السبت ١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧
بقلم حاتم جوعية

دراسة ٌ لديوان «أوراق خريفيَّة»

مُقدِّمَة ٌ:

الشَّاعرُ والأديبُ والناقدُ الكبير الدكتور "منير توما" يسكنُ في قريةِ "كفر ياسيف" الجليليَّة، أنهَى دراستهُ الثانويَّة في مدرسةِ " يني يني " - كفر ياسيف - الفرع العلمي، وتابعَ دراسَتهُ الأكاديميَّة في جامعة حيفا، حاصلٌ على شهادة الدكتوراه في اللغةِ الإنجليزيَّةِ وآدابها والأدبِ المقارن. نشرَ الكثيرَ من إنتاجهِ الكتابي - الشعري والنثري والدرسات والابحاث في معظم الجرائد ووسائل الإعلام المحليَّةِ وخارج البلاد. وهو يكتبُ الشعرَ والدراسات باللغتين الإنجليزيَّة والعربيَّة، حصلَ على العديدِ من الجوائز الدوليَّةِ وعلى شهادةِ استحقاق في كتابةِ الشِّعر باللغةِ الإنجليزيَّةِ من الجمعيَّةِ الدُّوليَّةِ للشُّعراءِ في الولاياتِ المُتَّحدةِ... وأصدَر العديدَ من الدواوين الشِّعريَّة والدراسات النقديَّةِ في اللغتين العربيَّة والإنجليزيَّة، ويُعتبرُ من كبار النقادِ محليًّا وعربيًّا وقدَّمَ للحركةِ النقديَّةِ والأدبيَّةِ الكثيرَ من الإبداعاتِ والرَّوائع الخالِدة، وقد سَدَّ فراغًا وَحَيِّزًا كبيرًا تُعاني منهُ الحركة ُ النقديَّة ُ المحليَّة. ومن أهمِّ إصداراتِهِ المطبوعة:

1) ديوان أوراق خريفيَّة (شعر) - سنة 2006.
2) ويبقى الهوى (شعر) - سنة 2011.
3) تجليَّات ربيعيَّة (شعر) - سنة 2011.
4) ورد وشجن (شعر) - سنة 2011.
5) محاضرات في الفكر والأدب (مقالات أدبيَّة) - سنة 2007.
6) محاضرات في الآداب العالميَّة (مقالات أدبيَّة) - سنة (2007).

وصدرَ لهُ في الإنجليزيَّة:

1) أزاهير الألم (شعر) – سنة 1996 - anguish blossoms of.
2) سطور عاطفيَّة (شعر) - sentimental lines.
3) زيارة الحكيم وقصائد بلوغ (شعر ونثر)- the sage,s visit and poems of maturity. وسأتناولُ في هذه المقالةِ ديوانه (أوراق خريفيَّة) مع الإستعراض والتحليل.

مَدخَلٌ: ديوان (أوراق خريفيَّة) يقعُ في 144 صفحة من الحجم المتوسط الكبير، تُحَلِّيهِ صورة ٌ جميلة ٌ وَمُعَبِّرة ٌعلى وجهِ الغلاف، صدرَ عن قسم الثقافةِ العربيَّةِ - بإدارة المرحوم خالد الذكر - الأستاذ " موفق خوري "، ويُهدي الشَّاعرُ الديوانَ إلى كلِّ من يَتَّخذ ُمن المَحَبَّةِ الصَّادقةِ التي لا تسقط ُ أبدًا، مذهبًا في هذهِ الحياةِ، ومن الحُرِّيَّةِ المُلتزمةِ التي لا تؤذي أحدًا، مسلكًا في هذا الوجود.

ويضُمُّ الديوانُ قصائدَ عديدة ومتفرِّقة ومُتنوِّعة في معظم المواضيع: الغزليَّة، الوطنيَّة، الفلسفيَّة والتأمُّليَّة، الوصف والمناسبات.. وفي المواضيع اللاهوتيَّة والإيمان وغيرها..

ومن ناحيةِ الشَّكل ِ والبناءِ الخارجي هذا الديوان يحوي بعضَ القصائد الكلاسيكيَّة العموديَّة، والقسمُ الآخرُ على نمط ِ شعر التفعيلة، وهنالك العديدُ من القصائد التفعيليَّة لا تتقيَّدُ بوزن ٍ وبتفعيلةٍ واحدةٍ، بل بعدَّةِ تفاعيل، وحتى في الجملةِ الشِّعريَّة الواحدة أحيانا.. فالبعضُ من هذهِ القصائد الحديثة نستطيعُ أن نُدرجَهَا ضمنَ الشِّعر الحديث الحُرّ شكليًّا، ولكن تترعُهَا موسيقى داخليَّة أخَّاذة. وسأختارُ من هذا الديوان بعضَ القصائد للدراسةِ والتحليل، وسأبدأ بالقصيدةِ الأولى من الديوان بعنوان: (" إنفعال عاشق " - صفحة 7 - 8)... وهذه القصيدة غزليَّة وعموديَّة على بحر البسيط، تتمتَّعُ بالجزالةِ وقوَّةِ اللغةِ وبعلوِّ النبرةِ وَمَتانةِ الحَبْكِ والسَّبكِ وبعُمقِهَا وبروحِهَا الصَّادقةِ وبحرارتِها. وبالرُّغم من كونها كلاسيكيَّة فمعانيها عميقة وحديثة وفيها الصُّورُ الشِّعريَّة الشَّفافة والخلابة والإستعارات البلاغيَّة الجديدة والمُلائِمة لعصرنا ولمسيرةِ التجديدِ والحداثةِ في الشِّعرِ المُعاصر.

يُخاطبُ الشَّاعرُ فيها فتاتهُ (الإنسانة التي تحتلُّ حيِّزًا كبيرًا من عالمِهِ وكيانِهِ وواقعِهِ ولها الحظ ُّ الكبير من الإهتمام عندهُ)، فيطلبُ منها ألا َّ تخذلهُ لأنَّ نهرَ الحُبِّ الصَّافي والصَّادق لا ينضبُ (بالطبع عنده)، فالماءُ ما زالَ يجري من أعْيُنِهِ (يقصدُ النبعَ وأيضًا عيونهُ التي يرى بها) فلتكن لهُ عصبًا فعواطفهُ ومشاعرُهُ كالشَّهد النقيِّ من كلِّ أطرافِها... وما زالت نفحاتُ الحُبِّ عابقة ً بأجمل ِ أريج فيطلبُ منها ألاَّ تهملها... وهو حسب ظنِّهِ أنَّ الودَّ المُعطَّرَ الذي بينهما ما زالَ مُنسَكِبًأ. ويكرِّرُ طلبَهُ مرَّة ً أخرى ألا َّ تخذلهُ فهو كالخلجان ِ موانئهُ هادِئة تحتضنُ الأمطارَ والسُّحبَ (رمز للخير والبركة والعطاء).

وهو كالبدرِ، بل البدر ذاته يَلمَعُ في عينيهِ وَيسطعُ في خدِّهِ، وصهيلُ الوِدِّ عنده لم يَرتعِبْ (وهنا يستعمل استعارات بلاغيَّة جديدة)، وعنادلُ الفجر (رمز للشدوِ والفرح والجمال والحريَّة) قد طارت ورحلت وهو ما زالَ في أنفعالِهِ يرقبُ النَّسَبا... أي الأحباب والأقارب وألأثيرين إليهِ... وهو قد عملَ كلَّ شيىء وقدَّمَ كلَّ تضحِيةٍ لأجل ِ فتاتِهِ وأفرط َ أيُّمَا إفراط ٍ في هذا. لقد بَدَّدَ أمتعتهُ (يرمزُ ويُشيرُ بهذا أنَّهُ قد أهدَرَ وقتهُ وزمانهُ وَعُمْرَهُ كما بدَّدَ وبعثرَ وأضاعَ الملابس ولم يعُد يعرف مراتبهَا ومواضعها). ويطلبُ الشَّاعرُ في نهايةِ القصيدةِ من فتاتِهِ أن تقولَ لهُ كلامَهَا الذي هو في لهفةٍ لِسَمَاعِهِ، ولم يذكرْ أيَّ كلام ٍ، والمقصودُ كلام الحبّ والغرام والشوق وسكب شهد العواطف المُؤجَّجَة لتنقلهُ ولتدخِلهُ في سمعِهِ وأقنيَتِهِ... أي في كلِّ مسربٍ ومجرى من حواسهِ وكيانِهِ ليسري كالماءِ العذب. ولتكن كالعنبِ... أي كالخمر الذي يُسْكِرُ الرُّوحَ والجسد ويُثيرُ وَيُؤَجِّجُ الحُبَّ والفكرَ والنفسَ الهائمة.

هذهِ القصيدة ُ رُغمَ عُمقِها وفلسفتِها وتقنيَّاتِها الحديثة في صورِها الشِّعريَّة واستعاراتِها البلاغيَّة المبتكرة ومعانيها غير المألوفة أحيانا فهي مفهومة، وفي نفس السَّطر أو الجملة الشِّعريَّة نجدُ أكثرَ من موضوع وفكرةٍ.. أي أنَّ القصيدة َعريضة ٌ وواسعة ٌ وزاخرة ٌوَمُكثَّفة في معانيها الجميلة والجليلة وغير محدودة أو سطحيَّة وَمُصطنعةٍ كما يَنتهِجُ الكثيرون مِمَّن يكتبونَ الشِّعرَ الكلاسيكي العمودي اليوم (لأنَّ العديدَ مِمَّن يكتبونَ الشِّعرَ التقليدي العمودي يهُمُّهُم فقط الوزن والقافية وكيف يستطيعون ترتيب الكلمات وبناء البيت الشِّعري مع القافية ولو بأيِّ شكل ٍ، حتى لو كانَ ركيكا ومُهلهلا ً وسخيفا معنى وشكلا، قالبًا ومضمونا، ولا يهتمُّون للمعاني وللصور الشعريَّة وللألفاظِ الجميلةِ وللحداثةِ والتجديد، وذلك لأنَّ فكرَهُمْ محدود وثقافتهم ضحلة وموهبتهم الشِّعريَّة ضحلة ومعدومة. وأمَّا هنا لدى شاعرنا الدكتور منير توما فالعكس تماما - حيث شاعرنا يَظهرُ في هذهِ القصيدةِ وغيرها وفي كلِّ ما يكتبُهُ من شعرٍ تقليدي مُتوقِّدَ الحِسِّ والمشاعر والعواطف، فيلسوفا ومفكِّرًا ومُحلِّلا ً للطبيعةِ والحياةِ وللوجودِ والواقع الذي نحياه وللعالم الميتافيزيكي - ما وراء الطبيعة، ونراهُ فنانا فذ ًّا في كيفيَّةِ اختيار الكلماتِ الجميلةِ والعذبة والمُموسقةِ وفي اكتشافِ واختيار المعاني والصُّور الشعريَّةِ والإستعارتِ البلاغيَّة الحديثة المُبتكرة، ويُحاولُ دائمًا أن يُدخِلُ كلَّ ما هو جديد ومرغوب وَمُحَبَّذ في شعرهِ... وحتى بعض الصُّور القديمة المألوفة التي أستعملت كثيرًا فيُدخلُها هنا، في القصيدة، بطابع ٍ وبحُلَّةٍ قشيبةٍ وتختلفُ كلِّيًّا عن معناها وهدفها القديم المألوف، ويُوظِّفُهَا بشكل ٍ تقنيٍّ لا يخطرُ على بال ِ أحدٍ.
فمثلا يُوظِّفُ ويستعملُ كلمة "البدر "، وهذه الكلمة ُ لا يوجدُ شاعرٌ عربيٌّ منذ العصر الجاهلي إلى الآن لم يستعملها ويدخلها في شعرهِ، ودائمًا تستعمل للدلالةِ على الجمال والنضارةِ وأشراقةِ الوجهِ وبهائهِ وحلاوتهِ... وأمَّا هنا لدى شاعرنا الدكتور منير توما فالبدرُ هذا يلمعُ في عينيَّ الشَّاعر، فأضافَ لهُ بُعدًا معنويًّا آخر، وقد يُفسَّرُ ما كتبهُ على عدَّةِ أشكال، ويسطعُ البدرُ أيضًا في خدِّهِ، وليسَ خدُّهُ كالبدر كما يُقال دائما.. فالبدر إذا ً هو الذي يلمعُ في خدِّهِ. وقد يعني بالبدر أيضًا المحبوبة َ فتاة أحلامِهِ أو الحُرِّيَّة والجمال أيضًا... ويتابعُ في الشَّطرة الثانية فيقول: " صهيلُ الوِدِّ ما ارتعَبا "- وهو أوَّلُ شاعرٍ يستعملُ هذا التشبيبه " صهيل الودّ "، فهذا الودُّ الذي بينهما أصبحَ لهُ صوتا عاليًّا قويًّا كالصَّهيل، ولكن رُغم كلِّ الظروفِ والعراقيل والسَّدود التي تقفُ أمامَهما فصهيلُ الودِّ هذا (العلاقة الحميمة) لم يرتعبْ، والعلاقة ُ الحميمة ُ الصادقة ُ التي بينهما لم تتصدَّع وما زالت قويَّة ً ومتينة.

وسأختارُ بعضَ الأبيات من هذه القصيدة وأدرجها:

(لا تخذليني فنهرُ الحُبِّ ما نضَبَا الماءُ في أعْيُنِي كوني لهُ عَصَبَا
شَهدُ النَّقاءِ على أطرافِ عاطفتِي ويصبُغُ الطَّيفَ، والأسماعَ والطَّرَبَا
وفي غدي نفحَاتُ الحُبِّ عابقة ٌ لا تُهملِيهَا أظنُّ الودَّ مُنسَكِبَا
لا تخذليني أنا الخُلجانُ هادِئَة ٌ موانئي تحضنُ الأمطارَ والسُّحُبَا
البدرُ يلمعُ في عينيَّ يسطعُ في خدَّيَّ عندي صهيلُ الودِّ ما ارتعَبَا
عنادِلُ الفجرِ طارَت بعدَ رحلتِهَا ولم أزلْ في انفِعَالِي أرقبُ النَّسَبَا
بدَّدتُ أمتِعَتِي ضاعَت مراتبُهُا بذا لغيرِ جفاكِ الرَّأسُ ما غضِبَا
قولي كلامَكِ في سمعي وأقنيتي كالماءِ عاشقة كوني لهُ عِنبَا ").

وسأنتقلُ إلى قصيدةٍ أخرى من الديوان بعنوان: (" في بوادي العشق "- صفحة 9 - 10) والقصيدة ُ كلاسيكيَّة ٌ على وزن مجزوءِ الرَّمَل، غنائيَّة ٌ عذبة ٌ تصلحُ للتلحين للغناءِ ويغلبُ عليها الطابَعُ التقليدي أكثر من التجديد والحداثةِ، وهي مَشْبُوبَة ٌ بالعواطفِ المُتوهِّجَةِ، صادقة ٌ من خلال ِ نبرتِها وبريئة ٌ ومُؤَثِّرَة ٌ ٌ كتبَهَا لِفتاتِهِ، وأسلوبُهَا خطابي... وكلُّ أبياتِهَا مُوَجَّهَة ٌ بشكل ٍمُباشر ٍ لفتاتِهِ وعلى شكل ِ أسئلةٍ، ويطلبُ من حبيبتِهِ أن تبقى على حنانِهَا ودِفئها ووداعتِهَا معهُ ولا تقطع حبلَ الوصل، يقولُ في القصيدةِ:

(" أنتِ أرضاكِ لأنِّي أعرفُ البرَّ جمَالا
أنتِ أرضَاكِ لأنِّي أحسَبُ النورَ هِلالا
قد تعاهَدنا زمانا ً وَتألَّقتِ جَلالا
وَتلاقينا سَويًّا حينَ عادَ البالُ حَالا
وتناغمنا بحُبٍّ فأسَرتيني دَلالا ").
ويقولُ الشَّاعرُ منير توما في القصيدةِ أيضًا:
(" كيفَ أنسى بعدَ وَصْل ٍ أنَّ عشقي يتسَامَى
إنَّ قلبي يتشَظَّى إنَّ نفسي تتعالى
ويقولُ: (إنَّمَا البُعدُ خَوَاءٌ يُكسِبُ الجِسمَ ضِلالا
أنتِ أرضَاكِ حَبيبًا في بواديَّ حلالا).

وسأنتقلُ إلى قصيدةٍ أخرى من الديوان بعنوان: ("لقاء الحبيب" -صفحة 12 - 13) والقصيدة ُ كلاسيكيَّة ٌ على وزن الكامل، وهي بروحها وأسلوبها تذكِّرنا بروائع شاعر فلسطين قبل النكبة (إبراهيم طوقان) الغزليَّة وبمغامراتِهِ ودونجوانيّاَتهِ ولقاءاتِهِ الرُومانسيَّة مع الفتياتِ المُعجبات وبتلوُّعِهِ وصبابتِهِ وهيامِهِ مع فتاتِهِ المختارة والأثيرة لديهِ التي أحَبَّهَا حُبًّا صادقا، وخاصَّة ً بحواراتِهِ في هذه القصيدة مع صديقتِهِ وشكواهُ لِما يُعانيهِ من شدَّةِ الحُبِّ واللَّوعةِ والهجران، ويقولُ الدكتور منير توما:

(" اليوم ترفلُ بالهَناءِ الغيدُ والبدرُ يُرسِلُ نورَهَا وَيَميدُ
وَتُخَضِّبُ الأشواقُ جسم كواعِبٍ لا ينقضي عنها المُنى ويحيدُ
وَطيوبُ باريس تُعطِّرُ جَمْعَنا بأناقةٍ فيلفنا التنهيدُ
وَعَبيرُهَا مُتناثِرٌ في لمسَةٍ للحُبِّ تعشقهُ القيانُ الصِّيدُ).

يتحدَّثُ الشَّاعرُ عن مُناسَبةٍ واحتفال ٍ كما يبدو، خارجَ البلاد، وربَّما في مدينةِ باريس كما ذكرَ في القصيدةِ (طيوب باريس)، وكان يرتعُ ويمرحُ في هذه المناسبةِ والإحتفال الصَّاخِبِ الكثيرُ من الصَّبايا الغيد الجميلات والأنيقات (ترفلُ بالهناء الغيدُ)... أي بالمناسبةِ السَّعيدةِ، والمناسبة كانت في ساعات الليل والبدرُ يرسلُ نورَهُ ويميدُ ويتمايلُ طربًا من جمالهن وسحرهنَّ. وطيوبُ وعطور باريس مدينة الجمال والسحر والفن والحفلات الرَّائعة تعطِّرُ الجميعَ وبأناقةٍ لا توصَفُ. فالشَّاعرُ، بدورِهِ، أدمنَ رائحة َ الغيدِ العطرة والجمالَ السَّاحر، فالتنهيدُ يلفهُ مع أصدقائِهِ (أي يكثر التنهد والشوق للوصال). وينتقلُ للحديثِ عن الفتاةِ التي أحبَّهَا والتي يُريدُ وصالهَا فهذا أريجُها ورائحتها العطرة متناثرة. وجميعُ القيان (الجواري المغنيَّات) تغنيه، ففي هذا اليوم في القاعاتِ فاحَ شذاها وَتضُّوعُهَا (رائحة الحبيبة)، والودُّ من هذهِ الفتاةِ سائدٌ وَمُتَّبَعٌ وتليد...أي قديم. ويصفُ فتاتهُ أثناءَ الجلوس على مائدةِ العشاءِ وجمالَ وسحر الحديث الذي دار َ بينهما حيث يقولُ: (" ما أروعَ الأقوالَ حينَ تُجيدُ).

ويُخاطبُ، في القصيدةِ، صديقه الذي كان معهُ في الإحتفال - كما يبدو- وَيُرَحِّبُ بهِ ويُصرِّحُ أنهُ من المُخلصينَ والمُترَعينَ بالحنان والموَدَّةِ والإخلاص فيقولُ:

(" أهلا ً رفيقي في حَنان ٍ لم تزلْ هذي الكياسة ُ والحنانُ يزيدُ ")
وينتقلُ بعدَهَا إلى النوى والبُعدِ والفراق ِ لأنَّهُ عانى الكثيرَ من الحُبِّ ونيرانِهِ ولوعتِهِ، قيقولُ:
(" كانَ النَّوَى سقمي وضقتُ بجُرحِهِ أدعو وَما كانَ الدُّعَاءُ يفيدُ
الودُّ عطرٌ إن تكُنْ عنوانهُ فأنا لهُ يا ذا الرَّفيقُ بريدُ ").

وإلى قصيدةٍ أخرى بعنوان: ("هباء الطلاسم " -صفحة 14 – 15) وهذهِ القصيدة ُ غزليَّة ٌ كلاسيكيَّة ٌعلى بحر الكامل وقافيتها الميم، والقصيدة ُ تقليديَّة ٌ بكلِّ معنى الكلمةِ في أسلوبِها وطابعِهَا ومعانيها وأفكارها وصورها الشِّعريَّة... وتعيدُ إلى أذهاننا روائع وخرائد الشُّعراءِ القدامى الكبار- في العصر الجاهلي وصدر الإسلام والأموي والعبَّاسي، وكلُّ من يقرأ هذه القصيدة أو على نمطها وشكلها للدكتور منير توما يتفاجأ كيفَ أنَّهُ دارس للآدابِ الأجنبيَّة وللغةِ الإنجليزيَّة ومُختصٌ بالأدبِ والشعر الأجنبي والإنجليزي ولهُ الكثير من الكتاباتِ الشعريَّة والنثريَّة بالإنجليزيَّة وفي في نفس الوقت يكتب الشعرَ التقليدي الموزون والمقفَّى بالعربيَّة، والحقيقة إنَّ الدكتور منير متأثِّرٌ أيضًا بالشِّعر والأدب العربي القديم وجماليَّتِه أوزانهِ وعروضِهِ وبلاغتِهِ وشفافيَّتِهِ وصدقِهِ وانعكاسِهِ للواقع آنذاك، وهو أيضًا متمكِّنٌ ودارسٌ للغةِ العربيَّةِ وَمُتبحِّرٌ وَمُتعمِّقٌ فيها، في نحوها وصرفِها وآدابها وفي علم العروض، ويكتبُ بدورهِ الشِّعرَ على جميع ِ الانماطِ والألوان - على النمط القديم التقليدي ويكتبُ شعرَ التفعيلةِ والشعر الحديث الحُر، وَيتفاوَتُ أسلوبُهُ شكليًّا ومعنويًّا، قالبًا وَمَضمُونا من قصيدةٍ لأخرى حسب معنى القصيدة والموضوع والجوِّ والمناسبةِ التي يكتب فيها، وجميعُ ما يكتبُهُ الدكتور " منير توما " كلاسيكيًّا وحديثا كلُّهُ على مستوى عالٍ وراق ٍ وَمُمَيَّز. فبَصَماتُهُ وطابعُهُ ونكهتُهُ نجِدُهَا في كلِّ لون ٍ وشكل ٍ من قصائِدِهِ التي رسَمَها بريشتِهِ الإبداعيَّةِ - ريشة الفنان المُرهف والعبقري الفذ ّ والناقد الألمعي المُتمكِّن والقدير والإنسان الإنسان والفيلسوف والمُفكر المتعمِّق في تحليل كلِّ ما يجري حولهُ من أحداثٍ وأمور، وما يراهُ ويلمسَهُ في هذا الوجود - بعينيهِ وروحِهِ وقلبِهِ وحِسِّهِ ووجدانِهِ.

وسأختارُ بعض الأبيات من هذه القصيدة:

(" إنِّي على ما قالَ لستُ بعالم ِ ما دُمْتِ أنتِ مُنى الثَّوابِ الدَّائِم ِ
تتحَدَّثينَ مَعِي وَجَوْفِي مُفعَمٌ بثراءِ غندور ِ الليالي الحالِم ِ
تعَبٌ حياتي لستُ أهجرُ سلوتي ما دُمْتُ مظلومًا ولستُ بظالِم ِ
تعَبٌ، أنينٌ واجمٌ لا ينقضِي إنَّ التَّألُّمَ صاحِبي وَمُقاوِمِي
فإذا اعتكفتُ فليسَ عنكِ وإنَّمَا كي تستقرَّ مع الهباءِ طلاسِمِي
وأنا أعَظِّمُ قانِعًا حُرِّيَّتي وَأعزُّهَا في حاضر ٍ أو قادِم ِ
أودَعتُهَا عُمري ولستُ ببَائِس ٍ وأريقُهَا راحًا بيوم ٍ باسِم ِ").

وحتى في قصائِدِهِ الغزليَّةِ، كما هو الأمرُ هنا، يتطرَّقُ إلى مواضيع أخرى، مثل: مشاكل الحياة والدنيا وصراعه مع محيطهِ وعالمِهِ وما يلاقيهِ وَيُكابدُهُ من خطوبٍ ورزايا، ويُوضِّحُ لنا أنَّ أهمَّ شيىءٍ بالنسبةِ لهُ هو حُرِّيَّتهُ، فهو يُعظِّمُهَا ويعزُّهَا في كلِّ وقتٍ - حاضرا ومستقبلا - ولقد أودعَ عُمرَهُ لأجل ِ الحُرِّيَّةِ... والمعنى المقصودُ هنا أيضًا: العدالة والمبادِىء والقيم المتمسِّك بها والتي هي حرِّيَّتهُ المنشودة.. ويُريقها (الحرِّيَّة) والتي هي أيضًا حياتهُ وشبابَهُ ونضارتهُ ويهدرهَا لأجل ِ يوم ٍ جديدٍ وغدٍ باسم ٍ مُشرق، أي لأجل ِالعدالةِ والحقّ واليوم الجميل المكلَّل والمُترَع بالمَحبِّةِ والسَّلام والأمن والطمأنينة والهُدوء والرَّاحة.

وإلى قصيدةٍ أخرى من الديوان بعنوان: ("معزوفة خريفيَّة على أوتار نزاريَّة " - صفحة 18 - 19) والقصيدة ُعلى وزن مجزوء الكامل المُرفل وهي غزليَّة ووجدانيَّة موديرن (modern)... أي أنَّ أسلوبها ونكهتها وتوجُّهَهَا حديث النزعة، وفيها روحُ وعالمُ وطابع نزار قبَّاني ومن خلال ِ مُنطلقِهِ وتوَجُّههِ في مُخاطبةِ عشيقاتِهِ وفتياتهِ، والشَّاعرُ منير توما يبدأ القصيدة َ باسترضاءِ الحبيبة... ويُخاطبُهَا ويقولُ لها: إنَّها أفرطت كثيرًا في معاملتِها القاسية لهُ فلترحمهُ فهو دائمًا في حنان ٍ وشوق ٍ نحوها... وبعدهَا وبشكل ٍ مفاجىء وبدون مقدِّماتٍ تتغيَّرُ نبرة ُ القصيدةِ وتزدادُ حِدَّتُهَا تجاهَ هذهِ الفتاة القاسية والمُجحفة فيتَّهمُهَا شاعرُنا ويصفها بالخرقاء. ويظهر في القصيدةِ روحُ الثقة والإباء والإعتزاز بالنفس حيث يقول:

("خرقاءُ أنتِ... ألمْ ترَيّ ذوقي تمثَّلَ في جُفوني؟
أسخيفة َ الأقوال ِ... يأبَى العقلُ أن تستنطقيني
لن تدفعِي نفسِي إلى سَهَر ٍ... وَحَبَّةٍ أسبرين ِ
إن كانَ ودَّكِ...أن أطيرَ إلى سَمائِكِ... فاترُكِيني").

والأبياتُ مفهومة ٌ ومعانيها واضحة ٌ وجميلة ٌ، وهو يعلنُ لهذهِ الفتاة أنهُ سيبقى دائمًا في عالمِهِ وأجوائِهِ الخاصَّة الذاتيَّة ومُتمسِّكا بمبادِئِهِ وأفكارِهِ وتطلُّعاتِهِ وسَيَحْيَا في عالمِهِ وجوِّهِ ولن يتنازلَ ويلهثَ وينجرَّ ويجري وراءَهَا وَيكونَ رهينَ مَشيئتِها وأمرها ومثلَ الدُّمية في يديها.

ويقول لهذهِ الفتاة أيضًا:

("حَطَّمتِ أطيَبَ ما صنعتُ وَعِشتِ حتى في أتُونِي
وَجمَّدتِ أنهارِي، وأسْدَلتِ السَّتائِرَ في حُصُونِي
هبتي سأمنحُهَا... ولن أسعَى إليكِ على يميني").

هي لن تكونَ مستقبلا ً كلَّ شيىءٍ في حياتِهِ وأمانيهِ ولن تكونَ حكرًا في مدارِ الأمنيات لأنَّهَا حطَّمَت أطيبَ وأجملَ وأروَعَ ما صنعَهُ لها.. (وقد تكون هذه القصيدة واقعيَّة مئة بالمئة حدثت مع الشَّاعر نفسهُ إذ أنَّ فتاة َ أحلامِهِ التي كانَ عاقدًا عليها الآمالَ والمآلَ صدَمتهُ وفاجأتهُ بواقعِها وحقيقتِها السلبيَّة التي كانت مستترة ً وكشفت لهُ عن أنيابِ الذئب التي لهَا والفكر الضَّبابي والمشاعر المُزيَّفة والمصطنعة، فاضطرَّ أن يلغي من قاموس حياتِهِ كلَّ ما كانَ بينهُ وبينها وينسَاها ويمحو صورتها من خيالِهِ ووجودِهِ وليبدأ حياته من جديد). هكذا تفسَّرُ وتشرَحُ وتقولُ لنا أبيات هذهِ القصيدة.. وهي قصيدة ٌ مُعبِّرة ٌ وجميلة ٌ وسلسة ٌ... (أي أنَّ القصيدة َحديثة وَمُعاصرة بكلِّ معنى الكلمةِ ولا يوجدُ فيها النفسَ والطابعُ التقليدي وقريبة ٌ بعض الشَّيىء إلى أسلوب نزار، وقد أسماها الشَّاعرُ: (معزوفة خريفيَّة على أوتار نزار) لأنَّهُ يعزفُ على ضياع الحلم القديم والأمل الذي كانَ متمسِّكًا بهِ.. والزهور اليانعة التي ذبُلت في فردوسِهِ فأصبحَ كلُّ شيىءٍ خريفًا ذابلا ً بالنسبةِ لهُ... أي أنَّ تلكَ العلاقة لم تُثمِرْ وجَفَّت أغصانُهَا وسقطت أوراقها وأصبحَت خريفا ذابلا ً.. وعلى أنقاض ِ وأطلال ِ هذهِ العلاقةِ وقصَّةِ الحُبِّ الوَهميَّةِ نظمَ وكتبَ وعزَفَ هذهِ القصيدة والأنشودة َ التي على نفس ِ وتيرةِ وأسلوب نزار قبَّاني في الكثير من قصائدهِ التي يتحدَّثُ ويُعالجُ فيها مواضيعَ وقصصَ حدثت معهُ مشابهة ًومطابقة ً لموضوع هذه القصيدة.

ولننتقلَ إلى قصيدةٍ أخرى بعنوان: ("نفحات شبابيَّة " - صفحة 36) -والقصيدة ُعموديَّة ووجدانيَّة على بحر الخفيف الذي يَستصعبُ الكثيرونَ من الشُّعراء الكتابة َ عليه ويعتبرونه وزنا صعبًا وهو يصلحُ كثيرًا للشعر الملحمي والحماسي ووصف الحروب.. والقصيدة ُ غزليَّة ٌ مُترَعة ٌ وَمُفعمَة ٌ بالتعابير والإيحاءاتِ الجنسيَّة وتختلفُ عن الكثير ممَّا كتبَهُ (من شعر عُذري وعفيف) فهذه القصيدة يخلعُ فيها الشَّاعرُ العذارَ وينتهجُ ويحذو حذوَ نزار قبَّاني وأبي نوَّاس في هذا الصَّدد، فيقول منير توما:

(" لم أعُدْ عارفا إلى أينَ أقرَبْ كلُّ يوم ٍ أظنُّ أنَّكِ أعذبْ
كلُّ يوم ٍ يصيرُ نهداكِ جُزءًا مِن كياني.. ويُصبحُ الصَّدرُ أخصَبْ").

أي أنَّ كلَّ يوم يزدادُ حُبّهُ وتلوّعُه بالفتاةِ التي يتغزلُ فيها أكثر ويزدادُ تعطُّشُهُ واشتهاؤُهُ لها ولجسدِهَا ونهديها ولصدرها، وتصبحُ هذه الأشياء (مفاتنها الجسديَّة التي تثيرُهُ) جزءًا هامًّا من كيانِهِ ووجودِهِ لا يستطيعُ الإستغناء والتخلِّي عنها. ويقولُ أيضًا:

(" وتصيرُ الألوانُ أحسنَ لونا ً وتصيرُ الأطرافُ أشهَى وأطيَبْ
قد تألَّقتِ في متاهاتِ فكري مثلما قبلة ُ الهَوى تتذبذبْ ").

ويستعملُ الشَّاعرُ هنا صورًا وتعابيرَ واستعارات معظمها جديدة ومبتكرة والقليلُ من الشُّعراء الذين استعملوهَا حديثا ً، وَيُتابعُ ويقولُ:

(" إقتيادِي إلى فراشِكِ سَهلٌ وانسيابي إلى رُموشِكِ انسَبْ
يرقصُ الشِّعرُ في مدائح ِ ساقيكِ فلولا ساقاكِ لا جسْمَ يطرَبْ

أي أنها قمَّة ٌ في الجمال والإثراءِ والإثارةِ، وهو بسهولةٍ ينساقُ ويندَفعُ إليها وإلى مفاتن ومباهج اللذة والمُتعةِ الجسديَّة الحِسِّيَّة والرُّوحيَّة أيضًا، فهي أجملُ لوحة وأجملُ صورةٍ تجُسِّدُ الجمالَ الجسدِي المُثير والجمال الجوهري الرُّوحاني أيضًا، فالشِّعرُ سيرقصُ في مدائح ساقيهَا المرمريَّة المُتناسقة الملساء التي هي مصدرُ الطرب لكلِّ جسم ٍ يُثارُ. وهذه الفتاة المُيَّزة تُمثِّلُ كلَّ معاني الأنوثة وفيها يكتملُ كلُّ مَآل ٍ وَحُلم ٍ ووطر. ونستطيع أن نقولَ إنَّ القصيدة مزيجٌ بين الحُبِّ الجَسدي المادِّي والحِسِّي والحُبِّ الجَوهري الرُّوحاني، فالجَسَدُ والرُّوح يُكملان بعضهما البعض. وهنالك قصيدة رائعة للشاعر التونسي الكبير (أبي القاسم الشابي) بعنوان: " صلوات في هيكل الحُب " فيها مزيج، في الوصف، بين الحبِّ العُذري الأفلاطوني (الحب الروحاني) وبين الحب الجسدي، وهي من أروع وأجمل وأعذب ما كُتِبَ من شعرغزلي في العصر الحديث حسب رأي معظم النقاد، ومطلعُها:

(عذبة ٌ أنتِ كالطُّفولةِ كالأحْ لام ِ كاللَّحنِ كالصَّباح ِ الجَديدِ).
ويقولُ فيها:(" أنتِ قدسي ومَعبَدِي وَصَباحِي وَرَبيعِي ونشوَتِي وَخُلُودِي ").

وإلى قصيدةٍ أخرى بعنوان: " عشق الروح " - صفحة 37 - 38) والقصيدة ُ وجدانيَّة ذاتيَّة، إنسانيَّة، إجتماعيَّة ووطنيَّة أيضًا.. تشوبُها وتعتريها الضَّبابيَّة ُ والغموضُ - بعض الشيىء، والمعاني فيها بين مفهومة وغامضة وقد يحارُ القارىءُ ماذا يريدُ ويقصدُ الشَّاعرُ في القصيدة:

(" لمَّا نمَا القمَرُ وتناثرَت الفِكرُ
صارت مسامعنا تصغي وتنتظرُ
أيزولُ في بلدِي عشقٌ ويندثِرُ

أي أنّ الشَّاعرُ هنا ينشد الحبَّ الحقيقي في بلدِهِ ووطنهِ وحب الناس والأهل لبعض والتمسُّك بالأرض والوطن.، ويقولُ:

(وتظلُّ تفعلهُ وتقولُ: لا ضرَرُ
وننضيفُ قاطبة ً مهلا ً ونعتذرُ
وأقولُ يا بلدِي روحي بَدَت بشرُ
ويقولُ: (" ويطيبُ يا بلدِي في دارِكِ الخبرُ

إن سافرَت روحي عنوانُهَا قدَرُ "). وفي نهايةِ القصيدةِ يظهرُ الشَّاعرُ حُبَّهُ لبلدِهِ ووطنهِ فهي العُنوان والهويَّة.

وأمَّا في قصيدة (" أسير الهوى " - صفحة 39 40) فيعيدُ إلى أذهاننا روائعَ أبي النواس الغزليَّة، وخاصَّة ًحينما يخاطب الفتاة في صيغةِ المُذكَّر فيقولُ:

(" يا مَن قصدتُ حماكَ إني أسير هواكَ
يا لائِمي بكلام ٍ بهِ رَنتْ عيناكَ
كسَرتَ غُصنَ أريجي أمامَ سحر ِ شذاكَ ").

وبالنسبةِ للصُّورةِ الشّعريَّةِ في هذا البيت (الأخير) فربَّما يكونُ الشَّاعرُ هو أوَّلَ من استعملهَا، وقد تبدو للبعض أنّها قديمة وَمُستهلكة، ويقولُ الشَّاعرُ أيضًا:

(" وقلتُ يا عطرُ يَمِّمْ هذا الغرامُ سَناكَ
يا مَنْ عزَمْتَ تمَهَّلْ واصبرْ على مضناكَ ").

في هذين البييتين الأخيرين نرى أسلوبَ وطابعَ وروحَ الشَّاعرَ المصري "بهاء الدين زهير" الذي عاشَ في نهايةِ العصر الأيوبي، وقد مدَح الملك الصالح نجم الدين أيوب في العديدِ من القصائد وكان يستهلُّها ويبدؤُهَا بأجمل وأعذبِ الأبياتِ الغزليَّةِ، وكانت تلحَّنُ وَتُغنَّى في ذلك العصر.
وهذه القصيدة ُ تضمُّ المعاني والإستعارات البلاغيَّة َ القديمة َ والمُستهلكة َ، وفيها بعضُ التشبيهاتِ الجديدةِ والمُبتكرة. وبشكل ٍعام هي قصيدة جميلة وعذبة ومغنَّاة تدخل معانيها وعذوبة ُ كلماتِها ورهافتِهَا إلى قلبِ ووجدان وضمير كلِّ إنسان ٍ لديهِ مشاعر وأحاسيس، وربَّما لا يستسيغُهَا مرضى النفوس الذين لا توجد عندهم حَاسَّة التذوَّق للأدبِ والشِّعر ِ والفنِّ الجميل، ولا تروق أيضًا لبعض النويقدين المحلِّيِّين الدَّخيلين على الأدبِ والنقدِ والذين يُبدون ويظهرونَ تعصُّبَهُمْ للحداثةِ والتجديد في الشِّعر وهم لا يعرفون ما معنى الحداثة وما هي أسس ومقاييس التجديد، ولا يفهمون شيئا في الشعر والأدبِ والنقد، بل هم مُجَرَّدُ مدسوسين ومأجورين ومُرتزقين للتخريب على الحركةِ الأدبيَّةِ ومسيرة الشعر والأدبِ والثقافةِ المحلِّيَّةِ وهم معروفون للجميع. وقد عنى شاعرُ العروبةِ أبو الطيب المتنبِّي هؤلاء في قولِهِ:

(" وَمَن يكُن ذا فم ٍ مُرٍّ مَريض ٍ يَجدْ مُرًّا بهِ الماءَ الزُّلالا ").

وأحِبُّ أنَّ أضيفَ: إنَّ الشَّاعرِ منير توما يستعملُ في العديدِ من قصائد هذا الديوان الأوزانَ الخفيفة َ والمجزوءة َ والغنائيَّة َ ذات الإيقاع السِّريع والجميل، مثل: قصيدة (لا تخوني صباك - صفحة 43 - 44) وقصيدة (مناور دون المستوى - صفحة 45 – 46).

وأمَّا قصيدتهُ (" دياجير الحِسان " – صفحة 47 – 48) فهي وجدانيَّة وفخريَّة ٌ وذاتيَّة ٌعلى وزن مجزوءِ الرَّمل وقافيتها النون، وتذكِّرُنا بقصيدة عنترة بن شدَّاد العبسي التي مطلعها:

(" أنا في الحَربِ العَوان ِ غيرُ مَحهُول ِ المَكان ِ
وَحُسامي مع قناتي لفعالي شاهِدان ِ
ويقولُ فيها عنتره:
(" خلقَ الرُّمحُ بكفِّي والحُسامُ الهُندُوَاني
وَهُمَا في المَهدِ كانا فوقَ صدري يُؤنساني").

وهنالك العديدُ من الشعراءِ العرب الذين عارضوا هذه القصيدة وكتبوا على نفس القافيةِ والوزن، ولكن هنالك مِنَ النقاد مَنْ يشكُّ في نسبتِهَا لعنترة ويُرجِّحُ على أنَّها مَنحولة كالكثير من الشِّعر الجاهلي الذي جُمِعَ وَدُوِّنَ في نهايةِ العصر الأموي وبداية العصر العبَّاسي. وربَّما يكون شاعرُنا الدكتور منير توما قد تأثَّرَ بهذهِ القصيدةِ وبجوِّهَا ونبرتِها الحمَاسِيَّة الغنائيَّة لأنَّ قصيدتهُ كُتِبتْ بنفس الرُّوح ِ والنفس ِ والأسلوبِ تقريبًا، فيقولُ فيها الدكتور منير توما:

(" وَيراعِي لم يُنافقْ في لظى السَّيفِ العَواني
لم يكن سرُّ خروجي غيرُ غاياتِ القيان ِ
أسمعُ الأصواتَ تقضي قبلَ دَحري لِبَيَاني).
ومطلع قصيدة منير توما هو:
(" جَاعَ قلبي وكياني حينَ شَيَّعتُ الأماني
وَجَعلتُ الكأسَ تغلي في دياجير زماني
ويرَاعي لم ينافقْ في لظى السَّيفِ الغواني ").

يظهرُ هنا جليًّا التشَّابه في الأسلوب بين الشاعرين.

وهنالك قصيدة على نفس القافيةِ والوزن والروح والأسلوب لشاعر فلسطيني مَحلِّي مجهول نظمها في بداية الخمسينيَّات من القرن الماضي زمن الحكم العسكري البغيض وعلى لسان أحد الزُّعماء التقليديِّين والمخاتير الذي باعَ ضميرَهُ وخدَمَ أعداءَ شعبهِ حيث كان عميلا وفسَّادًا وذنبًا للسلطةِ الظالمةِ والغاشمةِ آنذاك، ولم يجن ِ من عمالتِهِ وتواطئِهِ غيرَ سوادِ الوجهِ وغضبِ ربِّهِ وغضب أبناء شعبهِ وبلدِهِ عليهِ، والقصيدة ُ كتبت بطابع ٍ كوميديٍّ ساخر، ويقول فيها:

(" أنا في تالي زماني صرتُ رمزًا للهوان ِ
ساءَ فعلي فغَدَا يَهْ رُبُ مِنِّي مَنْ يَرَانِي
شَاربي طوَّلتُهُ أوْ صَلتُهُ عيني وَذاني
ولقد هَنْدَزْتُ قمبازي على الطراز اليماني
غير أنَّ اللهَ قد شَقْ َلبَ مَجْدِي بثواني ")... إلخ.

ولننتقلَ إلى قصائد في مواضيع أخرى، فشاعرنا كتبَ أيضًا شعرَ المُناسبات ولهُ عدَّة ُ قصائد في هذا المجال في هذا الديوان، مثل قصيدة " الشَّاعر الخلوق " التي ألقيت في حفل ِ تكريم الشَّاعر الكبير والمُخَضرَم الأستاذ " أحمد الحاج " في المركز الثقافي في كفر ياسيف - (صفحة 51 - 52)، ويقولُ فيها:

("الأهلُ والشّعرُ والإنسانُ في بَلدِي يُرَحِّبُونَ بهذا الشَّاعر ِ الحَسَن ِ
يا أيّهََا الشَّاعرُ الدَّاعِي إلى أدَبٍ قد جاءَ مِنَّا جمالُ الحَرفِ لم يَلن ِ").

ولهُ قصيدَة ٌ بعنوان: (" أسقف العِلم والسِّلم " صفحة 53 - 54) نظمَهَا الشَّاعرُ بمناسبةِ انتخاب الأرشمندريت الدكتور إلياس شقور مطرانا لطائفةِ الرُّوم الملكيين الكاثوليك، ويقولُ فيها:

(" ألا ما بالُ شعري ليسَ يخبو كأنَّ بجُعبتي صوتا ً ثَريَّا
إذا ُذكِرَ المُطرانُ طربتُ توًّا بلحن ٍ ذاقَ عازفهُ المَرِيَّا ").

والقصيدة ُ على وزن الوافر، وموسيقاها جميلة ٌ ورَنّاَنة تشنفُ لها الآذانُ ويطربُ لها كلُّ من يسمعها، وهي عميقة ُ المعاني ولغتها قوية ومتينة وجذلة وتتمتعُ بانسيابها الموسيقي الرَّنَّان وبمعانيها المتتابعةِ والمتواصلةِ والمترابطةِ، ويترعُها روحُ الإيمان والمَحَبَّةِ.. وهذا أهمُّ شيىءٍ بالنسبةِ لي ولكلِّ إنسان عندهُ إيمان ومَحبَّة، وكما يبدو أنَّ الشَّاعرَ منير توما قد نظمَ هذه القصيدة عندما كان مُمتلِئا بالرُّوح وفي حالةِ تواجد وحضور ومناجاة مع الرَّبِّ، وهو بالتَّأكيدِ إنسانٌ مؤمنٌ ومتعمِّقٌ بالإيمان، ونلمحُ هذا الشيىء واضحًا من خلال كتاباتِهِ. وكما أنَّهُ يذهبُ إلى الكنيسةِ في بين الحين والآخر ويحضرُ العشاء الرَّبَّاني ويتناولُ القربانَ... وَيستمِدُّ من مشاركتِهِ للأخوةِ المُؤمنين في الكنيسةِ وحضورهِ للصَّلواتِ طاقة ً كبيرة ً وانتعاشا وامتلاء روحيًّا وتعمُّقا ً وَنُمُوًّا أكبر في الإيمان - كما كان يروي لي.

وهنالك بيتان في هذهِ القصيدة يوجدُ فيهما كسر في الوزن ولا يشعرُ بهذا كلُّ شخص، وحتى الذين يعرفون الأوزانَ الشعريَّة، والبيتان هما:

(" إذا ذكرَ المطران طربتُ توًّا بلحن ٍ ذاقَ عازفهُ المريَّا")
الخطأ العروضي في صدر البيت وهو: (إذا ذكرَ المطران طربتُ توًّا).

والخطأ العروضي الآخر في البيت التالي:

(" أشَدْتُ بإلياسَ على أساس ٍ وَنُبْلُ القوم ِ سادَ بهِمْ بَرِيَّا ")

ولو قالَ في الشطرة الأولى من البيت (الصَّدر): (بإلياس ٍ أشَدْتُ على أساس ٍ) لاستقامَ الوزنُ مئة بالمئة. وهذا الشيىء وهذه الأخطاء العروضيَّة الصغيرة قد وقعَ فيها العديدُ من الشُّعراء الكبار، مثل: الأعشى الأكبر (ميمون بن قيس الشيباني) الذي لُقِّب بصنَّاجةِ العرب لجودةٍِ موسيقاه الشِّعريَّة، وهو من شعراء المعلقات.

ولننتقلَ إلى نمط ٍ آخر من القصائد الشِّعريَّة في هذا الديوان... إلى قصائد التفعيلة والقصائد الحديثة الحُرَّة الخارجة والمُتحرِّرة من قيود الوزن والقافية، وسأختارُ في البدايةِ قصيدة ً بعنوان: (" جمال وحشي " – صفحة 57) وهي قصيدة ٌ حديثة وغزليَّة وفيها عدَّة ُ أوزان، ويقول فيها:

(" ورديَّة َ الشفتين ِ، لا تصمتي
فجمالكِ الوحشيُّ لا يخشى الكلاما
وصوتكِ الناريُّ يُغازلُ الأنغامَا // ويبعثُ الرُّوحَ وَيُسكرُ النّدَامَى /
سألتكِ الرَّقصَ، // فالهَوى ينمُو // كي يُداعِبَ الأقدامَا // ").

وفي هذهِ القصيدة يبدو أنَّ الشَّاعرَ ما زالَ متأثِّرًا باللون ِ والطابع الكلاسيكي ولم يتحرَّر منهُ كليًّا لتعلِّقهِ وحُبِّهِ لهذا النمط الأصيل والعريق من الشِّعر الذي يمثلُ تاريخنا وأدبانا وحضارتنا وإبداعِنا على مرِّ دهور وعصور طويلة (من الجاهليَّة حتى العصر الحديث).

وأمَّا قصيدتهُ (" طائر الحُبّ "- صفحة 58 - 59) فهي قصيرة ٌ (شعر البطاقة)، ويُريدُ الشَّاعرُ أن يقولَ ما يريدُهُ باختصار ٍ شديد في بضع ِ جمل ٍ، والقصيدة ُ تفعيليَّة خطابيَّة وَمُباشرة... ويطلبُ فيها من العاشقِ... من كلِّ عاشق ٍ وهائم في الحبِّ والغرام ألاَّ يقنط وييأس ويُصاب بالإحباطِ وعليهِ أن يكونَ حكيمًا وبصيرًا ويعرفَ كيفَ يتصرَّف ويتعامل مع الحبيبِ في جميع الظروفِ والأوضاع.. في ساعاتِ الوصل وفي أوقاتِ الصُّدود والهجر. والقصيدة ُ حديثة وَمُعاصرة ٌ بروحِهَا وطابِعِها وجَوِّها، وتمتازُ ببصماتِهَا وعفويَّتِهَا وشفافيَّتِهَا ولا يوجدُ فيها تكلُّفٌ وإرهاقٌ فقد خَرجت وانبثقت القصيدة ُ من تلقاءِ نفسِهَا، ويقولُ فيها:

(" يا هائِمًا في الحُبِّ // لا تقنط ْ، // ففي الأمر ِ تدبيرُ //
قد كنتَ طيرًا في سماءِ الهَوَى // وما بدَا منكَ تقصيرُ //
لا تهجُرنَّ سهمَ العشق ِ // فالعُمرُ عيبُهُ التَّبذيرُ //
أكلَّما جادَ الهَوَى بالصَّبر ِ، ترَدَّدتَ // وأنتَ الخبيرُ //
لا يعرفُ الحُرُّ غدرًا // // وإن جفَّ الغديرُ //
لا َتخُنْ زهرًا في بساتين الهوى // فعندَ العصر ِ يفوحُ العبيرُ //
فيا حالِمًا في السَّعدِ، // ترفَّق بقلبٍ مُتيَّم ٍ //
حظُّهُ منَ الحُبِّ // نزرٌ... يَسِيرُ // ").

ونرى هنا أنَّ الشَّاعرَ ملتزمٌ بقافيةٍ واحدةٍ في القصيدةِ بالرُّغم ِ من كونِها حديثة وتفعيليَّة منسابة بحريَّةٍ وغير مقيدة بوزن.

وإلى قصيدةٍ أخرى بعنوان: (" مَرايَا حَائِرَة " - صفحة 73 - 74) والقصيدة ُ حديثة ٌوجميلة ٌ ويلتزمُ فيها الشَّاعرُ بقافيةٍ واحدةٍ لتجميل ِ الوجهِ والقالبِ الخارجي للقصيدةِ ولجماليَّة وَعذوبةِ الوقع ِ والإيقاع. وهي قصيدة ٌ فلسفيَّة تأمُّليَّة ٌ مفادُهَا وموضوعها: الصراع بين الحقِّ والباطل والنور والظلام وبين الحبِّ والبغض والكراهيةِ في هذا الوجود وفي هذه الحياةِ الصاخبةِ والمُضنيةِ على وجهِ المعمورةِ. ويستعملُ الشَّاعرُ بعضَ التعابير والتوظيفات البلاغيَّة الجديدة والجميلة لتوصيل رسالته - الموضوع والفكرة التي يقصدُها.. وفي نهايةِ القصيدةِ يتجلَّى ويبرزُ طابعُ الأمل والتفاؤُل ويفوحُ العطر وتزهرُ فيها كلماتُ الهيام وينتحرُ القلقُ واليأسُ، ويبقى التَّفاؤل والفرح، ويقولُ فيها:

(" في سواحل ِ الظَّمَأ // تغيبُ شمسُ الظلال ِ الدَّافِئهْ //
لِيَحْيَا سهرُ الخطأ // في عيون ِ أقمار ٍ هادِئَهْ //
ترنو إلى أرض ٍ // مُعشَوشِبَةِ الكلأ //
ينامُ فيهَا الظلمُ // ولا يعرفُ الأرَقْ //
وَمِن أحلام ِ مملكة ِ سَبَأ // تستمدُّ الليالي نورًا //
لتكشِفَ أسرارَهَا // على المَلأ //
وَيَذوبُ النَّسيمُ في // أرواح ِ الغَسَقْ، //
وفي نهايةِ القصيدةِ يقولُ:
(" وتهتفُ طيورُ الصَّباح // لتوقظ َ خيالاتٍ تسبَحُ //
في انهار ٍ... من وَرَقْ //
ومن غفوةِ الرِّياح // يحتارُ نهارُ الحُبّ //
وتصبُو فراشاتُ العِشق ِ // إلى أجواءٍ مُعَطَّرَةٍ // برائِحَةِ الحَبَقْ //
كي تزهُو كلماتُ الهيام، // وينتحرُ القلقْ // ").

يستمِدُّ شاعرُنا استعارَاتهُ وتوظيفاتهُ البلاغيَّة للأهدافِ والمعاني التي يُريدُها منَ الطبيعةِ وعناصرها ومن بعض الكائناتِ الموجودة في الطبيعة... هو يوظفُ: السواحل والشمس والأقمار والأرض والعشب ومملكة سبأ (من التاريخ) والليالي والنور والنسيم والصَّبا والطيور والأنهار والرِّياح والورق والفراشات والنهار والأجواء المعطرة والحبق والغسق والقلق... إلخ.
والشَّاعرُ يتحدَّثُ هنا بالطَّبع ِعن النظال والكفاح لأجل ِالعدالةِ وإعلاء كلمةِ الحقِّ والتحرُّرالكامل من الظلم والإضطهاد ثمَّ الإنطلاق إلى العلاءِ والسُّموِّ وَمُعَانقة الفجر...وعندَما يقول: (في سواحل الظمأ // تغيبُ شمسُ الظلال ِ الدَّافِئَه) هو يرمزُ ويعني في هذهِ العبارة الظلمَ الثقيل الجاثم وغياب شمس الحريَّة والنور والضياء... ويتابعُ الشَّاعرُ فيقولُ: (" ليحيا سهرُ الخطأ // في عيون ِ أقمار ٍ هانِئَهْ

ترنو إلى أرض ٍ مُعشوشبه // ")... ويعني بالأقمار الهانِئةِ الناسَ المُناضلين لأجل ِالحُرِّيَّةِ وكلَّ عنصر إيجابي في المجتمع وهذا الكون وكلَّ الذين يرنونَ ويتوقونَ إلى السَّلام والوداعةِ والخصِبِ والسَّكينةِ والهدوءِ وهم موجودون في جَوٍّ مُمتلِىءٍ وَمُكَدَّرٍ بالظلم والإستبداد. وفي نهايةِ القصيدةِ تظهرُ جليًّا نبرة ُ الإطمئنان ونظرة ُ التفاؤُلِ والأمل المشرق وانتصار الحقِّ على الباطل والنور على الظلام.

وأمَّا قصيدتهُ ("وادي الدُّموع "- صفحة 93 - 94) فيُندِّدُ فيها بالأحقادِ والنزاعاتِ والخلافاتِ بين الناس، وَيُنادي بالمَحَبَّةِ والتسامح والسَّلام، لأنَّ بالمَحبَّةِ والتَّسامح يتحقًّقُ كلُّ شيىء، فالمَحبَّة ُ تزيلُ كلَّ الحواجز والسُّدُودِ وتكسرُ القيودَ والأغلالَ وَيتحقَّقُ أنتصار الإنسان المُتسربل بالإيمان والذي يسيرُ في طريق ِ الحقِّ على كلِّ شيىءٍ سلبي وشرِّير... وبإختصار القصيدة ُ مفعمة ٌ ومُترَعَة ٌ بنفحاتِ الإيمان ِ بالخالق وهي متأثرَة ٌ بكتب الأناجيل المُقدَّسة وتعاليم وأقوال السَّيِّد المسيح عليه السَّلام. ويذكرُ فيها الشَّاعرُ يسوعَ المسيح ربّ المجد ورسول السَّلام الذي يتجلَّى في عالم ِ الودعاءِ ليُخفِّفَ من الألم ِ الكامن ِ في الأجواءِ، وشاعرُنا متقيِّدٌ وملتزم بأفكار ومبادىء يسوع الذي بذلَ حياتهُ قربانا وذبيحة حيَّة ً أبديَّة ً لأجل ِ خلاص وفداءِ البشر. ويقولُ الشَّاعر قي القصيدة:

(" حينَ تتكلَّمُ الأحقادْ // كلُّ شيىءٍ يُصبحُ زائِفا ً //
التَّسامُحُ ينهارُ بفعل ِ زلزال ٍ فارقْ، //
ما بينَ خير ٍ وَشَرٍّ خَارِقْ //
ويقولُ أيضًا: (" أهجرُوا ما يُغضِبُ السَّمَاءْ
واتركُوا الضَّغينة َ دونَ إروَاءْ //
فصَوتُ الأسَى يُجَلجِلُ بضجيج ِ الشَّقاءْ
كي تتصافحَ الأيدي دونَ عَناءْ
في ظلِّ مُخَلِّص ٍ يتجَلَّى... // في عالم ِ الوُدَعاءْ //
لِيُخَفِّفَ مِنَ الألم ِ الكامِن ِ في الأجواءْ
وَيُقدِّسَ ما بقيَ مِن وفاءْ // ").

وإلى قصيدةٍ أخرى بعنوان: (" مَجدَليَّة الأرجوان "- صفحة 112 -113) وهي قصيدة حديثة من ناحيةِ الشَّكل والمضمون، ويستعملُ الشَّاعرُ فيهَا عدَّةَ َ تفاعيل، ومَفادُ القصيدة وفحواهَا التَّحرُّر من عبوديّةِ الخطيئةِ وطريق الشيطان (التَّحرُّر الرُّوحي والجسدي) والتَّسربل بالإيمان والإتِّحاد مع يسوع المسيح النور الابدي الأزلي الذي جاءَ إلى الأرض وعاشَ بيننا وَمرَّ في كلِّ التجارب من دون ِخطيئةٍ وَصُلِبَ من أجلِنا.

يتحَدَّثُ الشَّاعرُ في القصيدةِ عن ظبيةٍ (توظيف دلالي) حَيَّاهَا من هضابِ المَحَبَّةِ وربوع النخيل بأغنيةٍ ترَدِّدُها الطيور على أزاهير الأقحوان، وقد ضمَّخت بالطيبِ ضفائرَ التبر، والظباءُ رمزٌ للجمال والوداعةِ والطهر والبراءة. وأمَّا الريحان والحزامى والخمائل والأزهار التي ذكرَها الشَّاعرُ فترمزُ إلى الأجواءِ البيضاءِ والطبيعة ِالسَّاذجة التي لا يَشُوبُهَا الكدرُ والحقدُ والبغضاءُ والإثمُ، فالشَّاعرُ يُحَيِّي هذهِ الظبية بدورِهِ، وقد يقصدُ بالظيةِ أيضًا " المَجدليّة " التي ضَمَّخَت يسوع المسيح بالعطر قبلَ صلبِهِ وموتهِ الجسَدي (حسب ما جاءَ في الأناجيل) ويقصد بالظبيةِ أيضًا كلَّ إنسانة ٍ وكلَّ إنسان ٍ ينشدُ الخلاصَ الأبدي العجيب الذي قدَّمَهُ يسوعُ المسيح مَجَّانا ً من أجلنا (لجميع البشر) من خلال ِ صلبهِ وموتِهِ وقيامتِهِ من بين الأموات. والقصيدة لاهوتيَّة بالتأكيد، ويقولُ الشَّاعرُ فيها:

(" مِن هضابِ المَحَبَّةِ // أغنِّي أغنية ً // على شرفِ الإنسانْ، //
تُرَدِّدُهَا العصافيرُ // على أزاهير الأقحوانْ //
وَمِن فوق ِ حِجارةِ الصّوَّانْ //
مِنْ هِضابِ البَراءَةِ // أرَدِّدُ أهزوجة ً // تطربُ لهَا الآذانْ //
وَيَحلو شدوُهَا // على كلِّ لسَانْ //
ويقول: (" من ربوع ِ النَّخيل ِ // أحَيِّي ظبيَة ً // بثوبِ الأرجوَانْ //
ظبيَة ً // لا تعرفُ النسيانْ. //
لكنَّها تتقنُ الغفرانْ // في زمَن ٍ // لا يُهَادِنُ الثعبانْ //
بالطِّيبِ ضَمختِ // ظفائرَ التّبر ِ // يا ابنة َ الرَّيحَانْ //
وبعطر ِ الخُزامَى // حممتِ سُمرة َ الفتيانْ //
فيا مَنْ يَبْحَثُ عن يسوع ٍ // يُصلب كلَّ يوم ٍ //
على جلجلةِ الأحزانْ // ")

ويقصدُ الشَّاعرُ في الجملةِ الأخيرة: (فيا من يَبحَثُ عن يسوع يُصلبُ كلَّ يوم..) المظلومينَ والمضطهدينَ والمصلوبينَ اليوم لأجل الحقِّ والحُريَّةِ والعدالة المفقودة. ويتابعُ الشَّاعرُ فيقولُ في القصيدة:

(" ترَجَّل، ولا تبق أسيرًا // في غيبوبةِ الزَّمَانْ، //
حيثُ لا فرَحٌ، ولا ظفرٌ // ولا إحسَانْ //
إذا شِئتَ... تحَرَّرْ // مِن عَباءَةِ الشَّيطانْ //
وادخُل خميلة ً // في ظلِّهَا حُرِّيَّة ٌ حمراءْ // كشقائِق ِ النُّعمانْ //
هذا جوابٌ // يُبدِّدُ الهَمَّ // ويقهَرُ الكبتَ والهَوانْ //
أقولُ هذا // وَعيني شاخِصَة ٌ //
إلى حُرَّةٍ // لا تقبلُ الرّهَانْ //
في عالم ٍ يئِنُّ بالأشجانْ //
وَيحلمُ دومًا // بنشوةِ الأمانْ // ").

يقصدُ الشَّاعرُ في جملة: (وأدخلُ خميلة ً في ظلِّها حُرِّيَّة ٌ حمراء) الدُّخول إلى عائلةِ الرَّبِ.. أي الإنخراط والإشتراك مع المؤمنين الأبرار والقدِّيسين الأطهار في الحياةِ الرُّوحيَّةِ والصلواتِ والتسليم الكامل للرّبِّ - روحيًّا وجسديًّا - والإلتزام اللاهوتي بالعبادةِ وتنفيذ الفرائض والواجبات الدِّينيَّة والتحرُّر الكامل من عبوديَّة الخطيئةِ وتبعيَّة الجسد ونزواتهِ وَمُعَانقة العالم الروحاني.
وسأكتفي بهذا القدر من تحليل واستعراض قصائد هذا الديوان.

وأخيرًا: إنَّ الصَّديق الدكتور " منير توما " من أهمِّ الشُّعراءِ والأدباءِ والنقادِ المحليِّين، ولهُ أيادي بيضاء وبصمات ملموسة وبارزة ٌعلى السَّاحةِ الأدبيَّة المحليَّةِ، وهو ممَّن ساهَمُوا في دَعم ِ وتطوير الحركةِ الشعريَّة والأدبيَّة المحليَّة وفي توطيدِ ركائز وأسس النقدِ المحلِّي النزيه والموضوعي والبنَّاء، وقد حقَّقَ شُهرة ً محليَّة وعربيَّة وعالميَّة. وأتمنَّى لهُ العُمرَ المَديدَ والمزيدَ منَ العطاءِ والإصداراتِ الأدبيَّةِ والشّعريّةِ الجديدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى