الخميس ٢١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
المكان والزمان
بقلم بيانكا ماضية

في ذاكرة الروائي الحلبي وليد إخلاصي

في مخيلة كل كاتب روائي مكان وزمان معينان يكوّنان محور الرواية التي يقوم برسم أحداثها وتفاصيلها ، ففيهما تدور الأحداث ، وفيهما يتجسد ذلك الصراع القائم في الحياة على مستويات عدة .
ومن خلالهما يبرز لنا الروائي أشكالاً من العلاقات الاجتماعية وأشكالاً من التصادمات الحياتية عبر تقنيات فنية خاصة به .

ولأن لكل روائي أمكنته وأزمنته الخاصة والتي لايستطيع الكاتب إلا استحضارها في ذاكرته أولاً ، فإن الحديث في هذا الحوار الذي أجريته مع الكاتب الروائي الكبير وليد إخلاصي سيتناول ثنائية الزمان والمكان حينما ترتسم أبعادها في ذاكرته .

ويبدو لي أن البحث عن الروح الحلبية والأمكنة الحلبية في أدب وليد إخلاصي ، لهو سهل جداً ، فحلب هذا المكان المتفرد مازالت أحياؤها وشوارعها وأزقتها تحتل مساحة واسعة في أدبه ، حاملة فضاءات شعرية يصعب تعدادها في هذا المجال الضيق فذلك يحتاج إلى دراسة تتخذ من معطيات علم الجمال أساساً لها .
ولعله لايخفى على متتبع لقصص الأديب وليد إخلاصي ورواياته ، أن يجد أن هاجسه الدائم هو المكان الحلبي بكل تفصيلاته وجزئياته ، حتى ليصبح هذا المكان لديه بطلاً من الأبطال أو شخصية من شخصيات العمل الفني ، أو عالماً كاملاً قائماً بذاته بكل مفارقاته وعلاقاته وأشكاله المتعددة والمتشابكة .

ولست هنا في صدد الحديث عن أدب وليد إخلاصي أو في صدد نقد أحد أعماله ، ولكن ماذا عن المكان والزمان في ذاكرة الأديب وليد إخلاصي ؟

وللإجابة عن هذا السؤال يكفي أن ننتقل إلى الحوار الذي أجريته معه لاستشفاف مايدور في ذاكرة الروائي حينما يرسم أبعاد روايته ؟


 يستمد المكان وجوده في الرواية من خلال اتصاله بأمرين مهمين هما : الإحساس والذاكرة ... كيف يتجسد هذا الأمر عند وليد إخلاصي أثناء رسمه أمكنة روايته ؟
 بشكل عام الرواية هي شعر المكان ولايتحقق وجود للحدث الروائي إلا بارتباطه بمكان ما. المكان هو قدر الروائي حتى لو بلغ به التخييل حداً يحلق فيه بعيداً عن مكان موصوف أو حقيقي .
صحيح أن الكتابة الروائية هي الإحساس بالعناصر التي تتشكل منها الرواية وتساهم الذاكرة في جعل الزمن قيمة متفاعلة مع المكان لكي يكون له وجود ولو روائي .
بشكل عام أنا لا أستطيع أن أختار الأمكنة بقدر ماهي التي تختارني ، بمعنى أن الفكرة عندما تهم علي لتصوير شي ما ، تكون مرتبطة بمكان ولو أن هذا المكان غير جغرافي ، باختصار نستطيع أن نقول إن الشرط الموضوعي لتكوين عمارة الرواية يرتبط بالمساحة التي اسمها المكان .

 لاتخلو رواية من تحقيقها ثنائية الزمان والمكان ، ماهي الملامح الجديدة التي ترسمها هذه الثنائية في الرواية ، وهل وجودها مرتبط بتغليب أحد عناصرها على الآخر ؟ أي هل الزمان يصطاد المكان أم العكس ؟
 هناك إحداثيات هامة لبنية الرواية بشكل خاص وأي عمل إبداعي بشكل عام وتتحدد هذه الإحداثيات بطرفين الأول الأفقي وهو المكان والثاني العمودي وهو الزمان ، ولايمكن لأي حدث تفصيلي أو لأي بنية لشخصية في الرواية أن تتجلى في حضورها إلا بالتقاء النقطة التي يحددها ذلك الإحداثيان أي الزمان والمكان ، لينشأ مفهوم جديد يتجلى في الرواية هو الزمان المكاني أو المكان الزماني أو مايصطلح عليه بالزمكان .
أي أن نقطة الالتقاء هي نقطة تصالح ذلك العنصرين حيث يلتقيان في النقطة الروائية التي هي واحدة من نقاط كثيرة تشكل جسد الرواية ، صحيح أن المكان أبقى بالمعنى الفيزيائي الحسي ولكن الزمان هو عامل التغير أو مايمكن أن نقول عنه بالعامل الكيميائي الذي يساهم في تحويل أية ظاهرة من حالة إلى أخرى .


 هناك في الرواية أمكنة متعددة الأوصاف والحالات ، هل للزمان حركات خفية ترتسم عبر حركة المكان ، وكيف يتجلى هذا الأمر لدى وليد إخلاصي ؟
 لنحاول أن نحيل هذه الفكرة إلى معادلة بسيطة ؛ لمحاولة فهمها أكثر ، هناك لدى أي إنسان مكانان في حياته ، ولكنه لايعرف الكثير عنهما ، الأول هو الرحم الذي يولد منه ، والثاني هو القبر الذي ينتهي إليه ، وهما أكثر الأمكنة ثباتاً والتحاماً بالواقع البشري ، ولكن الشيء المتغير هو الخط الممتد مابين الرحم ومابين القبر ، حيث مسيرة الحياة ، وهذا الخط مهما طال أو قصر في حياة الإنسان هو الخط الذي يخترق آلاف الأمكنة وآلاف الأزمنة النسبية .
ففرصة تجلي المكان الزماني مرتبط بشكل ما بمدى الرحلة التي يقطعها الإنسان والتي يمتلك الفنان عادة والروائي بصورة خاصة القدرة الفائقة على التقاط وهج الأمكنة التي عادة تضاء بالزمان أو بالوقت أو بحركة الحياة المستمرة ، وهكذا يمكن القول إن العمل الفني هو عمل يشبه عمل البروجكتور الكهربائي الذي يضيء المسيرة الصعبة أو الجميلة مابين المكانين الخالدين.

 في معظم الروايات ثمة صراع للأماكن فيها ، كيف يتجسد هذا الصراع في ذاكرة الروائي ، وما البعد النفسي الذي يكوّنه من خلال هذا التجلي ؟
 من خلال هذه المسيرة المستنيرة للإنسان الفنان أو الإنسان الروائي تنشأ حالة مرافقة الصراع التي تتكون بشكل عام بين الكائنات الحية فقط لذا يصبح المكان في حالة صراع عندما نؤنسنه ونخرجه من طبيعته الجامدة إلى الطبيعة الروائية أو الفنية فيصبح المكان حاملاً للطبائع والنزوات والأفكار التي يحملها الإنسان نفسه .
هناك أماكن مؤهلة لخلق حيوية في حياة الكاتب الروائي ، وهذه الأماكن هي التي تؤجج نار الصراع المشترك مع العناصر الأخرى كالإنسان والزمن وعناصر الطبيعة الأخرى ، لذا فإن هذه الأماكن هي المؤهلة لاحتلال مركز البطولة في بنيان الرواية .

 بعد هذا هل نستطيع القول إن هناك نفياً للمكان الحقيقي الذي يجسد في الرواية بملامح جديدة له تتوالد عبر اندماجه بالزمان ؟
 من دون شك ، عندما يبتدئ الفعل الفني في الرواية أو في أي جنس أدبي آخر ، يصيب الأمكنة فعل التحول والتطور الذي قد يكون متأقلماً أو يكون مضاداً ، ولكنه يظل في الفعل الروائي حالة استثنائية تبعده عن سكونيته الواقعية المعروفة لدى الآخرين .
وباختصار : أي مكان حقيقي يصبح ملكية خاصة للكاتب الروائي ، ويرتدي ملابس أخرى وأوضاعاً مختلفة فيخيل للقارئ أحياناً أن ليس هو المكان بعينه الذي يصنعه الكاتب ، ومن هذا المنطلق أصر على أني لا أكتب عن حلب إنما أكتب عن حلبي التي تخصني .

 هل الإبداع الروائي هروب من الزمان والمكان نحو زمان ومكان يتكافآن لمنح الحياة معنى جديداً ؟ أم هو صراع معهما لكسب إحساس يوشي بالانتصار عليهما ؟
 الإبداع بشكل عام هو تخطي الواقع في حركة نحو الأمام لخلق واقع جديد ، فتنتقل آنذاك جميع عناصر الرواية والزمان والمكان منهما إلى تلك الحالة الجديدة ، ذلك أن السؤال الأساسي من أي عمل فني ، والرواية على وجه الخصوص ،هو لماذا نكتب ؟ وقد يكون الجواب المحتمل : نكتب لأننا نتجاوز دوماً الماضي والحاضر في طريق باتجاه واحد هو المستقبل .
بمعنى ما : أن الرواية هي عملية كيميائية ، الهدف منها ليس الهرب من الماضي وإنما إخضاع الأزمان ، الزمنين الماضي والحاضر إلى هروب نحو المستقبل الذي سيصبح بعد فترة من الأزمان الغابرة أيضاً ، إذن الهدف من العمل الفني هو سباق الزمن ، ليس عن طريق الجسد وإنما عن طريق الفكر الذي يرتبط دوماً بقيم قد تكون محاربة كالعدل أو الوفاء أو الارتباط بالوطن والآخرين ، فتأتي الرواية في سياق صيرورتها لتتقدم نحو المستقبل .

أخيراً وبعدما تبين لنا كيف يتجسد هذا العنصران ( المكان والزمان ) في فكر وذاكرة الروائي وليد إخلاصي ومن ثم في جسد الرواية ، نستطيع القول إن اختياره لأمكنته قائم على اختيارها له بالدرجة الأولى وعلى المسافة الزمنية التي قطعها في فضاءاتها ، وقد استطاع من خلالها التقاط أكثر الأمكنة إضاءة له ولفكره الأدبي ، تلك الحافلة بديناميكية الحياة وطبيعتها وصراعها مع الإنسان والزمن .

ولهذا فقد أصبح المكان الموجود في الرواية مكاناً خاصاً بوليد إخلاصي ، موشحاً بعناصر وأوضاع ومواقف نابعة من عمق الأفكار التي ينثرها في هذا الحدث أو ذاك ، لذلك وحسبما قال الأديب إخلاصي نفسه ، لايكتب عن حلب ذاتها وإنما يكتب عن حلبه التي تخصه .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى