الأحد ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم حسن الشيخ

حلم حذر

كانت ليلة شتوية ماطرة ، إلا أنها ليست ككل الليالي العابرة ، التي تمر دون أن نشعر بها. بل إنها متميزة في كل شيء ، هدوء أولها الحذر ، وصخب هزيعها الأخير. كل ذلك بالإضافة إلى توهج سمائها. لا بالقذائف بل بمكبرات الإنذار المربكة. التي تعوي كذئاب مجروحة ، في أودية سحيقة.

قبل تلك الليلة البعيدة ، بزمن طويل. راود الحلم محمد. الزواج ، والزواج في أزمنة الحرب الصعبة تفكير ساذج. إلا أنه رغم سنوات الحرب الممتدة ، والتي يبدو أنها لن تنتهي ، قرر ، لا بد من الزواج. تكوين أسرة. خلق ولادة جديدة. متناسياً كل ما جرى هناك في الأرض البعيدة. لا يهم ، ما قاله عبد الرحيم السيد (هل تريد أن تتزوج يا محمد وتصبح زوجتك أرملة ، بعد زواجك بأيام قليلة؟ ألا تفكر في أمك المسكينة العجوز التي عملت كثيراً حتى توفر لك قوتك اليومي. أتريدها أن تتحمل أعباء جديدة ، أطفالاً صغاراً تنهي بقية أيامها في تدبير عيشهم؟).

تذكر الجبهة. الأيام المريرة التي عاشها هناك محارباً زاحفاً على بطنه أميالاً لا عدّ لها. الدخان ، القذائف ، والبارود الذي ملأ رئتيه ، وأصابه بالربو قبل أن يكمل الثلاثين من العمر. حادث نفسه (كل شيء يهون. سوف أنسى كل ذلك عندما أبحر في عيني هدى. لقد انتظرت هي أيضاً طويلاً. ولا يمكن لي أن أخذلها. سأضحي ، وقطعاً ستقبل هدى التضحية هي الأخرى).

في ذلك اليوم ، كان العدو عنيفاً ، وصاخباً ، أرسل صواريخه ، قذائفه من بعيد بجنون مربك.

وفي ذلك اليوم الطويل بقي في خندق أمامي مكشوف تحيط به هالات الغبار الأسود والأبيض والأحمر طبقاً للقذيفة المتفجرة بقربه.

همس صارخاً (هل ما زلت حياً يا عبد الرحيم؟) إلا أنه لم يجب. التفت إلى إبراهيم فوجده ممداً في الخندق ، يتنفس بصعوبة. أين ضحكات إبراهيم المجلجلة ، أين (قفشاته) التي لا تنتهي. أحس بحرقان يجري في داخله. فتش عن الماء. فوجد قربته قد نشفت. تحسس قربة الماء ، القريبة منه ، بعد أن زحف في الخندق الضيّق. لم يجد ماء. لم يجد سوى وجوه سوداء ضامرة. وسواعد قد كلّت من إطلاق النار على عدو لا يُرى. أو أجساد منهمكة بعد أن هدها العطش والجوع. ونفدت ذخيرتها. لماذا تقتحم الذكريات المريرة رأسه هذه الليلة. لقد أحب عبد الرحيم السيد ، وصديق الطفولة إبراهيم ، وأصدقاء الدراسة حسن العابد ، وعبدا لله المصطفى ، وعبد الخالق .. كل هؤلاء الذين أضحوا زملاء الجبهة فيما بعد ، إلا أنه يتمنى لو ينساهم في هذه الليلة فقط. فهل يستطيع أن ينسى تلك المجموعة المميزة المتناقضة المتحابة.

ضحك عندما تصور عبد الخالق وعبد الله وهما يمشيان إلى جنب بعضهما بعض. منظر غير متناسق. فعبد الخالق طويل جداً ، يمسك صغار العصافير من أعشاشها في أعلى الأشجار ، دونما تكلف. أما عبد الله فقامته قصيرة ملفتة للنظر ، حتى أنه لم يستطع أن يحصل على بدله عسكرية تناسبه. فصاح حسن العابد يهما : (لم لا تعطي يا عبد الله نصف بدلتك لعبد الخالق. فتحلا تلك المشكلة. يا الله خلصانا).

استرخى محمد على الكرسي ، بعد أن أكمل لبس ملابسه ، داخلته مشاعر متناقضة. قال محدثاً نفسه (تلك ليلة فريدة. أشم بها رائحة الأرض التي أحببتها. رائحة الولادة والموت معاً. فلماذا هذا الخوف من الآتي ، الذي لن يأتي الآن. لا أدري ماذا أسمي هذا الشعور بالضآلة ، بالتلاشي. كيف استولت عليّ هذه القشعريرة الخجولة. كنت قبل قليل أستطيع تحديد مقاصدي ، تفسير مشاعري إلا أن هذه القشعريرة فجأة ، استولت علي دون إنذار مسبق فجعلتني خجلاً تارة ، ومرتبكاً تارة ، وتافهاً تارة أخرى. هل أدعها تفتك بي ، أم أقاومها ، أتمرد عليها).

مناداة أمه من خلف الباب أرجعته لحظة ، إلى عالم الواقع ، فأجاب (سآتي حالاً).
في هذه الليلة البعيدة عن الجبهة ، دوّت صافرات الإنذار ، إنها غارة للعدو.

قبل الصافرة بقليل كان الأطفال ، والنساء بصخبهم المكبوت لشهور عديدة فد ملأ الزقاق الضيّق ، وملأ بداية الليلة بأكثر من الضحكات والصياح. كان الكل يحاول رسم بداية جديدة ، لرواية لم تنته فصولها بعد. لذلك فقد حاول الأطفال والنساء وتحت رذاذ المطر الذي لم يعبئون به. أن يلونوا هذه الليلة بالألوان المفقودة في ذاكرتهم. أما الشباب فلم يكن له وجود ، لقد ظل بعيداً هناك. على الجبهة يشاغل العدو ، لإتمام هذه الليلة.

بعد الصافرة بقليل ، شاهد الأطفال وأفواههم مشدوهة ، وعيونهم قد اكتملت دائرة اتساعها ، نيزكا مروعا مشتعلا ، يهوي ، صاروخاً. لم يمهلهم كثيراً. لا وقت للتفكير ثم للتنفيذ والهرب. بل سقط مدوياً مفجراً الزقاق الصغير بأكمله. ثم خيّم الهدوء الشديد ، من جديد. وسمع من بعيد صافرات سيارات الإسعاف قادمة.



أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى