الاثنين ١٢ آب (أغسطس) ٢٠١٩
بقلم حدريوي مصطفى

النبي المجهول

تقاسيم عذبة تتنازع ُرناتِها عود، وناي، وكمان؛ وجمت لها الحساسين المقفوصة، واستكانت فوق غصن يابس لشجوها الحمامة البيضاء ، أما هو فكان يتمايل على إيقاع النغمات ويده الدربة تشج الجص إزميلا؛ غارقا بين الشدو وهائما بين ثنايا الزخارف!.

أنهى عمله، مقرنصة(1) ثُمانيّة تتعاشق أضلعها وأشعةَ شموس، ورؤوس نُجيمات؛ في وسطها كان قد زرع -سلفا- حلقةً فولاذيةً، وفي الحلقة تبّث حبلا أزرق مائيا مُنتهٍ بأنشوطة على هيئة رأس أفعى.. طرفُها؛ ترجّل عبره متأرجحا كبندول، ثم أزاح الكرسي جانبا. ومال على الحاكي (2) ورفع الشوكة، فتوقفت الموسيقى الحزينة، وارتفع شدو الحساسين، في حين صفّقت البيضاء بجناحيها وانطلقت عبر النافذة المشرعة تشق الفضاء، تروم استرواحا...

تأمل العمل لحظة وغادر الورشة، ثم خرج بعد أن أخذ زينته قاصدا منتدى الشباب حيث سيقرأ بعضا من قصائد ديوانه الجديد؛ لم يستقلّ سيارته، بل آثر أن تكون رحلته عبر الحافلة، لعل استئناسه بالناس يجلي عنه بعضا من الكآبة والاستوحاش.لكن الطريق المرصوف على شاكلة ظهر سلحفاة خضخض ما بين بطنه فاعتراه غثيان، فقرر أن يتمم الرحلة ماشيا.

على الرصيف سلاسل مقاه ملأى حدّ التخمة اغتصبت كراسيها حق الراجلين، فباتوا يتقاسمون مع أرْتال السيارات وكوكبات الدرجات الشارع الرئيس، اندمج معهم على مضض وشق طريقه نحو غايته يخاتل ذا ويتجنب تلك.

من حيث لا يدري سدّت سيدة ثلاثينية الطريق في وجهه، حاول تفاديها لكنها حاصرته وهمست في أذنه بكل جرأة:

ـ هيا بنا يا جميل ! لن أخذلك، ولن تندم إن طاوعتني، حتى الثمن قد أتساهل معك فيه!.
تأملها جيدا، فألفاها جميلة جدا، رغم مُسحة الحزن التي تسور عينيها العسليتين، طمع في سبر خفاياها فوقعت عيناه على صدر نصف عار كريم تتقافز على بشرته البضة فواتير ماء وكهرباء و أقساط دين وقيمة إيجار وأتعاب ساعات إضافية لطفل صعب المراس..
تأسى لحالها فأخرج ورقة من فئة كذا درهم ودسها في يدها وقال لها بكل لباقة:

ـ عفوا سيدتي إني ـ شيئا ماـ ملتزم فاعذريني.

لم يك ردها محمودا ! بل ثارت في وجهه وقالت:

ـ أنا لست متسولة من فضلك يا...هذا، إن لي كرامة، وعزة نفس يا سيدي، عليك أن تحترمني.

تبسم قليلا ورد بكل رقة وأدب:

ـ حاولي ان تتخيلي أنّا قمنا بالعملية للتبرير وتسويغ أحقيتك في الأجر.

وهي غضبى حاولت رد النقود إليه، لكنها تراجعت ـ ربما ـ لما عرفت قيمة الورقة النقدية، واكتفت بابتسامة عريضة وهمسة: (لعلك شاعر ؟ لا.. لا أنت شاعر...)

تركها خلفه ومضى بيد أن رجله تشابكت مع أحدٍ خلفه، استدار فوجد شابا غاضبا يلومه ويقول له:

ـ ألا تنتبه ياهذا؟

غاضبا رد عليه:

ـ ولكن... أنا أمامك... أنت من يجب ان يُلام ولست أنا!

جنّ الشاب جنونا عبر عنه بمهاجمته، لكنه راوغه و عالجه بضربة قوية أوقعته أرضا.

اجتمع حوله حشد من الناس ، فما شعر إلا وهو يخرج ديوانه ويشرع في تمزيقه ورقة، ورقة، وينشد عائدا من حيث أتى:

ما القصيدة؟ إذا لم ترسم خطا مستقيما، وتعصر من الريحان طيبا.

ما القصيدة؟ إذا لم تعجن من الحروف خبزا، وتصنع للعاري خفا وبيتا

ما القصيدة؟ ما القصيدة إلا هراء إن كانت لا ترحم ولا تُطعِم...

باندهاش لاحقه الناس بنظراتهم حتى ابتلعه الزحام.

لما وصل البيت استرد شيئا من هدوء مكنه من فتح الباب بدون نرفزة وجعله ـ أيضا ـ يعتلي الكرسي ويضع رأسه في الأنشوطة ثم يدفع بنفسه في الفراغ لينعقد الحبل على رقبته، لكن ألما مبرحا ألم بركبته أشعره بفشل العملية وازداد يقينا حين لمح أثر سكين على الحبل وسمع صوتا مألوفا لديه يقول:

ـ لست السيد (3)، ولا يونان (4) لتتحمل كبائر وصغائر هذا العالم يا ولدي!.

1- تجويف زخرفي من الجص

2- قارئ الاستطوانات القديم

3و4 على التوالي المسيح وذي النون (يونس)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى