أنهم فقراء يستحقون أخذ الزكاة شاء أرباب الأموال أو كرهوا لأن الزكاة صدقة تؤخذ من أغنياء المسلمين وتفرّق في فقرائهم )) (545).

ويرى الوردي أن الوضع الاجتماعي لبغداد في العهد العثماني يختلف عن العصر العباسي، فقد كان هم الوالي العثماني الأساسي هو جمع أقصى ما يستطيع من أموال الجباية لكي يرسل حصة الأسد منها إلى اسطنبول ويستحوذ على الباقي منها. كان موظفوا الحكومة أسوأ من اللصوص حيث كانوا يسلبون من الناس أي شيء ثمين لديهم.. ولذلك اعتاد الناس أن يتشاءموا من اي مظهر للنعمة يظهر عليهم ويتكتموا في أمر ثرواتهم لكي لا يعلم بها أحد فتصبح عرضة للمصادرة من قبل الحكام، أو للسرقة من قبل اللصوص. وهذا- حسب الوردي - هو الذي جعل التمايز الطبقي بين الناس غير واضح المعالم أي أنه لم يكن مثل ما كان عليه في العهد العباسي. وقد كان الوعي الجماعي في العهد العثماني أكثر شيوعا من الوعي الطبقي، حيث كان الفرد يتعصب لعشيرته ومحلته أكثر مما يتعصب لأبناء "طبقته". وهذا الوعي الجماعي التعصبي هو من مظاهر سيطرة المد البدوي على العراق في العهد العثماني:

( فالناس لا يتركون الوعي الجماعي ويأخذون بالوعي الطبقي إلا بعد ما يظهر عليهم التحضّر وهم عندئذ يشعرون بأن المال هو عصب الحياة وأنه هو الذي يرفع مكانة الإنسان أو يخفضها. أما في البداوة - أو في المجتمع الذي يسيطر عليه المدّ البدوي - فالناس لا يقدّرون المال إلا بمقدار ما يدعم عصبيتهم الجماعية ويرفع من مكانتهم فيها، وليست له فيها سوى ذلك قيمة كبيرة. ومعنى هذا أنهم يطلبون المال لا من أجل أن يتنعموا به بل من أجل أن يتكرموا به ) (546).

ولهذا- كما يؤكد الوردي - يشكّل المال عند الأشقياء وسيلة لا غاية. فهم لا يهتمون بجمعه وادخاره ولكنهم يقومون بتوزيعه على المحتاجين من ناحية ويصرفونه على ملذاتهم من ناحية أخرى. ومن خلال تناوله لأنموذج "حسن كبريت" كبير شقاة بغداد في أواخر العهد العثماني يبين أن أغلب الشقاة يمتلكون عقلية خرافية تقوم على أساس أن إنقاذهم للناس المستضعفين سوف يكتب لهم الشفاعة ويجعل الله يغفر لهم ذنوبهم المترتبة على الجرائم التي اقترفوها حتى لو كانت جرائم قتل. فالشقي "حسن كبريت" كان يعتقد أن الله سيغفر له جرائم القتل الكثيرة التي ارتكبها بشفاعة فاطمة الزهراء بنت النبي، وذلك لأنه أنقذ ذات ليلة فتاة بقتله شخص كان يحاول اغتصابها في مقبرة، وكانت هي تستغيث وتتوسل بفاطمة الزهراء. والغريب أن حسن كبريت هذا كان قد انضم إلى المجاهدين وشارك في معركة " الشعيبة " خلال الحرب العالمية الأولى. ولم يكن يكتفي بقتل جنود الأعداء بل كان يقوم بقطع رؤوسهم رغم رفض القادة من رجال الدين لسلوكه هذا.

أسطورة "عبد المجيد كنّة"

وفي الجزء الخامس من (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) يذكر الوردي قصة إعدام "عبد المجيد كنة" الذي كان من مغاوير بغداد الذين ساعدوا الحركة الوطنية مساعدة كبيرة وقد ألف عصابة لهذا الغرض، وأخذ يهدّد من يتعاون مع الانكليز من وجهاء بغداد بالقتل. يقول الوردي:

(( جرى لجنازة عبد المجيد تشييع عظيم جدا. وقد اشترك فيه الشيعة وأهل السنة معا، فأخرج الشيعة في التشييع أعلام مواكبهم الحسينية. كما خرج المتصوفة بدفوفهم يكبرون الله. وحمل بعض الشبان الشموع بأيديهم إشارة إلى أن الفقيد كان شابا وهذا يوم عرسه. وفيما يلي نبذة مما ذكرته جريدة " الاستقلال " البغدادية حول التشييع:

((.. حُملت الجنازة من داره قبيل الظهر ومرت في الشوارع يتقدمها صفوف من أهل الدفوف والأعلام وهم يهللون ويكبرون ويتبعهم ألوف من الرجال والشبان وفي أيديهم الشموع تضيء والكل تضج ضجيجا عاليا. ثم يأتي بعد ذلك النعش وقد رُفع على رؤوس الأصابع. ولا أبالغ إذا قلت تحمله مئات من الأيدي والناس تتزاحم لكي تحظى بحمله ولو برهة. وقد ألقي على الصندوق رزمة نفيسة من الحرير الغالي وعُلق فوق رأسه الطربوش الذي كان يلبسه في الحياة. ويتبع النعش من الخلائق والأعلام أضعاف من تقدمه. والجميع خاضعة الرؤوس. ثم تأتي بعد ذلك أفواج النساء زمرا وقد حثين الرماد والطين على رؤوسهن )) (547).

أسطورة "إبن عبدكه"

أما أنموذج الأشقياء المحيّر الأكبر الذي يتناوله الوردي فهو أنموذج (ابن عبدكة ) الذي كان أشهر شقي عرفه المجتمع العراقي خلال الفترة التي امتدت بين أواخر العهد التركي وتأسيس الحكومة العراقية، وكان كردي الأصل. وقد عجزت الحكومة التركية عن إلقاء القبض عليه فوضعت مكافأة مالية كبيرة لمن يأتي به حيّا أو ميتا. وكان من المعروف عنه أنه كان ذا مروءة لا يعتدي على الضعفاء والفقراء والنساء. وقد استمر في عصيانه على الحكومة في عهد الاحتلال الانكليزي، وعجز الانكليز عن إلقاء القبض عليه مثلما عجز الأتراك قبلهم. وقد قتل من الجنود الانكليز أكثر مما قتل من جنود الأتراك. ومن الحوادث الفريدة في مسيرة هذا الشقي هو أنه حين اقتحم "بعقوبة" مع الثوار ثائرا على الانكليز وشرّد جنود المحتل وانتقل إلى شهربان أتيح له أن يعثر على السيدة "زتون" - وهي زوجة أحد الضباط البريطانيين - في بستان خلف القشلة وأنقذها من الاغتصاب وأوصلها إلى بيت أحد الشيوخ بكل أمانة. وبعد أن أعيى ابن عبدكة الإنكليز - بعد فشل الثورة - عن إلقاء القبض عليه، وقع صريع الحمّى إثر بلوغه نبأ قتل ابن عمه على أيدي أقرباء المدعو "نجم بن زهو العزاوي" الذي كان ابن عبدكة قد قتله من قبل. وفي أثناء مرضه هذا ألقت الشرطة القبض عليه. وقد تحولت محاكمته التي استمرت أربعة أشهر إلى مناسبة شعبية تحضرها الناس الذين تمتليء بهم ساحة المحكمة، وقد نقلت وقائعها الصحف التي كانت تنقل تفاصيل تصريحات ومواقف محامي المتهم. وقد حكمت المحكمة عليه بالإعدام وقالت الصحف إن ابن عبدكة واجه القرار بكل هدوء وجلد. وكان " سليمان فيضي " واحدا من القضاة في محكمة التمييز التي نظرت في قضية ابن عبدكة وقال عنها في مذكراته:

(( ابن عبدكة ثائر شعبي من عامة الأكراد. اشتهر بالشجاعة والإقدام. وكان له في أثناء الثورة العراقية مواقف مشرّفة ضد الإنكليز في لواء ديالى.. فلما نشبت الثورة العراقية وأخلى الإنكليز بعقوبة دخلها ابن عبدكة، ونصب نفسه مديرا للأمن فيها. وبطش بالجواسيس، فقتل بعضهم وأحرق دورهم. مما اثار حقد الإنكليز ونقمتهم عليه. وفي عهد الحكومة الوطنية ألقي القبض على ابن عبدكة، وسيق إلى المحكمة الكبرى في بغداد.. فحكم عليه بالإعدام شنقا.. وعارضته أنا ورشيد عالي... وكانت تأتينا التوصيات المتكررة من المندوب السامي بتصديق الحكم فلم نأبه لها.. وقد شغلت هذه المحاكمة الرأي العام.. فكنت ترى قاعة المحاكم وفسحتها مكتظة بآلاف الناس.. صدر الحكم بتصديق قرار الشنق بأغلبية الأصوات... فلما اطلع جلالة الملك عليها امتنع عن تصديقه وأمر بتخفيف العقوبة إلى الحبس خمس عشرة سنة )) (548).

وعندما خفض الملك الحكم سرت شائعات منها أن المس بيل هي التي حرضت الملك على ذلك، وذلك لأن الناس اعتقدوا خطأ بأن المس بيل هي المرأة البريطانية التي أنقذها ابن عبدكة من الإغتصاب في شهربان ولذلك أرادت مكافأته على عمله النبيل ذاك.

(مكث ابن عبدكة في السجن حتى عام 1936 حيث أطلق سراحه وعين مراقبا للآثار في بابل.. وهناك، وفي مساء 5 أيلول1954 وبينما كان يمشي في أزقة الحلة وهو يتحامل على نفسه لإصابته بالشلل النصفي قتله "سهيل" ابن نجم العزاوي وكان آخر ما قاله قبل أن يلفظ أنفاسه هو: ليش احنه ما توافينا؟ أنا قتلت أبوه.. وأعمامه قتلوا ابن عمي..) (549).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى