الأربعاء ١٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم محمد فاضل رضوان

الأنبياء المتمردون يحطون رحالهم بمونتريال

مهرجان العالم العربي بمونتريال كندا في دورته السابعة

ليس الأنبياء الذين حطوا رحالهم بمونتريال منذ السادس و العشرين من أكتوبر الماضي من صنف رجال المقدس الضاربين بجذورهم في عمق عوالم الميتافيزيقا بقدر ما هم فنانون و مبدعون جاؤوا يقاومون عزلة الإنسان و يحلمون بزرع الدفء في عالم غلفه الصقيع، إنهم صانعو المعنى الذين لا زالت لهم الجرأة للحديث ال"نحن" الذي ليس بالضرورة وليد ال"هنا" و "الآن"، إنهم أنبياء متمردون من اجل أن يكون اللقاء دوما ممكنا، لهذا فهم يعبرون عن نفسهم كالتالي:

" إننا هنا لأننا نود أن نعلن خوفنا من ألا نستطيع العيش مجتمعين، خوفنا من أن نرى الآخر يختزل في مجرد صورة نمطية عادية. إننا طالما عايشنا لحظة الفراغ هذه التي لا نعرف فيها معنى لوجودنا في عالم يعرف نقصا مفجعا في أفعال أو حركات قادرة على إضفاء بعض الوحدة و التجانس على حياتنا جميعا، و في أناس لهم تلك المقدرة المميزة على جعلنا نفكر".

الأنبياء المتمردون هم صانعوا حدث مهرجان العالم العربي بمنتريال كيبيك بكندا في دورته السابعة، و من أجل أن يظل اللقاء دوما ممكنا كما أراد له مبدعو هذه التظاهرة في مدينة ثقافية بامتياز تحتضن الحلم الإنساني مهما كان منطلقه و منتهاه، من خلال مهرجان العالم العربي تنفتح مونتريال على روح الثقافة العربية من متون ابن سينا و ابن رشد حتى إبداعات أدباء المهجر مرورا بحكايا و مغامرات ليون الإفريقي، لذلك كان من الطبيعي لكل لحظة من لحظات هذا اللقاء أن تكون سفرا للذاكرة و الخيال في عوالم عميقة قد تعلن عن ذاتها من خلال خطوة أو كلمة أو حركة أو إحساس لتؤسس الطريق لفتح قنوات التلاقي بين الأنا و الآخر بين الماضي و الحاضر ...

أنبياء مونتريال المتمردون هم علماء و مفكرين و رسامين و موسيقيين و راقصين... جاؤوا من أماكن بعيدة و مختلفة ليحطو الرحال بمونتريال انطلاقا من ليلةالسادس و العشرين من نونبر حيث كان حفل انطلاق المهرجان بساحة بلاص دي زار ثم مسرح سبيكتروم الذي احتضن العرض الكبير"موسيقى الصحراء" بحضور أكثر من ألفي شخص يتقدمهم قناصل الدول العربية و مجموعة من المسؤولين الحكوميين و النواب البرلمانيين الكنديين و الكيبيكيين إضافة إلى ممثلة وزيرة الهجرة الكندية ليز تيريو التي صرحت في كلمتها على هامش مهرجان حفل افتتاح المهرجان بأن هذا الموعد قد أصبح جزءا تراثيا من المجتمع الكيبيكي و عاملا للتبادل الثقافي الذي تشجع حكومتها على كافة المستويات مؤكدة بان المهرجان لم يعد فرحا إثنيا بقدر ما هو عيد كيبيكي.

و قد حضي المهرجان و خصوصا حفل الافتتاح بتغطية إعلامية مكثفة تجلت في حضور مختلف المنابر الإعلامية و في مقدمتها القنوات الرئيسية الثلاث و الإذاعات الكندية/ في هذا السياق أكدت السيدة كريسستيان لوبلون رئيسة راديو كندا بأن الإبداع الذي تميز به مهرجان العالم العربي على امتداد سنواته السبع حدا بقناتها إلى رعايته إذ وضعت قناة راديو كندا كل إمكاناتها أمام المنظمين لبث حفل الافتتاح على الهواء مباشرة في كندا و العالم. كما أفردت الصحف والمجلات الكندية، وخاصة الصاردة في مونتريال، ملفات خاصة تتحدث عن مهرجان العالم العربي، والرؤية التي يجسدها كحدث سنوي في تفاعل الحضارات وتقاربها،عبر بعديه الفكري والفني عمادي العطاءات الفنية والإنسانية، فقد أصدرت صحيفة Le Devoir يوم 22اكتوبر ملفا خاصا عن المهرجان من ثماني صفحات شاركت فيه أقلاما كبيرة من أمثال محمد أركون، مارتين لوتارت، فردريك دوايون، جورج لورو، استيل زهلر، أوليسيه برجرون، ورجينالد هارفي، ولقاءات مع دان بيغرا، عبد الصمد ديالمي،باتريس برودير، أليزبيت دهب، آن ماري أللونزو إضافة غلى مدير المهرجان جوزيف نخله الذي صرح للجريدة المذكورة بأن مهرجان العالم العربي ليس حدثا ينظمه العرب للعرب، بل إن أناس من كل الأصول الاتنية شاركوا في تنظيمه وفي احتفالياته ما أبرز جماليته وفرادته. وهو امكانية الحوار الذي يعطينا الفرح النقي الذي يدفعنا للإستبسال لاستمراريته .وعن اختياره مونتريال لإقامة المهرجان قال مديره العام: لأن للمدينة خاصية لا نجدها في الأماكن الأخرى، إنها مدينة منفتحة ومتعددة الثقافات، ولأن أهلها يحبون المعرفة ويعيشون بحق تجربة التعددية الثقافية، مما جعلنا نلتقي جمهورا متنوعا في أحداثنا.

كما قال نخله في ختام حديثه" إن الغاية هي أن نستطيع أن نجلب أناسا ينظرون للثقافات الأخرى بعين أخرى."

و قد كان حفل الافتتاح موعدا مميزا للإبداع و السحر العابرين لثنائية الجغرافيا و التاريخ من خلال كوكتيل فني ضم على الخصوص سيد الناي العالمي الفنان التركي قدسي أرغونرالذي اشتهر عالميا بنقل موسيقى التصوف من أجوائها الشرقية إلى عوالم و فضاءات موسيقية أرحب كالجاز و البلوز إضافة إلى فرقة عيساوة الفاسية التي شدت بألحان صوفية أدهشت الحضور، كما جمعت احتفالية الإفتتاح لأول مرة فريق الجاز الفرنسي "نيا" Niyya التي يقودها مهدي نبطي، وسيدا العود الالكتروني مهدي وسمادج مؤسسا فرقة إيكوفا. كما حضرت المغنية الكندية من أصل مصري ميريام تولار وكذلك مجموعة Maza Meze ودولا. و قد تميزت الادارة الفنية بانسجام نادر بين موسيقيين قادمين من عوالم مختلفة، محققة بادارة الفنان الكندي الشهير راماشاندرا بوركار انجازاً فنياً قل نظيره.

و قد تواصلت فعالية المهرجان على امتداد أزيد من اسبوعين في سياق عروض و أنشطة تنوعت ما بين الفني و الثقافي كإيقاعات وليد غربي البدوية التي عدت بمثابة سفر حقيقي بالصوت و النغم في عالم البدو الرحل في الصحاري والجبال. ففي ابداع عصري و قراءة طليعية للارث الموسيقي و الكلاسيكي العربي، يقوم وليد غربي و مجموعته باعادة تشكيل أغاني المديح ، و إيقاعت الطقوس الصحراوية القديمة ، والأغاني الجماعية للنساء بطريقة غربية...هذه الموسيقى التي تزور لأوّل مرّة مونتريال في حفلة تمزج بشكل ابداعي الأدوات والإيقاعات والأغاني العربية والإفريقية و الغربية كذلك تعد امتدادا لأعمال وليد الغربي المتنوعة. ك"رقش" (2001) التي يعطي من خلالها وليد الى الموسيقى الروحيه كلّ مكانتها. و "حوار" (2005) التي يبحث من خلالها عن إمكانية التقاء بين الربابة و الطبول الافريقية و التونسية أو "مشوار" (2005) يظهر عمل وليد غربي أكثر انجذاباً للموسيقى الغربية . و في حلقاته الروحية يبيّن مهدي النبتي الفرنسي ذو الأصل المغربي قدرة الموسيقى الصوفية على الخروج من فضائها الخاص بالمريدين إلى فضاء أوسع و عام، دون أن تفقد من صفاتها و من حرارتها الانسانية. من المعلوم أنّ هذه الموسيقى كانت مقتصرة على الزوايا و هي الآن تتطلع إلى آفاق أوسع و جمهور أكبر.. في عرضه هذا يشرك مهدي النبطي الجمهور في الطقوس الروحية التي وهب لها حياته منذ تعرف عليها و هو في ضيافة فرقة عيساوة بفاس. في حفل الجاز العربي تشارك فرقة " شوسمو" النيويوركية التي اشتهرت بموسيقاها التقليدية المنسجمة بإيقاعات الجاز الايقاعية، والتي عرفت بتلحينها لموسيقى عدّة أفلام ك (الضفة الغربية لبروكلين). و تعاون أعضائها تعاونوا مع كبار الفنانين: كريس بوتر ، ديف ليبمان سيمون شاهين و فيل وودز ، كما ضم الحفل مل مرابط و فرقته من أونتريو الذي قدم موسيقى أصيلة مشبعة بالتأثيرات الأندلسية التي تعتبر واحدة من الإمدادات والروافد التي تفرعت عن الموسيقى العربية بمفهومها العام، وهي خلاصة امتزاج وتفاعل المعطيات الفنية النابعة من موسيقى الشعوب التي قطنت بالمنطقة.فكان الحفل سفراً إلى عالم الفلاميكو و الجاز بنغمات عربية. ومن خلال مقطوعاتها الفنية أحيت الاميركية من اصل ايراني مونيكا جليلي صاحبة "الصوت الذي يخترق الروح" كما يقول عنها معجبوها و فرقتها نورساز، ثقافة فارسية غنية، بمجموعة من أغاني الحب والروحانية. المجموعة التي تغنّي بالفارسية و الإنجليزيه والفرنسية و تستخدم أدوات تقليدية وأخرى حديثة، قدمت ألحانا يتداخل فيها الشرق بالغرب بشكل ساحر.

على مستوى الفكاهة و الضحك يحضر المسرحي الجزائري سليمان بنعيسى ، الذي سبق و أن قدّم في كيبيك " أنبياء دون إله" و " اعترافات مسلم منافق" ، ليقدم عرضه " إسم الله المائة" ، الذي يختزل روح المقاومة في قالب الفكاهة.

كما يشمل المهرجان ليلة خاصة مع النبي للشاعر و الكاتب اللبناني الكبير جبران خليل جبران الذي أهدى الغرب روح الشرق، في قراءة للكاتب و الصحافي ، ورجل المسرح جاك لانغيران.. هذه الرحلة في عالم جبران ستستمر تلك الليلة على أغاني فيروز مع صوت لودي طايع. و قد صدر كتاب النبي، الذي فاقت مبيعاته مبيعات الكتاب المقدس في الولايات المتحدة، باللغة الإنجليزية في العام 1923.

كما دعا المهرجان الجمهور المونتريالي إلى لقاء " ألف إله و إله" الذي قدمت من خلاله أكبر التيارات الإسلامية التقليدية في الاسلام. سنّة، شيعة ، صوفة و بهائية، لتبيان ثقافة الاختلاف في الإسلام بعيدا عن الانغلاق الصفة التي ارتبطت بالإسلام في ذهنية الغرب. أدار اللقاء الذي عرف على الخصوص مشاركة المفكر و أستاذ التاريخ و الفكر الإسلامي بالسربون محمد أركون الباحث و الصحافي محمد أوريا..

هل يستطيع المرء أن يجمع بين ما هو شهواني و المقدّس في الاسلام؟ هل هناك فن عربي أو إسلامي للحب؟ إجابات قدمها أستاذ الأنتروبولوجيا وعلم الإجتماع، و مدير «المختبر المتعدد التخصصات للدراسات حول الصحة والسكان» بجامعة فاس المغربية، الأستاذ عبد الصمد الديالمي صاحب كتاب :" السكن، الجنس والاسلام". شاركه في هذه المحاضرة الممثلة منية شكري. هذه الأمسية الخاصة تنبش في التراث الإسلامي عن مفاهيم الحب و الشبق و الجنس من خلال كتب مشهورة. من الشيخ النفزاوي الى قصائد الشاعر الكبير أبي نواس مروراً بالشيخ التيفاشي. هذا اللقاء الثقافي مع مع أحد المختصين في التراث العربي الإسلامي، تخللته قراءات من طرف الممثلة الكيبيكية من أصل تونسي منية شكري لمقاطع من كتابي النفزاوي و التيفاشي و كذلك قصائد أبي نواس...

كما كان في ضيافة مهرجان العالم العربي كتّاب مونترياليون مشهورون و وقحون جاؤوا لمناقشة المحرمات في صالون الثقافة. ليس كل شيء يكتب ، أو يرقص ، أو يفكّر فيه. و لكن في هذا اللقاء مجموعة من المثقفين يخترقون الطابوهات.
داني لافيريير الكاتب المونتريالي الذي يأكل العالم بعيونه قبل قلمه. من أعماله "رائحة القهوة" ، "طعم الفتيات الشابات" و "هذه القنبلة في يد الشاب الأسود هي سلاح أم فاكهة؟" و كذلك آخر كتبه "نحو الجنوب". مع داني لافيريير قراءة وكتابة لدفاتره، حيث المحظور و المحرم ، و التمرد.. ألين أبوستولسكا، الصحفية و مصممة الرقص ، في تقاطع بين لغة الكلمات و لغة الجسد. أبوستولسكا تبني جسراً بين الكتابة والجسد. تقول عن نفسها إنّها امرأة من ماء، من نهر و أنّ لا أحد يوقف ذلك الجريان إلاّ السدود الكبيرة. هناك ، للجميع. و هي هنا تتحدث عن ذلك بلغة الجسد و الكلمات.و صلاح بن لابد المهندس المعماري و الكاتب والشاعر الرافض للوقاحة في الأدب. تدير هذه الندوة الجريئة الكاتبة و الشاعرة صوفيا بنيحيى مديرة البرامج في المهرجان.

كما عرف المهرجان أمسية للرقص الشرقي مع مجموعة من الأسماء الكبرى كالراقص التركي إلهان كاراباتشاك و الراقصة النمساوية جانين فيرسلويس و المكسيكية ألادينو ديبلانكا هذا إضافة إلى فرقة الدراويش. إضافة إلى دان بيغرا و فرقته و فرقة موسيقة الفردة القادمة من الجنوب الجزائري لتعكس غنى الذاكرة المغاربية في امتداداتها العربية و الأمازيغية و الإفريقية، كما كان لقاء المشرق و المغرب نجمة مضيئة في سماء المهرجان تألقت بحضور الفنان التونسي لطفي بشناق و الشاعر طلال حيدر و الفنانة اللبنانية غادة غانم. و لذكرى سيد درويش مكان في فضاءات مهرجان العالم العربي بمونتريال حيث قدمت سمفونية النيل التي تحتفي بسيد درويش الفنان و الإنسان الذي وهب الفن حياته فكان أن أصبح فنان الشعب. كما امتدت أنشطة المهرجان إلى فضاءات السينما لتعرض عددا كبيرا من الإنتاجات السنمائية العربية الحديثة ك"بوسطة" لللمخرج اللبناني فيليب* و "البنات دول" للمصرية تهاني راشد و"باب المقام" لمحمد ملاس و "أمينة" لخديجة السلامي و "سفر نادية" لنادية الزواوي.

مهرجان العالم العربي كان لحظة مميزة من لحظات مدينة مونتريال التي تعرف بانفتاحها على مختلف الثقافات انطلاقا من كونها قبلة للمهاجرين من جميع بقاع العالم، في هذه اللحظة أصبح لبعدي التعدد و الاختلاف و التلاقي في ظلهما معنى أكثر تجذرا يوحي بأن إمكانية إيجاد أفق للسلام و التسامح بين الثقافات و الحضارات و الأديان تبقى قائمة على درب الحوار و التبادل الفني و الثقافي و الإنساني. . ليس المجتمع الإنساني في نهاية المطاف هو ما ينقصنا بل من لهم الجرأة على إعادة بنائه.

مهرجان العالم العربي بمونتريال كندا في دورته السابعة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى