الخميس ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم إدريس ولد القابلة

بعض معالم ارتباط جهة الغرب بالسلطان محمد الخامس

لقد أكدت جل التجارب التاريخية على امتداد التاريخ أن معرفة التاريخ تلعب دورا جوهريا في تكريس الوطنية و روح المواطنة و التشجيع على المساهمة في هندسة المستقبل. و في هذا الاطار وجب على الشباب المغربي عموما و شباب منطقة الغرب و مدينة القنيطرة إعادة اكتشاف التاريخ، تاريخ المنطقة و المدينة، لاسيما تاريخ الكفاح و المقاومة الحافل بالدروس و هم في أشد الحاجة إليه الآن أكثر من أي وقت مضى.

فاليوم وعى الجميع بأهمية الذاكرة الجماعية و بدور الرصيد الحضاري في تفعيل التنمية الشاملة. و هذا أضحى ضرورة حضارية و تاريخية. و لعل الاعتناء بطبيعة و فحوى العلاقة بين السلطان محمد الخامس و وطنيي و مقاومي و سكان مدينة القنيطرة و جهة الغرب الشراردة بني حسن من شأنه تفعيل سيرورة إعادة الاعتبار للدور الذي من المفترض أن يقوم به الشباب المغربي في الفترة الحالية التي تجتازها البلاد. كما هو نداء للشباب بالاهتمام بالرصيد الحضاري باعتبار أن المدينة بدون رصيد كالجسد بدون روح.

و هذه الورقة هي عبارة عن تجميع جملة من الأفكار تبرز بعض جوانب علاقة الملك المغفور له محمد الخامس بمدينة القنيطرة و أبنائها، استقتها كصحفي مهتم بالتاريخ المحلي و الجهوي من قراءاتي و لقاءاتي مع جملة من رجالات المدينة، أعرضها على القارئ الكريم قصد الاستئناس و دون أي ادعاء.

و قبل نفي الملك، ظلت العلاقة وطيدة بين العرش و سكان مدينة القنيطرة. إذ أن صدى التفاف سكان هذه المدينة بالملك محمد الخامس تأكد في أبهى صوره حتى قبل سنة 1953. فالدارس لتاريخ المغرب الحديث يلاحظ بكل سهولة حضور مدينة القنيطرة في أهم المحطات و الأحداث لهذا التاريخ. و من هذه المحطات وثيقة الاستقلال التي تبناها الملك المغفور له محمد الخامس، و هي الموقعة من طرف أكثر من 60 شخصية من 11 مدينة مغربية و ما يناهز 30 في المائة من هؤلاء تربطهم علاقة وطيدة بمدينة القنيطرة و هذا جانب من جوانب تعلق المدينة بالعرش و ملك البلاد.

فخمسينات القرن الماضي كانت مرحلة محتقنة في تاريخ البلاد عموما و تاريخ مدينة القنيطرة على الخصوص. إنها مرحلة النضال و الكفاح المستميتين، مرحلة التضحيات الجسام و التي عرفت أوجها الغير المسبوق ابتداءا من 20 غشت 1953، تاريخ نفي الملك محمد الخامس. فمنذ هذا التاريخ انخرط سكان مدينة القنيطرة في الجهاد بكل الأساليب، كل على قدر استطاعته و من موقعه. و ظل وطنيو و سكان القنيطرة في حالة استنفار إلى حدود 16 نوفمبر 1955 تاريخ رجوع الملك إلى عرشه.

و باعتبار أن الملك المغفور له محمد الخامس تبنى وثيقة الاستقلال و رفض كل الاصلاحات الاستعمارية الساعية لخنق الدعوة للاستقلال و تصدى إليها لأنها تنافت مع فحوى عقد البيعة. و هذا في واقع الأمر هو سر من أسرار تعلق وطنيي و مقاومي و سكان القنيطرة بالملك و بالعرش، و الذين اعتبروا من واجبهم الأكيد و اللازم، الاخلاص للبيعة كما أخلص لها جلالته، و العمل بكل الوسائل لإرجاع جلالته إلى عرشه و المساهمة في تحرير الوطن. لهذا استرخص أبناء القنيطرة حياتهم و سقوا بدمائهم مختلف مواقع مواجهة الاستعمار بالمدينة و ضواحيها. و لم يثنيهم عن ذلك العدد الكبير للشهداء و الجرحى و المنفيين و المعتقلين. حتى التلاميذ و الأطفال تركوا مدارسهم و كتاتيبهم القرآنية للمساهمة الفعلية في انتفاضة 7 و 8 و 9 غشت 1954 و للنظر إلى القمر لرؤية وجه الملك المنفي. و سكان القنيطرة ظلوا على الدوام يعاينون، و بالملموس، علاقة القصر الملكي بالمدينة سواء عبر عطف جلالته على رجالات الحركة الوطنية بها و على نقابييها و أبنائها في الكشفية و النوادي الرياضية و على صناعها التقليديين و على نسائها العاملين بالحركة النسائية القائمة عليها الأميرة لالة عاشة، و على تجارها و فلاحيها

و من حلقات هذا التاريخ مثول وفد مدينة القنيطرة بين أيدي جلالة الملك محمد الخامس بالقصر الملكي .آنذلك قال لهم المغفور له محمد الخامس: "لماذا مجيؤكم عندي؟". فتقدم أحمد بوفلوس الدمناتي و قال باسم الوفد: " يا جلالة الملك جيئنا نجدد العهد معكم لحماية العرش، و نحن في خدمة مسيرتكم مع الحركة الوطنية، و مسيرتكم هذه زادتنا ايمانا بقضيتنا، و إصرارا على الاستمرار في التضحية من أجل العرش". فكان رد جلالته:" إني أبادلكم هذا الوفاء، و قد آليت على نفسي أن أستمر معكم في العمل على الحصول على الحرية و الاستقلال، و لو اقتضى الأمر أن أعزل عن العرش، و أرجو من الله أن لا يقدر هذا".

و قبل هذا تقرر تنظيم لقاء بين الخونة بخصوص هذا الموضوع بناحية القنيطرة عند أحد القواد الموالين للمستعمرين. و فعلا حلت مجموعة من الخونة إلى مدينة بعد تشديد الحراسة الأمنية و العسكرية بها. و ألقى قاضي القنيطرة آنذاك كلمة ساند فيها بحصافة مؤامرة نفي و خلع السلطان. و عندما جاء الكلاوي و أتباعه في الخيانة إلى القنيطرة لإعداد المؤامرة ساد القلق وسط سكان الأحياء الشعبية لمعرفتهم حق المعرفة بالكلاوي المنحدر من عائلة تعامل أبرز عناصرها – المدني شقيق الكلاوي – مع الاستعمار حتى قبل معاهدة الحماية.

و في 20 غشت 1953 انطلقت حافلات "كليمان" من مدينة القنيطرة ، و كانت وجهتها الرباط لنقل الأسرة الملكية من القصر إلى المطار. و شركة "كليمان" للنقل كانت معروفة آنذاك، و كان يعمل بها مغاربة و فرنسيين و اسبان كسائقين. و قد تم إخبار ساقين مغربيين من أبناء القنيطرة و تكليفهم بهمة قيادة حافلات و التوجه إلى القصر الملكي بالرباط صباح يوم 20 غشت 1953 باكرا. إلا أنه في آخر لحظة أبعدتهما إدارة الشركة عن المهمة اعتبارا لعلاقتهما الطبية بالوطنيين و الخلايا الحزبية بالمدينة ، و هكذا تم تعويضهما بسائقين غير مغاربة للقيام مكانهما بالمهمة.

عملية حرق معمل الفلين، و هي أول عملية فدائية بعد مرور أقل من 28 ساعة على إبعاد الملك محمد الخامس و نفي العائلة الملكية. و في 21 غشت قام أحند آزوار بمعية فاوت بن جامع و ايديشو بإضرام النار في معمل الفلين، و بعدها تناسلت العمليات.

نسف القطار القادم من الدار البيضاء صوب الجزائر، الشيء الذي أدهل المستعمرين وهزّ كيانهم. وبذلك كان الإعلان الواضح عن الشروع في العمل المسلح. فتأسست الخلايا الفدائية وتم اقتناء الأسلحة (مسدسات، رصاص، وبارود لصنع القنابل المحلية). وكان هذا ممولاً من جيوب أعضاء الخلايا آنذاك ومن بعض المحسنين.

و لقد قال المحامي الفرنسي "جان شارل لوكران" في كتابه " أيتها العدالة يا موطن الانسان" أن الملك محمد الخامس لم يرجع إلى عرشه من قصور أو مكاتب أو قاعات استقبال، لقد رجع الملك محمد الخامس إلى عرشه من محمل مصرع الشهداء.

و فعلا، بخصوص مدينة القنيطرة و نواحيها، كان الارتباط القوي بالقصر الملكي و بشخص الملك المغفور له محمد الخامس من العوامل الحيوية الرئيسية، إن لم يكن العامل الحيوي الرئيسي الأول، الذي ساهم في تسريع صيرورة اندماج بين أهل دكالة و أهل فاس و أهل عبدة و أهل الشياضمة و أهل الغرب و بني حسن و الشراردة و أهل الحوز و أهل مراكش و أهل سوس و أهل طنجة و أهل الجزائر. و هكذا كانت الانطلاقة لصيرورة تراكم حضاري، هذا التراكم الحضاري الذي أضحى لزاما على شبابنا إعادة الاعتبار إليه.

وقد عمل نظام الحماية على جعل القنيطرة كواجهة لعرض أطروحته، الأكذوبة القائلة أنه جاء للمغرب ليس للنهب والسيطرة وإذلال الانسان واستغلال سكان البلاد ونهب خيراتها وإنما جاء لنشر الحضارة و إرساء التمدن وللقيام بالبناء والتشييد، أي لإقامة الصرح الحضاري كما كان يحلو لدهاقنة الاستعمار قوله. لذلك كان لزاما على الفرنسيين اعتبارا لدوافع ايديولوجية استعمارية-توسعية محضة أن يروجوا للأطروحة القائلة أن القنيطرة لم تكن موجودة وإنما هي من صنع فرنسا من العدم ومع الأسف هذا ما روّجه كذلك جملة من المغاربة إلى عهد قريب. كيف لا وأن دهاقنة الاستعمار رغِبوا في درّ الرماد على أعين الرأي العام الفرنسي المُندد باحتلال المغرب واستبعاد ساكنته. وبالضبط لهذا الغرض عمل هؤلاء الدهاقنة على استبدال إسم القنيطرة باسم ميناء ليوطي سنة 1932. ولم تكن مفاجأة ومدعاة للاستغراب أن يتأسس أول حزب يميني متطرف (صليب النار) بالقنيطرة التي كانت ركحا لمعارك بين المتطرفين والليبراليين أكثر من أي مدينة أخرى بالبلاد.

وكل هذا لم يقو على إخفاء الأهمية التاريخية الأكيدة للقنيطرة الأصلية، القنيطرة الوطنية والشعبية في تاريخ المغرب منذ السنوات الأولى للاستعمار بالبلاد. لقد ظل إسمها حاضرا وبامتياز في مختلف المحطات والأحداث والقرارات التي صهرت تاريخ المغرب الحديث رغم أن أغلب كتّاب هذا التاريخ حاولوا جاهدين تهميشها تاريخيا لغرض في نفس يعقوب. ففي واقع الأمر تفطنت الحركة الوطنية مبكّرا للمكيدة الاستعمارية الساعية لتحويل مدينة القنيطرة إلى وكر للايديولوجية الاستعمارية وللمعمرين المتطرفين، لذلك شجعت الهجرة المكثفة إليها. وللتصدي لهذا المخطط عملت على تحفيز المغاربة في مختلف مدن وجهات المغرب للهجرة إلى القنيطرة. وفعلا تم الامتثال لهذه الدعوة الوطنية، حيث توافد على المدينة مغاربة من كل أصقاع المغرب، وتآلفوا فيما بينهم عبر الزاوية والمسجد والمدرسة والجمعيات والنوادي الرياضية وغيرها. وكانت هذه الاستراتيجية بمثابة خطوة جوهرية على درب إفشال مخططات نظام الحماية ليس بمنطقة الغرب وعاصمته القنيطرة فحسب وإنما بالمغرب كافة. وهذا ما يفسر تجدر الحركة الوطنية مبكرا بالقنيطرة ومنذ رعيلها الأول. وبذلك ظلت القنيطرة حاضرة بامتياز في تاريخ المغرب الحديث حضورا وطنيا ونضاليا وكفاحيا منذ 1915، حيث استغل أبناء حلاّلة الانفتاح الليبرالي الظاهري لتوسيع قاعدة الحركة الوطنية بالمدينة. آنذاك عاينت القنيطرة حملة واسعة لأداء اليمين للتعهد على النضال المستميت، كما احتضنت حركية إنشاء جمعية الكشفية والجمعية الخيرية والجمعيات والفرق الرياضية وجمعية منكوبي الحريق وغيرها... وقد شكلت هذه الحركية الارضية الصلبة لإنطلاق النضالات وتفجير المظاهرات الشعبية إلى أن اضطر أبناء حلاّلة، لاسيما شباب ديور ضياك والمدينة القديمة والدوار والبوشتيين ديور المخزن وغيرها من الأحياء الشعبية إلى الشروع في الكفاح المسلح والمواجهة المباشرة والعلنية للاستعمار رغم قوّة عتاده وجيوشه وعملائه.

الكفاح الاقتصادي

و بجانب الانتفاضات الشعبية و الكفاح المسلح لعب النضال الاقتصادي دورا مهما. فقد حرص الوطنيون و المقاومون المغاربة على تطبيق مقاطعة البضائع الفرنسية، و لم يتوانوا لحظة في إنجاح المقاطعة بجميع الوسائل وعيا منهم أنها تشكل ضربة قاسية للفرنسيين عبر شل الاقتصاد كأسلوب من الأساليب النضالية الراقية التي لها جدواها الأكيدة و المباشرة ، و باعتبار هذه الأساليب تمس في الصميم المصالح الاستعمارية بالملموس. ولذلك أصدر المقاومون أمر مقاطعة البضائع الفرنسية و إقفال الدكاكين و اعتبار استعمال الدخان بمثابة جريمة في حق الوطن و الروح الوطنية.
و تمكنوا بذلك من إصابة مصالح الرأسماليين الفرنسيين بضربة شديدة.و أضحى هؤلاء يضغطون على الإقامة العامة و الحكومة الفرنسية للقضاء على المقاومة و لوضع حد للأعمال الفدائية. لكن كلما كان يشتد القمع و التنكيل كلما كانت روح المقاومة و الكفاح تنمو، و هذا ما أرهبهم بعد أن أيقنوا أن المقاومة أضحت حاضرة في كل مكان و في كل حين.
و حسب جملة من الصحف الفرنسية بلغ عدد الفرنسيين و الخونة الذين أغتيلوا بين شهري مارس و سبتمبر 1954 أكثر من 3000 شخص منهم ضباط الجيش و رجال الأمن، إضافة لتعرض بن عرفة أكثر من مرة، و الكلاوي و الجنرال جيوم و المقيم العام لاكوست لمحاولات اغتيال.
لقد عملت المقاومة اذن على ضرب الاقتصاد الفرنسي، ولعل هذا ما ساهم و بقوة في تسهيل التخلي عن الرئيس "أوريول" و تعويضه بمنديس فرانس.
و في الحقيقة إن شل الاقتصاد الفرنسي و تحريك الجماهير في الشوارع و تعبئتها يعتبران من العوامل الجوهرية بجانب المقاومة المسلحة التي ساهمت و بشكل كبير في تغيير مجرى الأحداث. فالفرنسيون لم ترهبهم عمليات المقاومة كما أرهبهم شلل اقتصادهم، لا سيما و أن مقاطعة البضائع الفرنسية تجاوزت حدود المغرب إلى العالم العربي و الاسلامي.

أحمد الدمناتي

وبذلك قال، كانت انتفاضة مدينة القنيطرة من أجل الاستقلال وانتهت بطلب رجوع محمد الخامس إلى عرشه، وهي انتفاضة قامت على عدّة ركائز، من أبرزها:

جهاد الحركة الوطنية منذ 1937 والذي تمثل في العمل السياسي الذي قادته الحركة الوطنية خصوصاً بعدما تبين لقادتها الخسائر التي آلت إليها الحركة المسلحة في جل جهات البلاد (معركة لهري، بوفكر، آيت باعمران، أنوال وغيرها). وقامت الحركة الوطنية بحشد الأفكار وتنظيم العمل على صعيد المغرب مدنه وبواديه. وهذا ماتم بالقنيطرة، تهييء الناس بما فيهم الشباب بواسطة الاجتماعات السرية والاضرابات التي ما تفتأ إلى مظاهرات دامية كمظاهرة 1930 ثم 1937 ثم 1952 ثم 1953 ثم 1954.

* ارتباط الحركة الوطنية بالعرش، وهو ارتباط من أجل تكامل الذي قاد إلى طريق النصر.

* المساس بالعرش وعزل المرحوم محمد الخامس من طرف السلطات الاستعمارية وإبعاد العائلة الملكية إلى خارج الوطن. الشيء الذي أوقد حماس المغاربة ودفعهم للتصدي للاستعمار بجميع الوسائل.

* وكل هذا كان حاضراً في انتفاضة مدينة القنيطرة، وكان المساس بالعش منطلقاً للعمل المسلح لرجال المقاومة.

هذه هي بعض ركائز انتفاضة مدينة حلالة، والتي ساهم ثلة من الباحثين والطلبة والصحفيين في تحليلها بخوضهم في تاريخ جهة الغرب الشراردة بني حسن في مجال المقاومة قصد تسليط الأضواء عن جوانب خفية من جهاد مدينة القنيطرة وسكانها.
القنيطرة نوفمبر 2005


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى