الاثنين ٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم حسن الشيخ

حافلة الأحساء

هكذا فجأة و جدوا أنفسهم محاصرين و سط التلول الرملية المتحركة . كان الجو مغبرا ... وثقيلا . وحتى الكلمات القصيرة ...المرتبكة و الضحكات العبثية , التي انفجرت فجأة ..كانت اشبة بمزحات سمجة , قيلت في غير أوقاتها المناسبة . فحل مكانها ارتباك من نوع آخر , و حركات بلا معنى ...ومن ثم لف المكان صمت مفخخ . مليء باحتمالات جسيمة .

قبل يومين فقط، كانوا جميعا في أحضان أهاليهم .

بدأت القافلة , تتذكر التفاصيل الدقيقة, للحضات الوداع الأخيرة . دروازة الخميس حيث يشيع أهالي الأحساء , أقربائهم المسافرين الى الديار المقدسة . فوضى الحشود الصغيرة المتزاحمة والتي تنشغل بالدعاء و البكاء , مشهد يخص الأحسائيين وحدهم . صحيح أن الناس ينفعلون وهم يودعون أقربائهم , إلا ان الأحسائيين , يمارسون ذلك بشيء به الكثير من المبالغة والحب .

السفر ...لا يعني في أذهانهم العودة . لذلك فإن الوداع يكون أشبه بطقس احتفالي مهيب . يخرجون خارج أسوار المدينة . و يفتح الحرس أبواب الدروازة العملاقة . يقفون هناك ...تتعالى أصواتهم عندما تتحرك سيارات المسافرين ,لتأكيد التوصيات التي قيلت قبل أيام عديدة , ولأكثر من مرة . أما قبل ذلك فإنهم يتعانقون , ويبكون بشكل يثير دهشة الغرباء و فضولهم . وإذا كان الرجال يمارسون كل ذلك بشيء من الحذر و التخفي , فإن النساء لا يشعرن بالحرج ....عندما يتعالى نشيجهن , طالبه كل واحدة من الأخرى السماح و الصفح .

تذكر أبو عبد الله كل تلك المشاهد , على عجل . حدق في عيون الآخرين المدهوشة . ثم تمتم محركا شفتيه ( .. يا أرحم الراحمين ..ارحمنا برحمتك ) .

في الجهة الأخرى وبالقرب من الباص ,نادى (الدريول) صالح بصوت هو أقرب إلى الانكسار منه إلى الأمر :
 يا أبا سعيد و يا سالم ... تعالا معي لكي نحاول إخراج الباص من هذه التغريزة .

رفع الرجال رؤسهم الى أعلى . أجاب سليمان :

 لازم نتساعد كلنا على هذا الأمر . حتى الصغار .
فرد عليه أبو سعيد غاضبا :
 قبل كل شئ لا بد أن تنزل أنت من الباص . وتنزل جميع أغراضك .

* * *

في الجانب الآخر من الباص الصغير , بدا الأمر مختلفا تماما . فالنساء انشغلن بالأحاديث الطويلة التي لا تنتهي . أما الأطفال الرضع فقد علا صراخهم , فالقمتهن أمهاتهن أثدائهن , لكي يعدن لمواصلة الحديث . بينما تفرق الصبية الأكبر سنا لاستكشاف الصحراء الرملية المترامية الأطراف , لاهين عن حقيقة ما يجري .

سائق الباص الدريول صالح الساري وهو الوحيد الذي لا ينتمي لعائلة القضيان الكبيرة التي تستغل الباص الخشبي , كان أول النازلين من الباص . تطلع للعجلات المنغرزة في الرمل . ثم ضيق عينيه و تطلع إلى كل الجهات . ابتعد خطوات قليلة هنا و هناك . فشعر بحزن مفاجئ أقرب لارتطام صخور ....تستقر في صدره . و صالح الساري , الذي تعود و طوال رحلاته للحج أن يصدر الأوامر بجرأة للمسافرين , بدا فجأة الان أقرب الى الصمت و الهدوء . مستسلما لسماع ما يقوله الآخرون .

حزم الرجال أوساطهم بأذيال ثيابهم . ثم أمروا ما تبقى من النساء ان ينزلن من الباص . ومن الباب الخلفي للباص , بدأ الرجال بإنزال الألواح الخشبية , ثم عمدوا لإخراج أمتعتهم بتدافع صامت .

كان الباص الخشبي بدون مقاعد . فالمسافرين يحملون أمتعتهم في صناديقهم الخشبية و الحديدية , ثم يرصونها في أرضية الباص بإحكام دقيق . بعد ذلك يضعون فوقها عددا من الألواح الخشبية السميكة , و يفرشونها بما يحملون معهم

من بطاطين و ألحفة ...حتى تكون صالحة للجلوس عليها . تذكر أبو سعيد أبناءه الثلاثة . دكانه في القيصرية المليء بالسجاد الفاخر . تسائل ان كان الأبناء قادرين على الاستمرار في تجارته التي مارسها لأكثر من نصف قرن . ثم قدر انهم سيختلفون بعد اليوم الأول وفاته . خليل لن يتركهم ينعمون بالهدوء , طالما حاول ان يثني ابنه خليل عن أطماعه ... ولكن دون جدوى .

تطلع سالم و هو يمسح حبات العرق من على جبهته الى صالح :
 لقد انتهينا من إنزال جميع الأمتعة .
رد سلمان وكأنه يكمل حديث سالم :
 الأطفال و النساء ... لابد ان يستريحوا , و يأكلوا شيئا , قبل أن نبدأ العمل .
إلا ان راشد انتفض و هو يتجه إلى مقدمه الباص :
 ليس الآن وقت الأكل . المهم ان نخرج من هذه المصيبة التي و قعنا فيها .
لم يجبه أحد . فالسائق صالح بدأ في إخراج المعدات القليلة التي يمتلكها في صندوق الباص الخلفي , لإصلاح البنشر . و ذهب بدر و راشد في مساعدته . بينما قام سلمان و أبو سالم بفرش الحصر و البطانيات على الأرض حتى تجلس عليهن النساء و الأطفال .

* * *

أنتهي مساء اليوم الأول بالفشل المرير . فأدعية ابو عبد الله و النسوة في الطرف الآخر .....ثم سواعد الشباب , و توجيهات الشيوخ لم تستطع جميعها انتشال الباص من بحيرة الرمال , التي بدت الآن أكبر و أعمق مما كانوا يظنون .

صلوا فرادى . ولم يسألوا النسوة القابعات في الطرف الآخر عن شئ من الأكل . بل استلقوا على الرمال في صمت و شرود . و بشكل سريع و مفاجئ خيم الظلام الكثيف على المكان . بينما بدأت النسوة في إرسال الصبية لإبائهم , يستفسرن عن مدة بقائهم هنا . متى سيتم إخراج الباص من الرمل ؟ وهل المكان خاليا من الثعابين و العقارب ؟ و الرجال يجيبون باختصار شديد , إجابات متناقضة و مبهمة .

استلقى أبو سالم كغيره من الرجال على الرمل , إلا أنه الأقرب للنساء من الجهة الأخرى . أصوات النساء التي لم تهدأ تصب في أذنيه . تململ على فراشه الرملي . انقلب لمرات عديدة . صحيح انه لم يستطع تمييز كل أصوات النساء ....إلا انه اصطاخ دون قصد منه , لعدد كبير من الأكاذيب , و الضحكات المخنوقة ... بل و عدد من الدعوات الصالحات أيضا . كان ينتظر بقلق إلى الفجر . لكن الليل مازال في أول ساعاته . قال لنفسه : ماذا لو لم نستطع أن نخرج الباص غدا ؟ حاول أن لا يسأل نفسه هذا السؤال الصعب , فل يستطع . و حاول أن يجيب عليه فلم يستطع أيضا .

تذكر أيام شبابه المليئة بالمغامرة و القهر . آه ..لو انه شابا حتى اليوم , لسار الى الأحساء مشيا على قدميه . لطالما قطع المسافة من العقير الى الهفوف ماشيا . الأيام الصعبة ...ربما لن تعود . حياة البحر علمته الشدة و الصبر . وإذا استطاع يوما ما أن يقهر البحر ...فليس قادرا في شيخوخته ان يقهر البر .

تطلع للجهة الأخرى . حاول أن يميز وجه ابنه سالم من بين وجوه الرجال النائمين الذين علا شخيرهم من التعب و الجوع . حدق بدقة ..فلم يستطع رؤيته . ابنه الوحيد يخاف عليه أكثر مما يخاف على نفسه . لقد مر بمواقف أصعب بكثير من هذا الموقف و نجى . هاجمته الريح و الأسماك الكبيرة التي تتعلق بشباك المركب .... لكنه نجى في كل مرة . يتذكر الأيام الثلاثة التي ضاع فيها وسط البحر الهائج و هو على مركبه مع أبو محسن ...ثلاثة أيام أكلوا فيها السمك نيئا و شربا من ماء البحر . لكنهما أخيرا وصلا إلى جزيرة فيلكة . كيف و صلا إلى هناك ؟ لا يدري ؟ ولكن ما يهمه انه وصل الى الشاطئ بسلام .

سمع وقع خطى . لا يدري من أين آتيه . لكنه بدا متأكدا الى حد كبير إنها تبتعد . هل هي خطوات أحد الرجال ؟ أم إنها لحيوان مفترس ... ليس متأكدا . رفع صوته :
 من هناك ؟
فلم يجبه أحد أول الأمر . إلا ان الخطوات توقفت . عاد من جديد , و بشكل اكثر حزما :
 من هناك منكم أيها الرجال ...؟
فأجابه صوت مألوف لديه :
 أنا ....لا تخف .

رغب ان يسأل أكثر , إلا انه لم يكترث طالما ان سالم هو الذي أجاب . و سالم الذي ابتعد مسافة ليست طويلة , تبعته خطوات أخرى ...تقصده هو بالذات . وبعد ان اطمأنت الخطوات ...بابتعادها الكافي عن الباص المغمور في الرمل . همس سالم :
 كيف حالك يا مليحة ...
فأجابت الفتاة و هي تمسك بيده بشدة:
 أنا خائفة يا سالم لم انم ..
ابتسم سالم الا انها لم تر ابتسامته في جوف الليل , و أضاف مؤكدا :
 لا تخافي غدا سينتهي كل شئ . سنتمكن من اخراج الباص . الحقيقة إننا أخرجنا عجلاته الأمامية .
عاودت مليحة تعدل من وضع عباءتها المكرمشة على رأسها :
 الله يساعدكم . انتبه لنفسك . الآخرون لا بد أن يعملوا أيضا . لا تقم بكل العمل بمفردك .
فتمتم سالم :
 نعم ...نعم بالتأكيد .
إلا أن مليحة عاودت تسأل من جديد :
 هل سنرجع للاحساء سالمين ؟
ضحك سالم ضحكة مكتومة مرتبكة :
 نعم و لكن سنحج أولا . و عندما نعود , فلا بد ان نتزوج سريعا .

* * *

قبل ان يندلع النور , و في اللحضات الأخيرة لانهيار الظلمة و تكسرها دوت من بين النسوة صرخة . الغبش مازال يحيل الكثبان الرملية , الى ديناصورات أسطورية ضخمة ....والتماع النور الذي تداخل مع تلك الغبشة الحارة ...زادت من هول الصرخة .

انتفض سلمان القضيان وهو يحمل عصاه التي يتكئ عليها مرعوبا . لكز سالم وبدر اللذان ينامان الى جانبه ..فنهضا .
وعندما قفز بدر الى خلف الباص حيث ينمن النسوة و الأطفال . قال بصوت عالي :

 ماذا بكن ؟ ماذا يجري هناك ؟
اجابته عائشة و هي تحضن طفلها الرضيع :
 الحقنا يا بدر لقد رأيت الدريول يتلصص علينا ....
قاطعتها الحاجة أم سلمان :
 استغفري ربك ياعائشة . الرجل لم يمر بقربنا .
ثم التفتت الحاجة الى بقية النسوة الجالسات توا من نومهن :
 هل رأت أحدكن رجلا قد جاء بقربنا .
فردت عائشة و هي تشير بيدها , و تهزها في وجه ام سلمان بغضب :
 هل انا أكذب ...أنت عمياء ...فكيف ترين في الظلام !
تطلع بدر في كل الاتجاهات فلم ير شيئا . وحين قدم ابو سلمان و سالم و تسائلا عما حدث أجابهما :
 لا شئ ..لا شئ على الإطلاق . ربما طائر قد مر بقرب النساء و أفزعهن . ولكن أين السائق صالح ؟

لم يمض الكثير من الوقت حتى تجمع الرجال من جديد بقرب عجلات الباص الخشبي . جلسوا عند مقدمته . يشربون الشاي الذي أعدته النسوة . و يلوكون شيئا من الخبز و الجبن .

و بسرعة بدت الرمال أكثر سخونة , والشمس أكثر اتقادا من ذي قبل . الصبية الذين ظلوا طوال الصباح ينتقلون من هذا الطرف للآخر . ينقلون أكواب الشاي , ولفافات الخبز , و طاسات الماء , بل و الرسائل بين المعسكرين الصغيرين ...بدأوا يصدرون أصواتا ...نوع من التبرم و الاحتجاج , وكأنهم يسيرون على أشواك حادة .

محاولات الرجال لإخراج الباص لم تثمر حتى منتصف النهار . و بعد الظهر بقليل , بدت ان المحاولة الأخيرة قد أعد لها تماما . أزاح الرجال أمتارا من الرمال من تحت عجلات الباص الأمامية . وضعوا الألواح الخشبية تحتها .
صاح بدر بالآخرين :

 صالح يدير المحرك , و يضغط الى دواسة البنزين بقوة . أما نحن فسنكون خلف الباص لكي ندفعه للأمام بقوة ...
التفت سالم إلى الآخرين :

 هيا ...يا جماعة . أنت يا بخيت و يا خميس ..ضعا يدكما مع الجماعة
ثم تمتم بشفتيه الغليظتين :
 إنشاء الله ننجح ...قولوا إنشاء الله .

ركب صالح الباص . و أدار المحرك ....اخرج رأسه من النافذة و صاح :
 هل انتم مستعدون يا جماعة ...
علت الأصوات :
 اتكلنا على الله ...ادعس على البنزين ...باسم الله .
قفز الباص الخشبي بكسل . و عندما كرر صالح المحاولة ....تحركت العجلات الخلفية بسرعة , فأثارت سحابة من الغبار و الرمل في العيون و امتلأت الأفواه بالتراب .

ما ان انجلت الغبرة . و نظفوا ما في عيونهم من الرمل العالق فيها . و بصقوا لكي يخرجوا الرمل المتجمع في أفواههم .... حتى ذهلوا . و وجدوا الباص معلقا . لقد انغرزت العجلات الخلفية بشكل تأكد للجميع انه لا يمكنهم اخراجه .

و ما هي إلا لحضات حتى نقل الصبية للنساء ما جرى للباص . و انطلقت شرارة أخرى , بدت كحقيقة منسية . فقد سيطرت بعض النسوة على ثلاجات الماء , و الخبز والتمر .. و دخلن في عراك حقيقي . كل منهن تحاول ان تحتفظ بحصة أكبر لها و لأولادها .

المشهد بدا مختلفا كليا الآن ... بعدما تأكد الرجال انهم لن يستطيعوا اخراج الباص من وسط الرمال . الرياح الموسمية كانت على موعد معهم ....فبدت تتحرك هي الأخرى على استحياء ثم بهواجة .

ابو عبد الله اتجه الى احد الكثبان الرملية , يردد بعض الأدعية . الاطفال علت صرخاتهم من شدة الحر و الرياح المحملة بالرمل . بينما بدا السائق صالح الساري واجما , مطرقا , ثم انتحى جانبا و أجهش بالبكاء . اما بخيت القضيان و سالم و بدر و خميس فإنهم قرروا ان يذهبوا في الأتجاهات الأربعة ’ لاستكشاف المكان ’ و طلب المساعدة .

الغروب هو موعد عودتهم . تزود كل واحد منهم بقليل من الماء والتمر . ودعوا الآخرين . كانوا قد عقدوا العزم ان يبقى الأمر سرا بينهم من دون النساء . إلا انه سرعان ما عرفت النسوة بالأمر, فتعالى صراخهن .

ام سلمان اشتد عليها المرض . فدخلت في غيبوبة . بينما أوقف أبو سالم الشباب لحضات ...تطلع اليهم . توقف عند ابنه سالم و كأنه يودعه للمرة الأخيرة :
 الله الله في أنفسكم . لا تبتعدوا كثيرا . كل منكم يسير في اتجاه . لن ننام قبل ان تأتوا جميعا ....
قاطعه سالم بأدب :
 لا تخف يا أبي ...سنعود إنشاء الله .
الا ان ابو سالم عاد لإكمال حديثه وهو ينظر الى الأسفل :
 يفضل أن يحمل كل واحد منكم سكينا .
قال سلمان القضيان و هو يعلك شفتيه :
 المهم ان نعرف أين نحن الآن . بإمكاننا المسير جميعا على أقدامنا يوم غد إذا ما تأكدنا من وجود مكان قريب مأهول .

وتفرقوا ... في الاتجاهات الأربعة . و حتى منتصف الليل جاؤا جميعا ماعدا سالم . و مع مجيئهم الواحد تلو الآخر ..تأكد للجميع ان الخطر أكبر مما قدروا و توقعوا . و ان تغريزة الباص لم تكن المشكلة الوحيدة . فهم قد ضلوا الطريق تماما .

سار الشباب الثلاثة حتى الغروب . ولم يصادفوا احدا فرجعوا خائفين خائبين . و استلقوا على كثبان الرمل , يتطلعون الى بعضهم , و يسألون أسئلة عديدة لا يجهرون بها .

تذكر أبو عبد الله انه ظلم زوجته . يتمنى لو كانت بقربه الآن لطلب منها ان تسامحه على قسوته طيلة أربعين سنه قضتها معه كخادمة له . ضربها حتى أدماها . و تزوج عليها ثلاثا ... ولكنها بقيت الوحيدة التي تحملت سوء خلقه بصمت . لم تشتكي يوما أو تتبرم . انتزع أطفالها من حجرها , و أهداهم لزوجاته لكي يقمن بتربيتهم ....نساءه العقر الثلاث . كيف اجتمعن ؟ تصور أنها عملت سحرا لكي تمنعهن من الإنجاب .....فعاقبها بقسوة ..و لكنها بقيت صامته . يأمر فتطيع . لم تعترض يوما رغم تلذذه بتعذيبها .

ردد في داخله ( ماذا يفيد الآن وهي بعيدة عني . أي ظلم أنزلته في هذة المرأة الصالحة . كيف عميت عيناي طوال هذه المدة ..)

أما أبو سالم فهو لم ينم تلك الليلة . بل ظل مستيقظا واقفا محدقا في الظلام . يرفع عصاه الطويلة و يغرسها في الرمل , المرة تلو الأخرى . ينتظر قدوم سالم الذي لم يأت . بعد منتصف الليل , بدأ في الهذيان . أخذ يردد الأشعار التي يحفظها منذ أيام الغوص . حتى ان سلمان قال له بغضب :
 أرجوك ان تصمت يا أبا سالم ..حتى ننام . نحن نحتاج للهدوء والراحة ليوم غد .
قام اليه بدر . امسكه بيده . توسل اليه أن يجلس و ينام قليلا . أكد له ان سالم سيأتي . لكنه لم يكن يسمعه .

في اليوم الثالث , كانوا في مواجهة حقيقية مع الموت . و عند انتظار الموت يفقد المرء ثقته بنفسه و بمن حوله . تتلاشى صلابته . فيبدوا صغيرا , منكسرا ...تختنق حنجرته بالدعوات المتقطعة , اللاهثة , وهو يحدق غير مصدق مما يجري .

العلاقات في الصحراء العنيدة و الزمن ....يتكسران . يتلاشيان و يفقدان أهميتهما و جبروتهما . و يصبحان حبلا مفتولا يلتف حول الأعناق بقسوة . يمارس لعبة الشنق بتلذذ خبيث . فيشعر الإنسان بأن موتا قادما , محققا , طاغيا لا يفرق بين رقاب الكبار و رقاب الأطفال الطرية العظام . فيتحول الجمع الصغير الى غابة صغيرة ينتزع الواحد من الآخر كأس الماء و كسرة الخبز بعنجهية , و بتوحش غير معهود .

الشمس ..هي الأخرى لا تترك الصغار ينامون بهدوء . و لا تعطي الكبار فرصة لكي يفكروا بهدوء و بعقل . فيصبح الحديث في مثل هذة الأوقات حادا , عنيفا , أقرب للعراك منه الى التفاهم . فهم في مواجهة مع الموت ...ذلك الموت البطيء الذي تمارسه فزاعة الزمن . و الماء الذي خصص الجزء الأكبر منه للأطفال ...لم ينقذهم من الموت . فثلاثة من الأطفال ماتوا , لا من العطش بل من الحمى و حرارة الشمس . أما أم سلمان فقد ماتت هي الأخرى قبل منتصف الليل بقليل .
* * *

بعد ذلك اليوم , لم يكن احد من اهالي الأحساء , متأكدا من حقيقة ما جرى في الأوقات الأخيرة . الراعي الذي و صل للمكان في اليوم الخامس او السادس , اعطى و صفا مرعبا , متناقضا , و غير مفهوما لما شاهده حين وصوله لباص القضيان . اما رجال الشرطة الذين و صلوا بعد و صول الراعي بيوم , فقد أكدوا ان صراعا عنيفا قد جرى بين رجال عائلة القضيان .

الألواح الخشبية الملطخة بالدماء , والجروح العميقة على الأجساد , و بعض الهامات المفظوخة ...تؤكد ان الرجال تقاتلوا للحيازة على حصة اكبر من الماء و الطعام . صحيح ان و ضاح الراعي استطاع ان ينقذ بدر و الطفلة زمزم من الموت , الا ان شهادتهما غير مكتملة . فبينما ظل بدر في اغماءة طويلة لم يفق منها بعد .فإن زمزم ذات العشر سنوات , بقيت هي الأخرى تصدر أصواتا هستيرية هي أقرب للكوابيس , و الحكايات المفزعة , من الشهادة التي يمكن الوثوق بها .

عندما وصل وضاح الى دروازة الخميس , و ذلك بعد وصول جثث المسافرين من عائلة القضيان و دفنهم بأسبوع . لم يخرج له ما تبقى من عائلة القضيان فقط , بل خرج اهالي الأحساء جميعا للاستفسار منه عما شاهد وسمع . عرفوا و ضاح من أوصافه التي نقلها لهم رجال الشرطة . عمامته الصغيرة التي يلفها فوق رأسه خشية الشمس . تجاعيد و جهه الضامر , و ناقته الشعلاء التي يمتطيها . حينما اقترب منهم , أناخ ناقته و نزل . فأحاطوا به . رفع يديه للأعلى :

 اسمعوا يا أهل الأحساء . لقد كان مروري في الدهناء ذلك اليوم بمحض الصدفة . فرأيت منظرا لن أنساه ما حييت .
تنفس بعمق . و تطلع في الوجوه . و أدار رأسه في مختلف الاتجاهات :
 جثث متيبسة هنا وهناك , و باص خشبي مزروع و سط الرمال . و جدت أحدهم متيبسا بعدما دفن نصفه الأسفل في الرمل . اما الآخر فقد ثقب خزان الماء في ماكينة الباص ليشرب ماؤه الموحل . كما وجدت ثلاثة قبور صغيرة وآخر لاحد الرجال .

حرك و ضاح عصاته الدقيقة بين اصابعه لمرات عديدة . ثم التفت للواقفين حوله:
 في تلك البقعة من الدهناء تكثر الذئاب . و يبدوا أن الرجال دافعوا عن أنفسهم بكل ما يملكون من أخشاب و أعواد حديدية . لقد شاهدت بعض الذئاب مقتولا على مسافة غير بعيدة من مكان الباص .

زمزم قالت بنوع من الهستيريا بأنها رضعت من كل أثداء النساء بعد موتهن . أما أمها مريم فقد جرعت عنها شربة الماء الأخيرة , و تركتها تصارع العطش وحدها قبل أن تموت .

و لكن حتى بعد أن احضر رجال الشرطة بعض الأوراق التي وجدت في الباص , و التي كتبها سلمان القضيان قبل ان يموت ربما بساعات , فإنها لم توضح الكثير . لا لرداءة خطها فقط و ارتباك سياقها , بل لإسقاطها للأسماء . و اعتبارها نوعا من الوصايا الأخيرة بدلا من الشهادة على ما حدث فعلا . و عندما قرأ احد رجال الشرطة بعض ما جاء في أوراق سلمان القضيان فإن الضمائر بدت مبهمه و غير ذات دلالة . ( لا يوجد عندنا ماء . مات ابو سالم و هو واقف يهذي . بينما ضربه على صدره . لم يكن يقصد قتله . و عندما تدخل لمنعه , أمسكه من الخلف . قلت له اذهب معهما . اتركونا نحن هنا ...الا انها خافت ان تبقى وحدها مع الطفلتين . طلبت منه ان يعطيني قليلا من الماء الذي حصل عليه من خزان الباص لكنه رفض . و اعطى اخوة شربة واحدة فقط , و أستأثر بالباقي له وحده . اليوم الرابع و نحن بدون ماء . الشمس حارقة ولولا مساعدته لنا في اللحضات الأخيرة لما بقي احدا منا حيا حتى الان . الا انه رفض ان ينقلنا الى اقرب مدينة . )

هل حقا وصل إليهم أحد قبل وضاح ! لا أحد يدري ! أما زعم الشرطة بالقتال الذي دار بينهم . فليس مؤكدا بعد شهادة الراعي . و حينا سؤل و ضاح عن الجروح العميقة على هامات بعض الرجال . أكد وضاح ان النسور قد اشتمت رائحة الجثث . فجاءت من أماكنها البعيدة . و عندما حاول من بقي حيا من الرجال صدها , هاجمتهم بالانقضاض على رؤسهم .

ولكن عندما سأل اهالي الأحساء الراعي عن السر وراء اختفاء جثة سالم . وأين يمكن ان تكون ؟ فإنه أبدى استغرابه . و قلب كفيه حسرة و ندامة .

و كتب سلمان القضيان في أوراقه ( عندي ولا زم ذمتي دين بمبلغ ألف ريال لبعد الله المرهون . وكذلك مائة ريال باقي قيمة ثمن البيت الذي اشتريته من صويلح الاربش . و أقول لأولادي ان البيت يبقى لأهل الدار الساكنين فيه الآن وقف ذرية ....و السلام . )


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى