الأربعاء ٣٠ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم حسن الشيخ

صفحة مشرقة من صفحات أدبنا العربي قد طويت بحزن بال

ليست العالمية التي كنا نتمناها يوما ان يحصل أديبا من أدبائنا على جائزة نوبل , لأننا وبكل بساطة قد هاجمنا تلك الجائزة مرارا , وشككنا في مصداقيتها . وليست العالمية في ترجمة بعض إبداعاتنا الى لغات أخرى , فقد ترجم الكثير من إبداعاتنا الروائية والقصصية الى لغات أجنبية . كما ان العالمية ليست مرهونة قطعا , بأرقام التوزيع , وأرباح الكتاب المتكاثرة . رغم ان نجيب محفوظ قد حقق كل ذلك , إلا إنها لم تصيره أديبا عالميا . نعم إنها إشارات دالة على مكانة أديب كبير مثل محفوظ . ولكنها لم تصنعه . بل هو من صنعها .

ولكن وللإنصاف نقول انه و بوفاة الروائي الكبير نجيب محفوظ , يمكننا التذكير من ان صفحة مشرقة من صفحات أدبنا العربي قد طويت بحزن بالغ . فمحفوظ من أدباء العربية الكبار والقلة الذين حظوا بالتكريم والشهرة واللمعان في حياتهم . لذلك فلا يحتاج هذا الأديب الكبير حقا من أقلامنا اليوم ان تمجده عقب وفاته , بل ان نمضي أكثر مما سبق في قراءة نتاجه الروائي بشكل مغاير . قراءة أخرى جديدة تحقق لنا العالمية التي كنا نتمناها دوما لأدبنا العربي ولأدباء العربية .
.
ولكن ما هي العالمية التي صنعها محفوظ له ولم تصنعه ؟ إننا نفهم العالمية في مصداقية التعبير عن هموم الناس . وبالأخص أحزان وهموم بل وأفراح الطبقات الفقيرة التي عاش معها محفوظ . وكتب عنها بصدق . العالمية التي صنعها محفوظ هي المصداقية لهذا الفن الإبداعي . فلم يعرف عنه انه كتب نقدا أو فلسفة أو مقالا سياسيا طوال عمره المديد .

لقد اخلص نجيب محفوظ لعمله القصصي طوال سبعين عاما هي عمره الإبداعي تقريبا . كتب بجد وبنشاط من غير كلل او ملل . حتى أصبح في مقدمة كتاب العربية ليس من حيث نوع إبداعه فحسب , بل من حيث عدده أيضا . تلك هي العالمية التي نفهمها عند محفوظ قبل ان تقدم له نوبل .

نحن نفهم العالمية في ان الأشخاص يزولون ويموتون , ولكن الأدب الحقيقي العالمي لن يموت بل يبقى خالدا . لذلك فان العالمية , هي خلود الآداب مدى الدهر . وبهذا المفهوم لا يمكن الا ان نجزم بعالمية المتنبي , وأبو العلاء المعري , حتى لو لم يحصلا على نوبل . ونؤمن بعالمية شعر الكميت ابن زيد ودعبل الخزاعي حتى لو طاردتهما شرطة الخليفة من مكان إلى مكان .

ليس من العالمية ان يعرف الأديب على مساحة الكون , بل ان يبقى أدبه , على امتداد الدهر . وهذا ما انتبه له نجيب محفوظ نفسه . وأشار اليه في كلمته الى الأكاديمية السويدية بعد ترشيحه الى جائزة نوبل . حيث قال بوضوح (أخبرنى مندوب جريدة أجنبية فى القاهرة بأن لحظة إعلان اسمى مقرونا بالجائزة ساد الصمت وتساءل كثيرون عمن أكون ـ فاسمحوا لى أن أقدم لكم نفسى بالموضوعية التى تتيحها الطبيعة البشرية. أنا ابن حضارتين تزوجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهى الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهى الحضارة الإسلامية. ولعلى لست فى حاجة إلى تعريف بأى من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن فى مقام النجوى والتعارف ) ولقد قدم محفوظ نفسه بتواضع شديد , مشيرا الى العدل والاهتمام بالعلم والمعرفة , في الحضارتين الفرعونية والإسلامية .

ولا حاجة لنا في هذه العجالة ان نشير الى أعماله فقد نقل نجيب محفوظ في أعماله حياة الطبقة المتوسطة والفقيرة في أحياء القاهرة، فعبر عن همومها وأحلامها ، وتطلعاتها , وسعيها نحو الحرية .وعكس قلقها وتوجساتها حيال القضايا المصيرية وتضحياتها للوطن و عشقها للوطنية ، الا انه اغفل حبها وتعلقها بالدين . وبدلا من ذلك صور الدين ستارا للحصول على مكاسب رخيصة عند أبناء هذه الطبقة كما صور حياة المصري و الأسرة المصرية في علاقاتها الداخلية وامتداد هذه العلاقات في المجتمع , وصراعاتها الدفينة . وعادات المجتمع المصري في الثأر , و الزواج , و اللباس . و صور بدقة عادات المجتمع في أفراحه وأحزانه .

ولكن هذه الأعمال التي اتسمت بالواقعية الحية لم تلبث أن اتخذت طابعا رمزيا كما في رواياته " أولاد حارتنا" و "الحرافيش" و "رحلة ابن فطومة". الأمر الذي اثار عليه البعض من التيارات الإسلامية المصرية , وأدت بالنهاية إلى محاولة اغتياله طعنا بالسكين .

ورغم كل ذلك نقول كما ردد نجيب محفوظ من شعر ابو العلاء المعري (إن حـــزنا ســاعـة المـــوت أضعاف سرور ساعة الميلاد ) .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى