الخميس ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم رياض كامل

عالم محمد علي طه الأدبي

قام الأديب محمد علي طه، مع فئة قليلة من الطلائعيين، بدور ريادي في حمل عبء القصة القصيرة الفلسطينية، قبل أن ينتقل إلى عالم الرواية والمسرح وقصص الأطفال. حرص في كتاباته على تصوير واقع الإنسان العربيّ في هذه البلاد، منذ النكبة والهجرة، مرورا بالحروب العربية الإسرائيلية، وتوقف عند الصراع الفلسطينيّ-الإسرائيليّ والحق التاريخي في هذه الأرض، التي لم تشهد بعد حالة من الهدوء والاستقرار تسمح للفكر أن يسترخي. فالصراع متواصل، والقتل متواصل، وكذلك الهجرة والتهجير ما زالا متواصلين. أما القلق والخوف من الآتي فيراودان فكر الإنسان الفلسطيني، وهو يرى أن قضيّته ليست مجرد خلاف فكري فحسب، بل هي قضية أن تكون أو لا تكون.

هُجّرت العائلة من بلدتها "ميعار" عام النكبة، وكان حينها في السابعة من عمره، ووصلت إلى لبنان، شأنها شأن الكثير من المهجّرين، ثم "حالفها الحظ" وعادت إلى الوطن، لتكتشف أنّ قريتها قد أصبحت مكانا محظورا عليها دخولها. تنقّل الطفل مع أفراد عائلته تنقلا قسريا بين مناطق عدة في الجليل؛ جبالها وسهولها وقراها، حتى استقرّ به المُقام في قرية كابول التي ما زال يعيش فيها هناك مع عائلته؛ زوجته، أبنائه وأحفاده. كان لهذه التجربة القاسية انعكاس واضح المعالم على مجمل إبداعه الفكريّ، في القصة والمسرحية والرواية والمقالة.

لا نستطيع أن ندخل عالم محمد علي طه الأدبي قبل أن نشير إلى العلاقة الحميمة التي تربطه بمسقط رأسه، ميعار، فما زال وجدانه يعيش فيها وتعيش فيه، رغم مرور السنين. تتحرك في قصصه، وفي مجمل إبداعاته، شخصيات ميعارية قد نراها، وقد نسمع صدى صوتها ينبعث هنا وهناك. وعلى ما يبدو فإنها لن تفارقه حتى آخر يوم في حياته، فخصّص لها روايته الوحيدة "سيرة بني بلوط" (2004). ينتقل في قصصه بين قرى ومدن عدة، مثل حيفا، الناصرة وشفاعمرو، ويصل إلى قرى الضفة الغربية ومدنها وإلى قطاع غزة. لكنّه حين يصف أي مكان فإن قرية ميعار تطل علينا رافعة رأسها من بين السطور وكأنها هاجسه الوحيد الذي لا يبرحه.
كانت هذه البلاد، ولا تزال، تئنّ تحت وطأة صراعات حادة، فقد وقعت تحت الحكم العثماني مدة أربعة قرون كاملة، ثم كانت الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، واتفاقية سايكس بيكو (1916)، ووعد بلفور (1917)، وتقسيم الوطن العربي إلى مناطق نفوذ غربية. وكان من "نصيب" فلسطين أن تقع تحت حكم الانتداب البريطاني مدة ثلاثة عقود، تغيرت خلالها الأوضاع وانقلبت رأسا على عقب، وتحوّلت المنطقة إلى بؤرة صراع حاد، ومواجهات عسكرية كانت نتائجها خسارات وانهزامات عربية، ضحيتها الأولى الإنسان العربي الفلسطيني، الذي فقد أرضه وبيته. وباتت غالبية هذا الشعب مشرّدة في دول عربية تمتد من المحيط إلى الخليج، فكان من الطبيعي أن تجد هذه الأحداث لها انعكاسا في الأدب الفلسطيني على اختلاف أنواعه؛ شعرا ونثرا. إنّ عملية فقدان الإنسان بيته هي التجربة الأقسى التي قد يتعرض لها أي إنسان على وجه الكرة الأرضية.

نشهد في كتاباته شبه توثيق لأهم المحطات السياسية والاجتماعية والفكرية التي مرت بها المنطقة في العقود الأخيرة. كما يلاحظ الباحث أنّ معظم شخوص أعماله الأدبية التي تدور أحداثها بين العقد الرابع من القرن العشرين حتى نهاية العقد السابع منه، كان معظمهم من الفلاحين، تقودهم وتسيطر على مصادر عيشهم مخاتير قامت السلطة بتعيينهم، يعملون بدافع المصلحة الخاصة، متناسين المصلحة العامة. أخذ عدد الفلاحين يتناقص، بشكل تدريجيّ، نتيجة مصادرة الأراضي وإقامة مستوطنات يهودية عليها، حتى حلّ بدلهم العامل في المدينة، وفي التجمعات السكانية اليهودية، وظهرت بعض الشخصيات المثقفة التي ازداد عددها تدريجيا بعد العقد السابع من القرن المنصرم.

نشر الأديب محمد علي طه حتى الآن اثنتي عشرة مجموعة قصصية، ابتداء من "لكي تشرق الشمس" (1964) وانتهاء بمجموعة "مدرّس الواقعية السحرية" (2015)، فضلا عن رواية واحدة هي "سيرة بني بلوط"، وسيرة ذاتية نشرها مؤخرا هي كتاب "نوم الغزلان" (2017)، وإحدى عشرة قصة مخصصة للأطفال، وخمس مسرحيات. كما يواظب على نشر مقالاته في مواضيع اجتماعية، سياسية، ثقافية وتربوية، في مواقع ورقية والكترونية. أدرك منذ بداية تفتحه الأدبي أن الوعي الاجتماعي لا ينفصل عن الوعي السياسي، فوظّف عددا لا بأس به من قصصه حول موضوع المرأة. وقد شهدنا تكثيفا ملحوظا لصالحها في المجموعتين الأخيرتين: "في مديح الربيع" (2012)، و"مدرّس الواقعية السحرية"، بعد أن دارت معظم قصصه، في المجموعات السابقة، في فلك الأرض والقرية.

يبدو لنا أنّ التراجع الفكريّ والاجتماعيّ والسياسيّ يؤرّق كاتبنا، وهو العالِم بأنّ التحرّر السياسيّ لن يتأتّى بمعزل عن التحرّر الفكريّ، ودون حصول المرأة على حقوقها الإنسانية، كما يليق بها. وهو مؤمن أنّ التنوّر الفكريّ سلاح يجب أن يُشهر في وجه الجهل والتجهيل. جنّد قلمه وقصصه لمحاربة تجّار الأرض ومقارعة الظلم، وحارب من أجل الحصول على الحقوق السياسية والقومية للأقلية العربية في البلاد. وأشهر قلمه في وجه تجار الدين الذين يستغلون مواقعهم ووظائفهم للنيل من المرأة وتقييد حريتها، متنكرين بزيّ التقوى والورع.
كاتبنا قلق مما يمر به الشرق العربي في السنوات الأخيرة، بالذات من عودة الفكر المتزمّت إلى الواجهة، فأخذنا نرى حضورا لافتا في كتاباته للقضايا الفكريّة والاجتماعيّة، وخصوصا للمرأة التي تخرج من البيت إلى العمل مواجهةً صعوبات جمّة وتحديات كبيرة، إذ ليس صدفة تصدّيه للاعتداءات على حريتها تحت مسميات كاذبة لا تمتّ إلى الأخلاق بصلة. فسعى، قاصدا متقصّدا، إلى إبراز دورها في دفع مسيرة الشعب العربي الفلسطيني؛ فكريا، اجتماعيا وسياسيا، عالما أنّ هناك منهجية مقصودة للنيل منها، والانتقاص من دورها الذي يجب ألّا يقتصر، برأيه، على الدور التقليديّ الذي يحصرها في حيّز البيت دون غيره. فنسب لها أدوارا هامة في مجالات عدة؛ فهي الفلاحة، القرويّة، الكادحة، المحبة والمعطاء، وهي المرأة التي تستأسد في الدفاع عن أبنائها في وجه الجنود، دون خوف أو وجل، وهي الضحية التي يعتدى عليها لمجرد كونها أنثى.

قارئ الأديب محمد علي طه يشمّ في إبداعه رائحة قرانا: ترابها ونبتها، يتعربش أشجارها، يركض في حواريها وأزقتها، يقطف ثمارها، يحصد قمحها وشعيرها، ويسافر راكبا نورج الدراسة إلى بلاد الأحلام. نلتقي في قصصه بشخوص يحملون من عاداتها وتقاليدها حب الأرض والجيرة الطيبة، فيها صورة الفلاح والعامل العائد أدراجه مساء. وفيها نساء يجتمعن حول فنجان شاي يتبادلن أخبار القرية وحاراتها.

إنّ هاجس القرى المهجرة يسير إلى جوار الأدباء الفلسطينيين كظلهم لا يبرحهم لأنها سُرقت من واقعهم ومن حلمهم، فحفظوها في الذاكرة، وما انفكت جرحا نازفا يتكرر في العديد من الإبداعات الفنية على اختلافها. هذه القرى موتيف متكرر في الأدب الفلسطيني يأبى الأدباء أن تفرّ من بين أصابعهم كما يفرّ العصفور، فطعّموا بها أدبهم وسردهم ونصوصهم الأدبية شعرا ونثرا ومسرحا.

يتنقّل محمد علي طه في كتاباته بين أمكنة عدة إلا أن عالم القرية يبقى الغالب على معظم ما كتب، ومهما حاول أن يتمسك بتلابيب المدينة، خاصة حيفا، التي يتكرّر فضاؤها في عدد لا بأس به من قصصه، إلا أننا لا نرى عالم المدينة بشوارعها وعاداتها وتقاليدها ومصانعها وشوارعها العريضة الواسعة، ولا صراعاتها الطبقية البرجوازية بمفهومها الواسع. فعالمه هو عالم الفلاح والقرية والعامل والمدرّس والجيران والمقاهي القروية.

يمتد عالمه الأدبي على مساحة زمنية واسعة، كما ذكرنا، بدءا من ثورة 1936 (سيرة بني بلوط) فالنكبة وما بعدها، ثم النكسة وما تلاها من أبعاد، والانتفاضة الأولى والثانية، وأحداث الربيع العربي، وخريفه الأخير. أبطاله يبيعون المناقيش في تل الزعتر وفي مخيمات اللاجئين، وفي مخيمات غزة والضفة، وأطفال يقارعون المحتلّ بالحجر والمقلاع. عالم متشابه في عاداته، تقاليده، فضائه، محيطه، مأكله، ملبسه، نباته، أشجاره، أزقته، حواريه، لغته الفلاحية، نوادره وحكاياته في السراء والضراء.

لقد اختار السخرية وسيلة للتعبير في معظم إبداعه الأدبي، تلك الوسيلة التي لجأ إليها الكتاب والرسامون والنحاتون والشعراء، في الشرق والغرب، منذ العصر اليوناني فالروماني، مرورا بالأدب العربي القديم والحديث والمعاصر، تُوظّف خدمةً للمشاعر الإنسانية، وتعبيرا عن الضيم اللاحق ببني البشر، وهي إحدى الوسائل المتكررة في الأدب الفلسطيني شعرا ونثرا ومسرحا ومقالة.

تفرض السخرية على المؤلف أن يتزوّد بحسّ مرهف، وبمهارات عدة في الحبك والبناء، وبغنى في اللغة لكي يتمكن من أسر القارئ، يوظفها طه عبر وسائل وطرق عدة، كالمبالغة في التصوير الذي يصل حد الرسم الكاريكاتيري، يقض بها مضاجع الخصوم فيتحولون إلى دمى هزيلة تشفي غليل القارئ، فتبتسم وتضحك وتقهقه. وهو هازئ بارع، ووصّاف ماهر لأدق التفاصيل. كما يستطرد ويطنب في الشرح والتعليل والوصف حتى تنضج المفاجأة الساخرة. في كتاباته حكايات حول نوادر أبناء شعبنا، على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والطائفية؛ مسلمين ودروزا ومسيحيين.

يأخذ طه القارئ إلى عوالم عدة مثل عالم الشباب- وقد تجاوز العقد السابع من عمره- ينتقد طيشهم وفهمهم الخاص للحياة، كما أنه يدخل عالمهم الجميل فتراه ملما بالأغاني الحديثة التي تشغلهم. ويحلّق في عالم كرة القدم مستعرضا أسماء فرق عالمية ولاعبين ماهرين، ينبري للدفاع عن لاعب أو مدرب، أو انتقاده وتقريعه.

لم يتقيد طه في كتاباته بالمواضيع السياسية بل تعدى ذلك إلى القضايا الاجتماعية التي تؤرّق حياة المواطن العربي. فقد تناول في قصصه ومقالاته أهم المواضيع اليومية التي تشغل الناس وتقلقهم مثل قضية "شرف العائلة"، والعنف الذي يقضّ مضاجعهم في بيوتهم وفي أماكن عملهم. إني لأرى أنّ خوض الكاتب في مثل هذه المواضيع هو إنجاز آخر يضاف إلى عديد إنجازاته في مواضيع عدة.

تجاوبت لغة الكاتب مع البيئة ومع المحيط. وهي لغة غنية بمفرداتها الفصحى، العامية، الشعبية، المفصّحة والمعمّمَة والمنحوتة. وفيها مزيج من مستويات لغوية عدة: لغة السرد التصويرية، اللغة الشاعريّة، اللغة القريبة من العامية التي تصور الحدث في طيشه ورعونته، أغان وأمثال شعبية. يتحدث شخوص قصصه بلغتهم، لا بلغة الكاتب، فهناك لغة الشباب الطائشين، لغة العقلاء، لغة الأم، لغة الفلاح، لغة المخاتير، لغة رجال السياسة، لغة "أيام زمان"، بمرها وحلوها، ولغة "أولاد اليوم"، وفيها لغة الرجال الحكماء والبسطاء، إلى جوار اللغة النسوية على اختلاف مستوياتها. كل ذلك وفق رؤية تخدم لعبة "الإيهام بالواقع". وكأنه يلتزم بما نادى به المنظرون من أمثال ميخائيل باختين وبيير زيما اللذين قالا إن اللغة ترتبط بالزمكانية برباط عضويّ من الصعب فصلهما عن بعضهما البعض. فالزمكانية تفرض على الكاتب أن يلائم اللغة لهذا المركّب الفنيّ الأدبي الهام. وهما اللذان رأيا أن هناك لغة للمثقفين، ولغة للنجارين، وأخرى للحدادين والحلاقين وغيرهم. وذهبا أبعد من ذلك حين قالا إن هناك لغة للصباح والظهيرة والمساء. وعليه فإنا نؤكد أن لغة محمد علي طه الأدبية هي لغة غنية في مفرداتها وفي ألفاظها وصورها وتشبيهاتها. وهو القادر على خلق صلة قرابة بين الشخوص ولغتهم على اختلاف انتماءاتهم الزمانية والمكانية والفكرية والثقافية.

كان من الطبيعي أن تتجاوب لغة النص، سردا ووصفا مع المحيط الاجتماعي لتعكس طبيعة حياة الناس بما يتناسب مع مواقعها الاجتماعية السياسية والفكرية. نراها لصيقة بالأرض حين يكون فضاء النص فضاء قرويا فلاحيا، وتأخذ منحى جديدا مع تغيير الواقع الثقافي والسياسي للإنسان الفلسطيني في بلادنا، فتتجاوب مع ارتفاع نسبة المثقفين والمتعلمين، وانتقالهم إلى عالم التكنولوجيا الحديثة بكل أبعادها.

يطعم محمد علي طه كتاباته بالمثاقفة، ويغنيها بالتناص، معتمدا على رصيده من الثقافة الإسلامية والمسيحية واليهودية، والعالمية التي اكتسبها من خلال قراءاته أهمَّ الروايات المترجمة إلى اللغة العربية، فضلا عن الميثولوجيا، وأساطير الشعوب المختلفة. مثل هذا الأسلوب قد يحدّ من رقعة القراء، لكنّ طه عرف كيف يجندهم، فحافظ على مسافة متساوية من القارئ العادي والقارئ النموذجي. يتجاوب القارئ العادي مع المضمون العام للقطعة الأدبية، أما صاحب الثقافة الأوسع فينظر إليها من أكثر من جانب. فإن تحدث المنظرون العرب عن "المعنى" و"معنى المعنى"، فلنقل إنّ بعضهم قد يكتفي بالمعنى وبعضهم سوف يتعدى ذلك إلى معنى المعنى. وقد يأخذ القارئُ النموذجي والناقدُ المتخصصُ النصَّ إلى حقول السيميائية للغوص في دلالاته وأبعاده.

في مقالة له بعنوان "أللهمّ بدّد أرقي وأزل قلقي" (موقع الجبهة 23.9.2018) نراه يلجأ إلى العهد الجديد وحكاية السيد المسيح مع تلميذه يهوذا الإسخريوطي الذي باع معلمه بثلاثين من الفضة. إن هذا التناص لن يثني القارئ العادي عن متابعة القراءة لأن النص العام، في مجموعه، قادر على تجنيد جميع القراء، على اختلاف مشاربهم واختلاف ثقافاتهم، وبالتالي يصل المثال المأخوذ من المصدر المسيحي إلى كل قارئ عربي لأنه سيفهم الدلالة من خلال السياق العام.

يتكرر ذلك في العديد من المواقع، كما في مقالته "ليست مرثية"، (موقع الجبهة، 16.9.2018) يستشهد فيها بحكاية مشهورة جدا في التراث المسيحي حول "قيامة أليعازر من بين الأموات" و"سبت النور". تحمل هذه المقالة الكثير من مميزات كتابات محمد علي طه في مقالاته وقصصه، ففي المقالة سخرية مؤلمة مُطعّمة بتناص كثيف من التراث الإسلامي والمسيحي واليهودي معا، وفيها توظيف للعادات العربية الفلسطينية في تقديم التعازي. إن هذا التكثيف في توظيف التناص، وفي تكرار أسلوب النفي الذي افتتح به المقالة وتفصيح العامية كلها وسائل تساهم في إغناء النص.

يسعى طه إلى تجنيد أكبر عدد ممكن من القراء، يتطلب ذلك مهارة خاصة في توظيف لغة تتحاشى الإثقال على القارئ العادي، مع الحفاظ على جمالياتها، بحيث يمكنها أن تتحاور مع القارئ العادي، ومع القارئ "السوبر" في آن معا. فهو حين يوظف بعض التعابير العامية أو القريبة منها فإنه يطرحها في سياق فكري قابل للانفلاش والتشظي، بحيث تتقبلها شرائح مختلفة فيأخذ القارئ من النص ما يتماثل مع فكره ورؤيته.

تمكن الأديب المبدع محمد علي طه، بعد هذه التجربة الطويلة والغنية، من خلق عالم أدبي متميز ومتفرّد به. فهو قارئ للأدب العربي القديم والحديث، عالم بالسير العربية والملاحم اليونانية والرومانية، قارئ للروايات الأوروبية الشرقية والغربية، مطّلع على قصص وروايات أمريكا اللاتينية، غنيّ في ثقافته الدينية، بدءا من القرآن الكريم مرورا بالعهد القديم فالعهد الجديد، وقارئ للميثولوجية العالمية، حافظ نوادرنا، وحكاياتنا الصغيرة والكبيرة، يجمعها ويلملم خيوطها في ذاكرته ويوظفها كلها لتحمل ختمه وهويته الخاصة.

عالم محمد علي طه الأبرز هو عالم القرية العربية الفلسطينية، بفضائها الواسع، من أزقة وشوارع وحارات، ومن مأكل وملبس ومشرب، ومن طيور ونبات وحيوان. تتجلى في إبداعاته عادات القرية وتقاليدها في السراء والضراء. تعكس كتاباته هوية الإنسان الفلسطيني الذي عارك وكافح من أجل البقاء فوق تراب أرضه. عرض كل ذلك من خلال لغة خاصة تحمل مواصفات الإنسان الفلسطيني الجليليّ.

لم يتوقف الأديب محمد علي طه عن الكتابة والإبداع والتجديد في يوم من الأيام. بدأ كاتب قصة قصيرة، وتمكن خلال فترة قصيرة أن يضع بصمته الخاصة، وأن يأخذ القصة، مع قلة من الكتاب الفلسطينيين إلى مواقع متقدمة. يداوم على نشر مقالة أسبوعية في أكثر من موقع، كتب قصصا للأطفال، وساهم في المسرح من خلال مجموعة من المسرحيات التي عرضت على أكثر من مسرح، أهمها برأينا وأكثرها نجاحا وانتشارا هي مسرحية "إضراب مفتوح". كما نشر روايته الأولى، ويعد لنشر الثانية قريبا، وكتب جزءا من سيرته الذاتية. يواكب العصر ويتابع آخر المستجدات ويجدد لا في المواضيع فحسب، بل في توظيف تقنيّات السرد الحداثية في قصصه الأخيرة. وهو كاتب يسعى وراء التجديد والتجدد. سار في إثر الواقعية الاشتراكية حين كانت مذهب التقدميين الذين يكتبون من أجل العامل والفلاح والكادح، وانتقل إلى الحداثة دون تردد، يوظف تقنيات رواية تيار الوعي، والميتاقص، ويلامس أطراف الواقعية السحرية، لكنّه وهو يغوص في الحديث موضوعا وفكرة، يتشبث بالقديم نكهة، وكأنه يمزج بين القديم والحديث في قالب يحمل ختمه وهويته الخاصين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى