الجمعة ١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم إبراهيم سعد الدين

مُطالعات في القصة الفلسطينية المُعاصرة بالأرضِ المُحتلّة

قراءة نقدية في المجموعة القصصية: (أحمد ومورْدخاي) للقاصّ محمد علي سعيد

(1)

ينتمي محمد علي سعيد إلى جيلِ السبعينيات وما بَعْدها من كُتّاب القصة في فلسطين المحتلة. وهو جيلٌ تفَتّحَ وعْيه على جُرْحِ النّكبةِ عام 1948 بما أفرزته أحداثها وتداعياتها ونتائجها المأساوية من آثارٍ عميقة في الواقعِ الفلسطيني خاصّةً وفي الواقعِ العربيّ على وجه العموم. فقد عاشها الإنسانُ الفلسطينيُّ ـ في الخارج ـ غُرْبةً وشِتاتاً وحنيناً للوطنِ السّليب بأرضه وأهله وناسه وصوره وذكرياته وحكاياته المحفورة في المُخَيّلة والوجدانِ والضّمير والذاكرة . وعاشها ـ في الدّاخلِ ـ مأساةً يوميّة وقهْراً دائماً وكابوساً مُخيّماً على القلبِ والعقلِ وتمييزاً عُنصُريّاً وفصْلاً تَعَسُّفياً بالخَطِّ الأخضر وانتقاصاً للكرامة الوطنية والعِزّةِ القوميّة وإحساساً مُمِضّاً بفُقدانِ الأرضِ وتهديدِ الهُوَيّةِ ومَحْو التُّراث ـ بفعْلِ الاحتلالِ الاستيطانيّ الجاثمِ على جسَدِ الوطنِ والزّاحفِ كالمَرضِ العُضالِ على خلاياه الحَيّة وقِممه النّامية وذاكرته الجماعيّة. على أنَّ أعْمقَ الجِراحِ وأكثرها وجعاً وإيلاماً داخلَ الشعور الجمعي الفلسطيني والنّفْسِ العربيّة ـ كان جُرْحَ الهزيمةِ والإحساس بالانكسار والعَجْزِ وهواجس الخوفِ من المُستقبل في أعقابِ هزيمة الخامس من يونيو/حُزَيْرانْ 1967. حتى جاءتْ انتفاضة الأرضِ المُحتلة لتكونَ ميلاداً جديداً للذّاتِ الفلسطينية خاصّة والعربيّة على وجه العموم ـ وانبعاثاً لروحِ المقاومة والصمود وتجسيداً للحُلمِ الفلسطينيّ ـ العربيّ المطمورِ في غياهبِ الوعْي في التّحرّرِ والاستقلالِ واستردادِ الحَقِّ المُغتصبْ.

كانَ طبيعيّاً أن تنعكسَ آثارُ هذا الواقع ـ بكُلّ مُعطياته وأحداثه وملابساته وقسماته المُميزة وعلاماته الفارقة ـ على النتاجِ الأدبيّ الفلسطينيّ ـ شعراً كان أم نثراً ـ في الداخلِ والخارجِ على حَدٍّ سواءْ مع خصوصيةٍ مَيّزتْ تجربة الكاتب في كُلٍّ منهما. وإذا كان الشّعرُ أسبقَ في الوصولِ إلينا من الداخلِ مع أصواتِ محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم فإنّ القصّة والرواية الفلسطينية لم يتأخّرْ إسهامهما في رَفْدِ تَيّارِ الإبداعِ الأدبيّ وإن بقي الشّعرُِ مُتصَدّراً واجهة المشهد.

في هذه المجموعة القصصية التي بين أيدينا تتجسّدُ كُلُّ ملامحِ هذا الواقع وخصوصيّاته وتأثيراته العميقة على تشكيلِ وجدانِ المُبدع الفلسطيني وصياغةِ أحلامه ورؤاه وتشوّفاته. فالهَمُّ الوطنيُّ يختلطُ دائماً بالهَمّ الاجتماعيّ والإنسانيّ في وحدةٍ حميمة لا تنفصم. ومرارةُ الواقعِ تتجلّى في كُلّ تضاعيفِ وثنايا هذا العالم القصصيّ حتى ولو تَقّنّعتْ بأقنعة الرّمزِ أو توارتْ خلفَ مُفارقةٍ مُضحكة أو سُخريةٍ لاذعةٍ من هذا الواقعِ وتناقضاته الغريبة. بل إنه ـ هذا العالمُ القصصيُّ الذي نحنُ بصددِ الولوجِ إليه ـ لا يخلو من مُفارقاتٍ على صعيدي الشّكْلِ والمضمونِ معاً، فهو عالمٌ بسيطٌ ـ بساطة الطبيعةِ والفطْرة، لكنه مع ذلك ـ وربّما بسبب ذلك ـ عالَمٌ مُثيرٌ للدّهشةِ، بالغُ العُمقِ والتّنَوُّعِ شَديدُ الغنىَ مُتعَدِّدُ المداخلِ والدّروبِ والمسالك. وهو عالمٌ مفتوحَةٌ نوافذه وأبوابُه على اتّساعها، يدخله كُلُّ القادمين دونَ استئذانٍ، يتجوّلونَ فيه على راحتهم بغيْرِ عوائق أو كوابحَ أو قيود، ومعَ ذلك يظَلُّ ثَمّة هامشٌ لإمعانِ النّظرِ وإعمالِ الفِكْرِ وتفسيرِ الرّمزِ واستنباطِ إيحاءاته ودلالاته، فكاتبنا محمد علي سعيد فيه "حَداقةُ" أبناء البلد وخِفّة ظِلّهم ونظرتهم النّافذة وروحهم السّاخرة وإقبالهم على الحياةِ واحتفائهم بها رغمَ كُلّ ما فيها من ألمٍ ومكابدةٍ ومعاناة، وفيه أيضاً قُدرتهم الفّذّة على ترويضِ وَحْشةِ الواقعِ وجفائه وتقليمِ أظافره بالحُلمِ حيناً وبالمكرِ والحيلةِ حيناً وبالسُّخريةِ والتّنَدُّرِ حيناً آخر.

في قصّة (أحمد ومورْدخاي) التي تحملُ المجموعةُ القصصيّةُ عُنْوانها ـ يدورُ جوهرُ الصّراعِ بين إرادتَيْن شاءتْ أقدارُ التاريخَ أن تشْتبِكاَ في معركةٍ مصيريّة لا مَناصَ منها حتى وإن كانت ظروفُ الحياةِ والأمرِ الواقعْ قد فرضَتْ عليهما أن يتعايشا معاً، فلا ديمومةَ ولا أمنَ ولا استقرارَ لحياةٍ يتقاسمها غاصبٌ ومُغْتصَبْ إلاّ بعد عودةِ الحَقِّ لأهله وإقرارِ سلامٍ قائمٍ على العَدْلِ والكرامةِ والمساواة. يقول المُجَنّد مورْدخاي مُخاطباً المُناضل الفلسْطيني أحمد الذي يعرفه حَقَّ المعرفة:
"ـ أحمد.. حاوَلْتُ أن أذهب إلى مُخيّمٍ آخر.. لكنهم رفضوا
فيجيبه أحمد:

ـ ستجدني في كُلِّ مُخيّم
ـ أحْمَدْ..
ـ مَرْدوخ... مَرْدوخْ... مُرٌّ زائدْ دُوخْ
ـ ............
ـ لماذا "تدوخونَ" لكيْ تزرعوا المرارةَ في حياتنا..؟!
ـ نُريدُ أن نوقفَ الانتفاضة.
ـ لن تَقف
ـ لماذا..؟!
ـ لأنها لم تُحَقّقْ أهدافها بعْد
ـ الطريق طويلة ومليئة بالجراح
ـ إعتَدْناها... وأصبحَتْ نمطَ حياة
ـ نمط حياةٍ صَعْب... صَعْب جِدّاً
ـ سنَسْتَمِرّ.. لا مَفَرَّ ولا بَديل.. حتى قيامِ دولة فلسْطين.." (ص 72)

الإنسانُ الفلسْطينيّ الكادح والبسيط هو لُحْمةُ وسَداةُ هذا العالم القصصيّ وهو بطله المناضلُ على أكثر من جبهة، بدءاً بتأمينِ لقمةِ عَيْشِه وانتزاعِ قوته اليوميّ وقوتِ أولاده من براثنِ واقعٍ جائرٍ لا يَرْحم، وانتهاءً بالمواجهةِ الدّامية مع جنودِ الاحتلالِ وأسلحته الفَتّاكة وعُدوانه المُدَمِّر. وهو ليسَ بطلاً أسطوريّاً يواجه قَدراً كوْنيّاً ولَعْنةً أبديّة، ولا هو بطلٌ تراجيديٌّ تكمنُ بذورُ مأساته في داخله، لكنه ـ إن جازتْ التّسْمية ـ بطلٌ تاريخيٌّ يُواجهُ قَدراً تاريخيّاً غاشماً أفرزَ ـ على أرضِ الواقعِ ـ صراعاً مريراً مُتعَدّدَ الرؤى والأبعادِ، تترابطُ حلقاته ودوائره في ضفيرةٍ واحدة، ويَنْصَهِرُ فيه ما هو وطنيّ وما هو اجتماعيّ وما هو إنسانيٌّ في بوتقةٍ واحدة، وتَمْتزجُ كُلّ عناصره في سبيكةٍ واحدة.

في قصة (المسيرة) ينسَحِبُ الطّفل الصّغير ـ الكبيرُ من المسيرة ويسقطُ من فرط الإعياءِ والتَّعب على رصيفِ الشّارعِ مُسْنِداً ظهره إلى الحائطْ. هو طِفْلٌ حَزينٌ وجائعٌ ومُجْهدٌ ومُسْتَنْزَفٌ من طولِ السَّيْرِ والهتافِ بالمسيرة. يظلُّ مُلقى على الرّصيفِ يتلقّى أنواطَ الشجاعةِ وعباراتِ الإعجابِ والإشادة ببطولاته دونَ أن تمتَدَّ له يَدٌ حانيةٌ بطعامٍ أو شَرابْ. كيفَ يُواصلُ المسيرةَ جائعٌ لا يُقيمُ أودَه بِكِسْرةُ خُبز أو تَبُلُّ رمقَه شرْبةُ ماءْ..؟!.

ثيمةُ النّضالِ الوطنيّ ـ إذَن ـ لا تنفَصِلُ عن رغيفِ الخُبْز، فهما وجهانِ لعُملةٍ واحدة يتعزّزُ بهما الصّمودُ وتتواصَلُ المسيرة.

غيْرَ أن الكفاحَ من أجلِ الحُرّيّةِ والاستقلالِ ليسَ حُلماً طوباويّاً يتأتّى بمُعجزةٍ، كما أنَّ البطولةَ ليسَتْ فِعْلاً فَرْدِيّاً مُتجاوزاً للواقعِ أو خارقاً للعادة، بل هي إنْجازٌ إنسانيٌّ يتَحَقّقُ بإرادةٍ بشريّةٍ جماعيّة، فلا وجودَ للبَطَلِ بمعْزلٍ عن جموعِ النّاسِ واحتضانهم له وإيمانهم به، وتجسيده هو لحُلْمهم وأمانِيِّهم المشروعة.

هكذا تتَبَدّى لنا صورةُ البطلِ ـ المُناضل في قصة (حياة) وهي واحدةٌ من أفضلِ قصصِ المجموعةِ وأكثرها عُمْقاً وتَمَيُّزاً على المُسْتويَين الفَنّي والموضوعي. البطلُ ـ هنا ـ ليسَ صورةً ذِهْنِيّةً مثاليّةً أو كاملة، بل هو كينونةٌ حيّةٌ مُتخلّقةٌ من لَحْمٍ ودَم، فيه ما في البشرِ من مواطنِ قُوةٍ ونِقاطِ ضَعْفٍ وعناصرِ تفوّقٍ ونقائص وعيوبْ. من أينَ تأتي البطولة إذَنْ..؟! من النّاسِ أنفسهم.. من إيمانهم بعدالة قضيتهم وثقتهم بالنّصرِ مهما غلت التضحيات وتعقّدت المسيرة. فبطلُنا هنا ـ علي المحْمود ـ المُطارَدُ من قواتِ الاحتلالِ تقوده الأقدارُ إلى الاختباءِ في بيتِ حبيبته وحُلْمِ عُمره "حياة" التي شاءتْ الظروفُ أن تتزوّجَ بغيْره. ويظلُّ طيلةَ الوقتِ أسيرَ حُلمه القديم ورغباته الجامحة فيها، حتى يُدركه الضّعْفُ والخورُ في النهاية وهو يُحِسُّ بقواتِ الاحتلالِ وقد ضيّقتْ عليه الخناق وأحاطتْ بالبيتِ إحاطة الخاتمِ بالإصْبع، فيَهِمُّ بالاستسلامِ حتى تُدركه يدُ خصمه وغريمه الشَّيْخ ـ زوج محبوبته حياة ـ بِطَوْقِ النّجاةِ في تفانٍ نادرٍ وإنكارٍ للذّاتِ وإيثارٍ للوطن وتسامٍ فوقَ الحساسيات الشخصيةِ والكبرياءِ المزعوم، فشرفُ الإنسانِ هو شَرَفُ الوطنِ كُلّه. تأمّلْ معي هذا المشهد الختامي للقصة حيث هواجس بطَلنا على المحمود تتواترُ على مُخَيّلته في حوارٍ داخليّ (مونولوج):

"تجلسُ إلى الشيخ تُبادله الحديث والهمومَ وأخبار الدّين والدُّنيا.. وتختلسُ النظرَ إلى "حياة" وفي نظراتكَ تتوهّجُ رغبةٌ شبقيّة.. وكثيراً ما كانتْ نظراتكَ تخترقُ ثيابها المُحتشمة.. وتنزعُ عنها ثيابها قطعةً قِطْعة وتسْتَمْتعُ برؤيتها عارية.. ويأخُذُكَ خيالك الشّرْقيُّ المُجَنّح والمُراهق بعيداً فتضمّها وتقبّلها وتداعبها و.....
وتَهُزُّ رأسكَ بعُنف وتُحَدّقُ في السقفِ أو أمامكَ وتستغفر ربّكَ لتطرُدَ صورتها العارية من خيالكَ حُرْمَةً للبيت وللشيخ وللمروءة". (ص 125)

ثُمّ ينتقلُ الحوار الدّاخليُّ أو هَمسُ الذّاتِ إلى حوارٍ خارجي (ديالوج) بين علي المحمود الذي يتهيأ للاستسلامِ تحت وطأةِ الإحساسِ باليأسِ من المقاومة وعدم جدوى الهروب، ومُضيفه الشيخ الذي يبادره بقوله:
 أيْنَكَ يا رَجُلْ..؟! ماذا أصابك..؟!
 لِكُلّ شيء نهاية يا شَيْخنا.
رَدّ علي المحمود باستسلام.
 لا.. لا يُمكن أن يُمْسِكوك.. أُدْخُل إلى الحَمّام .. حياة مثل أختك.. أسْرعْ.. أسْرِعْ.. حياة مِثْلَ أخْتك.. حياة مثلَ أخْتك. (ص 126)
ويعودُ (المونولوج ) الدّاخلي ليَضَعَ اللمسة الأخيرة والبليغة في هذه القصة البديعة:
"ودَخَلْتَ يا علي الحَمّام.. وكانتْ حياة تستحمُّ عاريةً.. ورغْماً عنكَ حانت منكَ نظرة إليها.. ورأيْتها في كاملِ ثيابها المُحتشمة.
وكان المساءْ.. ووُلِدَتْ قصة جديدة". (ص 126)

لقد كانتْ ولادةً جديدة حقاً لبطلٍ جديدٍ مُتحَرِّرٍ من هواجسِ الماضي وأشباحه وجراحه وخيالاته المرَضِيّة، ومُتَهيئاً لمواجهةِ تحدّياتِ الحاضرِ بثقةٍ ورباطةِ جأشٍ وقلبٍ أكثرَ ثباتاً وعزيمة. هل كانتْ بطولة "بطلنا" تتحَقّق لولاَ دفعةُ يدِ الشّيْخ في جسارةٍ وسُموٍّ وارتفاعٍ فوقَ صغائرِ الذّاتِ وإدراكٍ حقيقيّ لمعنى الشّرفِ والمروءة.. شرف الإنسانِ والوطنْ..؟!.

على أنَّ موضعَ الجمالِ والتّميُّز في هذه القصة لا يقتصرُ فقط على نُضْجِ الرؤيةِ وغنى المضمون وثراءِ المعنى، وإنما يتجاوزُ هذا كُلّه إلى الشّكلِ الفنّيّ من حيثُ طريقة القصّ وأسلوب المعالجة والمهارة في استخدامِ الرّمز الذي يذوبُ ذوباناً في ثنايا العملِ الفنّي فلا نلمسه إلاّ جوهراً مُشِعّاً يُضيءُ النّصَّ ويزيده عُمقاً وإيحاءً ودلالة.
وهنا نتوقف قليلاً عند استخدام الرّمز في العمل الفني ـ بشكلٍ عام ـ والعالم القصصي الذي نحن بصدد التعريف به ـ بشكلٍ خاص. فالعملُ الفنّي أشبه بلُعبة من ألعابِ السِّحْر التي يبرعُ فيها الحواة، وهي لعبةٌ لها منطقها الخاصّ وقانونها غير المُدَوّن، فمع أننا نعلمُ ـ مُسبقاً ـ أن ما نراه ليسَ سوى مهارة ودَرَبة وخِفّة يَدٍ وخداع بصرٍ لا أكثر، إلاّ أننا نبقى مبهورينَ ـ طيلة الوقتِ ـ مأخوذين بما نراه، فهي كذبة مَحبوكة ومُتّفقٌ عليها بين السّاحر وجمهوره بشرطِ ألاّ تفلت خيوط اللعبة من يدِ السّاحر وتنكشف الخدعة فتفقدُ اللُّعبة منطقها ومشروعِيَّتها وينصرف الجمهور عنها. هكذا الفَنّ، يتطلّبُ حذْقاً ومهارةً في صُنعه وصياغته ونسْج خيوطه حتّى لا تنكشفَ لُعبة الفنّانِ ـ شاعراً كانَ أم رَسّاماً أم قاصّاً ـ فيفقدُ الفنُّ صدقه وجلالَه ومشروعيّته، ويخسرُ ـ مع هذا كُلّه ـ تواصل القارئ أو المُتلقّي وتجاوبه معه. واستخدام الرّمز في أُجروميّة القصة هو جزءٌ حيويّ وحَسّاسٌ في هذه اللّعبة ـ لُعبة الفَنّ. فالعمل القصصي ليسَ مُعادلة رياضية يُمكن ترجمة رموزها وفكّ ألغازها، وإنما هو كائنٌ حَيّ لا يَمنحُ نفسه بسهولة، بل يحتاجُ منّا ثقافةً ودَرَبةً وتَمَرُّساً، ويتَطلّبُ مُعايشةً وتآلفاً واستيعاباً ـ واستئناساً وترويضاً في بعض الأحيانِ ـ حتى نصلَ إلى خفاياه وأسراره ونضعُ أيدينا على كنوزه ودُررَه الثمينة. وكُلما زادَ ثراءُ النّصّ القصصي وخِصْبه تضاعفتْ قُوّةُ جَذْبه وأوْجَبَ عليْنا أن تكون قراءتنا له أكثر عُمقاً وبصيرتنا أكثر نفاذاً وتأمُّلنا فيه أكثر أناةً وصَبْراً، فبقَدْرِ الجَهدِ تكونُ المُتعةُ والكَشْفُ وبلوغُ الغايةِ من الفَنّ.
من هنا كان الرّمزُ أداةً بالغة الحساسية والقيمة في الفَنّ القصصي. ذلك أنه كُلّما توارى عن أعيننا واختلطَ بماءِ الفنّ وذابَ في نُسْغه، كانَ العملُ أكثرَ تألّقاً وبهاءً وجمالاً. وعلى النقيضِ من ذلك، حين يكون الرّمزُ واضحاً وبادياً للعيان تنكشفُ لُعبة الفنّ ويَزولُ عنه سحره وطلاوته وتَخْبو جذوته وتَفَْتُرُ حَرارةُ الصّدْق فيه.

وللرّمزِ ـ في عالم محمد علي سعيد القصصي ـ مكانةٌ مرموقةٌ ومتميزة ، غير أنّ المساحة التي يشغلها من العمل القصصي وحظَّه من الإسهامِ في جودة العمل الفنّي يتفاوتانِ ما بين قصة وأخرى. ففي قصص (التمثال) و (حكاية الجيران) و(ولادة) يشغَلُ الرّمزُ مساحةً هائلة ويبدو أكثرَ وضوحاً وجلاءً منه في قصة (حياة) أو قصة (الشارع) التي هي أيضاً واحدة من أفضلِ قصصِ المجموعة، ليسَ فقط لبراعة القاصّ في استخدام الرّمز وإنما أيضاً لأنه ينزعُ ـ في هذه القصّة ـ نحو ارتيادِ أفقٍ جديد في الكتابة القصصية ـ شكلاً ومضموناً ـ رغم أنها من بواكير أعماله القصصية (عام 1978). فالبطلُ هنا ليسَ طِفلاً من أطفالِ الحجارة ولا هو مُناضلٌ ثوريّ أو مُثقّفٌ مأزومٌ أو...أو... بل هو شارعٌ كَكُلّ شوارعنا التي نَعْبُرُها كُلّ يومٍ ونتسكّعُ فوقَ أرصفتها ونجلسُ على مقاهيها ونتعثّرُ أحياناً في حُفرها ـ دونَ أن يَخطُرَ ببالنا يوماً أن نتّخذها موضوعاً لعملٍ قصصي، ناهيكَ عن أن نمنحها دورَ البطولةِ في هذا العمل، مثلما فعلّ قاصُّنا محمد علي سعيد بمهارةٍ ونفاذِ بصيرةٍ وخِفّةِ ظِلّ تُثيرُ الدّهشة حقّاً. هذا الشارع غير المُمَهّد والمليء بالحُفرِ والمَطَبّاتِ والأتربة والغبار ـ صيفاً ـ وبِرَكِ الماءِ الآسنِ والطّين والوحلِ ـ شتاءً ـ هو بطلُ هذه القصة وفارسها الوحيد دون مُنازع. فهو شارعٌ مليءٌ بالكبرياءِ وعِزّةِ النفس والإحساسِ بعراقةِ الأصلِ وعِظَمِ القَدْرِ والمكانة، مُتَمَرّدٌ مُسْتَعْصٍ على التّرويضِ والإهمالِ والتجاهل من بني البشر، فيبادلهم السّبابَ والشتائمَ بضحكاتٍ أقْذَعْ، ويبادلهم السُّخريةَ والاسْتهزاءَ باستخفافٍ ألّذعْ وتكديرٍ للعَيْشِ أنكى وأمَرّ.

ويَمْضي الكاتبُ في سَرْدِ وقائعِ هذه المنازلة بين الشارع والنّاس، مُطلقاً العنانَ لخياله ومقْدِرته الفَذّة على تكوين المَشْهد المثير للدّهشة وخَلْقِ الموقف الذي ينتزعُ منّا الضّحكة من القلبِ ويَبْعَثُ الآهة من قرارِ الرّوحْ.

في قصّة (الجنازة) يُمسِكُ القاصُّ بِمِبْضَعِ الجَرّاحِ ليكشفَ لنا مدى فجاجةِ الزّيفِ والنفاقِ الاجتماعي، من خلال مَراسِمِ جنازةٍ لأحد المُتوَفّين بالبلدة ـ وهو شخصٌ نَكِرة ومَغمورٌ لا وَزْنَ له ولا قيمة اجتماعية، لكنه يتحوّلُ على لسانِ واحدٍ من مُحترفي الخطابة في الجنائز ـ إلى بطلٍ قوميّ ووجيهٍ من وجهاءِ البلدة. وهي مُفارقةٌ تُثيرُ الدّهشةَ والاستغرابَ وتُفَجِّرُ الضّحكَ وتُوصِلُ رسالتها البليغةَ أيضاً للعقولِ والضّمائر.
هذا الحِسُّ المُرهَف والوَلَعُ الجميلُ بالفُكاهةِ يَخلقُ بيننا وبين الكاتب وشخوصِ قصصه أُلفةً ودِفئاً حَميماً ويوثّقُ عُرى التواصلُ بيننا وبين عالمه القصصيّ، فيزدادُ تأثُّرنا به وانفعالنا بأحداثه ووقائعه وقُرْبُنا من شخوصه ومن ثَمَّ إدراكُنا لفحواهُ ومضمونه.

إذا كانَ النضالُ الوطنيّ ورغيفُ الخُبزِ صِنْوانِ لا يفترقان في هذا العالم القصصي البسيطِ والمُتشابكِ في آنٍ واحدٍ، فإن تحريرَ الوطن ـ من منظور هذا العالَم ـ لا يتحَقّقُ أيضاً إلاّ بتحريرِ العقلِ والضميرِ والإرادةِ من كُلّ أشكالِ القَهرِ والزّيفِ والجمودِ والتخلّفِ الاجتماعيّ والإنسانيّ.

في قصة (الشيخ مَبروك) نجدُ أنفسنا بإزاءِ مواجهة مُتعددةِ الزوايا والأبعادْ، بين المُثقّف وواقعه المليء بالكذبِ والدّجلِ والتدليسِ من جهة، وبينه وبين ضميره الحَيّ وخياراته الصّعبة من جهة أخرى. ماذا يفعلُ المُثقفُ الواعي وهو يرى جُموعَ البُسطاءِ تنساقُ ـ في غيبوبةِ الجَهلِ والخرافة ـ خلفَ نفرٍ من الدّجّالينَ المُتاجرين بالغَيْبِيّاتِ حيثُ يتحوّلُ الدّينُ بين أيديهم إلى طقوسٍ للدّجلِ والشّعوذةِ ومُغازلة المشاعرِ يبسطونَ ـ من خلالها ـ هيمنتهم وتسلّطهم على عقولِ العامّةِ وإرادتهم ومصائرهم، ويستنزفونَ مالهم وعرقهم ليحوّلوهما إلى ثرواتٍ مُكَدّسةٍ في بطونهم..؟! ما هي مسؤوليّة المُثقف الذي يعرفُ الحقيقةَ ويراها رأيَ العيانْ.. هل يبوحُ بها للنّاسِ ويواجه قدَرَه ما بيْنَ شقَّيْ الرَّحى: جهل النّاسِ وشللِ إرادتهم وانقيادهم الأعمى، وسطوة الدّجّالينَ وبطْشهم به..؟! أم تُراه يؤثرُ السّلامةَ ويلوذُ بالصّمتِ فيواجهُ عذابَ الضّميرِ وأرَقَ الإحساسِ بالجُبْنِ والتّخاذُلْ..؟!

إلى أيِّ الخياريْنِ ينحازُ المُثقّف..؟! بطل القصّة ـ وهو الرّاوي ـ يختارُ الطريقَ الصّعْبَ والمحفوفَ بالمخاطر، طريقَ الضّميرِ الحيّ والمواجهةِ الجسور والكَشْفِ الشُّجاعِ عن الحقيقة مهما بلغَتْ قسْوةُ التّبعاتِ وفداحة الثّمنِ الذي يتكبّده المُثقف.

هذه الإشكاليّة ذاتها ـ مواجهة الإنسانِ مع ذاته والاحتكامِ إلى الضمير ـ تتكرّرُ بصورةٍ أخرى في قصة (في انتظارِ القرار) وإن اختلفتْ الصياغةُ وتباينت الرؤية.

هكذا يتبدّى لنا ـ عنْ قُرْب ـ عالم محمد علي سعيد القصصي، موغِلاً في انتمائه إلى الأرضِ والوطن، مُنْغَمساً في جراحه وآلامه وأوجاعِه، مُتوحّداً مع أحلامه ورؤاه، مُحَمّلاً بهمومِ البُسطاءِ والفقراءِ المُؤمّلين في غدٍ تُضيئه شمسُ الكرامة وتُظلّه شجرةُ العَدْل وترويه ينابيعُ الأمنِ والإشباعِ والطمأنينة.

هذا على صعيد المضمون فماذا عن الشّكْلِ الفَنّي..؟!

العملُ الفنّي ـ والقصّة القصيرة ضَرْبٌ من ضروبه ـ كُلٌّ لا يتجزّأ وكائنٌ حَيٌّ مُكتَمِلُ الخَلْقِ والكينونة لا تنفصمُ فيه الرّوحُ عن البدنِ ولا ينفصَلُ الشّكلُ عن المضمون. ومحمد علي سعيد هو أحدُ البنّائينَ المَهَرَة في ميدانِ القصّة القصيرة، فهو يُشَيّدُ عالمه القصصيّ لبِنَةً فوقَ أخرى بدأبٍ وأناةٍ ومِزاجٍ رائق ومَحَبّةٍ غامرة لفَنّه وقارئه. وهو حَكّاءٌ جميل يُذَكِّركَ بذلك الجيل الطّيّب من المُحَدّثينَ والرُّواةِ في قرانا البعيدة، أولئكَ الذين كانت موهبةُ القَصِّ فِطرةً وسليقةً في دمهم يتوارثونها جيلاً بعد جيل، في حكاياتهم ذلك الدّفءُ الأنيسِْ والسّحرُ الأخّاذْ، وفي أصواتهم تلك النّبرة الواثقة والإيقاعُ الآسِرْ والألفةُ المُحَبّبَة. هكذا يصوغُ مُحمّد علي سعيد قصصه ويحكيها لنا بروحٍ عَذْبَةٍ صافية يغلِبُ عليها حِسُّ الفُكاهةِ وخِفّةِ الظّلّ، ورؤيةٍ شَفّافة تُنفذُ إلى صميم الأشياءِ وجوهرها وتسْتخلصُ منها رموزها ودلالاتها ومعانيها، وبِلُغةٍ رائقةٍ مُصَفّاة تنزعُ إلى البساطةِ وتعتمدُ أسلوبَ السّردِ والتقريرِ والمباشرة، لكنها لا تَكُفُّ عن إدهاشنا طيلة الوقت، فهي قصص أقربُ ما تكونُ إلى "الواقعية النقدية" التي تُعملُ مِبْضعها في جسدِ الواقعِ المُعاش لتكشفَ عيوبه وسوءاته، وتغرسُ جذورها في صميمِ الحياة اليوميّة، تسْتقي منها مادّتها الأوّليّة لتُعيدَ تشكيلها وصياغتها من جديد، ومع ذلك فهو عالَمٌ قصصيٌّ حافلٌ بكُلّ عناصرِ الجَذْبِ والإمتاعِ والتّشويقِ، التي هي شرْطٌ جوهريّ من شروطِ الفنّ الحقيقي والإبداعِ الأصيلْ.

قراءة نقدية في المجموعة القصصية: (أحمد ومورْدخاي) للقاصّ محمد علي سعيد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى