الخميس ١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٤

في الطريق الى البيت

تحسين يقين / تربوي

أصبحت جنين كأنها في كوكب آخر، لذلك فإن الاقتران بفتاة من هناك سيكون مغامرة في ظل هكذا ظروف وهكذا طرقات، لكن ما باليد حيلة، لأن ذلك الصدق ناداني، فهل يتوقع البشر أن أضبط ايقاع قلبي على إيقاع الأوامر العسكرية الاحتلالية فأمنعه من أن يهفو لإنسانة تقيم هناك في مكان ما من وطني؟

كنت أعمل محررا في مركز تطوير المناهج الفلسطينية حيث قامت الانتفاضة الثانية، حيث أمضي العمل التربوي صباحا، وأكتب بعد الظهر، وهناك علاقة بين العملين، ولذلك كتبت الكثير من التقارير والقصص الصحفية عن الناس والطرقات المقفلة/ لكن كان لزاما أن أكتب عن نفسي أيضا.

حينما ذهبت الأسرة معي لاتمام الخطبة من أجل الاقتران بالآنسة رانية العامودي من قرية برقين، محافظة جنين، كان الوقت صيفا، وتكبد المرافقون صعوبات الطريق، وحرارتها المرتفعة، حيث سلكنا طريق الغور- الحمراء- فما بلك بصيف الغور الحار؟ كنت محرجا وأنا أرى عذابهم، كانوا يبتسمون لي يشجعونني... كأنهم قرأوا ما أفكر به، وفي طريق العودة، لم يتيسر لهم المرور إلا عبر طرق ترابية بين مساكن البدو حيث الغبار والروائح... والعرق يتصبب منهم.. في يوم الزفاف، كانت الصعوبات قد ازدادت، وأصبح الذهاب إلى جنين صعبا، قلنا سيشفع لنا كوننا عروسين، في طريق العودة الذي استغرق حوالي 4-5 ساعات، لم يسمح جنود الاحتلال بالحمراء لنا بالمرور، سمح لنا الناس باجتيازهم، هاتفين فرحين ومباركين، حين وصلنا، أخذ أحد الجنود بالرقص، تفاءلنا خيرا، والآخرين طردونا قائلين لنا إذهبوا الى جنين.

في هذا الجور الحار تأثر المكياج/ حمدت الله بأن العروس جميلة، وإلا لاحتجنا الى مكياج آخر، وفوق ذلك تقيأت واضطررت لازالة كفوفها البيضاء.

واضطرنا لسلوك طريق النصارية، وهو الوادي الصعب المرور منه، بالإضافة لخطر المرور، حيث قد تعترضنا دورية وتشطب العجلات، كان قلبي يسبقني، كأنه خرج من صدري خوفا وغضبا، كنا جميعا في سيارة واحدة فقط... في الطريق تحدثنا قليلا عن شكل التضاريس الجمالي، فالعروس فنانة تشكيلية وأنا كاتب.

في الليلة نفسها، لم نكن قد نزلنا عن "اللوج" هكذا يسمي الفلاحون مكان جلوس العروسين حتى أصبحت القرية الصغيرة جبهة حربية، رصاص كثير أطلقه الجنود، خفت أن يستشهد أحد الفتية أو الشباب في لية فرحنا.

ضرب الجنود قنابل مسيلة للدموع/ رمى آخر رأس بصل كبير، لي وعروسي، ولأخي وعروسه، كنا أربعة... غير قادرين على الانتقال من بيت العائلة الى عش الزوحية.. وفي النهاية استطعنا ذلك، وصلنا البيت منهكين جدا...

وبعد

9 اشهر

لم يمضي سوى شهر حتى اكتشفنا أن السيدة حاملا، وهكذا أصبح مهما كونها تحمل بتوأم أن تراجع الطبيب المختص، ولأن الطرق سيئة كانت تضطر للمشي عدة كيلومترات في الأرض الوعرة، كنا دوما نقول غدا ستتحسن الأحوال، في هذا الوقت تضاعفت أجرة المواصلات كثيرا، فاستنزفت ثلث الراتب، بالإضافة لاستقطاعات لا مبرر لها من رواتبنا السيئة من الأصل........ بعد أن أتمت حملها، وقرب موعد الولادة، ضربت سلطات الاحتلال حصارا شديدا، فأصبحنا غير قادرين لا على الوصول إلى القدس ولا إلى رام الله، وكان قد قرر الأطباء لها عملية قيصرية، في موعد معين، لكن آلام الوضع باغتتنا في وقت سيء، الليل وكل الطرق مقفلة، وحتى تصل إلى شارع يبعد كيلومترات عليها أن تمشي، فمشت وهي تعاني آلام الطلق الشديدة، حين وصلنا المستشفى بصعوبة بالغة، أجريت لها علملية فورا... وجاء التوأمان ( محمد وأسماء ) .

في المناهج

مثلما هو حال توأمنا، كان لا بد من ولادتهما، هكذا الحال مع الكتب، يجب أن ترى النور لذلك كنا في المركز خلية نحل، بالنسبة لي دوما أحمل معي كتبا ومخطوطات الكتب حتى أحررها لغويا في البيت، وفي لطريق، إذا لم أستطع الوصول إلى رام الله...
هل نحدثكم عن الطين شتاءً، حيث البرد القاسي الذي يلف المكان ....... في أحد الايام سرنا كيلومترات حول منطقة الكسارات حتى نصل من قلنديا إلى جبع، أصبت بالبرد بالطبع... أم نحدثكم عن الغبار صيفا... حيث الجو الحار الخماسيني وغيره الذي يجعلنا نتصبب عرقا خائفين ونحن ندور حول النقاط العسكرية لأن الجنود تهكموا على بطاقات المعلم التي نحملها...

فماذا يمكن أن يظهر لدينا كمواطنين وتربويين من مشاعر وأفكار؟
لقد صادفني الموت فعلا وأنا أصعد طلعة الكسارة سيئة الذكر، حيث أطلق الجنود قنابل غازية، دمعاً من عيني لم ينزل، لكن شعرت بالاختناق، لم أستطع أخذ نفسي، ابتعدت عن المكان، وأخذت بتذكر محطات من حياتي كشريط سينمائي، وآلمني أن الزوجة والتوأم ينتظرونني، لكن الله قدر ولطف، حين وصلت البيت خانتني دمعة طفرت من عيني...

في الاجتياح العسكري لرام الله، كنت في قريتي بيت دقو، كنا نتابع الاجتياح، وفي أعماقنا أصبنا بالحصار، اشتقنا للمكتب وللزملاء... ولرام الله، والمشي فيها، وارتياد أماكن النشاطات الثقافية والفنية.

مللنا من الحديث عن الطرق وآلامها وحواجزها... أصبحنا نحب بيتنا ووطننا أكثر..

استمر الاجتياح، تمر الجيبات العسكرية، في الشوارع، سمح جيش الاحتلال لنا بدخول المدينة، كانوا يعلنون منع التجول فجأة فيربكوننا... لقد اقتربت السنة الثالثة ودخول الرابع على الانتفاضة.

كمعلمين وتربويين نحن أفضل حالا في اجتياز الطرق، أحيانا يتعامل الجنود معاملة حسنة وأحيانا بلؤم، قالت لي مجندة ماذا تعّلم؟
قلت لها: لغة عربية
قالت أتعلمني ؟ .

قلت إذا أردت

كان الحوار قصيرا بالانجليزية، كان وجهها أبيضا، مليحا لا يحمل ملامح اللؤم.. حاولت مرة أن أتحدث إليها وأعطيها مقالا لي حول الحواجز بعنوان عبور صعب إلى الآخر...

جندي آخر كبير في السن قال لي: يجب أن نتعلم العربية.
قلت له: لتحاربوننا!

قال: لا لا... حتى نتواصل .

عادة ما نضطر الى تغيير البطاقات مع تغير الجنود كل فترة من الزمن... أحيانا كنا نتعرض للطرد، والإهانة... أحد الجنود هددني فابتعدت إلى الوراء، فلاحظت عليه الارتباك أكثر مني فاشفقت عليه.
أحد الجنود اللئيمين كاد يجعلني أخرج عن عقلي وهو يهين الناس، لكن ما باليد حيلة، ليس لنا إلا الصبر.

تعبت من المشي والطرقات الوعرة التي كسرت أضلاعي، وأجهدت عظامي وعمودي الفقري الذي أصبح بحاجة لرعاية... تتبدد أحزاني كلما رأيت الأطفال متوجهين أو عائدين من المدرسة يحملون حقائبهم، وكتبهم وأحلامهم...

في كل يوم أصحو صباحا، أحلم بطريق عادية وعيشة عادية مثل باقي البشر.......ما أجمل أن تكون مدرّسا، حين زرت المدارس مؤخرا، أحببت الأطفال، تخيلت أن ابنائي سيكونون في مكانهم بعد 5 سنوات، دعوت الله أن يكون حاضرهم ومستقبلهم سعيدا، بعيدا عن الاحتلال، أو الاحتلال بعيدا عنا بعيدا من قطع طرقنا نتفا نتفا وأحال حياتنا إلى جحيم لا يطاق...

تحسين يقين / تربوي

هذه القصة منقولة عن كتاب مركز ابداع المعلم في رام الله ـ فلسطين وقد قام الاستاذ حذيفة سعيد جلامنة بتنسيقه وتحريره وتدقيقه .
موقع المركز هو
www.teachercc.org


مشاركة منتدى

  • قصة طرحت جانبا من حياة الفلسطينيين في ظل التعنت الصهيوني ..

    الألفاظ اختيرت بعناية موحية بجو القصة ..

    و الأحداث متعاقبة هادئة ..

    شكرا على هذا الإمتاع ..

    و يسر الله للفلسطينيين و خفف عنهم ..

    تحياتي
    ( قلم ما )

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى