الاثنين ١١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩
بقلم إسراء أبو زيد

فادية وجلال

لم أَكُنِ الوحيد الذي أَحَبَّها، فقد لَفَتَتْ نظر الجميع، بابتسامَتِها ووجهها المُشرق، ورشاقَتِها وخِفَّةِ ظِلِّها، كانَتْ كلوديا كاردينالي الجامعة.

أَتَذَكَّرُ ذلك بعد زواجٍ دامَ (45) عامًا… الأيّام تَمْضِي مُتعاقِبةً وَنَهْرُ الحُبِّ جارٍ، فما زالَتْ شابَّةً وجميلة، الزمنُ يَجْرِي ولكنْ لم يُغَيِّرْنا… لِخُطُوطِ الزمن بِوَجْهِها ذِكرياتٌ وحِكاياتٌ تَجْمَعُنا.

أَشْرُدُ بِذاكرتي وأنا أَتَأَمَّلُها وهي عجوز نائمةٌ بِجِواري، بانتظار أنْ تُوقِظَني كعادَتِها بعد مُنتصف الليل لأتذكَّرَ.

فادية الفِلَسطينيَّة الجميلة التي أَتَتْ مِصْرَ لِدراسة عِلْمِ النفس وهي مِن أُسْرَةٍ ذاتِ أُصُول عَريقة، فوالِدُها طبيبٌ عالَجَ الكثيرينَ مِنَ الشخصيّات العامَّة في الوطن العربيّ.

كانَتْ فتاةً مَرِحَةً قَوِيَّةً، وَقَعْتُ بِحُبِّها مِن أوَّلِ نظرةٍ ولكنِّي ما قَدِرْتُ على الاقترابِ مِنْها والاعتراف لها بِحُبِّي، فقد كانَتْ مَحَطَّ إعجابٍ للجميع، فَأَحَبَّها دُكتورٌ في الجامعة يَكْبُرُها بخمسةَ عشر عامًا، وشابٌّ آخرُ مُعِيدٌ، وطالِبٌ صديقٌ لنا.

وكُنْتُ على عِلْمٍ بِمُعْجَبِيها ولكنِّي لم أَمْنَعْ نَفسي مِنَ الوُقُوع في حُبِّها، أو حتّى التفكير بها يومًا ما.

مَرَّتِ الأيّامُ بطيئةً وَقَرَّرْتُ أنْ أَصِلَ إلَيْها بطريقٍ آخر، اقْتَرَبْتُ مِن صَديقتها المُقَرَّبة وَعَرَفْتُ عن فادية الكثير. كُنْتُ أَعْتَبِرُ أنَّ الحُبَّ مُغامَرةً، وفادية كانَتْ مُغامَرَتي المنشودة.

أَتَذَكَّرُ ذلك اليوم الذي تَجَرَّأْتُ فيه وأَخْبَرْتُ صديقَتَها أنِّي أُحِبُّ فادية وأَتَرَجّاها ألّا تُخْبِرَها.
عَلِمَتْ فادية بِحُبِّي لها، وَبَدَأَتْ قِصَّةُ حُبِّنا… لم أُحَقِّقْ أيضًا مزيدًا مِن النّجاحات في الدراسة فَرَسَبْتُ وَتَرَكْتُ كُلِيَّةَ الاقتصاد والعلوم السياسيَّة والْتَحَقْتُ بكُليَّةِ التجارة ولم أُحَقِّقْ نجاحًا بها أَيضًا.

كُنْتُ أُحِبُّ النُّكَتَ والمُزاح كثيرًا كي أَجْذِبَ المزيدَ مِن المُعْجَبات، مُعجبات فقط فادية هي مَن كانَتْ بالقلب.. فادية فقط… فطلبَ مِنِّي أنْ أَشْتَغِلَ مُذِيعًا وَعَمِلْتُ وَحَقَّقْتُ نجاحاتٍ، لم أُقَدِّمْ لأيِّ وظيفةٍ، فقط القدر دَفَعَنِي للنجاح، وتزوَّجْنا بعد أنْ أنْهَيْتُ خِدمتي بالجيش، رغمًا عنْ والدها الذي تَبَرَّأَ مِنْها, واعْتَبَرَنِي شابًّا فاشلًا؛ لِكَوْنِي لم أَحْصَلْ على شهادة جامعيَّة.

كُنْتُ أَعْتَبِرُ نفسي مُغامِرًا كوني حَظِيتُ بفادية ولكنَّها كانَتْ مُغامِرَةً أكثرَ مِنِّي، دَفَعَتْنِي فادية إلى الجامعة مرَّةً أخرى حتّى يَرْضى عَنّا والِدُ فادية، فاسْتَقَرَّ بي الحال بكليِّةِ الآداب قسم اللغة الإنجليزيّة. وَحَصَلْتُ على منحة للدراسة في الخارج.

وَظَلَّتِ الحياةُ تَدْفَعُنِي لمزيد مِنَ النجاح وَرُزِقْنا بابْنَتَيْنِ، وَنِلْنا رضا والِد فادية الذي أَحَبَّنِي بعدَها وَشَكَرَها على حُسنِ اختيارها.

تَسْتَيْقِظُ فادية مِن نَوْمِها في موعدِها الثابت الثالثةَ بعدَ مُنتصفِ الليل لِتُوقِظَني مِن شُرُودي وأنا أَتَأَمَّلُها قائلةً: حَبيبي أنت صاحٍ؟ حبيبي؟؟

أَنْتَبِهُ لها: نعم يا فادية؟

فادية: أنتَ عطشانُ يا جلال؟

أَتَأَمَّلُ جمالَ وَجْهِها وأَبْتَسِمُ لها قائِلًا: حاضِر.

أَنْهَضُ مُسْرِعًا مُتوجِّهًا إلى المطبخ لأُحْضِرَ لها كوبَ الماء، دائمًا تُوقِظُنِي لِتَسْألَنِي السؤالَ نفسَه بعدَ مُنتصَفِ الليل أُدَنْدِنُ أُغنيتي عباد الشمس سيلا وتذكَّرْتُ كيفَ ساعَدَتْنِي فادية في تَأْلِيفِها وَتَلْحِينِها والظهور بها بهذا الشكل.

أَحْضَرْتُ لها كوب الماء، شَرِبَتْهُ وَغَطَّتْ في نَوْمٍ عَميق، وابْتَسَمْتُ مِن أَفعالها فَتَذَكَّرْتُ ذاتَ مرَّةٍ أنَّها جَعَلَتْني أَخْلَعُ ضرسي حتّى تَتَأَكَّدَ أنَّهُ لنْ يُؤْلِمَ فَتَخْلَعُ هي ضِرْسَها فَكانَتْ مَريضةً وَتَتَأَلَّمُ ولم أَبْخَلْ عليها بضرسي.

فاديةُ هي الجَنّة… هي النَّعِيم… قَبَّلْتُها واحْتَضَنْتُها بينَ ذِراعيَّ وابْتَسَمْتُ، فأنا دَرَسْتُ في أَعْرَقِ جامعاتِ العالَمِ، وحاليًّا اُدَرِّسُ بأكبر الجامعات بِمِصر، لم أُخَطِّطْ لِشَيْءٍ ولكنِّي كُنْتُ مَحْظُوظًا بشكل أو بآخر… نِمْتُ أنا الآخر فالذِّكريات بالقلب لا تَنْتَهِي ولنْ تَنْتَهِي… هذا ما يَحْدُثُ عندما يَعْشَقُ الرَّجُلُ… فادية المحبَّة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى