الاثنين ١٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩
بقلم محمد زكريا توفيق

أرشميدس (287-212ق.م.)

ولد أرشميدس في مدينة سرقوسة في جزيرة صقلية. هو عالم رياضيات، فيزيائي، مهندس، ومخترع الطمبور الذي كان يستخدم في ريف مصر لنقل الماء من أسفل إلى أعلى، ومخترع البكرة التي ترفع بها الأثقال إلى أعلى.

له دراسات في الكرة والأسطوانة والدائرة والقطوع المخروطية والأشكال الحلزونية. له أبحاث في الجاذبية الأرضية والأجسام الطافية، وإسهامات كبيرة في الهندسة المستوية.

أعطى هيرون، ملك سرقوسة، وزنا معلوما من الذهب الخالص لجواهرجي القصر لكي يقوم بتصنيعه تاجا للملك. عندما صنع التاج بالمواصفات المطلوبة، لعب الفار في عب الملك. ارتاب وسيطرت عليه الوساوس. ماذا لو سرق هذا البائس اللئيم كمية من الذهب ووضع مكانها ما يعادل وزنها معدنا أخر أقل قيمة، وليكن نحاسا أو فضة؟

لهذا، استدعى أرشميدس، عالم البلاط، على عجل وطلب منه بحث الأمر والتأكد من أن شكوك الملك ليست في محلها، وأنه لم ينخدع أو يغرر به، أو تنهب ثروته.

أخذ أرشميدس يهرش رأسه ويقدح زناد فكره لعدة أيام. كيف يحل هذه المعضلة؟ لقد استطاع من قبل أن يحسب عدد حبات الرمل التي يمكنها أن تملأ هذا الكون وقدرها بناء على الأبعاد الفلكية للشمس والكواكب، لكن مسألة تاج الملك لا يستطيع أن يجد حلا لها.

يئس أرشميدس وأوشك على الإقرار والاعتراف بفشله. لكن في صباح يوم من الأيام، وبينما هو يغمر جسده في حمام سرقوسة العمومي، لاحظ أن الماء في الحمام يرتفع في نفس الوقت. ارتفاع الماء، أو الماء المزاغ أشعل خيال أرشميدس في التو واللحظة. نسي وقار العلماء وجرى عاريا في شوارع المدينة وهو يصرخ قائلا: "أوريكا، أوريكا". أي وجدتها، وجدتها.

ماذا وجده أرشميدس؟ لقد وجد حلا بسيطا رائعا لمسألة تاج الملك هيرون. أخذ وزنين متساويين من معدني الذهب والنحاس، وزن كل معدن يساوي وزن التاج الملكي المصنوع. بعد ذلك، غمر التاج في الماء ثم الذهب ثم النحاس. وقاس الماء المزاح في كل حالة.

ماذا وجد بعد أن أجرى هذه التجربة؟ لقد وجد أن كمية الماء المزاحة في حالة التاج، أكبر من الماء المزاح في حالة الذهب، وأقل من الماء في حالة النحاس. هذا يعني أن التاج ليس ذهبا خالصا أو نحاسا خالصا. بل هو مزيج من المعدنيين.

لقد أعطى أرشميدس المبرر لعقاب الجواهرجي والاطاحة برأسه، وأعطانا مفهوم الكثافة النوعية للعناصر والذي لا يزال يستخدم في العلوم حتى اليوم. مبدأ الكثافة النوعية، أو الكثافة النسبية، والمنسوب إلى أرشميدس يقول:

"إذا غمر جسم في سائل، فإن وزنه يقل بمقدار وزن السائل المزاغ"

لم يكن أرشميدس يحب الذهاب للحمام العمومي في معظم الأوقات. يخبرنا بلوتارخ أن أرشميدس كان يستغرق في تجاربه العلمية وينسى نفسه طول الوقت، إلى درجة أن خدمه كانوا يحملونه بصعوبة بالغة للحمام للاغتسال وتدليك جسده بالعطور. فيجدونه وهو يستحم، يرسم أشكالا هندسية على جسده ويقوم بدراستها.

كان علم الهندسة هو متعته. أثناء حلوله للمسائل الهندسية، كان ينسى طعامه وشرابه وميعاد نومه. لقد كان يعيش ربيع العلوم الرياضية، حيث كانت النظريات الخاصة بالدائرة والمثلث والخط المستقيم هي الشغل الشاغل لعلماء الإغريق القدماء.

إقليدس، أبو الهندسة، كان يعمل مدرسا في جامعة الإسكندرية. درس حركة الأفلاك وجردها إلى أشكال هندسية مبسطة. منها النقطة والخط والزاوية والقطع والسطح. عندما أخبره مدرس بجامعة الإسكندرية بأنه لا توجد طريقة ميسرة للإنسان لكي يقيس ارتفاع الهرم الأكبر، قام إقليدس بالآتي:

انتظر ساعة النهار التي يتساوى فيها طول الإنسان مع ظله، وقام بقياس طول ظل الهرم على الأرض. ثم خاطب رفاقه قائلا: " أيها السادة، هذا هو ارتفاع الهرم الأكبر بالضبط."

تقول الحكاية أن بطليموس ملك مصر أبدى يوما امتعاضه من صعوبة برهان إقليدس لأحد نظرياته الهندسية قائلا: "هل هناك طريق أسهل لفهم الهندسة؟" أجابه إقليدس على الفور: "سيدي، لدينا طريقان متوافران في المملكة. طريق وعر تسلكه العامة من الناس، وطريق سهل مرشوش وممهد ومشجر، مخصص للعائلة المالكة. لكن بالنسبة لتعلم الهندسة، لا يوجد للأسف إلا طريق واحد يسلكه الجميع.

إننا نعرف القليل عن حياة هذا العبقري إقليدس. تقول الحكاية أيضا أن الجزء الأخير من كتابه "العناصر"، كان قد ألقت به زوجته في النار أثناء احدى نوبات غضبها. لابد أنها كانت زوجة شرسه. لأننا نعلم من كتابات القدماء أن إقليدس كان رقيقا عطوفا في شيخوخته. يجله تلاميذه لأنه كان يقودهم ويعلمهم كأب حنون.

"ما فائدة هذه النظرية؟" تساءل أحد التلاميذ بعد شرح إقليدس لها. هنا نادى إقليدس على خادمه "جروميو" قائلا: "أعط هذا السيد درهما، فهو لا يستطيع التعلم بدون نقود"

إقليدس، مثل باقي علماء الإغريق القدماء، لم يكن يهتم بالتطبيقات العملية للعلوم. لقد كان يعشق المعرفة لأجل المعرفة ذاتها. لقد كان خجولا منطويا يعيش في سلام ووئام مع نفسه ومجتمعه. لم يكن يهتم بالمناورات السياسية، أو الأمجاد الحربية، أو صخب مواكب النصر المبتذلة. كان يقول:

"هذه أشياء مآلها الزوال. لكن العلوم هي الخالدة."

من المجال النظري إلى المجال التطبيقي. في شبابه عشق الرياضيات مثل سلفه، وقرر أن يكرس حياته لدراستها. استمر في دراسة الهندسة، مبتدئا من حيث ينتهى إقليدس. حسب نسبة طول محيط الدائرة إلى قطرها والمعروفة ب "ط" وقدرها ب 22\7.

أوجد معادلة قياس حجم ومساحة الكرة والدائرة. آخر اكتشافاته، هي إيجاد العلاقة بين حجم اسطوانة ارتفاعها يساوي قطرها، وحجم كرة لها نفس القطر. ووجد أن حجم الكرة تساوي ثلثي حجم الاسطوانة. استخدم نظريته في الماء المزاغ لإيجاد هذه العلاقة. لقد كان فخورا باكتشافه هذا لدرجة أنه طلب عمل رسم على هيئة اسطوانة بداخلها كرة لكي تنقش على قبره.

كان أرشميدس مثل إقليدس قبله، يريد أن يُترك وحده مع الرياضيات. لكن احياجات المجتمع والملك أرغمته على أن يكون مخترعا. قرابته للملك هيرون جعلته يفعل أشياء لم تكن تثير اهتمامه. قام باختراع ما يقرب من 40 اختراعا. بعضها لأغراض تجارية، لكن معظمها كان لأسباب عسكرية.

كان لأرشميدس ولع شديد بالميكانيكا وعمل الآلات. درس الرافعة وأوجد قوانين الروافع. اخترع البكرة والعجلات المسننة والكرة المتحركة، واكتشف قوانين العتلة. وكان يعتقد أنه يستطيع أن يرفع الكرة الأرضية إذا وجد نقطة ارتكاز تسمح بذلك.

أهم اختراعاته التجارية هي الطنبور. وهو عبارة عن اسطوانة طويلة مجوفة، بداخلها حلزون يدور حول محوره، يمتد من طرف الاسطوانة إلى الطرف الآخر. يوضع الطنبور مائلا بحيث ينغمر أسفله في الماء. ومع دوران الحلزون الداخلي للطنبور، يصعد الماء إلى أعلى داخله إلى أن يصب خارجا من نهايته.

إنها معجزة. الماء يصد إلى أعلى التل. لقد رأيت وأنا طفل الفلاحين المصريين وهم يسحبون الماء من النهر إلى الحقول بالطنبور ولم أكن أعرف أن مخترعه هو أرشميدس. الآن يستخدمون الماكينات المزعجة صوتا والملوثة للبيئة بالعادم والغازات السامة.

في أيام أرشميدس، حدث أن حاصر أسطول الرومان بقيادة مارسيلوس مدينة سرقوسة. استنجد الملك هيرون ملك سرقوسة بأرشميدس كي يجد حلا أو يكتشف شيئا يساعد في فك هذا الحصار.

"أنا أستطيع تدمير أسطول الرومان يا مولاي." أخبر أرشميدس الملك. "كيف وبأي طريقة؟" تساءل الملك. "بطريقة المرايا المقعرة." أجاب أرشميدس.

لم يقل هيرون شيئا. هز رأسه متعجبا وظن أن قريبه العالم الكبير قد فقد عقله من كثرة الدراسة والتفكير. "عندما تقترب السفن من الشاطئ وتصبح هدفا للنبال، سيقوم جنودنا بتوجيه المرايا إلى أشرعتها. المرايا المقعرة، والتي صنعت لهذا الغرض، ستقوم بتجميع أشعة الشمس في بؤرات، تشعل النار في أشرعة المراكب."

عقب اسحق نيوتن على هذه القصة التي لم يذكرها بلوتارخ أو بوليبيوس، بأن المرايا المقعرة، بعد عدة تجارب أجراها نيوتن بنفسه، يمكنها تجميع الضوء وإشعال الحرائق.

تقول الحكاية أيضا أن أرشميدس قام باختراع البكر والخطاطيف لكي يرفع بها الأحمال الثقيلة. استخدم هذه الفكرة في رفع مراكب العدو من الماء أو لإعاقتها عندما تقترب من الشاطئ.

قائد الأسطول الروماني مارسيلوس كان معجبا بأرشميدس كل الإعجاب. وعندما رأى ما يحدث لسفنه من حريق ورفع، قال: "دعنا نوقف هذا القتال ضد وحش الهندسة."

أخير تملك الخوف من قلوب الرومان، كما يقول بلوتارخ، وعندما كانوا يرون البكر والحبال بها الخطاطيف، كانوا يفرون قائلين : "لقد جاءكم أرشميدس." وبعد أن فشل مارسيلوس في غزو المدينة، اكتفى بحصارها. لكن وبسبب مساعدة أرشميدس للمدينة، استمر هذا الحصار مدة ثلاث سنوات.

غير أن تهاون جنود سرقوسة وكسل سكانها، تسبب في سقوط المدينة. فأثناء الاحتفال بإلهة القمر أرتيميس، شرب سكان المدينة المحاصرة حتى الثمالة. وقبيل الفجر مباشرة، عندما كانت عقولهم مرتبكة وأجسامهم منهكة، جاء مجموعة من جنود الرومان وقاموا بتسلق الأسوار وفتح بوابات المدينة. وعندما استيقظ السرقوسيون في الصباح، وجدوا مدينتهم في أيدي الرومان الغزاة.

نظر مارسيلوس المنتصر إلى المدينة من أعلى التل بتعجب ممزوجا بالشفقة. فهو يعلم ما سوف يفعله جنوده بالمدينة. كان من بين قواده من يرى وجوب حرق المدينة وقتل سكانها. لكن مارسيلوس اعترض بشدة.

لقد كان معجبا بشجاعة سكان المدينة وجنودها وقدرتها على المقاومة. وخصوصا عالمها الفذ أرشميدس. لذلك، أصدر أوامره بأن لا يمسه أحد بسوء. "هذا الرجل يجب أن يكون ضيفنا الشخصي." هكذا قال مارسيلوس لجنوده.

بينما كان أرشميدس يجلس القرفصاء في السوق يرسم على الرمال دوائر متداخلة تمثل معضلة رياضية جديدة. جاءه جندي روماني مخمور بيده سيف. "قبل أن تقتلني يا صديقي، انتظر أرجوك ولا تفسد علي دوائري." قال أرشميدس.

لكن المخمور لم يعره انتباها وعالجه بالسيف فقتله. بينما هو ملقي عل الأرض يحتضر، قال: "لقد أخذتم جسدي الفاني، لكن أعمالي سوف تخلد."

تكريما لأرشميدس، أطلق اسمه على فوهة بركان وسلسلة جبال على سطح القمر. كذلك، أصدرت كلا من ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا واليونان طوابع بريد تحمل اسمه وصورته. كما أن صيحته وهو يجري عاريا من الحمام "أوريكا" صارت شعارا لولاية كاليفورنيا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى