الاثنين ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٦
بقلم حسين سرمك حسن

ليلة تسليم جلجامش لليهود (2)

التّناصُّ المُدمِّر

كتاب (الأصول الأسطورية في قصّة يوسف التوراتي)، للباحث ناجح المعموري أنموذجاً:

كتاب (الأصول الأسطورية في قصّة يوسف التوراتي)، للناقد والباحث "ناجح المعموري" (1)، هو الكتاب الذي أعدّه أنموذجاً لما وصفتُه في عنوان هذا الفصل بـ "التناص المدمّر"، وهو التناص الذي ساشرحه بالتبسيط الضروري في ما سيأتي من صفحات هذا الكتاب بطريقة تؤمّن فهم أغلبية القرّاء العامّين بدءاً من طلبة الإعدادية على سبيل المثال. وسأستخدم ما يحتويه هذا الكتاب من طروحات وأفكار وفرضّيات كنماذج تطبيقية لنقد المنهج القائم على فهم للتناص كفيل بتدمير كل كنوز الموروث الأسطوري في العراق ومصر خصوصاً وتسليمها للفكر التوراتي باعتباره امتداداً طبيعياً لذاك الموروث الأسطوري الذهبي، وذلك من خلال لعبة تناص لا تُبقي ولا تَذَر شيئاً من خصوصيات الفكر الأسطوري في الشرق الأدنى القديم تحت غطاء هدف واسع ومشروع في الظاهر هو كشف المرجعيات الأسطورية للفكر التوراتي، وهو الهدف الذي تحمّس له الكثيرون في البداية – وأنا منهم – ثم إذا به ينزلق بعد مدّة إلى مزالق توصل إلى نتائج شديدة الخطورة.
قدّم للكتاب الأستاذ الدكتور “متعب مناف” بمقالة عنوانها (عقدة يوسف التوراتي بين الإخصاب والإخصاء) قال فيها إن هناك ثلاثة من الباحثين تعرّضوا إلى قصّة يوسف كما وردت في العهد القديم وهم : فراس السوّاح (سوريا)، والسيّد القمني (مصر)، وناجح المعموري (العراق).. وأنه – أي متعب مناف – يطمح أن يكون رابعهم. وأضاف:

(بتقديري أن ناجح المعموري الأقدر والأجدر بتصدّر المجموعة لأنه الأقرب إلى أن يعيش الأسطورة مشاركاً يتماهى مع رموزها يتنفس أوجاعهم، ينام على فرش لذتهم، يتلذذ بشوك مآسيهم، يصدر عنه دامياً يزيد من خفق قلبه بعد أن تلبسّته الأسطورة لتنطلق حيّةً من رماد المعموري.
المعموري يجيد لعبة ولعنة التناص فهو بارع في إدخال نص على نصّ متنقلاً من كلكامش إلى يوسف التوراتي ليظهر ثانية في تموز البابلي وأوزوريس المصري حاطاً عند يسوع الناصري – ص 12 و13) (2).

وبعد أن يستعرض متعب الأفكار الأسياسية لوجهة نظر ناجح، يبدأ بطرح أسس فرضيّته، فيبين أنها تبدأ من حيث ينتهي ناجح المعموري. ويواصل القول - وأنا أنقل كل الفقرات كما هي بأخطائها المطبعية واللغوية والإملائية الكثيرة لسبب في نفسي سوف أثبته في ملاحظة مستقلة - :
(لقد وضعتُ لبحثي هذا وأن أقرأ وبإمعان وتقدير ما كتبه ناجح المعموري أن فهم قصة يوسف التوراتي وقراءة ذلك تناصيا مع أسطورة الأخوين، أن القصة يمكن أن تدرك كعقدة (comp lex) (هكذا وردت !!) تحاول أن تتمدد بين حدّين هما (الإخصاب) و (الإخصاء).

هاتان المعطيتان (المفهومان) إخصاب، إخصاء يربط بينهما التضاد الى حد التناقض وأن تحقيق أحدهما ينفي أو يصادر وجود الآخر- ص 22 و23) (3).

وكحالة تطبيقية لهذه الفرضية يفسّر الأستاذ متعب حكاية الأخوين الفرعونية وقصّة يوسف التوراتي بأنهما حالتان وقع فيهما الفرد بين حبّه للإخصاب وخوفه من الإخصاء، وأن هذه الفرضية تصلح لتفسير عقدة يوسف التوراتي:

(الذي وقع بين إغواء زوجة سيّده فوطيفار الذي حاول أن يتبناه وبين خوفه إلى حدّ الفزع من أن يتعرض للإخصاء جراء فعله.

لقد حوصر يوسف التوراتي بخوفين ضاغطين أحدهما من أبيه الحي والثاني من سيده وزوج تلك المرأة التي حاولت إغوائه - ص 27) (4).

وقفة : الكاتب العراقي لا يهتم بمراجعة كتبه قبل طبعها

وارتباطا بملاحظتي عن الأخطاء الطباعية وبالتالي الإملائية الكثيرة، واللغوية، أقول إن هذه الأخطاء قد شوّهت جوانب كبيرة من شكل ومضمون المقالة. وقد دعوت في مناسبات سابقة الكتّاب العراقيين إلى أن يطلبوا من صاحب دار النشر أن يرسل إليهم البروفة الأخيرة (pdf) قبل النشر للتأكد من عدم وجود أخطاء فيها، وتصحيحها أكثر من مرّة لضمان صدور كتاب بأقل الأخطاء. وكل يوم تصدر كتب عراقية مليئة بالأخطاء الطباعية للأسف لأن الكاتب العراقي يستعجل ويضع ثقته في الناشر الذي يسلك سلوك تاجر آخر ما يهمه هو الشأن الثقافي. كما يعكس ذلك عدم توفّر روح الجدّية والمتابعة لدى الكاتب العراقي وملله السريع كجزء من سمات الشخصية العراقية عموماً. هل يستطيع السيّد القاريء فهم هذا المقطع :

(فهو يقرب المطيع فيمنحه (الخصب) ويدمر المحتج فيعاقبه با (الخصاء) لان الاول (المطيع) الأحد أن يكون سر ابيه ثم هو يؤرث، أما العامة فانه امتنع على ابيه وثلم هيبته عقابه أن يجرد وأفضال أبيه ومنحها الاخصاء.

وتمكن أن نتحول بالمنه الأبوية والتي يمارسها في وسطه العائلي (اخصاباً واخصاءاً) الى الأب الحاكم السلطوي- ص 17) (5).

ولاحظ في أخطاء النص الطباعية السابقة كم هي مهمة حركات التشكيل أيضا والتي يتحمل جانبا كبيرا منها الكاتب العراقي نفسه.

عودة : الباحث د. متعب مناف يقع في المصيدة

المهم، أنّه في هذا التقديم، يقدّم لنا د. متعب مناف معلومات كثيرة مهمة، فهو من الأساتذة الذين يتوفّرون على ثقافة موسوعية وثراء معرفي مميّز يُلاحظ من خلال دراساته وكتبه. لكن أن يقول لنا أن البحر الأحمر هو بالإنكليزية (Red Sea)، وأن البحر الأسود هو (Black Sea)، فإن في هذا استخفافاً بعقولنا، فبالله عليك يا أستاذ متعب، لمن كُتبت هذه المقالة ؟ هل كُتبت لتلاميذ المتوسطة ؟ حتى هؤلاء يعرفون اسمي البحر الأحمر والأسود بالإنكليزي. أتذكر مقالة لأحد النقاد العراقيين "الحداثيين" نشرها في التسعينات، وقال فيها : (وهذا المؤلف لديه الكثير من الكتب (books) !!).

وقد تضمّنت مقدّمة متعب الكثير من الآراء والأفكار الخاطئة والغير دقيقة سأطرح جانبا منها، الآن، وجانبا آخر في مواقف مُقبلة مناسبة من هذه الدراسة. يصف متعب الأستاذ ناجح بأنه :
(أحد أفضل الاثاريين الثقاة - ص 21) (6).

وتعريف كلمة الآثاري – Archeologist، هو أنه الشخص الذي يدرس المناطق والأشياء البدائية ليفهم الماضي. وقد يتخصّص بمناطق جغرافية معينة أو مراحل تاريخية أو أدوات محدّدة كالعملات أو العظام أو الأواني وغيرها. أي أن عمله الرئيسي هو النبشيات (الحفريات) وما يتفرّع عنها. ولكن ناجح ليس آثاريا بهذا المعنى، إنّه قاريء ومحلّل للاسطورة ؛ باحث في مجال الميثولوجيا.
وعلى (الصفحة 15) يستشهد متعب ببيت شعر ليوضح أفكاره عن استبداد الأب في التصرّف في أبنائه وبناته :

إن رمت تعذبني فأنت مخير
من ذا ينازع (سيّداً) في عبده

وهذه الصيغة للبيت الشعري غير دقيقة ومختلة الوزن، والأصح - أولاً - هو أن صيغة البيت الشعري الأصلية هي:

إن شئتَ تقتلني فأنتَ محكّمٌ
من ذا يطالبُ سيّداً في عبده

وهو من قصيدة المتنبي التي مطلعها:

قمرٌ تكامل في نهاية حسنه
مثل القضيب على رشاقة قدّه

وهي قصيدة غزليّة معروفة شاعت خصوصا بعد أن شدا بها صوت القدّيسة فيروز الرائع.وثانياً، لا أعتقد أن هذا البيت بما يستدعيه من انفعالات يشكل اقتباسا مناسبا لوصف علاقة بين طرفين تتراوح بين قطب الإخصاب وقطب الإخصاء ولها مدلولات نفسية وتاريخية وثقافية جدّية وضخمة.

د. متعب يقع في خطأ ستراتيجي فادح

وقد وقع د. متعب في الخطأ الستراتيجي نفسه الذي وقع فيه ناجح حين اعتمد على قراءة حكاية الأخوين الفرعونية كما وردت في كتاب (أساطير من الشرق) للكاتب المصري "سليمان مظهر" (7)، فتراه ينقل بعض المقاطع باللغة التعبيرية الأدبية والشعرية التي استخدمها سليمان مظهر، وهي ليست لغة الحكاية ألأصلية، فقد تلاعب بها سليمان كما يقول هو نفسه في المقدّمة :
(وقد أخذتُ على عاتقي في هذا الكتاب تقديم بعض اساطير الشرق، بعد إخراجها من الطابع المتزمّت وتبسيطها وتقديمها في صورة حيّة، سهلة التناول، تطربُ لها نفوس القارئين- ص 11)(8).

ما أهمية هذه الملاحظة؟

وما هي مصادر الحكاية؟

إن لها أهمية كبرى، تكمن في أن متعب لم يكلّف نفسه العودة إلى الحكاية في مضانّها الأصلية ليس باللغة الهيروغليفية طبعاً، ولكن باللغة الإنكليزية – مثلاً - التي تُرجم إليها الأصل (وهو متمكن من هذه اللغة)، وكذلك ناجح المعموري، واكتفى الإثنان بالإعتماد على إخراج أدبي للأسطورة يُراد منه تبسيطها وجعلها محبّبة إلى نفوس القارئين لكي تطرب لها نفوسهم كما قال سليمان مظهر، ونسيا أن إعادة الصياغة شعرياً تدمّر الأسطورة والحكاية الخرافية لأن تغيير مفردة واحدة يكفي لقلب معنى الأسطورة والحكاية رأساً على عقب كما سنرى عبر عشرات الأمثلة المُقبلة. بل أن كل أخطاء متعب وناجح في التأويل ناجم عن عدم رجوعهما إلى النص الأصلي للأسطورة والحكاية، واكتفائهما بنسخة كتبها كاتب معاصر في القرن العشرين – بعد أكثر من 30 قرناً !! – وبأسلوبه الشخصي ليطرب قلوب القرّاء كما يقول!!

مثلا ؛ يذكر متعب وناجح أن اسمي الأخوين هو: أنوبو وبايتي اعتمادا على سليمان مظهر، وهذا موجود في إحدى نسخ الحكاية، ولكن المتعارف عليه بين الباحثين هو أنهما : أنبو (أو أنوبو في مصادر أقل)، وباتا (Anpu and Bata) كما ورد في النص الأصلي بترجمته الإنكليزية في المتحف البريطاني التي سأرفقها في الختام، كما ذُكر اسم باتا بهذه الصيغة في كتاب (أساطير العالم القديم) الذي أشرف عليه وحرّره (صموئيل نوح كريمر). واسم أنوبو هو الإسم الأصلي للإسم المقدّس الذي تحوّل على ايدي اليونان والرومان إلى "أنوبيس". أمّا بالنسبة لـ "باتا" فهناك أسماء لإله قديم جدّاً يُصوّر برأسي ثور هي : بيْتي وبْتي وبوتي، وقد عرف اليونان هذه السلطة الميثولوجية بأسماء : باتي وبوتي وبايتي – ص 158 هامش 3) (9).

وما أقصده من هذه الملاحظة هو أن الباحث - حين يكون "آثارياً ثقة" - عليه أن يعود لمراجعة الإسماء والألقاب – للآلهة والأشخاص - وأسماء الأماكن في ترجمات نسخ أي حكاية يتصدّى لتحليلها وتأويلها.

وهذه الحكاية كان من السهل الرجوع إليها في مصادرها الأصلية، لأنها – وهذه حالة استثنائية – بنسخة واحدة على البردي، وليست بنسخ متعدّدة كما هو حال الكثير من الأساطير المصرية القديمة، كما يقول سير "فلندرز بيتري" في كتابه:

حكايات مصريّة – مترجمة من أوراق البردي – السلسلة الثانية : الأسرة الثامنة عشرة إلى التاسعة عشر - Egyptian Tales, Translated from the Papyri: Second series, XVIIIth to XIXth dynasty

الذي اعتمدتُ عليه في دراسة الحكاية باللغة الإنكليزية. وقد طُبع هذا الكتاب أول مرة في عام 1895 وطُبع ثانية عام 1913، ثم طُبع أخيراً في عام 2013 حيث يُباع الآن في موقع أمازون للكتب، ولكن نسخة أصلية منه موجودة في موقع Project Gutenberg ويمكن تحميلها مجاناً.

ولم أكتف بالإعتماد على كتاب السيّد بيتري، بالرغم من أنّه الأكثر دقة وأهمية حيث يقول بيتري أن السيّد "كريفيث" الذي ترجم الحكاية قام بترجمتها كلمة مقابل كلمة، وأنه – أي بيتري – لم يتدخل عند تحريرها إلّا بحدود بسيطة جداً، ولكن اعتمدتُ على كتاب لا يقل شهرة ودقّة عنه، وهو كتاب الباحث الشهير المختصّ بالمصريّات، سير "غاستون ماسبيرو – Gaston Maspero " :
حكايات شعبيّة من مصر القديمة – Popular Stories from Ancient Egypt
الذي صدر في الولايات المتحدة وبريطانيا في وقت واحد عام 1915. ثم أعيد إصداره في البلدين نفسيهما عام 2002. وهناك – أيضاً – نسخ أصلية منه يمكن تحميلها وقراءتها مجاناً. وقد صدر هذا الكتاب باللغة العربية عام 2008 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ولكن تحت عنوان "حكايات شعبيّة فرعونية"، وقامت بترجمته "فاطمة عبد الله محمود"، وراجعه د. ماهر محمود طه.

كما اعتمدتُ، أيضاً، على نسخة الحكاية المُترجمة في كتاب "دوناد مكنزي" : Egyptian Myth and Legend by Donald Mackenzie (1907)- Gresham puplication – London


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى