الخميس ٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم أشرف الخريبي

ارتباكة الماء

حين سال الماء.. سال وفاض وغطا الجسد ومال.ارتبك الماء فى مكان الفخذين وغاص. ارتبك ومال وفاض وغاص انحنى عند الجذع , غطا الرقبة والصدر ثم سقط سهوا على الأريكة , الماء الدافئ / الماء الفاتر. الماء..

كان باردا , والشيخ ملقى على الأريكة , لما استراح من عناء السنين , ومن عناء السفر , يعانق زبد البحر كل مساء. لا أدرى ماذا حدث له ؟ قبل هذا اليوم. غير أن الماء سال والمسافات كانت بيننا تحن إلى ضحك مستحيل, إلى صخب الوجود تذهب العبارات إلي الأرض التي يحب الشيخ تعاريجها, إلي جوف البئر حين يدلى الدلو فيجئ الماء رطبا. هنيا يرشفه ويهتز ينظر في وجه السماء. في الصبح المنور الرائق يحدثني عن الأصدقاء القدامى يتركني ليكلم البحر, يوشوش الجنية ويقول أنه جواب هذا العالم, وأنه يحب الرحيل, ليبحث عن المرسى, يفتش عن وتر تلمسه أصابعه الخبيرة, المرعوشة من فرط السنين التي رأته, يسير على الشط في أقصى الليالي وحيدا غارقا في النفور المستحيل من الأيام. هكذا كان معي.

لما بكى الماء وسال، فاض وغمر الجسد الفارة ثم استقل عن التغلغل في دم الشيخ. فصرخ الشيخ كان دائم التفكير في الرحيل, وفي السنين التي رأته, في المراسي, وفيضان البحر. يحكى لي عن البلاد كلاما مشوقا, فأحن إلى البلاد, وأحن إلى الرحيل, وأسأله عن سر الليل, وسر البحر, ووحدته. جيب ذاك العارف ما الدنيا, ويضحك, ضحكا مستحيلا, فأضحك, كان الماء يسيل خجولا, يحن إلى الجسد الفاره, وأنا أحن إلى جذع صفصافة الشيخ أمام الدار, والبراعم التي يرويها تحن إلى يديه, حيث الجذور التي ألفت الأرض صلابتها. تصرخ الآن من فرط توجعها, حين عرفته, ظللت أحتمي به سنين من وجع البعاد, ومن الحنين, من الدوامات في البحر, أسأله هو العارف ما الدنيا. فلا يجيب. يقسم رغيف الخبز نصفين, ينظر في المدى, في البراح وفي وجه السماء تستدير مقلتيه حتى آخر هما, يشير على البحر, يحكى ساعات عن تجارب الدنيا, فأغوص حتى منتهاي في عذوبة القصص الحميمة, في خشونة الصوت أنصت بلهفة الخائف للامان. كان الموج يحن إلى التموج في النسيم, في ألق الوجود لحظة استولى الآسي على الأمواج. نهش زبد البحر كلام الشيخ , كان خشب السفن المتآكل , الشباك القديمة, حذاؤه الجلد, مركبته ذات القلاع, العشة البوص, المرسى, انشغل كل شئ بالحصار مع الحزن, فى ذات هذا اليوم. صار الشيخ كالذي يتجمد فوق الأرض جليدا, سال الماء, وفاض, غرق هو في صمت وخشوع, سكن مرتخيا, فقمت من جواره مترقبا صوت الليل, تسللت إلى العشة ونمت, مطمئنا للمساء الذي يحب الشيخ. له سنين وهو يعتلى قمة الموج, يبحث عن الرزق, يداعب مركبته. كانت النوارس حين تحط تفهمه, فتمضى لحالها, تضاحكه, وتعانده. فيشهدني عليه, فأشهد, ويضحك, ضحكا خارجا من تجاعيد الوجه حين يمسح عنها رطوبة الصيف, فتستقر في تعاليمه, كنت لازلت أرقص في حزن, عندما كانت تئز الصخور, ملأت روحي من نظرته, ملامحه القديمة, تجاعيد وجهه المحفورة بالآسي,

أتملى حتى النهاية في رعشة اليدين, كان التعب يدب إلى الماء, يفيض, يتدفق, يتكسر, يتلألأ, يترقرق, ينحدر, هل يفارق الجسد الفاره؟ يريد الماء ألا يبارح الشيخ الفاهم ما الدنيا, ذاك الذي نام عندما سال الماء, سال, سال, سال,

عندها كان مسجى فى ملكوت الله دون عناء, فارتبك الماء المتعب, وكان لارتباكه صوت الشجن وللبحر صوت ارتطام الموج بالصخر وللدموع صوت النزيف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى