الاثنين ٢٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٨
بقلم رياض كامل

السخرية في كتابات محمد علي طه

 1-

لن نخوض في معنى السخرية ولا في أصولها اللغوية والنظرية، فقد قام الدارسون بالبحث عن معانيها، أشكالها، طرقها ودوافعها منذ الإغريق والرومان والفراعنة حتى اليوم. وظفتها هذه الشعوب في فنونها المختلفة، كما نجد في رسومات المصريين القدماء ونقوشهم وكلماتهم على جدران المعابد، ويرى كثيرون أن جذورها تعود إلى الآداب اللاتينية. برزت لدى كل من شكسبير في الأدب الإنجليزي وفولتير في الأدب الفرنسي. وهي تعتبر وسيلة هامة بيد الساخر كي ينال من خصمه، وسلاحا بيد المظلوم لتعيد إليه حقه. وظفت في مجال الأدب والسياسة والفن للعمل على تقويم الشعوب من خلال تسليط الضوء على عيوبهم ونواقصهم.
السخرية في الأدب العربي قديمة جدا تعود أصولها إلى ما قبل الإسلام، مرورا بالعصور الإسلامية الأولى حتى تطورها اللافت في العصر العباسي شعرا ونثرا. وقد طالت فئات عدة من المجتمع، مهما علت وظيفتها، من قادة سياسيين واجتماعيين ورجال دين بجرأة لا نعرف لها مثيلا اليوم، كسخرية أبي العلاء المعري في كتابه "رسالة الغفران"، وقصائد ابن الرومي وأبي نواس وغيرهما في الشعر، وكتاب "البخلاء" للجاحظ الذي يعتبر أهم الساخرين في تاريخ الأدب العربي القديم. من ينظر إلى تلك العهود فسيرى أن أمهات الكتب الأدبية العربية قد خصص أصحابها جزءا هاما لجمع النوادر والحكايات والطرف الساخرة حتى ليعتقد المرء أن هذه الكتب ما كانت لتقرأ لولا أن فصولا منها تختص بالسخرية.

لم تتوقف الشعوب عن توظيفها وتطويرها فهي، كما يبدو، جزء من علاج النفوس والقلوب، وكان من أهم من وظّفها وطوّرها في العصر الحديث أحمد فارس الشدياق (1804-1887) في كتابه الشهير "الساق على الساق" (1855) الذي يعتبر من أهم ما كُتب في عصر النهضة، يصب فيه جام غضبه على فئات عدة من مجتمع تلك الأيام دون استثناء كبار رجال الدين. توسعت رقعة توظيف السخرية في العصر الحديث، لتشمل شتى فروع الفن وأنواع الكتابة المختلفة مثل الرسم الكاريكاتيري والرقص والغناء والمسرح والسينما والتمثيل على أنواعه. والسخرية هي من أسهل الوسائل للنيل من الخصم ورسم البسمة على الوجوه، إذا أُحسن استعمالها، ولذلك فهي تتطلب مهارة وحنكة وخفة ظل، وذكاء اجتماعيا وعاطفيا خاصا كي لا تكون ممجوجة، مملة ومنفرة.

أعتقد جازما أنها تحتاج، إضافة لما ذكر أعلاه من مهارات، إلى ثقافة شاسعة واسعة وعميقة، وإلى قدرات لغوية خاصة. ليس صدفة أن يكون الجاحظ مدرسة في السخرية، وليس صدفة أن يكون الشدياق أحد أهم من طور هذا الأسلوب، وكلاهما واسع الثقافة عالم باللغة. أدرك رجال المسرح والسينما أهميتها وقدرتها على الوصول إلى المتلقين فوظفوها في إنتاجهم فظهرت شخصيات لامعة حفرت اسمها عميقا في وجدان الشعوب، كما فعل تشارلي شابلن في الغرب، ودريد لحام وعادل إمام وغيرهما في الشرق.

تصل سهام السخرية النفّاذة كل اتجاه، منها ما يوجه نحو الذات، ومنها ما يوجه نحو الآخر. ولها دوافع عدة أهمها تقديم النقد بهدف الإصلاح، والتعبير عن ألم في النفس عميق، فتكون بذلك وسيلة للتفريغ والدفاع عن الذات والنيل من الخصم. إن من يتابع الأوضاع السياسية والاجتماعية في العالم العربي، وفي فلسطين بشكل خاص سيدرك، دون مجهود كبير، ما يعتمل في قلوب البشر من حزن وأسى وألم كدوافع رئيسية للجوء إلى السخرية. ففي مصر، على سبيل المثال، قام المجتمع بتطوير النكتة ليشفي غليله إزاء ما يحدث في محيطه الاجتماعي والسياسي، فكان لها نكهة مصرية مميّزة قادرة على تحريك الإنسان المصري للترويح عن النفس. أما في المجتمع الفلسطيني، سواء كان هنا أم في الشتات، فإن سخريته مرة وحزينة ولاذعة بل وحادة جدا، ومن السهل أن يلمسها المتتبع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وفي البيوت والتجمعات وأماكن العمل.

وُظّفت السخرية بشكل لافت بداية القرن العشرين في أشعار رواد النهضة الشعرية والفكرية الفلسطينية حين أحسّوا أن الأرض تُسحب من تحت أقدامهم فيما العالم العربي يغطّ في سبات عميق، فكتب الشعراء قصائد ترثي حال العربي وتدعو إلى الصحوة قبل فوات الأوان، فكانت لاذعة، مرة ومؤلمة. ثم توسعت وانتشرت في مجمل الإبداع الفلسطيني شعرا ونثرا على أنواعه. كما لجأ إليها المثقفون ورجال السياسة الفلسطينيون في خطاباتهم، في فترة لاحقة، ولنا على ذلك أمثلة عديدة في خطابات إميل حبيبي وتوفيق زياد وغيرهما.

يعيش الإنسان العربي عامة، والفلسطيني خاصة، حالة من الإحباط، وهو يرى أهم قضاياه عالقة وعصية على الحل. فكان من الطبيعي أن يلجأ بعض الكتاب والفنانين الفلسطينيين إلى هذه الوسيلة، كما فعل الكاتب إميل حبيبي في مقالاته وفي كتاباته في مجالي القصة والرواية، بالذات في روايتيه "المتشائل" و "لكع بن لكع" وكما فعل كل من ناجي العلي في رسوماته الكاريكاتيرية، وسميح القاسم ومحمود درويش وغيرهما في أشعارهم.

كان العرب، منذ الجاهلية، يلجؤون إلى الهجاء كوسيلة يذمون فيها الخصم أو العدو للنيل منه، فينعتونه بأرذل الأوصاف في عرف تلك الأيام مثل الجبن والبخل وعدم الأخذ بالثأر وما إلى ذلك. تغيّر الزمن وتبدّل فوجدنا الهجاء يتخذ مناحي جديدة وأساليب مغايرة، وبتنا نرى الشاعر يذم الخصم مبرزا مقابح الشكل وليس فقط مقابح الأخلاق كقول الشاعر العباسي ابن الرومي:

وجهك يا عمرو فيه طول
وفي وجوه الكلاب طول
وجوههم للورى عظات
لكن أقفاءهم طبول

لا يمكننا اليوم اللجوء إلى مثل هذه السخرية وتسخيرها في الأدب الحديث، فهي لن تُحقق مآربها المرجوة لأن من أهم أهدافها، كما ذكرنا، هو التوعية وتقويم الاعوجاج والتوجيه نحو الصواب وإيقاظ الغافل ونبذ العنف وتحقيق العدالة وإحقاق الحق، كل ذلك بعيدا عن التهريج والمجون. إن الحالة الفلسطينية لا تحتمل التهريج ولا تحتمل الضحك من أجل الضحك.
إن السخرية في التراث العالمي والعربي، على حد سواء، لا يمكنها أن تكون نموذجا يتلقفه المبدع الفلسطيني ليبني سخريته وفق مبناها وفحواها، فما يضحك شعبا لا يضحك شعبا آخر، وما أضحك الناس في مرحلة معينة لا يضحكهم في مرحلة أخرى، ولا نبالغ حين نقول إن لكل قرية ومدينة، أحيانا، أسلوبا مغايرا في السخرية، وما يشفي غليل شعب لا يشفي غليل شعب آخر، فهي مرهونة بزمكانية معينة وبظروف خاصة بكل فئة سكانية.

لقد وظف الجاحظ في كتاباته، وبالذات في كتاب "البخلاء"، غريب اللغة وسيلة للسخرية، كما فعل الشدياق في كتابه "الساق على الساق" في مرحلة متأخرة. لقد كان هدف الشدياق يشبه إلى حد كبير هدف الجاحظ في لجوئهما إلى هذه الوسيلة في السخرية، وهو إبراز سعة معلوماتهما وإبراز عجز المذموم أمام هذا الكم من المعرفة. أما الكاتب إميل حبيبي فقد لجأ إلى الخيال المحلق وإلى اشتقاق مفردات وكلمات غير مألوفة كوسيلة من وسائل السخرية. أما سميح القاسم فقد اعتمد على المفارقة في الكثير من دواوينه وبالذات في ديوان "أنا متأسف" (2009).

لقد نالت سهام محمد علي طه الساخرة من الخصوم وهو يراهم في محيطه العربي الفلسطيني، وفي محيطه العربي عامة، وفي الدولة وقوانينها المجحفة، وفي المجتمع الدولي الذي يتخذ قرارات تتناقض مع رؤيا الكاتب ومبادئه. فهو يعي تماما هول القضية التي يعالجها ويدرك حجمها ومرها وآلامها، لذلك قام بتوظيف وسائل عدة في كتاباته الساخرة، وهي وسائل قريبة في غالبيتها من إدراك القارئ العادي، وغير العادي، وكأني به أحيانا، يحاور المتلقي غير العربي، يهوديا وغربيا، وأحيانا، يخيل لي أنه يحاور القيادة العربية والقارئ العربي في دول العالم العربي الواسع.

يمكن للقراء أن ينظروا إلى سخرية طه من زوايا مختلفة، حسب مستوى ثقافاتهم ومصدرها ونوعيتها. برأينا أن دافع السخرية الأول لديه هو التجربة الذاتية التي لا يمكن فصلها عن التجربة الفلسطينية العامة لما فيها من ألم ووجع وحسرة، فضلا عن الوضع الاجتماعي وما يتعلق به من أفكار ومفاهيم نتيجة حالة العربي الذي حُرم من أهم مقومات الحياة فترة طويلة من عمره. ولذلك صدق من قال بأن السخرية تعالج الواقع وتنمو منه وفيه، لا تتأتّى في الخيال، وليس عمدتها الخيال، لكننا نستطيع أن نؤكد أن التخييل وسيلة تتحول إلى تقنيّة فنيّة من تقنيّات السخرية للتهويل، ثم تعود إلى مرجعيتها الواقعية لأنها تنبع منه وفيه.

عاش العربي من المحيط إلى الخليج واقعا مرا وصعبا على مدى مئات السنين، وقد عبر المثقف الفلسطيني عن رفضه لهذا الواقع وعن رفضه لأي احتلال، منذ عهود طويلة، وتجدد هذا الرفض مع الاستعمار البريطاني، وقيام دولة إسرائيل، فيما الإنسان الفلسطيني ما زال موعودا بدولة مستقلة لا يعرف أحد أين تقع حدودها، وما هي مقوماتها وأسسها وحقوقها. هذه الحالة العبثية دفعت بعض الكتاب الفلسطينيين، ومنهم الكاتب محمد علي طه، إلى اختيار هذه الوسيلة للتعبير عن الوجع والألم، ربما لأنه يراها أكثر الطرق المباشرة لتقديم النقد نحو الداخل والخارج، نحو الذات ونحو الآخر، ونحو ال أنا وال أنت، دون أن يعني ذلك، ولا بأي شكل من الأشكال أن الكاتب يلجأ في كتاباته إلى اللغة المباشرة أو الأسلوب المباشر، بل إن السخرية بحد ذاتها، هي وسيلة تحتاج أكثر ما تحتاج، إلى كاتب حاذق ماهر فطين، يحسن استعمال الرموز والكنايات والتورية والاستعارات على اختلافها.

إننا نرى أن الكاتب محمد علي طه من أكثر الكتاب الفلسطينيين الذي يوظفون هذا الأسلوب، منذ بداية مشواره الأدبي، حتى باتت ميزة بارزة جدا من ميزات كتاباته. لا تختلف دوافع السخرية عند الأديب محمد علي طه عن دوافع غيره من الأدباء الفلسطينيين، خاصة وأنه قد خاض تجارب سياسية عدة، فانعكس ذلك في مقالاته التي قام بنشرها في صحيفة "الاتحاد" تحت عنوان "مناقيش". بل نكاد لا نقرأ له مقالة من مقالاته التي يواظب على نشرها أسبوعيا، حتى اليوم، في مواقع ورقية وإلكترونية تخلو من السخرية. فقد تابع عن كثب ما تمر به القضية الفلسطينية منذ أن تفتحت عيناه، جرّب الهجرة والتشرد والنوم تحت الأشجار، هُجِّر من بلدته ميعار وهو طفل في السادسة من عمره. عرف معنى "النكبة" وعايش "النكسة" ورأى تشرد الفلسطيني مرارا وتكرارا، وشهد ما مر به الفلسطيني من مآس ومذابح مثل "مذبحة "كفر قاسم"، و"تلّ الزعتر" ومجزرة "صبرا وشاتيلا" وغيرها من المذابح والمآسي حتى اليوم. عمل في حقل التدريس فعاشر الطلاب والأهل والمعلمين، عمل في السياسة وانتمى في مرحلة معينة للحزب الشيوعي في البلاد. لم يترك الكاتب السياسة بعد أن ترك الحزب الشيوعي ولم يقف على الحياد، ولم يكن متفرجا، بل كان مواكبا للأحداث ومتابعا لها، فقد نشط في مجالات عدة يمكن للقارئ أن يتابعها من خلال مقالاته ومن خلال كتابه الأخير "نوم الغزلان" (2017).

انعكست هذه الأحداث وهذه التجارب في مجمل كتاباته، فهذا الكم من الحزن وهذا الكم من الوجع نجد له انعكاسا واسعا فيما ينشر، فكانت السخرية إحدى الوسائل التي وظّفها كوسيلة نقدية قادرة على التواصل مع المتلقي وتجنيده وتثويره، لأنها تعمل على وخز الخصم والنيل منه، خاصة وأن الكاتب قد دخل في التجارب الأكبر ولم يسمع عنها من الآخرين، ولم يقرأها في كتب التاريخ. لذلك لن يستطيع أحد، كائنا من كان، أن يقنعه بأي رواية أو أي حجة مغايرة لتجربته الخاصة والعامة، لأنه مر التجربة وشرب من علقمها قبل النكبة وبعدها فخسر قريته "ميعار"، مسقط رأسه، وسكن بعد فترة من الضياع في قرية كابول لتصبح بيته وبيت أبنائه وأحفاده وعائلته.

قد يقوم أحد الباحثين، يوما ما، بدراسة الفرق بين سخرية محمد علي طه في مقالاته وسخريته في قصصه. إننا نعتقد أنه سيجد الكثير من التشابه، فدوافعها واحدة، لكنّ الفرق يكمن في اختلاف الجانرين وطريقة التعبير، ومركبات كل جنس منهما، فالمقالة تقتضي وسائل تتلاءم مع نوعها ولا تتلاءم مع القصة التي تستدعي حضور مركباتها القصصية أولا.

 2-

لقد لاحظنا أن المقالات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي يواظب الكاتب على نشرها منذ عقود لا تخلو من السخرية، حتى وإن كان موضوعها الرئيسيّ في غاية الجدية. فلا بد من أن يتعثر القارئ بجملة ساخرة أو نادرة قصيرة أو طويلة لتمرير الفكرة، بل إن السخرية في بعض مقالاته هي عمودها الفقريّ. يقيني أن الكاتب يصر على ذلك لعلمه التام أن السخرية تساهم مساهمة كبرى في إيصال الفكرة للمتلقي حتى باتت جزءا من إبداعه وجزءا من شخصيته. فالسخرية يحتاجها المرسِل كما يحتاجها المتلقي لأن الوضع السياسي ما زال مقلقا منذ أكثر من قرن، والوضع الاجتماعي والفكري لم يتبدل، بل هناك أمور فكرية واجتماعية قد حصل فيها تراجع لم نألفه من قبل.

ما نستطيع التأكيد عليه أن الكاتب يقوم بتوظيف القصة/النادرة في المقالة، كعامل مساعد في تمرير الفكرة، فهو يعلم علم اليقين أن المقالة قد تكون جافة، وقد لا تحقق مبتغاها ومرادها، وقد يُحجم عنها القارئ، خاصة وأن الكاتب، كما ذكرنا، يداوم على نشر مقالاته أسبوعيا تقريبا. أما القصة ففيها من العناصر ما يجعلها أقرب إلى القارئ، في اعتمادها على تقنيّات عدة، فضلا عن عنصر التشويق، وقد تُحقق القصة مبتغاها دون اللجوء إلى السخرية. محمد علي طه، إذن، يوظف النادرة والحكاية الشعبية الساخرة كحيلة فنية لتجنيد المتلقي حتى باتت موتيفا متكررا في مقالاته وفي الكثير من كتاباته. ما نستطيع أن نقوله، دون إجراء بحث إحصائي، أن الكاتب يوظف السخرية والمفارقة على أنواعهما المختلفة في معظم مقالاته، أكثر مما يوظفهما في القصة والرواية، وذلك للأسباب التي ذكرت أعلاه، والتي سنعمل على توضيحها فيما يلي.

يلجأ الكاتب في مقالاته الساخرة إلى تسخير وسائل وأساليب عدة منها الأسلوب الكلاسيكي التقليدي الذي أُطلق عليه "أسلوب الذم بما يشبه المدح"، أو "المفارقة اللفظية"، وهي ظاهرة متكررة في مقالاته تساهم في التواصل مع القارئ، لأنها تلجأ إلى إبراز حالة معينة من خلال توصيف مناقض، خاصة أن قراء المقالات الاجتماعية والسياسية ينتمون لشرائح اجتماعية تتفاوت ثقافتهم، وهو يدرك ذلك، وعليه فهو يلجأ إلى هذا الأسلوب لتجنيد القارئ العادي الذي يمكنه التواصل مع مثل هذا النوع من الكتابة. يمكننا أن نقول إنه تمكن من تجنيد القراء من "طبقات" ثقافية وفكرية متعددة. وهو يفعل ذلك عن سبق إصرار يسعفه في هذا التواصل توظيف حكايات ونوادر وقعت في قرية معينة، سمع بها الناس أو بعضهم فيعيد صياغتها مدعومة بلغة مطعمة بجمل عامية، أو قريبة منها، أو بجمل وتعابير قريبة من إدراك القارئ العادي.

سخرية محمد علي طه في معظم مقالاته قد تصل حد الهزء والفكاهة، ولكن منعا للبلبلة فإن السخرية أقوى من الفكاهة والتندر والهزء، وهي أكثر شمولا، لكني أرى أن طه يسمح لنفسه من خلال "شطحاته" التي يكثر منها، في جل ما كتب، سواء في قصصه ومقالاته، للمرور على حكايات ونوادر تساهم في الهزء والتفكّه والتندّر لتصبح في اجتماعها معا مجموعة من المكوّنات التي تجعل السخرية أكثر اتساعا وأكثر شمولية للنيل من الخصم ومن الآخر، وبالتالي تصبح أكثر قدرة على توسيع رقعة المتلقين. ولنا على ذلك أمثلة عديدة منها مقالة حديثة نشرت مؤخرا بعنوان "سائق باص- يللا يا أسطة" (موقع الجبهة، 26.8.2018) تكوّن السخرية عمودها الفقري. يعرض فيها الكاتب لقضية المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، وادعاء المفاوض الإسرائيلي، مرارا وتكرارا، أن الفلسطينيين، منذ النكبة وحتى اليوم، هم الذين يهدرون الفرص في كل مرة تكون دولتهم، حسب ادعائه، قاب قوسين أو أدنى.

يوظف الكاتب في هذه المقالة العديد من الوسائل المعروفة التي تتكرر في كتاباته، منها عنصر التكثيف الكمي لإحداث التأثير في المتلقي. إذ نراه يكثف من الأمثلة كنوع من أنواع التكرار المعنوي فيظهر الخصم ذئبا في ثياب الحمل. يعرض المسؤول الإسرائيلي على الفلسطيني حلولا "سخية" واحدا تلو الآخر، يرفضها الفلسطيني لأنه يراها هزيلة ذليلة. هي مقالة قصيرة جدا، تتكون من بضعة أسطر توجِز مأساة العربي الفلسطيني الذي يخسر أرضه شبرا وراء شبر، منذ سبعة عقود وحتى اليوم، بشكل منهجي متسلسل زمنيا من الأبعد فالأقرب. يرى المتلقي أن العروض تسير بشكل تنازلي تبدأ بدولة ثم شبه دولة حتى تصل إلى سائق باص. يُقبِل المتلقي على قراءتها مشدودا من خلال تقْنِيَّة المفارقة (الإيرونيا) الأكثر تعبيرا عما يختلج في النفس في مثل هذه الحالة: "والله يا جماعة إنها مهنة مش قليلة، وتساوي مائة ألف شهيد ومليون سجين بدون أن نتهود"، إذ لم يعد أمام الفلسطيني، بعد قبوله هذه المهنة، إلا أن يفاوض حول انتمائه العرقي وانتمائه الديني، فإذا رام الخلاص ما عليه إلا أن يتنازل عن مركبات هويته، وذلك بشروط، هي شروط يفرضها الطرف الآخر تحقيقا لأحلام الطفل العربي الذي سئل يوما: "ماذا تحب أن تكون حينما تكبر؟ فأجاب الطفل: يهودي. فسأله الأب: لماذا يا ولد؟ فردّ عليه كي أكون سائق باص".

تتداخل وسائل عدة لتبرز السخرية من أهمها؛ عنصر المبالغة والتضخيم في الطرح، مستغلا الإطناب كنوع من أنواع التضخيم والمبالغة. ومن خلال المدح بما يشبه الذم: "وقدم لنا مناحيم بيجن (وهو رجل إنساني جدا لم يقتل عربيا في حياته، وأرجوكم ألا تصدقوا ما جرى في دير ياسين فهذا خيال شرقي)..."، وتوظيف الأمثال الشعبية "نفطر على بصلة" وخلق حالة من المفارقة: "نحن شعب اعتاد على الاحتلال" وكأن هذه الجملة بالذات منسوبة إلى لاوعي الآخر الذي يرى الفلسطيني من هذه الزاوية، والاعتماد على الخيال الساخر في ترجمة الأسماء العبرية إلى العربية دون أن يكون هناك أي صلة بينهما، فيتجند الخيال في خدمة الواقع، مدعوما بحكاية قد تكون صحيحة واقعية، وقد تكون من صنع خيال الكاتب حول حكاية الطفل العربي و"طموحه" اللامتناهي كي يصبح يهوديا حتى يتمكن من سياقة الباص. ألم يفرح بعض العرب في "إنجاز" بعضهم حين ترجموا "تل أبيب" إلى "تل الربيع" وهم بذلك يخدمون أيديولوجيا الآخر؟! إن مدينة "تل أبيب" قد أقيمت على أنقاض قرية عربية باسم "الشيخ مؤنس"، ولن تكون في عرف العربي الفلسطيني "تل الربيع" في مفهومها الجميل وفي دلالة كلمة "ربيع" وما فيه من فرح وخضرة وزقزقة عصافير وتجدد حياة.

بقي أن نشير إلى العنصر الأهم وهو اللغة لأنها ليست وسيلة كما يقول البعض بل هي الآلة والأداة التي يصنع منها الكاتب أدبا، كما يصنع الفنان من الحجر تمثالا وكما يصنع البناء من الطين بيتا، وكما نصنع من الخشب ورقا. مواضيع المقالات اليومية تتعرض لقضايا الناس في حياتهم اليومية؛ همومهم وأفراحهم. تنشر هذه المقالات اليوم في وسائل تجعلها قريبة من تناول كل القراء، فقارئ الصحيفة ليس بالضرورة أن يكون هو نفسه قارئ الرواية أو قارئ القصة. ويقيني أن الكاتب يخاطب قارئه الذي يستدعيه ليتحاور معه. لذلك نرى اللغة قريبة جدا من اللغة اليومية، في خطابها، ولا نقصد في تركيبها النحوي أو الصرفي، بل هي لغة قريبة من إدراك القارئ العادي، وفيها أمثلة شعبية وحكايات شعبية وجمل وتعابير مفصحة أو معممة لتساهم في السخرية: "وروح يا يوم وتعال يا يوم، كما يقول أهل هذا الوطن الأصلانيون، راحت السكرة وجاءت الفكرة..." (موقع الجبهة، 22.7.2018).

يوظف الكاتب في مقالاته مستويات عدة للغة؛ الشاعرية والمدعّمة بكل أنواع البلاغة المعهودة، والتناص الذي يغني اللغة، مرورا بوسائل التعبير الحديثة، وصولا إلى لغة محكية، وإن شئت لغة منطقة فلسطينية معينة دون غيرها، أو لغة "الخواجات" والأجانب. ولا ينسى في بعض مقالاته من تضمين النص بتعابير عبرية ذات دلالات يفهمها العربي في هذه البلاد مثل: "... وسمحوا للعرب بالبقاء في "الموليدت" وفي "آرتس شيلانو"، دون أن ينسى وضع ال التعريف على الكلمة العبرية فيتعامل معها تيسيرا للسخرية المُرّة ككلمة عربية، فتولدت حالة من المفارقة والسوداوية.

لهذه الأسباب جميعها التي أتينا على ذكرها، ونظرا لتجنيد تقنيات عدة تمكّنت مقالات محمد علي طه من التواصل مع القارئ، لأنها تعبر عما يجول في فكر المتلقي، كما تعبر عما يجول في فكر المرسِل. أخذ الكاتب على عاتقه أن يعالج أهم القضايا اليومية التي تشغل بال المجتمع. وهو القادر من خلال هذا الأسلوب أن يتواصل مع القارئ العادي نظرا لطرحه هذه القضايا الكبرى بأسلوب وبلغة قادرين على تحريك القارئ وزرع البسمة والقهقهة أحيانا. فالقارئ يتواجه مع هذه القضايا في الشارع وفي البيت وفي نشرة الأخبار، فتأتي السخرية لتخفف من وطأة هذه الهموم وبالتالي تشفي غليله وتخفف من آلامه النفسية.

 3-

لن نقوم، كما ذكرنا، بالبحث عن الفرق بين سخرية طه في مقالاته وسخريته في قصصه القصيرة، فقد أكدنا أعلاه أن الدوافع في كلتا الحالتين هي نفس الدوافع، ووجدنا أن التقنيّات متشابهة في معظم الحالات، لكننا مع ذلك يمكننا أن نضيف أن للقصة تقنيّات قد تكون مغايرة عن تلك. طه سريع الملاحظة يقتنص الحكاية من مشهد تلفزيوني أو من خبر في صحيفة أو من "ديوان" عربي فلسطيني، وقد وجدنا أنه يلجأ في قصصه إلى "اللمحة"، وهي تتمحور حول حدث يتمركز في مكان وزمان ضيّقين، وفي شخصية عادية مركبة تركيبا بسيطا دون فلسفة أو تعقيد. وهي تصلح لأن تثير القارئ دون إبراز العناصر القصصية المعهودة. يعوّض عن ذلك بطرافة الحدث وقربه من الناس بلغة بسيطة قريبة من أذهان القراء ومداركهم على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم، فيكثر من التعابير الشعبية، ومن اللغة القريبة من المحكية، فضلا عن تعابير وجمل مفصحة، أو معممة، وتضمين النص بالأمثال العربية والفلسطينية، وتوظيف كلمات عبرية ذات دلالات معينة في المجتمع العربي، ولعلنا نعود للتأكيد على أسلوب التهويل والمبالغة، وهو ينعكس في اللغة والاستطراد والتكرار المعنوي واللفظي.

لقد لجأ محمد علي طه إلى السخرية في قصصه كوسيلة للنيل من السلطة ومن الحكومات الإسرائيلية المتناوبة فوجه أصابع الاتهام إلى قادتها السياسيين والعسكريين، وإلى فكرهم المتعالي الذي لا يستطيع أن يرى العربي إلا حافيا وسقاء ماء، ومتخلفا لا يحسن العيش كغيره من أبناء شعوب الأرض. لذلك نراه في بعض قصصه يلجأ إلى تصوير العربي القادر على النيل من الجندي ومن الشرطي بوسائله المتاحة التي تنمّ عن ذكاء فطري ينبع من إيمان عميق بالحرية وتحقيق العدل والعدالة. وهو كغيره من الأدباء قد تأثر بالأحداث البطولية لأطفال الحجارة في الانتفاضة الأولى. فقد كتب مجموعة قصص جمعها تحت عنوان "إلى أطفال الحجارة"، ضمّنها مجموعته "ويكون في الزمن الآتي" (1989)، وهي أشبه بالنادرة في بنائها لأنها ليست قصة في مفهومها التقليدي، ولم تبرز فيها عناصر القص المعهودة ولا المفارقات الزمنية، ولم يجهد ذاته في إبراز صورة المكان، بل برز الحدث في عرضه الساخر.

أبطال هذه الحكايات هم أطفال الحجارة الذين يقارعون الجندي المدجج بكل أنواع الأسلحة، يتصدى لهم صبي صغير يتمكن من تضليلهم فيخرج القارئ، بعد قراءة النص، وقد ابتسم، ضحك أو قهقه، منها قطعة بعنوان "عمار" تحكي قصة طفل في السابعة من عمره ألقى جنود الاحتلال القبض عليه وهو يرميهم بالحجارة، يقوم الجندي بالتحقيق معه لمعرفة "المحرض"، فيجيب الطفل إنه أخي منصور، يقوده الجنود نحو البيت، ولما نادى على أخيه خرج منصور وهو طفل في الثالثة من عمره يحمل بالونا. (ويكون في الزمن الآتي، ص9-11) وفي قصة أخرى من نفس المجموعة بعنوان "العلم" (السابق، ص21-23) فإن الطفل "فادي" يكذب على أمه مرتين؛ في المرة الأولى حين طلب منها أن تحيك له علما يهديه لوالده حين يخرج من السجن الصحراوي، وفي الثانية، عندما أعلمها أنه ذاهب للعب مع صديقه وقد خبأ العلم في عبه. ينظمُّ الطفل إلى مجموعة من أطفال الحجارة، ولما كاد أن يقع في قبضة الجنود احتمى خلف جدار من الحجارة، تسلقه مثل قط بري "فشاهد جنديا يحمل على ظهره جهاز لاسلكي وقد أسند ظهره إلى الجدار ليرتاح.

وفجأة.. خطر له خاطر مثل لمعان البرق.. أدخل يده إلى عبه وأخرج العلم الصغير، شمّه وقبّله ثم ربطه في هوائي اللاسيلكي.. نزل فادي وسار قليلا.

وصل إلى شجرة سرو فتسلق عليها.

وشاهد الجندي يسير والعلم يخفق فوق رأسه.. ثم سمع جنديا يصرخ: مردخاي.. علم "آشاف"

رفع مردخاي رأسه وقال أين؟

فوق رأسك.

رفع مردخاي فوهة البندقية وبدأ يطلق الرصاص. والجنود يصرخون "فوق رأسك"! ثم صار مردخاي يعدو.. والعلم يخفق." (السابق، ص23)

هي وسيلة للتعويض عن خيبات الأمل المتلاحقة وعن الحزن والأسى نتيجة الظلم الذي يتعرض له الإنسان الفلسطيني في مواقع إقامته في المخيم والقرية والمدينة وأزقتها الضيقة وحواريها القديمة، فتزرع الأمل في النفوس وتعيد الثقة إلى من فقدها نتيجة تقصير القريب قبل الغريب. هي قصص ذات رموز شفافة لها هدف واحد ووحيد إحياء الأمل من خلال أطفال قادرين على تحقيق "النصر" حتى ولو كان نصرا محدودا من خلال زرع بسمة أو ضحكة.
إن موضوع القصتين أعلاه في غاية الجدية، فهناك أطفال يعرضون أنفسهم للموت الذي يتربص بهم في كل زاوية وفي كل لحظة، فتأتي السخرية داعمة لهذا الموضوع الجدي لتعطي الحياة بدل الموت، وتزرع الأمل بدل اليأس. فالسخرية هنا تمزج بين المرارة والأمل، بين النور والظلمة. هي قصص عميقة مرتكزها وعمودها الفقري هو السخرية بما تحويه من هزء وتهكم، تحمل فتحة من أمل ونور، وهي ليست من باب "شر البلية ما يضحك" لأنها أكبر من ذلك بكثير، هي مواجهة صعبة من أجل الحصول على حياة حرة كريمة شريفة. لذلك السخرية سلاح الكاتب القادر على التجلي والتجنيد والتثوير، وهي، كما ذكرنا، سلاح الضعيف في وجه القوي، وسلاح المظلوم في وجه الظالم.

نود التأكيد، مرة أخرى، على أن السخرية ميزة بارزة من ميزات قصص محمد علي طه منذ بدأ التأليف والنشر، إذ عدنا إلى قصص الكاتب الأولى وإلى مجموعته "جسر على النهر الحزين" (ط2، 1977) التي صدرت في طبعتها الأولى سنة 1974، وإلى قصة "اللجنة" التي تتصدر المجموعة وقد نشرها سنة 1969، فوجدنا أمورا لافتة تحتاج إلى تحليل في موقع آخر، لنرى إلى المواضيع التي كانت تشغل الكاتب في تلك المرحلة الزمنية. يلاحظ القارئ أن السخرية تطل برأسها، وكأنّ الكاتب يضع اللبنات الأولى لكتابته الساخرة، وهذا ما تؤكده القصة الثانية في المجموعة وهي تحت عنوان "المعركة" إذ نتعثر بالسخرية منذ الفقرة الأولى، ونقع على ما هو مشترك في وسائل السخرية بين القصتين؛ إذ نراه يستعمل أسلوب التكرار المعنوي واللفظي مثل تكرار القسم؛ "وحياة سيدي الخضر" (ص10، 11)، "وحياة الإمام علي" (ص11)، "وحياة روح إمي" (ص21)، وتكرار الأمثال والمقولات الشعبية "والمكتوب على الجبين لا بد من أن ينفذ" (ص21)، "ولا شيء يأتي من الغرب ويسر القلب"، "العين لا ترتفع عن الحاجب" (ص22)، "عدي رجالك عدي من الاقرع للمصدي" (ص28) هذا فضلا عن الحكايات الشعبية والكنايات الساخرة.

لقد وظف الكاتب السخرية منذ كتاباته الأولى ووجَّه بعض سهامها نحو المظاهر الاجتماعية الفاسدة التي تحول دون تقدم المجتمع مثل التعصب بكل أنواعه وأشكاله، وشدَّد على نقد القيادة التقليدية التي تستغل موقعها في سبيل المصالح الخاصة. ونبّه من استغلال السلطة لهذا الفكر المتخلف لتعمل على نشر الفرقة بين أبناء البلد الواحد. يبدو لنا جليا أن طه قد اهتم بالعنوان يفتتح به قصصه بشكل يدعو القارئ إلى البحث عن العلاقة بينه وبين الأحداث فيلجأ أحيانا إلى التهويل والتضخيم لخلق حالة من المفارقة. يتساءل القارئ، بعد مواجهته عنوانا مثل "الحرب" عن مسببات هذه التسمية وعن دوافعها، فتتولد لديه رغبة في البحث عن هذه "الحرب" وعن أطرافها ونتائجها فإذا بها "الحرب" بين أبناء البلد الواحد، وقد أشعلها مندوب السلطة كي يكسب أصوات الحارتين المتناحرتين حول وعود هي أشبه بوعود عرقوب أو وعد إبليس في الجنة. ربح المندوب وربحت السلطة وخسر أبناء البلد جميعا.

من أبرز وسائل الخطاب في قصص محمد علي طه هو الاستطراد والاسترسال، وبما أننا بصدد الحديث عن السخرية في كتاباته، فإن السؤال المطروح هو ما علاقة الاستطراد بالسخرية؟ إننا نرى أن الدخول في أدق التفاصيل والعمل على إطالة الحدث قصدا هو لخدمة السخرية، يطول السرد ويمتد ثم يطول وينتظر القارئ النتيجة، لكن السارد يتابع ويطيل، فيعرض نادرة أو طرفة ومعلومة جديدة حتى يرسم السارد صورة مفصلة لحدث ما أو لشخصية ما أو تصرف ما. لن نأتي بجديد حين نقول إن الجاحظ والشدياق وظفا هذا الأسلوب، لكن ما نودّ التنويه إليه أن هذه الإطالة تشبه كثيرا أسلوب "الديوان" العربي الفلسطيني، بل نؤكد أنها "ترجمة" له. هذا الأسلوب يشبه نوعا ما التكرار المعنوي. وبما أننا اليوم نتحدث بلغة السيميوطيقا والدلالات ولغة المرسِل والمرسَل إليه أو المتلقي، فإن إطالة الحدث من خلال تكرار الأمثلة والتعليقات والأمثال والحوار والسرد، حول فكرة واحدة، قد تكون مملة إلا إذا نجح الكاتب في الإمساك بتلابيب القارئ الذي يتابع القراءة مبتسما أو مقهقها وهو يتخيل طرفا من أطراف القصة يقع تحت طائلة "التعذيب" وهذا الطرف هو شخص يستحق أن يُسحق وأن يهان. فتصبح الإطالة المتعمدة دلالة على النيل من شخص صوّره الكاتب/الراوي تصويرا سلبيا. فتتحول الشخصيات إلى رموز منها ما هو سلبي ومنها ما هو إيجابي، ويتجند المتلقي ليقف في صف الراوي، كما في قصة "اللجنة" أو في قصة "الحرب" أو قصة "حكاية ابريق الزيت" من نفس مجموعة "جسر على النهر الحزين".

لم يتوقف طه عن الكتابة ولم يتوقف عن توظيف السخرية، بل إن المواضيع التي شغلته في بداياته ما زالت تشغله حتى اليوم، بل إننا نرى أنه ما انفك يوظف نفس الأسلوب في الطرح، وهذا ما نؤكد عليه بعد اطلاعنا على آخر إصداراته، وبالذات مجموعة "في مديح الربيع" (2012). لكننا، منعا للبلبلة، نؤكد أن الكاتب يتطرق في كتاباته الأخيرة إلى أحداث تتلاءم مع الزمان الحاضر، ومع قضايا تشغل جيل اليوم. فإن كان "شرف العائلة" ما انفك يشغله، وإن كانت مكانة المرأة ودورها ما زالت تؤرقه، فإن ذلك لا يعني أن الحدث الذي كان يطرحه قبل أربعة أو خمسة عقود ما زال يعود على ذاته، فزمكانية القصة تنعكس على حيثيات الحدث الرئيسي، مواصفات المكان ليست ذاتها، والأشخاص لا يحملون نفس الصورة ولا نفس طريقة التصرف، وبالتالي تتمكن القصة من جذب قارئ اليوم.

يفتتح الكاتب مجموعته "في مديح الربيع" بقصة "الشتيمة" التي تدور أحداثها في مقهى قروي شعبي- مقهى "باب الحارة"- شباب يمرحون ويضحكون وهم يشاهدون مباراة لكرة القدم لإحدى الفرق الأجنبية، يتحيز كل فرد من المشاهدين لفريقه. شعبان شاب منهمك في المشاهدة والتشجيع طلب من الحضور "هس"، فاستفز هذا الطلب الشاب الأرعن كايد أبو دبوس، وبعد حوار قصير بينهما يشتم كايد أخت شعبان شتيمة بذيئة غريبة في تركيبها ومضمونها: "يلعن كلسون أختك العفن". يطير الشرر من رأس شعبان يعدو مسرعا إلى بيته يحضر خنجرا يغرسه في صدر خصمه ابو دبوس، "وفيما كان الشرطيون يقودون الفتى شعبان مكبلا بالحديد اقترب منه أحد الشبان وقال معاتبا: فعلتها يا شعبان..

شتم أختي بسفالة..

ولكنك وحيد أبويك... لا أخ لك... ولا أخت لك... يا حمار..

صحيح. ولكن الناس لا يعرفون ذلك...

قال بصوت قريب من الهمس" (نهاية القصة، مديح الربيع، ص19)

إنها قصة واحدة من قصصه العديدة التي يسخر فيها بأسلوب مر مؤلم أشبه بما يطلق عليه المضحك المبكي، فنجح، برأينا، في تثوير المتلقي وتقبّل النقد اللاذع بسلاسة، لكونها تتناول حدثا قريبا من الواقع، بل صورة من صور العنف المستشري في أيامنا هذه، عرضها بلغة قريبة جدا من جو الحدث، منتقيا مفردات شعبية شبابية تليق بمجموعة معينة من أبناء هذا الجيل الذي "عقله في رأس أنفه"، فضلا عن اختياره أسماء تحمل دلالاتها الشفافة ليصل الهدف للمتلقين على اختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية والعلمية.

تحمل هذه القصة نقدا لاذعا لجيل كامل ينشغل بسفاسف الأمور وسخافات العصر، تُرتكب جرائم القتل وجرائم الشرف لا لأن إحداهن ارتكبت "معصية" بل لأن "كرامة الرجل" خدشت شكليا لا فعليا. إن الكاتب ينجح من خلال السخرية من تعرية شريحة من جيل اليوم التي تهب هبة رجل واحد للدفاع عن "الشرف" لأن أحد الجيران أو المعارف وجه شتيمة أو "تشقيعة"، على حد قول الراوي، فيما لا تحرك هذه الفئة ساكنا حين تكون هناك قضية تهدد وجود مجتمع وشعب بكامل مركباته.

محمد علي طه قلق مما يحدث من تغييرات وتبدلات في مفاهيم شريحة واسعة من شرائح المجتمع العربي عامة في السنوات الأخيرة، ويرى إلى الظواهر الشكلية الغادرة، وإلى انتشار الكذب بين أناس يدّعون الأخلاق، ويدْعون إلى نشرها والحفاظ عليها. هذه الفئة بات لهم مؤيدون يزداد عددهم يوما بعد يوم. لذلك لا يتردد في طرح قضايا حساسة تنال من بعض من يدّعون التدين فيعرض لقضية استغلال هؤلاء الرجال للمرأة عامة وللمستضعفات بشكل خاص. ففي قصة بعنوان "أيام العدة" (مديح الربيع، ص21) يقص علينا حكاية الأرملة الشابة التي يعرض عليها "الشيخ" الشاب "مساعدته" لكي تحافظ على أصول العدة، فيدعوها إلى عدم استعمال اللحاف لأنه ذكَرٌ واستبداله ببطانية، وألا تستعمل المفتاح كي لا يلج السكّرة. ويدعم أقواله بالعنعنة وبأبي هريرة. تتكرر زياراته، وبالتالي مواعظه وتعليماته الشيطانية ذات الإيحاءات الجنسية، حتى تجرأ واقترب منها محاولا اغتصابها وهو يستشهد بجمل معنعنة. فما كان منها إلا أن دافعت عن عرضها موجهة ضربتين؛ إلى لحيته وإلى موقع حساس من جسمه تنتهي بانتصارها وبهزيمته.

هي قصة مؤلمة طرحها الكاتب مدعومة بسخرية مرة ينال فيها من الكذبة والدجالين وتجار الأخلاق، وممن يدعون الوصاية على الغير دون رادع أخلاقي بحجج كاذبة ملفّقة. تخرج المرأة منتصرة لكرامتها من ظلم المجتمع الذكوري ومن مجتمع يخضع لبعض الدجالين الذين يتسترون بلباس الدين. يتلقى القارئ الرسالة بألم شديد رغم الهزء والسخرية، لأن الحدث بحد ذاته أكبر من أن تخفف السخرية من وطأة الألم النفسي.

قمنا بمعاينة مجموعته الأخيرة "مدرس الواقعية الاشتراكية" (2015) لنرى إلى السخرية، فوجدناها بارزة للعيان، كما لاحظنا أن القضايا الاجتماعية تأخذ حيزا واسعا من قصصه، قام بتوظيفها وعرضها بصورة مباشرة دون لف أو دوران، كما تنعكس في النص التالي من قصة "عبده الساكت": "... فهذا الزمن يُخرفِن العاقل ويُجنن الحكيم، وهذه الأرض التي نمشي عليها مملوءة بالخرافات... فلا عجب إذا شربنا الماء وأكلنا الخضار والبقول والفواكه ممزوجة مخلوطة بالخرافات والأساطير، ولا بأس إذا اختلفنا حول خطيئة أبينا آدم وأمنا حواء هل أكلا تفاحة من شجرة التفاح التي تقرش ثمارها في الفم مثل التفاح الجولانيّ أم تناولا حبات من القمح النورسيّ الأصفر مثل قمح مرج ابن عامر، أم مارسا الجنس فعوقبا بالطرد وهبطا على الأرض فوق حقولنا. وهل كان ملاك الموت يتنطنط مثل المصارع قبل الهجوم على خصمه أم كان يستعدّ للهجوم كما يستعد لاعب كرة القدم البديل على ضفاف الملعب قبل أن يسمح له الحكم بالمشاركة باللعب؟ إخوتنا المصريون يقولون "عم بسّخَّن" ونحن نقول "بتحمى". وسواء سخَّن أو تحمّى فالنتيجة واحدة". (مدرس الواقعية، 78-79)

لقد أطلنا الاقتباس عمدا كي نتمكن من تسليط الضوء على مواضيع السخرية التي ما زالت تشغل فكر الكاتب، وعلى استراتيجيات النص التي يوظفها وعلى التقنيّات التي تساهم في إبراز دور السخرية. نحن على يقين أن القارئ بحاجة للعودة إلى القصة كاملة كي يدرك بوضوح أكبر ما نرغب في إيصاله. لقد بات جليا أن الخرافات تؤرق بال الكاتب، وهو يرى مجتمعه، رغم مرور الزمن، وتحوُّل العصر وانتشار المدارس وتوسُّع رقعة الثقافة، ما انفك قسم منه غارقا حتى يافوخ رأسه في الخرافات. نلاحظ بوضوح استراتيجية إطالة القصة من خلال التنقل من حدث إلى آخر ومن خلال تداخل الحكايات من أجل خدمة التهويل والتكثيف. ولاحظنا بعض المفردات العامية أو ما يشبهها تتسرب إلى السرد. والأهم هو السرد المطعم بالهزء والتندر لتصبح القصة مجموعة دوائر متداخلة تكوّن في اجتماعها صورة ساخرة مؤلمة.

طه كاتب شغلته قضايا مجتمعه السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، تابع ما يجري عن كثب، فانعكست هذه القضايا في قصصه التي نشرها منذ خمسة عقود ونيف. له أسلوبه الخاص في رسم قصصه، وله هويته الخاصة في السخرية وطريقة بنائها. شُغل بأهم القضايا التي واجهها الشعب الفلسطيني بحيث يستطيع الدارس لقصصه أن يواكب أهم الأحداث وأن يرى تجاوب الكاتب السريع معها، فكانت السخرية وسيلته التي تعيد إليه وإلى القارئ، على حد سواء، توازنهما العاطفي.

 4-

يشهر محمد علي طه سلاح السخرية في وجه أكثر من جهة، وذلك منذ أن بدأ النشر قبل خمسة عقود ونيف فقد وظفها في مجموعاته الأولى للنيل من السلطة ورجالها، ومن المختار والأفندي، وكانت معظم قصصه وحكاياته ومقالاته تدور في جو قروي ساذج بسيط، ثم امتد نقده اللاذع ليشمل ظواهر اجتماعية تميّز العقدين الأخيرين، سواء في القرية أو المدينة.
نالت سخريته بعض الشرائح الاجتماعية التي كانت ولا تزال تغرق في وهم الخرافات والتخلف والتعصب الفكري والطائفي على أنواعه. وهي تحذير من اللجوء إلى الغيبيات التي تقود المجتمع نحو الهاوية، ونقد ذاتي للسلوك المنحرف، وتحذير من الأمراض الاجتماعية والفكرية التي تقود المجتمع نحو الانهيار.

نبعت السخرية لديه من داخل الظروف الخاصة والعامة التي مر بها الشعب الفلسطيني، وهي قادرة على التحاور مع غالبية شرائح المجتمع على اختلاف انتماءاتها لأنها تعالج القضايا اليومية، وتدعو إلى تقديم النقد لحالة عبثية ضحيتها معظم أبناء هذا الشعب، فكانت السخرية تعبيرا عن آلامهم وآمالهم، بعيدا عن الوعظ الممجوج، ومرآة لهموم الإنسان الفلسطيني منذ سبعة عقود بدءا من عهد "المخترة" والإقطاعي والفلاح، مرورا بالعربي العامل في المعامل والمصانع، وصولا إلى عهد التمدن والتكنولوجيا الحديثة.

يلجأ طه إلى أسلوب التضخيم والتهويل مثل التكرار المعنوي واللفظي، أو إطالة الحدث والاستطراد كاستراتيجية تنال من الخصم، يدعم ذلك بحكايات خيالية لتثوير القارئ وتجنيده. كما يلجأ أحيانا إلى التعليقات الثانوية بين قوسين، ليتيح المجال لراو آخر قد يبدو أكثر حياديا.
لا يغرق طه في الخيال ولا في الفانتازيا بل إنه يوظفهما من أجل خدمة الحدث البسيط المقتنص من حادثة يومية سردها أحدهم في جلسة شعبية، أو رواها صحفي في جريدة أو عبر نشرة أخبار. يصطاد الحادثة وينمقها ويزينها بكلمات وجمل قريبة من واقعها، وقد يقترب أحيانا من تخوم الفانتازيا الساخرة فيما يشبه الرسم الكاريكاتيري.

محمد علي طه كاتب غزير في إنتاجه، يمتاز بدقة الوصف، يدخل في ثنايا التفاصيل، وصفه إيحائي يبدأه من الخارج، حتى يسحبك معه فتلج وإياه إلى الداخل بسلاسة وانسياب. يعتمد في ذلك على تكثيف الأفعال في وصف الخارج المرئي ممسكا بتلابيب القارئ كي لا يفلت من عقاله، تارة بالسخرية اللماحة، وأخرى بالسخرية الجارحة، وتارة باللغة الشاعرية.

عرف عن العرب جمعهم لنوادرهم الغريبة المضحكة والهازئة والساخرة، ولنا على ذلك أمثلة عدة في المجامع العربية ولعل من أشهرها كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف" للإبشيهي. أما كاتبنا فقد برع في ذلك وله عدة قصص قصيرة يمكن أن نسميها "النوادر"، لكن لأديبنا أسلوبه الخاص والمميز. إنها نوادر فلاحية فلسطينية لها محيطها ولغتها.

لا تختلف دوافع السخرية بين مقالاته التي واظب على نشرها منذ عقود وبين قصصه التي نشرها منذ بداية مشواره الأدبي. ما شغله هنا شغله هناك، فكان إبداعه، عامة، مرآة تعكس ما يؤلم الشعب العربي الفلسطيني، فكانت السخرية أحد أسلحته القادرة على تجنيد القارئ السوبر والقارئ العادي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى