الأحد ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩
بقلم إسراء أبو زيد

حُبِّي وذِكرياتي الجزء الثاني

المُعاقب

وفي صباح أحد الأيّام حدَّثَتْني عائشة المُمرِّضة عن أخبار سارة وهي تُمكِّن ضابطًا شابًّا مِن إلقاء القبض على تُجّار أسلحة ومُخدّرات لم يتمكَّن أحد مِن قبله فعلها، وهو عمل بطوليّ ولكنّه ضابط مُتهوِّر على حدِّ وصفها, وأخبَرَتني بقلق أنّ أفراد العصابة لن يتركُوه حيًّا واحتمال كبير أنْ يبيت ليلته بالقبر, لن يتركوه حيًّا، هيبة العائلات والتجّار هنا لها قدسيّتها.

ابتسمتُ لها قائلًا في لا مبالاة، بالنهاية الأمر لا يعنيني: ربّنا يستر.
وفي المساء وبطريق الخزّان الحدوديّ بين سوهاج وقنا تمّ إطلاق النار على الضابط أثناء مروره بالكمين الخاصّ بتلك المنطقة, وراح ضحيّتها على الفور.
لم يتركوه حيًّا… لم يتركوه حيًّا، هكذا أفزعتني عائشة بطرقها باب منزلي الساعة التاسعة مساءً, فهرعْتُ معها على الفور في محاولة منِّي لفعل أيّ شيء لإنقاذه… ولكنْ نفد الأمر
لا أذكر متى غفيَتْ جفوني بتلك الليلة الليلاء, سواد طويل كئيب مُمِلّ, ظلَّتِ الأفكار تُداعب رأسي وكأنِّي مَن قُتل… لم تُسعفْني الكلمات وسبقتني دموعي.

كان فاروق البيك منقولًا حديثًا للعمل بتلك المنطقة, عريس جديد وينتظر مولودًا, حمَلَتْه زوجتُه جثّةً هامدةً وعادتْ به إلى الشمال إلى الإسكندريّة حيث مراسم الدفن… زوجة مِن فولاذ.
وظلَّ الحادث حديثَ أهل البلد لأيّام، أحداث دار السلام التي راحَ ضحيَّتها ضابط شابٌّ يُدعى فاروق البيك, البعض يروي أنّه بطل وآخرون يذكرون أنّه كانَ مُتهوِّرًا, وسمعتُ أنّه قبضَ على الكثير مِن الأسلحة وتمَّ القبض على الجناة, ولكنّ عائشة تقول إنَّ الفاعل الحقيقيّ هنا ينجو، دائمًا هناك كبش فدى, فبهذا المكان قوانين خاصّة على الغرباء احترامها… يبدو أنّها ستكون إقامة غير مُمتعة.
كنتُ أتوقَّع أنَّني أحيا حياة بئيسة مِن حيث أتيت, كنت أتخيَّل أنَّ لديّ الكثير من المشاكل ولكنْ بالنسبة للحياة هنا, فأنا لستُ بمشكلة, عليّ أنْ أعود أدراجي، أنا لا أنتمي لهنا.
بدأتُ أُفكِّر بطلب النقل والعودة مرّة أخرى للقاهرة, عليَّ أنْ أواجه مشاكلي، الهروب ليس الحلّ. فكلام أمّي وخناقاتها التي لا تنتهي معي أكثر، أُمُّنا بالتأكيد.
لم أتملّك الشجاعة الكافية لتقديم طلب نقل والعودة للقاهرة كأنَّ هناك شيئًا أصبح يربِطُني بالمكان, ومعَ ذلك ظلَّ الطلب بحقيبتي, كنتُ أُدرك أنّي يومًا ما سأقدّمه.
مرّ شهرانِ الآن على وُجودي بتلك البلدة وأنا أعدّ الأيّام التي سأعود بها أدراجي إلى موطني حيث الحياة الحقيقيّة, فالمكان لا حياة به خاصّة للنساء وأستعجب لماذا يعيش البعض أسرى لعادتهم وتقاليدهم؟!

ولكنْ في النهاية هي حياتهم الخاصّة, ومعَ ذلك كنتُ أحترم تلك العادات والتقاليد وتمسُّكهم بها فمَن يفعل ذلك بوقتنا هذا؟! خاصّة بالألفيّة الجديدة, لم أسْعَ لتغيير أيّ شيء أو تقديم أيّ نصائح، كما أنّي كنتُ أعدْتُ قائمة بمُذكّرتي الخاصّة بالأماكن التي سأقوم بزيارتها، ولكنْ شغلني العمل ولم أستشعر الأمان للخروج وحيدة, بالإضافة لذلك لم أزُرِ القاهرة خلال تلك المُدّة، كانتْ قائمتي السياحيّة معبد رمسيس الثاني بأخميم, معبد أبيدوس بالبلينا, ميريت آمون – أخميم, مسجد العارف بالله، المسجد الصينيّ بجرجا, مسجد الفرشوطي, الجبل الغربيّ بجهينة, مسجد القطب.
بالإضافة إلى الأديرة القبطيّة (دير الأنبا شنودة رئيس المتوحّدين بالجبل الغربيّ بأبقريّة أولاد عزاز الشهير بالدير الأبيض نسبة لبنائه بالطوب الأبيض وهو الذي بناه الأنبا شنودة ومَن معه من رهبان).

ويقع بعده بمسافة ثلاثة كيلومترات -تقريبًا- دير الأنبا بيشاي، والأنبا بيجول الشهير بالدير الأحمر نسبة لبنائه بالطوب الأحمر وهو الذي بَنَتْه الملكة هيلانة والدة الملك قسطنطين، والجبل الشرقيّ فيضمُّ عددًا كبيرًا مِن الأديرة -على سبيل المثال لا الحصر- أديرة أخميم: دير الملاك- دير العذراء- دير الشهداء.

ولكنّ سوهاج أصابتْني بالإحباط، ليستْ كما توقَّعْتها، فهي أكثر المحافظات المصريّة فقرًا وأكثرها طردًا للسُّكّان… خدعَنِي جوجل, لم تكنْ تنقصني كآبة المكان وكما أخبرتُكم سابقًا كان جوجل صديقي الوحيد حيث إنِّي فتاة بيتوتيّة لم أُغادر كنف عائلتي إلّا للزواج, ولم تَرُقْ لي حياتي بعد الزواج… كانَ هناك شيء دائمًا ينقصني لا أدري ما هو؟ رُبّما الحُبُّ لا أدري.
يتبع…

المُعاقب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى