الأربعاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم هند فايز أبوالعينين

حوارُ الطّبول ِ على الرفّ

في سوقٍ عربي، وعلى رفوف محلّ لبيع الأدوات الموسيقية، جلست الآلات الموسيقية في كامل زهوها، تنتظر من يشتريها. هناك في صالة بيع الطبول العربية احتدم نقاشٌ بين الطبول.

" إسمع يا هذا ، مهما تبجّحت وتماديت في غرورك، فلن تقنعني " قالها الطبل البلدي ذو الكرش الكبير المنتفخ. " لم يكن لك أبدا أيّ دويّ أو إيقاع" قالها ولفّ شاربه على إصبعه كأنه شيخ مخاتير الطبول العربية.
" ثم أن الحال يشهد يا جميل بأن دقاتٍ معدودة على بطني المهيب تجمع رجال الحيّ جميعا، من أكبرهم شيبا إلى أصغرهم طفلا. إن كنت تظن أن بزّتك العسكرية الحمراء قد أعطتك وزنا فأمعن النظر وأنصت السمع يا عزيزي، لا يجمع الرجال ويفرقهم إلا من يهابون دوّيه"

صمت الطبل العسكري ، وكأنه يخطط لردّ حاسم ،يبتّ به جدلا قد تنقسم لنتائجه الصفوف بين الطبول المتجمهرة على الرفوف. كان الطبل العسكري يزهو ببزة عسكرية ذات أطراف نحاسية لمّاعة ، وبطنه المصقول الرشيق مدهون باللون الأحمر. وكان يهتم بمظهره إلى حدّ كبير يجعله برّاقا بين الطبول.

" إسمع يا بلدي، عندما كان القوم يحتارون في صناعتك قبل أربعين عاما، كان القول قولي والفعل فعلي. الجيوش الجرارة التي كنت أحدوها إلى معاركها كانت تسير خلفي على خطوة واحدة.

أسمعت يا ذا الكرش؟ ... قلتُ تسير خلفي ..

كنت أجمع أغلظ الشوارب وأشد الزنود، لا شيبا ولا أطفالا.

كنت أنا مؤذنهم لبدء المسير ، ومؤذنهم للوقوف. كنا أنا وجيوشي نتفاهم بدقـّاتي . فيعلمون متى يكرّون من دقاتي، ويعلمون متى يفرّون من دقاتي...

كنت أنا أتبـِعُ صلواتهم على الشهداء بصلواتٍ مني قبل دفنهم، وكنت أنا مؤذّن العودة بعد النصر ...
وعندما كنتُ ... "

" كنتُ وكنّا وكانوا ... ما هذا ؟ أدرسٌ في التاريخ يا جميل؟

نحن طبول اليوم يا عزيزي ... "

" ششششش .. أحدهم قادم " همس فيهم طبل الدربكّة الصغير.

صمتت الطبول بدخول اثنين من المتسوقين، وسعى كلّ طبل للفت الأنظار. فنفخ الطبل البلدي كرشه إلى الأمام ، وأدار الطبل العسكري ناحيته الأكثر لمعانا إلى أنظار المتفرجين، فقد شغله الجدل الأحمق عن تلميع حوافـّه، أما الطبول الأخرى فمالت في أوضاعها إلى اليمين وإلى اليسار في استماتة لتبدو جذابة، علّ أحد المتسوقين يمد يدا لينقر بطونها أو يجرب الدق عليها.

" ما رأيك ؟ " قال أحدهما " ألا يعجبك ذلك الطبل البلدي؟"

ضحك الثاني وقال " أيّ بلدي يا رجل، صحيح أنك دقّة قديمة ، أنا أبحث عن طقم من الدرمز لأعزف عليها الجاز"
" الدرمز يا حبيبي لا تجدها هنا، فهذا سوق شعبي. الدرمز تجدها في كل مكان في البلد إلا هنا"

وخرج المتسوقان يضحكان.

بمجرد أن خطت أقدامهما خارج الصالة، دوّت ضحكة عالية فيها.

" إيش يا ذا الكرش؟ أصبحت دقاتك قديمة إذن؟ "

بُـهت الطبل البلدي أمام الطبل العسكري ، وضَمُر كرشه إلى الداخل حتى تحسبه خلا من الهواء.

" اليوم يوم الدرمز يا عزيزي، لايومك .." وضحكت جموع الطبول على الرفوف.

استشاط الطبل البلدي غضبا، وظهرت رقعتان حمراوان في وسط كرشه

" إسمع أيها المتحذلق، أنا لم أرغب في إهانتك من البداية، لكنك تعلم جيدا أني ما أصبحت دقةً قديمة إلا حديثا ، بعد أن عرف الشباب الدرمز والجاز، أما أنت فقد تقادمت وصدأت أطرافك وأنت قابع على رفـّّك هذا. أتنكر أنك تجلس هنا منذ أن افتـُتِـح هذا المحل؟ أتنكر أن عمرك على هذا الرف من عمر هذا السوق؟ تم تسريحك من الخدمة إلى إشعار آخر، ولا يبدو لي أن الإشعار قريب.

أما أنا فما لي هنا سوى أشهر قليلة، وما تنازل عني صاحبي وباعني إلا لكبر عمره، لأنه لم يعد يقوى على دقـّي. وإن عشنا أنا وإياك ستثبت لك الأيام أني أنا سأكون المودِّع وتبقى أنت، وستصدأ أطرافك إلى أن تتفكك قبل أن يشتريك أحد ".

ساد صمت مطبق بين جموع الطبول على الرفوف.

نقلت الطبول الصغيرة نظرها إلى جميل، في انتظار رده. وجميل مطبقٌ شفتيه في غضب عارم، حتى تخال من منظره أنه سينفجر ...

"دااااااااااااال !!! "

تحولت الأنظار على وقع الصوت المغناج، وإذ بصاحبته الطبلة الرشيقة، ذات الخصر المحفور، والخيوط المجدلّة على رأسها .

" مااااااذا ؟ من أنتِ ؟" سألها جميل بحاجبٍ مرفوع.

" قلتُ داااااااال.... لماذا صمتّ ولم ترد عليه ... ياااااااااا جمييييييييل ؟" وتمايلت ذات الخصر المحفور.

"احترمي نفسك أيتها الطبلة، واعلمي من تخاطبين"

" أععععلم من أخاطب... أخاطبُ ذا الأطراف النحاسية الجميلة والبطن الطبلي المصقول الأحمر، لا أعلم لماذا ينحُـلُ خصري أمام هذه الهيبة العسكرية الراااااااائعة "

تنحنح جميل فيما يشبه الإحراج : " قلتُ لكِ رجاءً احترمي نفسك ... أنا لا أقبل بهذا النوع من الكلام"

أطبقت ذات الخصر شفاهها غضبا، " هكذا إذن ..؟ " تحوّل الغنجُ إلى صوتٍ جاد رخيم، يخبىء غضبا.

" إذن فاسمع هذا الكلام ... علّه يعجبك... واسمع أنت أيضا يا صاحب الكرش العجيب ..

لا أنت ولا هو تستطيعان شيئا في هذا الزمن ، فلا إيقاعك المنظوم (إلى جميل) ولا دويّك المزعج (إلى البلدي) لهما فعل هزّة واحدة من خصري.

إن كانت لكما أمجادكما في يوم من التاريخ، فاليوم يومي يا سادة الطبول ..

وإن كنتما استطعتما أن تجمعا الرجال في حربٍ أو طرب، فأنا لا أجمعهم، بل أركِعُهُم جميعا، وإن كانوا بعدد جيشٍ جرار، من جيوشك يااااااااا جمييييييييييل.

لا يعصى على هذا الخصر وزيرٌ ولا أمير ... ولاغنيّ ٌولا فقير .. . أيّا كان .. فلن يأبى الركوع.

ثم أني لا أركِعُهم قسرا .. لااااااااا .. بل هم يأتونني ليركعوا، ويدفعون المال ليركعوا... ويصطفون على بابي بالطوابير ليركعوا

أما أنا فما عليّ إلا أن أحتفي بمجدي... مجدُ اليوم والغدِ .

ما حضرت إلى هذه الرفوف إلا ليزاود صاحب الصالة عليّ لأعلى سعر، وسترون بعيونكم، حضرت بالأمس، وفي أبعد توقعاتي سأودعكم غداً ... "

قاطعها صوت صاحب الصالة : " من هنا يا سيدي، عندي طلبك بالضبط"

دخل الصالة مع صاحبهم رجل نحيل، يلبس قميصا زهريا وبنطال الجينز الضيّق. كان وسيما ويفرق شعره المبلول من النصف.

" آآآآآآآه ، ها هي ... عرفتها قبل أن تريني إياه"

ومن بعيد تقدم المشتري إلى ذات الخصر المحفور ، وحملها كأب حانٍ يحمل طفلته بعد فراق سنين. ضمها إلى صدره بكل رقة ، " وجدتك يا حلوة، أين كنت مختبئة عني؟"

ابتسم صاحب المحل من خلفه ابتسامة خبيثة ...

" حسن كم تريد ثمنا لحبيبتي هذه ؟"

" والله يا عزيزي كلك نظر، هذه الطبلة بالذات تحفة فنية رائعة، ثم أن لها وقعها، إن كنت تعلم ما أعني" غمزه صاحب المحل، وصارا يتضاحكان. " ثمنها مئتان وخمسون دينارا !! " قالها وأشاح بوجهه إلى الأرض.

كادت بطون الطبول الأخرى تنشق من هول السعر الذي سمعوه. مئتان وخمسون دينارا، يعني مجموع أثمان نصفهم معا. من المؤكد أن الصفقة لن تتم، فأي مجنون يدفع مثل هذا الثمن لقاء طبلة ؟؟!!

" آآآه يا حلوتي" قال المشتري وهو ينظر إلى طبلته " ستكلفينني الكثير اليوم يا عزيزتي "

أنزل المشتري ذات الخصر المحفور، وأخرج المحفظة من جيبه وعدّ منها المبلغ كاملا، مائتين وخمسين دينارا، وسلمها إلى البائع الذي وسعت عينيه كمن لم يصدق أن الرجل دفع المبلغ فعلا، دون أن يجادل فيه ولو بكلمة.

حمل المشتري ذات الخصر المحفور وقال: " لايرضيك أن أخسر يا حلوتي أليس كذلك؟ أعلم أنك ستعوضيني أضعاف ذلك في ليلة واحدة" وابتسم لها وخرج.

من فوق كتفه أطلت ذات الخصر المحفور على أصدقائها المشدوهين، ونظرت إلى جميل ، وبعثت له قبلةً في الهواء.

31/10/2006


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى