السبت ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٤
بقلم إدريس ولد القابلة

قضايا مغربية - القسم الأول : قضايا سياسية

  1. النظام السياسي بالمغرب
  2. الجغرافية السياسية بالمغرب
  3. النظام و المسألة الدينية
  4. المسلسل الديموقراطي من أين و الى أين؟
  5. السياسية ومكر السياسة
  6. موقع السوسيين في الركح السياسي بالمغرب

النظام السياسي بالمغرب

يتوخى النظام السياسي المغربي الاعتماد على قواعد الديموقراطية البرلمانية المرتكزة على الاقتراع العام مع الاحتفاظ بسلطات حاسمة بيد طرف واحد غير خاضع للتغيير(الملك). وهو نظام تأسس على دستور بلورته مجموعة من الخبراء في ميدان القانون الدستوري, دستور لم يخضع بأي شكل من الأشكال لنقاش واسع بمساهمة جميع الأطراف و الفعاليات و الشعب المغربي. انه دستور جاء بالأساس, حسب رأي عدد من المتخصصين في القانون الدستوري, لعقلنة الديموقراطية البرلمانية المغربية. و حسب رأي هؤلاء, فان نظام الغرفتين المعتمد هو مجرد طلاء ديموقراطي لم يغير من طبيعة سلطة الحكم.
و يرتكز النظام السياسي بالمغرب, حسب منطوق الدستور, على كون السيادة للأمة تمارسها مباشرة عبر الاستفتاء و بطريقة غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية. إلا أن الدستور لم يوضح من هي هذه الأمة, هل هي مجموع الناخبين (المغاربة البالغ سنهم 18 سنة فما فوق), أم هي كافة المغاربة المقيمين على أرض المغرب؟
و مهما يكن من أمر فهي ليست الشعب, لأنه إذا كان الأمر كذلك لاستعمل الدستور المغربي لفظة الشعب عوض الأمة, اعتبارا لكونها أكثر دقة و تداولا من طرف الجميع.
إذن في منظور الدستور المغربي, السيادة للأمة و ليست للشعب. علما أنه استعمل عبارتي أمة و مواطنين و لم يستعمل لفظة الشعب بالمرة. فحسب الدستور المغربي السيادة للأمة و للملك حق ممارسة السيادة باعتباره الممثل الأسمى للأمة, و باعتبار ملك المغرب يسود و يحكم, خلافا لمل هو الحال في الملكيات الدستورية الغربية حيث الملك أو الملكة يسود و لا يحكم.
فالملك بالمغرب يعين الوزير الأول, والحكومة المغربية مسؤولة أمام الملك قبل أن تكون مسؤولة أمام البرلمان. و للملك سلطة حل البرلمان و هذا من شأنه فتح المجال لممارسة السلطة التشريعية, علاوة على إعلان حالة الاستثناء و هي سلطة غير محدودة, كما يمكن للملك تعديل الدستور و تقديم مشروع دستور للاستفتاء. و سلطة الملك حسب الدستور سلطة مطلقة و هي دستوريا في مأمن من أي اعتراض اعتبارا لأن شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته. علما أن الحصانة البرلمانية بالمغرب لا تشمل التعبير عن آراء تجادل في النظام أو في المؤسسة الملكية.
و في رأي بعض فقهاء القانون الدستوري, إن هذا الواقع يتعارض مع حق المواطنين في انتقاد الحاكمين كما تنص على ذلك مختلف المواثيق الدولية.
لكن هل فعلا الدستور المغربي يضمن تكريس الديموقراطية؟
أولا انه دستور ممنوح, لم يساهم الشعب المغربي في بلورته, و إنما عرض عليه للتصويت بعد منحه مهلة أسبوعين للتفكير, و تم التصويت عليه بنعم, و بذلك حدد المواطنين مستقبلهم و مستقبل الأجيال القادمة إلى أن يعرف المغرب دستورا آخر.
و الدستور المغربي يمنح الأولوية للحكومة في تحديد جدول أعمال الغرفتين(مجلس النواب و مجلس المستشارين) و بذلك يمكنها في أي وقت- بمقتضى الدستور- إرجاء النظر في مشاريع القوانين التي لا تروقها و لا توافقها. علاوة على أنها, بواسطة قوانين التأهيل و مراسيم التدبير التي تقرها بين الدورات البرلمانية يمكنها التدخل مباشرة في اختصاص البرلمان و تمرير جملة من القضايا.
إضافة إلى أن الحكومة يمكنها توسيع سلطتها التنظيمية بواسطة مشاريع القوانين-الإطار و هو حق يخوله لها الدستور.كما أنه يمكنها أن تلجأ إلى مسطرة الاستعجال قصد التقليص من مدة نقاش القوانين من طرف البرلمان و أن تنحي بواسطة التصويت دفعة واحدة التعديلات التي لا ترغب فيها و لا تروقها, وذلك باللجوء إلى اللعب على ورقة : إما الكل أو لاشيء. و كل هذا بمقتضى الدستور, وهو أسلوب يمكن الحكومة إما من القضاء على النصوص التي لا تروقها و إما من التعجيل بالبث في تلك التي تروقها.
و علاوة على هذا و ذاك, و حتى في حالة اتفاق الغرفتين يمكن للملك سحب أي نص نهائيا من البرلمان.
وحسب البعض إن مختلف هذه الإجراءات من شأنها إفراغ اللعبة البرلمانية من روحها الحقيقية و الجوهرية, بحيث ليس من الممكن إقرار قوانين و نصوص لا تروق الحكم, كما أنه لا يمكن بالمقابل رفض نصوص يرغب فيها.
ومهما يكن من أمر فان الملك- بمقتضى الدستور- له الحق في تقديم مشروع تعديل دستوري يحد من سلطات البرلمان للاستفتاء. كما تظل إمكانية حل البرلمان دائمة الحضور- بمقتضى الدستور, إذ للملك الحق في حل البرلمان أو إحدى غرفتيه.
و بذلك يعتقد البعض أن ما يريده الحكم هو ما يكون, لأنه مسموح له دستوريا بإقرار القيود القانونية التي تقيد ممارسة حريات المواطنين الأساسية.
و فيما يخص ممارسة وظيفة المراقبة, فان الدستور يمنع تشكيل لجان التحقيق الدائمة و لا يسمح بخلق لجان تحقيق إلا بطلب أغلبية أعضاء إحدى الغرفتين. و إذا أضفنا مقتضيات الاحترام الواجب للمؤسسة الملكية, فانه يبدو بجلاء حسب رأي البعض, أن الدستور المغربي سهب في وضع قيود قاسية لممارسة المراقبة البرلمانية, ما دام أنه ليس من السهل ضمان أغلبية لتشكيل لجان التحقيق و مادام أن الدستور لا يسمح بانتقاد المؤسسة الملكية.
و الحكومة المغربية تظل حكومة تحت الإمرة, فالوزير الأول يعينه الملك و يقيله متى شاء, و هو واقع على الدوام تحت وصاية الملك و لا يمنكه الإفلات منها. إضافة إلى أنه ليست للوزير الأول أية سلطة على باقي الوزراء الذين هم مسؤولين أمام الملك و مطالبين بتطبيق التوجيهات الملكية.
و فيما يخص استقلال المجلس الدستوري و السلطة القضائية, فحسب الفصل 79 من الدستور, فان الملك هو الذي يعين نصف أعضائه كما يختار رئيسه.
و في مجال حماية الحقوق و الحريات فان الدستور يعهد للملك حمايتها. أما فيما يتعلق باستقلالية القضاء, فان الدستور يوفر نوعين من الضمانات, عدم قابلية قضاة المحاكم للعزل و هيأة لحماية القضاة : المجلس الأعلى للقضاء المكلف بمهمتين, اقتراح القضاة لتعيينهم من طرف الملك و السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة. إلا أن تشكيلة هذا المجلس حسب ما هو منصوص عليه في الدستور تجعل منه هيأة خاضعة للسلطة. إذ أن هذه التشكيلة تعطي الامتياز للأعضاء المنتخبين من طرف القضاة ، في حين ينم تعيين خسة لهم صوت مرجح, علاوة على أن اثنين من هؤلاء هما أعضاء في السلطة التنفيذية.
و هكذا تتضح أن السلطة التشريعية للبرلمان المغربي محدودة, و سلطة النواب في المجال المالي مقيدة, و أن الدستور يكرس أولوية الملك التشريعية باعتباره مشرعا أعظما, كما يكرس أولوية الحكومة على البرلمان في المسطرة التشريعية. علما أن التشريع المغربي مازال يتسم بغلبة مشاريع القوانين على مقترحات القوانين.
و بالتالي يبدو أنه يكاد يكون من المستحيل لأية مؤسسة أن تواجه ما يريده النظام و بذلك تم إغلاق دائرة اللعبة البرلمانية المغربية.
و هذا يجرنا إلى التساؤل حول مدى تكريس حق تقرير المصير بالمغرب.
فمن المعلوم أن حق تقرير المصير تم التنصيص غليه في العهدين الدوليين الخاصين سواء بحقوق الإنسان المدنية و السياسية أو بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية(1966). وقد تصدراهما معا بنفس الصيغة و بدون تغيير اعتبارا لأهميته القصوى و حيويته و تأكيدا لوحدة حقوق الإنسان و عدم قابليتها للتجزئة.
و حق تقرير المصير يعد من المبادئ الأساسية و هو حق يقر بحق الشعوب في اختيار و تأسيس كيانها و نظامها السياسي.
و في هذا الصدد بعثت الدولة المغربية إلى جنيف في 27 غشت 1999 تقريرا رصدت فيه التقدم الطارئ بخصوص حقوق الإنسان بالمغرب. و فيما يخص حق تقرير المصير جاء في هذا التقرير أنه " حق أساسي أولت له الدولة المغربية عبر تاريخها السياسي و الدستوري أهمية بالغة و شكل تابتا من توا بثها ]...[وتذكروا أن دساتير 1962, 1970, 1972,
1992 و 1996 كلها وضعت أساس النظام السياسي المغربي وفق مبدأ تقرير المصير, و الدليل أن السيادة للأمة تمارسها مباشرة عبر الاستفتاء و بواسطة الهيئات الدستورية ]...[
و أن الأعضاء البرلمانيين يستمدون سلطتهم من الأمة".
كما سطر ذلك التقرير أن حق تقرير المصير كان الشغل الشاغل للدولة المغربية منذ البداية. و بذلك يكون المغرب قد سبق العهدين الدوليين في هذا المجال مادام أن حق المصير معمول به منذ دستور 1962 فبل العهدين الدوليين السابقين الذكر (1966).
و ما يهمنا في هذا الصدد هو الشق المحلي و ليس الدولي, في التعامل مع هذا الحق. إذ أن البعض بالمغرب – لاسيما الجمعية المغربية لحقوق الإنسان و بعض التنظيمات السياسية – يعتبرون أن المغرب مازال لم يعرف بعد التطبيق الفعلي لحق تقرير المصير, وذلك اعتبارا لكون أن الدستور ممنوح و ليس نابعا من إرادة الشعب الذي لم يسبق له أن شارك أو ساهم في بلورته أو إعداده, إذ غالبا ما كان يتم إعداد الدستور و يتم التصويت عليه مع الدفع بالتصويت بنعم بجميع المسائل الممكنة الظاهرة منها و الباطنية لتبرير النتيجة المعلن عنها و التي غالبا ما كانت تقارب نسبة 99, 99 %. و اعتبارا كذلك لكون أن جميع الدساتير تكرس السلطة التشريعية و التنفيذية و القضائية بين أيدي المؤسسة الملكية, علما أن المؤسسة الملكية مقدسة دستوريا و هي فوق السلطات كلها. كما أن الحكومة مقيدة بحدود دستورية. علاوة على أنه لم يسبق أن خرجت أي حكومة من الحكومات السابقة من صناديق الاقتراع, و إنما كانت و لازالت تعين, و هي إما أن تكون حكومة تقنوقراطية أو سياسية أو تقنوسياسية. أما فيما يتعلق بالنظام الاقتصادي, يعتقد هؤلاء أنه لم يسبق أن تمت استشارة الشعب المغربي بخصوص النظام الراغب في اعتماده و إنما ظل يفرض عليه فرضا بطريقة فوقية.
و مهما يكن من أمر فانه في عصر العولمة إن جميع الشعوب سترتاح من حق تقرير مصيرها مادام السوق هي التي ستحدد كل شيء بدل و مكان الشعوب و عوضها.

الجغرافية السياسية بالمغرب

إن الجغرافية السياسية بالمغرب ارتكزت على الدوام على العلاقة الوطيدة القائمة بين السياسة الداخلية و الحرص على الانفتاح على أوروبا و الشرق الأوسط. و هناك 3 أهداف دائمة الحضور طبعت السياسة المغربية : البحث على استكمال الوحدة الترابية, استعمال الموقع الجغرافي للمغرب و الإسلام. و هذا في إطار البحث باستمرار على الحفاظ على الانتماء الإفريقي و المغار بي مع الطموح إلى لعب الدور الأول على صعيد منطقة البحر الأبيض المتوسط و الشرق الأوسط و العالم العربي.
لقد سبق لنابليون أن قال إن الجغرافية تحدد سياسة البلد. و فعلا إن موقع المغرب بالشمال الغربي لإفريقيا منفتح على بحرين, يعتبر موقعا خاصا و متميزا يؤثر بامتياز على مختلف جوانب السياسة المغربية.
و في هذا الصدد لابد من الإشارة إلى أن المغرب تربطه روابط قوية مع فرنسا. فمنذ 1914 التجأت فرنسا إلى أفريقيا الشمالية لتطعيم جيوشها بالرجال, باعتبار أن مستعمراتها كانت بمثابة،،مشاتل،، للرجال حسب مقولة ليوطي المشهورة. كما أن المغرب العربي كان يعتبر من أكبر منتجي الحبوب و بالتالي لعب دورا حاسما في ضمان الغذاء لفرنسا. ولقد كان دعم المغرب لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية حيويا, إذ أن المغاربة ضحوا بحياتهم من أجل تحرير فرنسا, أكثر من 2000 قتيل و 18000 من أسرى الحرب. فالمغرب دخل الحرب في نوفمبر 1942 مع هبوط القوات الأمريكية بسواحله بأسفي و الدار البيضاء والقنيطرة, وقد اعترف الجميع ببطولات و شجاعة المغاربة, لاسيما الطابور الرابع الذي كان محط اهتمام الجنرال الأمريكي،،باتون،، الذي طلب من الجنرال الفرنسي ،،كيرو،، أن يسمح لذلك الطابور بالالتحاق بجيشه. و كان المغاربة يشكلون 36 في المائة من القوات الفرنسية أي 85000 مغربي ضمن جندي.
كما أن إشكالية الحدود مع الجيران كانت دائمة الحضور في الجغرافية السياسية المغربية. فعلاوة على قضية الصحراء بالجنوب, هناك بالشمال إشكالية المدن و الجزر المحتلة من طرف أسبانيا. فمنذ 1960 و المغرب يطالب بمدينتي سبتة و مليلية.كما أن إشكالية الماء ظلت حاضرة في قلب السياسة المغربية.إن البحث عن تأمين الاستقلال الغذائي يستلزم ضمان توفير المياه الضرورية. علاوة على أن إشكالية الماء تعد من الأولويات اعتبارا لأربعة أسباب على الأقل, أسباب ديمغرافية و اقتصادية و سياسية و ثقافية. إن الأمر يتعلق بتوفير الغذاء و ضمان شروط العيش و الوقاية, أي سياسة توصيل الماء لكل المواطنين في مختلف المناطق, و هذا من شأنه التأثير على نمط العيش. ولعل المرأة هي المستفيدة الأولى من انعكاسات هذه السياسة مادام أنه في 70 في المائة من الحالات نجد أن الفتيات اللائي يقل عمرهن عن 15 سنة هن اللائي يتكلفن بمهمة جلب الماء لسد الحاجيات اليومية منه في أغلب القرى المغربية. و يعتبر هذا العمل الشاق من الأسباب الرئيسية الكامنة وراء عدم التحاق فتيات البادية بالمدرسة. وبذلك يكون توفير الماء الصالح للشرب بالقرى بمثابة ضمان حرية تلك الفتيات و تمكينهم من ولوج العصر, وهذا مظهر من مظاهر الأسباب الثقافية لسياسة الماء بالمغرب.

ومن جهة أخرى, فان المغرب لعب دورا دائما دورا ملحوظا فيما وراء حدوده لاسيما وأن موقعه الجغرافي يمكنه من دور متميز. فهو على بعد 14 كلم من أوروبا, الجزء الجنوبي للحلف الأطلسي. فليس هناك ميناء أقرب من نيويورك بأوروبا و المنطقة, باستثناء ليشبونة, مثل ميناء الدار البيضاء. كما أن التحول الذي عرفه مفهوم الأمن الأوروبي دفع الاتحاد الأوروبي إلى الاهتمام بمنطقة البحر الأبيض المتوسط, لاسيما دول المغرب العربي.
كما أن المغرب لعب دورا دبلوماسيا و عسكريا بالشرق الأدنى رغم بعده الجغرافي. لقد شارك الجنود المغاربة بالجولان في 1973 و في تحرير الكويت سنة 1991. كما أن دور المغرب في التحولات التي عرفتها صيرورة القضية الفلسطينية لا يخفى على أحد, لاسيما فيما يخص تقريب وجهات النظر بين العرب و إسرائيل من أجل انطلاق الحوار, ولقد لعب المغرب بعد حرب الست أيام دورا متميزا على صعيدين, الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية, فتح, كممثل شرعي و وحيد للشعب الفلسطيني من جهة, و من جهة أخرى تسهيل اللقاء بين مصر و إسرائيل.
و على مستوى المغرب العربي, فان المغرب سعى جاهدا لتكريس الوحدة بين البلدان المغاربية. فلقد كان من مؤسسي اللجنة الاستشارية المغاربية الدائمة سنة 1964, كما أن اتفاقية الوحدة العربية الإفريقية المبرمة مع ليبيا شهدت النور بمدينة مراكش في 17فبراير 1989 رغم أنها اتفاقية ظلت حبرا على ورق منذ 1992.
وفيما يرتبط بإفريقيا, فان المغرب يعد همزة وصل بين العالم المتوسطي و إفريقيا الجنوبية.
إن المغرب يواجه عدة تحديات و هي تحديات العصر علاوة على التحديات المرتبطة بطبيعة المرحلة الانتقالية التي يجتازها حاليا. ويظل اكبر تحدي هي الإشكالية الاقتصادية الاجتماعية :

من أجل التمكن من الإقلاع لابد للمغرب أن يتطور و ينمو, لاسيما و أنه لا يزال يعرف أكثر من معضلة عويصة سواء على صعيد التعليم و الصحة و السكن و تنامي الفقر و تفاحشه. وبذلك يكون السؤال المطروح هو : كيف يمكن للمغرب الاستعداد على أحسن وجه لانفتاح الأسواق و الحدود بكيفية تضمن الاستقرار و السلم الاجتماعيين؟
على المغرب أن يبحث على تطوير اقتصاده و عن جلب الاستثمار بهدف تقوية القطاعات المنتجة للثروات ذات أكبر قيمة مضافة. وفي هذا الإطار يبدو أن القطاعات المعتمد عليها تتكون من السياحة و النسيج و المنتوجات البحرية و الالكترونيك و تيكنولوجيا الاتصالات, وذاك اعتبارا لقدرتها على التصدير و اعتبارا لكونها تعتبر أجدى قطاعات الاستثمار بالمغرب في عيون الأجانب علاوة على انعكاساتها الايجابية المباشرة على مختلف مكونات الاقتصاد الوطني. فالمغرب لا يمكنه أن يظل رهين عائدات القطاع الزراعي باعتبار أن الحدود ستلغى و أن على الاقتصاد الوطني أن يضمن شروط التنافسية في قطاعات أخرى غير القطاع الفلاحي و استغلال المواد الأولية.
و هذا يعني أن المغرب يعول على قطاعه الخاص, وهذا بدوره يستلزم جهودا استثمارية كبيرة لتمكينه من تجميع شروط التنافسية مادام المغرب يرى مصلحته في ربط تنميته بالانفتاح السياسي و الاقتصادي على أوروبا بالدرجة الأولى وعلى الولايات المتحدة الأمريكية كذلك.
طبعا, اعتبارا لموقعه الجغرافي يعتبر المغرب شريكا أطلسيا طبيعيا للقوة البحرية الأمريكية. وفي هذا الإطار بالضبط يجب وضع مشروع منطقة التبادل الحر بين المغرب و الولايات المتحدة الأمريكية من جهة و أمريكا و المغرب العربي من جهة أخرى.
أما بالنسبة لأوروبا فإنها تلعب دورا حيويا في الحياة الاقتصادية للمغرب, إنها تستقبل
50 % من صادراته و تزوده بأكثر من 66 % من وارداته, علما أن اتفاقية أحداث منطقة التبادل الحر في أفق 2010 دفعت المغرب للاستعداد لهذا الحدث عبر 4 محاور : الديموقراطية, التنمية, حقوق الإنسان و الحوار السياسي. إلا أنه مازال مطالبا بالمزيد من الضمانات في مجال الإقرار بحقوق الإنسان و سيادة دولة الحق و القانون و تكريس المواطنة بعد أن حقق خطوات هامة في مجال دمقرطة الحياة السياسية. وفي المضمار يبدو أنه لامناص من تطور المجتمع المغربي. فكيف يمكن التصدي لمختلف التأخرات التي تشير إليها مختلف مؤشرات التنمية و النمو المعتمدة عالميا؟ وكيف يمكن التصدي لواقع العالم القروي الذي لا يزال ينخره الفقر و الأمية و يعيقان إمكانية تحقيق تنمية فعلية في العمق؟ وكيف يمكن ضمان شروط عيش كريم لجماهير البادية المغربية التي تعيش في غالبيتها تحت عتبة الفقر؟ فكيف يمكن قبول أن أكثر من 30 % من الجماهير تعيش بأقل من عشرة دراهم أي ما يعادل دولارا واحدا في اليوم لكل شخص؟
في واقع الأمر لازلنا نلاحظ أكثر من مغرب. فهناك مغرب الأقلية التي لا تكاد تبين و هي في بحبوحة العيش رغم مسؤوليتها الأكيدة فيما آلت إليه البلاد. و هناك مغرب الحواضر المنفصل عن البادية و الذي لم يستطع تجميع الشروط الأزمة لتوفير فرص الشغل الكافية. وهناك مغرب الأحياء و الضواحي المهمشة حيث يسود التهميش و الإقصاء والتي تشكل قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة. و هناك المغرب القروي الذي ظل منسيا و على هامش صيرورة التنمية التي عرفتها البلاد.

و يأتي مشكل الهجرة للمزيد من تعقيد الوضع أكثر وليضاف إلى الملفات الكبرى, ملف الصحراء وملف الاستعداد للانفتاح الاقتصادي و هي من التحديات الجغرافية السياسية التي تواجه المغرب حاليا.

النظام و المسألة الدينية بالمغرب

لقد تحدث الكثيرون عن قضية المسألة الدينية بالمغرب، فمنهم من تطرق إلى الخلفية الثقافية التي دأبت على استغلال الجهل و الفقر في هذا المجال، و منهم من تطرق إلى الاحتكار الايدولوجي للإسلام في الحقل السياسي، و منهم من اهتم بشرعنة العنف و الإرهاب و تغلغل المد الشيعي في الحركات الإسلامية المغربية، و منهم من تناول قضية الدين من زاوية منظومة إمارة المؤمنين، و منهم من حاول الدفاع على أطروحة التعددية الدينية بين المذهب المالكي و الأشعرية و الصوفية.

و الإشكالية الدينية ليست جديدة بالمغرب، تعود بعض عناصر الصراع بين الإسلام الرسمي للدولة و إسلام العموم إلى فترات متباعدة. و لعل أقربها ما حدث في النصف الأخير من القرن الثامن عشر بعد اشتداد الصراع بين الزوايا و السلطة المركزية حول النفوذ الديني. و مقابل ظهور المنافسة السلطوية للزوايا، معتمدة على السلفية (العودة إلى المنابع الأولى للدين) لجأت السلطة المركزية إلى الوهابية. و كان أول سلطان مغربي وظف الوهابية كوسيلة للنيل من شعبية الزوايا هو السلطان مولاي سليمان) الذي عمل على تبني انتقادات علماء الوهابية للممارسات الدينية المنحرفة للمتصوفة و الطرقية و هي الأساس التنظيمي المعتمدة عليه الزوايا. و في سنة 1811 حرر السلطان مولاي سليمان رسالة تليت في المساجد عبر أنحاء البلاد تحت عنوان رسالة ضد المواسم و البدع. إلا أن السلطان مني بهزيمة أمام الزوايا حينما لجأ إلى فرض التوازن السياسي من خلال دعمه المباشر للإيديولوجية الوهابية. و عرفت حرب السلطان ضد القبائل (معقل الزوايا) سنة 1818 هزيمة مشهودة حيث تم أسره مما فرض اللجوء إلى المصالحة الدينية و اعتماد توازن سياسي بين الإسلام الشعبي (الزوايا) و الإسلام الرسمي.

و في فترة الحماية حاول الاستعمار إذكاء نفس الصراع بين الوهابية و الزوايا لضبط خيوط اللعبة في اتجاه خدمة مصالحه و استدامة تواجده بالمغرب. إلا أنه تبين عبر التاريخ أنه كلما ابتعدت ظروف الصراع بين السلطة و جماعات الضغط الديني عاد المذهب المالكي إلى البروز باعتباره أساس الوسطية الدينية السائدة بالمغرب.

و مهما يكن من أمر يظل تناول المسألة الدينية بالمغرب مطبوعا بخاصيات ذاتية، إذ كل ظهور خلخلة في البنيات التقليدية المهيكلة للحقل الديني بالمغرب يؤثر مباشرة و بالضرورة على وظائف مؤسسة المخزن، لاسيما و أن هناك رمزية قوية مستمدة من الدين. كما أن بنية الملكية بالمغرب مرتبطة بالدين مادام هناك تداخل بين السلط الروحية و الزمنية، اعتبارا لكون الإسلام و الملكية صنعا المغرب. و كل هذا يقع ضمن واقع عام يتميز حاليا بأزمة للعقل الإسلامي و بظهور حركات إسلامية احتجاجية تسعى إلى تغيير الواقع استنادا على الدين و من أجل تطبيقه.

و هذا، في وقت يسجل فيه البعض أن المغرب يحاول حاليا أن يروم خلق حركية جديدة في الحقل الديني، و هذا ما أشار إليه البروز العلني لزوجة الملك و كذلك التحكيم الملكي في مشروع تعديل مدونة الأحوال الشخصية و قانون الأسرة.

إلا أن أحداث 16 مايو 2003 بالدار البيضاء طرحت من جديد الهاجس الأمني ضمانا لاستقرار المؤسسات، لا سيما مؤسسة إمارة المؤمنين و المؤسسات السياسية. إلا أن التصدي لجذور العنف و الإرهاب بالمغرب كشف جبهات أخرى لامناص من التصدي إليها، و التصدي إليها يستوجب أول ما يستوجبه عدم ترك المجال للهاجس الأمني ليحدد التصورات و الاختيارات و المخططات. و هذه الجبهات هي الجانب الاجتماعي و الجانب الاقتصادي و إشكالية التعليم و قضية الدين بالمغرب. و تزداد خطورة اعتماد الهاجس الأمني كأولوية في وقت أضحت إشكالية الدين مطروحة بوضوح أكثر من أي وقت مضى, سواء فيما يتعلق باحتكار الإسلام و توظيفه لأغراض سياسية أو تعلق بفصل الدين عن الدولة. علما أن النظام بالمغرب يعتبر أن علاقة الدين بالدولة محسومة في ظل تنصيص الدستور على أن المملكة المغربية دولة إسلامية و أن أمير المؤمنين مؤتمن على حماية الدين.

و من الواضح حاليا أن الملكية و الحقل الديني بالمغرب لن يكونا مثلما كان الحال عليه بالأمس، لاسيما فيما يرتبط بالنهج الجديد في التعاطي مع الحقل الديني. خصوصا و أنه منذ أن ظهر الحديث حول سياسة جديدة للتعاطي مع المساجد و الصحوة الإسلامية و الدينية، و هذا ما شارك فيه بعض الإسلاميين المقربين من المخزن. و ذلك لمحاولة التخلص من هيمنة الهاجس الأمني على تنظيم الحقل الديني بالغرب و الذي أدى إلى نتائج عكسية و مأسوية أحيانا كثيرة تعيش البلاد آثارها و انعكاساتها حاليا.و ما يعيشه المغرب اليوم في هذا المجال إلا نتاج طبيعي لسياسة وزير الأوقاف و الشؤون الدينية السابق الذي سعى لمواجهة تيار الشبيبة الإسلامية بعد أن ساهم بقوة من قبل في بروزها لمواجهة الحركة الماركسية اللينينية المغربية.

و قد تزامن تطبيق هذه السياسة في ظرف عرفت فيه عدة مدن مغربية انتفاضات من أجل الخبز و تحسين الأوضاع المادية المزرية. آنذاك بالضبط عملت وزارة الأوقاف على إرسال بعثات من الطلبة و الفقهاء إلى السعودية، و هناك تشرب هؤلاء بالمذهب الوهابي فكرا و ممارسة و قناعة، ليعودوا متشبعين بجملة من الأفكار دعوا إليها بعد عودتهم إلى أرض الوطن. و هذا ما أدى بدوره إلى تفريخ خطباء و وعاظ، لاسيما في مساجد الأحياء المهمشة، يدعون إلى مثل تلك الأفكار إلى أن بدأت البلاد تعرف ركحا دينيا متمردا غير خاضع للسلطة كما كان الحال من قبل. الشيء الذي ساهم في بروز إشكالية احتكارية الدولة للحقل الديني.
و هكذا بدأ تضييق الخناق على الحركات الإسلامية بالمغرب، لاسيما بعد أحداث 16 مايو 2003 بالدار البيضاء، و قد تم اعتقال ما يفوق 1000 شخص في إطار التحقيقات المرتبطة بتلك الأحداث، و قد امتد الأمر ليشمل بعض الأشخاص المحسوبين على الإسلاميين المعترف بهم (الإسلاميين الشرعيين).

و في اعتقاد البعض، جماعة العدل و الإحسان مثلا، فان الحديث عن مشروع إصلاح تدبير الشأن الديني بالمغرب يظل مجرد ديماغوجية، لأنه في اعتقاد هؤلاء، أن المشروع العام (النظام) يقوم، سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا، على فصل الدين عن الشأن العام، أي فصل الدين عن الدولة و هو أمر لا يستقيم مع الإسلام.

في حين يستحسن البعض الآخر مبادرة الحكومة الرامية إلى تأطير الشأن الديني عبر إرساء توافق بين سياسة الدولة و تعاليم الإسلام و الالتزام المذهبي.

و هذا في وقت تعرف فيه المؤسسات الدينية الرسمية أزمة واضحة المعالم. و لعل من أبهى مظاهر هذه الأزمة البؤس المعرفي و العلمي - مازال الجميع يتذكر حرب البيانات المرتبطة بلعبة البوكيمون و الفتوى المرتبطة بها و قضية شرعنة القداس المقام بالرباط على أرواح ضحايا أحداث 11 شتنبر 2001 بحضور المسلمين و اليهود و النصارى-. و قد كشفت هذه الحرب بجلاء مدى التخبط الذي يطبع مؤسسات الإسلام الرسمي بالمغرب. كما أن أحداث الدار البيضاء الأخيرة أبانت هي كذلك انفلات المساجد، لاسيما مساجد الأحياء المهمشة، من قبضة الوزارة الوصية.

و يظل السؤال مطروحا : كيف يمكن حل إشكالية علاقة الدين بالدولة في المغرب؟
فلا يخفى على أحد أن الإسلام هو المرجعية الثقافية الأساسية في تكوين الهوية المغربية، إذ بفضله تمكن المغرب من الحفاظ على استمراري ته ككيان عبر التاريخ. فالإسلام كان السند لمواجهة الغزاة و التحريض النضالي في مواجهة المستعمر. كما أن الاسلام ظل يحتل موقعا متميزا في الخطاب السياسي إذ ظل الشأن الوطني ممتزجا بالشأن الديني. إلا أنه بعد خروج المستعمر و بعد أن تتالت الاحباطات أضحى الإسلام من المستندات للتنديد بالواقع سعيا وراء تغييره. و قد تمكن هذا المد من البروز و الاتساع و الانتشار بفعل الأوضاع الاجتماعية المزرية و استفحال التهميش الاقتصادي و الاجتماعي و المعيشي لأوسع فئات الشعب المغربي التي ظل عددها يتزايد لتوسيع دائرة الفقر بمرور السنين و بفعل اتساع الأزمات المتراكمة. و بذلك أضحى الإسلام دائم الحضور في الصراع السياسي منذ منتصف سبعينات القرن الماضي.

و في هذا الصدد يعتقد البعض أن الشأن الديني بالمغرب هو من اختصاص كل المغاربة، و يجب أن ينفصل على العمل الحكومي، لاسيما استغلاله في ظرفية معينة لأغراض ضيقة. و في هذا الإطار يقترح هؤلاء ربط الحقل الديني بمؤسسة أمير المؤمنين عبر تأطيره من طرف مجلس وطني مستقل. لأن الحكومة نفسها لا يحق لها هي كذلك استعمال الشأن الديني بأي شكل من الأشكال.
و في هذا المضمار هناك أطروحة للباحثة المغربية آمال الوردي بعنوان "تنظيم الحقل الديني بالمغرب : العلماء نموذجا". و قد استهلت الباحثة أطروحتها بالإشارة إلى اجتهاد الدولة المغربية منذ الاستقلال على استثمار المرجعية الدينية من أجل إضفاء الشرعية على اختياراتها و توجهاتها، و كذلك عبر احتكارها لكل الرموز و الشعائر الدينية و تأويل النصوص الدينية. إلا أنه سرعان ما طفا إلى السطح تناقضا واضحا بين التكوين الفقهي التقليدي لعلماء المغرب و الطابع الحديث و العصري للإدارة الموروثة بعد الاستقلال. و بذلك ذهبت الدولة في اتجاه تهميشهم التدريجي من دواليب الحكم و الإدارة و بالتالي الاستغناء عنهم و عن دورهم و عن خدماتهم بعد التوجه نحو الاعتماد على أطر حديثة ذات ثقافة عصرية مخالفة لثقافتهم رأسا على عقب.

بالرجوع إلى التاريخ المعاصر للمغرب تبرز عدة محطات و أحداث كرست تهميش العلماء و اقضاءهم من دواليب الحكم و الإدارة. و ذلك منذ فجر الاستقلال، و في هذا الصدد يمكن ذكر منع الحزب الشيوعي المغربي اعتمادا على خطاب ملكي و محاكمة حركة العلماء البهائيين في سنة 1963، و هي حركة احتجاجية دينية. و منذ ئد سعت الدولة بالمغرب إلى ضبط الحقل الديني بالبلاد و ذلك عبر تأطيره بجملة من المؤسسات الدينية و ضبط و تحديد دور العلماء بالمغرب في تدبير المقدس اليومي بانسجام و تناغم مع السلطة السياسية و شرعنة اختياراتها. و هذا ما أدى إلى مأسسة وظيفة العلماء لجعلها مكلفة بحماية الأرثودوكسية الدينية. و قد نجحت الدولة في ذلك عن طريق ضبط مراكز إنتاج و إعداد علماء الدين لضمان احتواهم عبر إنتاج و إعادة إنتاج هذه النخبة داخل المؤسسات الرسمية و تأطيرها في تنظيمات تحسبا لأي انفلات (رابطة علماء المغرب، المجالس العلمية). كما أنه يمكن إدخال طبيعة التعامل مع جامعة القرويين في هذا الإطار العام إذ تم تحويلها إلى مجرد مؤسسة تربوية خاضعة لمراقبة الإدارة. و بذلك تحول العالم بالمغرب إلى مجرد موظف عادي ينتظر مرتبه الشهري تحت وصاية الإدارة كغيره من الموظفين بعدما كان من قبل يتمتع بالاستقلالية إزاء السلطة. و كان هذا التغيير تغييرا جذريا لدور جامعة القرويين و لمهمة العلماء بالمغرب، و هذا ما دفع جملة من العلماء إلى مغادرة الجامعة و التخلي عن التدريس فيها.
و عندما رأت الدولة أن غياب العلماء أدى إلى فراغ اعتبرت أنه تم استغلاله من طرف الحركة الماركسية اللينينية المغربية، ثم بعدها من طرف حركة الشبيبة الإسلامية المستقلة عن الدولة، ففكرت في تجديد المجالس العلمية، و بذلك حاولت من جديد مأسسة دور العالم بالمغرب عبر إعادة تحديد وظيفته لمراقبة الحقل الديني و السياسي. و بذلك تكلف العالم المغربي بالتأطير الديني الهادف إلى صيانة وحدة الأمة على مستوى المذهب و العقيدة. و ذلك للتصدي للتهديد الذي كانت تمثله بما أسمته بالايديولوجيات المناوئة للإسلام و حركات الإسلام السياسي، و كذلك خوفها من تهديد العلماء أنفسهم. و كان أجدى و أفضل سبيل أمامها هو جعل هؤلاء العلماء مساعدين لها بتنصيبهم حماة للأرثودوكسية الدينية و ليس كحماة للشريعة أو كمجتهدين. و هكذا تحول علماء المغرب إلى أجراء قائمين على تدبير العبادات. و بذلك تميزت حصيلة المجالس العلمية على امتداد أكثر من عقدين من نشاطها و ممارستها بالعقم و الانحصار في بعض شؤون العقيدة و العبادات و بطريقة منفصلة انفصالا تاما عن مختلف مجالات الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، إلى درجة أن المجالس العلمية المغربية أضحت غريبة عن سيرورة المجتمع المغربي و على هامشها، رغم أنه من المعلوم و المعروف، لدى العام و الخاص، لا يمكن بأي شكل من الأشكال فصل بين شؤون الدين و الدنيا في منظور الشريعة الإسلامية. و هذا كاف و زيادة لتفسير الدور السلبي لوضعية العالم بالمجتمع المغربي و تفسير عقم المجالس العلمية على امتداد مرحلة وجودها و إلى حد الآن.

و بذلك لا يمكن أن نستغرب إذا لاحظنا انحصار نشاط العلماء بالمغرب في المجال الفقهي التعبدي الصرف و بعدهم، بعد السماء عن الأرض، عن قضايا الفرد و الجماعة و الأمة، و بعد اهتمامهم عما تزخر به حياة المجتمع المغربي من معضلات و مستجدات عصرية لم تتح لهم الفرصة، الفعلية و المسؤولة و النزيهة، ليلقوا بدلوهم فيها و ليقلوا كلمتهم يصددها و يقترحوا حلولا ملائمة خاصة بها و تكون حلولا تتناسب و جوهر الإسلام. و هذا دون الحديث عن الضغوطات التي واجهتهم سواء من طرف الدولة أو من طرف عامة الناس الذين دأبوا على مطالبتهم بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بدون قيد و لا شرط. و هكذا أضحى علماء المغرب بين نارين، فالسلطة تطالبهم بالدفاع عن شرعية لامشروطة و لا يمكن التشكيك فيها، و عموم الأمة تطالبهم بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مهما كانت الظروف.
أما فيما يرتبط بدور المساجد بالمغرب، فترى الباحثة آمال الوردي أن المساجد بالمغرب لعبت دائما دورا سياسيا، كما اتخذت كأداة لتنامي التيارات الإسلامية، إذ أصبحت لا تفتح إلا لأداء الصلوات الخمس و تم تعيين خطباءها و إلزامهم بإتباع توجيهات وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية. كما أن بناء و تشييد بيوت الله بالمغرب أصبح خاضعا لوزارة الداخلية في إطار ما أصطلح علية بالتنسيق بين الفرقاء و السلطان. و لم يقتصر الأمر على هذا الحد، و الاقتصار على هذه الإجراءات التنظيمية، و إنما تم تعيين قياد(رجال سلطة تابعين لوزارة الداخلية) في عمالات و أقاليم المملكة المغربية لتكليفهم فقط و حصرا بالربط بالتنسيق بين المجالس العلمية و السلطات و وزارة الداخلية، و مهمتهم الحقيقة غير المعلن عنها هي الضبط.
لكن بالرجوع إلى الواقع المعيش و على امتداد سنوات، يتبين و بجلاء أن كل هذه الاحتياطيات و الإجراءات المرتكزة بالأساس على اعتبارات أمنية محضة بفعل الهاجس الأمني و الرغبة في الضبط و احتواء الأماكن الشرعية و محاولة خلق خطاب ديني رسمي عبر تكوين و تعيين الخطباء و الأئمة لن تفلح في مهمتها لأنها اصطدمت بديناميكية المجتمع المغربي و التي كانت في عمومها مطبوعة بسيرورة مضادة انتجت علما و خطباء مستقلين عن السلطة، و بالتالي عملوا على إنتاج و بلورة خطاب ديني بديل ينافس الدولة منافسة قوية في المجال الديني.

و مع حلول العهد الجديد بدت رغبة واضحة في إعادة هيكلة الحقل الديني ضمن مؤسسة محددة الأهداف و التنظيمات، لاسيما و أن المؤسسات القائمة فشلت فشلا ذريعا في أن تكون مصدرا للاجتهاد قصد التصدي للإشكالات و الأسئلة المطروحة على ركح الواقع المعيش اليومي في مختلف المجالات السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية بغية تحصين المجتمع من مختلف أنواع التطرف الفكري عبر إشاعة جوهر الإسلام القائم على الوسطية و الاعتدال و التسامح. و أول ما كان يتطلبه هذا هو محو الأمية – لاسيما الأمية الدينية- و رفع الخضار عن المساجد قصد المساهمة الفعلية في تنظيم الحقل الديني و فق منظور حضاري منفتح على قضايا و شؤون المجتمع و ليس اعتماد إصدار فتاوى من بروج عاجية مقامة على هامش المجتمع و خارج دائرة اهتماماته.

و مما يظهر فشل الدولة في التعامل مع الحقل الديني بالمغرب، أن خططها كانت بمثابة مجرد محاولة مأسسة هيئة العلماء بجعلهم مجرد أدوات لإنتاج و إعادة إنتاج نوعية خاصة من القيم الدينية و الرمزية لدحض كل ما من شأنه مخالفة خطابها الديني و لاسيما السياسي. و هذا يبين أن من أكبر الأخطاء اعتماد الاحتكار المؤسساتي للمعرفة الدينية. هذه الاحتكار ساهم في بروز ديناميكية قوية في المجتمع المغربي ترفض احتكار الدولة للدين و مؤسساته، كما ساهم هذا الاحتكار في جعل الحقل الديني أن يصبح مجالا لرهانات استراتيجية و هذا ما شكل خطرا كبيرا تلمسه الكثيرون منذ مدة.

و مما سبق يتبين أن مسالة تدبير الشأن الديني بالمغرب ليست قضية جديدة إذ ظهرت منذ ستينات القرن الماضي، إلا أن هذا التدبير كان يخضع لمعالجات ظرفية أو قطاعية في ظل غياب تصور شامل لإدارة الشأن الديني. لاسيما و أنه في عهد وزير الأوقاف السابق كانت مواقف الوزارة يشوبها الغموض و التناقض و أحيانا التنافر، مما يبرهن عن غياب أي تصور واضح المقاصد. و كان الطاغي هو التعامل الظرفي و الخضوع لعلاقات شخصية و مصالح شخصية. و يمكن لهذا النهج أن يكون قد ساهم – إضافة لما ذكر أعلاه- في صعود و تصاعد التيارات الدينية بالمغرب. لكن من الأكيد أنه على امتداد عقد و نصف على الأقل تم تجاهل هذه التيارات ثم الحركات التي انبثقت عنها، ثم اتخاذ مواقف الاقتراب و المهادنة و المداهنة بعد ذلك.
و بعد أحداث 11 شتنبر 2001، و خصوصا بعد 16 مايو 2003 تحولت علاقة المغرب بالوهابية إلى مقت باعتبارها تنتج الجماعات المتطرفة (السلفية الجهادية، الهجرة و التكفير، الصراط المستقيم، المجاهدون المغاربة...) كلها ذات علاقة بشكل أو بآخر بأحداث الجمعة الأسود بالدار البيضاء. كما أن موقف المغرب من الوهابية كان لمبررات دولية، لاسيما و أن الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت الحرب على التطرف الديني الموصوم بالإرهاب.
و في هذا الصدد يرى البعض أنه أضحى الوضع بالمغرب يتطلب إحداث جبهة دينية تجمع الدولة و جماعات الإسلام السياسي المناهضة للإرهاب (التوحيد و الإصلاح، جماعة العدل و الإحسان) في إطار توافق ديني سياسي لمواجهة العنف الديني، على غرار توافق نهاية التسعينات (1998) بين الملك الراحل الحسن الثاني و عبد الرحمان اليوسفي. إلا أنه يبدو أن الدولة لن تسمح باقتسام تدبير الشأن الديني بالبلاد، باعتبار أ، هذا الشأن من اختصاص إمارة المؤمنين و التي أضحى البعض ينادي بتحديثها.

و فيما يخص مؤسسة إمارة المؤمنين، ذهب البعض إلى طرح تطويرها في اتجاه الملكية البرلمانية العصرية و دولة حامية لكل الديانات، كما البعض نحو اختزالها في البعد المادي الزمني الصرف (حماية الثغور)، كما عبر عن ذلك مثلا محمد عابد الجابري.
و بالرجوع إلى المفهوم الإسلامي، ليس هناك مصدر تبث فيه الفصل الواضح و الصريح بين صفة القائد و الإمام، و هما الصفتان المجتمعتان في خليفة الرسول (صلع) و في خليفة الله في أرضه، يحكم بما أنزله الله و يرعى بهما شؤون عباد الله في دينهم و دنياهم على السواء.
و يرى البعض أن العلمانيين و بعض الإسلاميين يتشابهون في المطلب، فالفريق الأول يطالب بعزل الدين جانبا و الفريق الثاني يقول بفصل القيادة عن الإمامة.

و يعتقد البعض في هذا الصدد أن الإمامة تقوم على أسس تقليدية لا يمكن أن تسمح بالتحديث و الدمقرطة. و يرد عليهم آخرون بأن إمامة المؤمنين صمام أمان يحمي الملكية كقيادة للدولة من الخروج على ما أنزل الله، و الإمامة بالنسبة لهؤلاء تلزم باحترام ثوابت الدين و لا تقبل ما يعارض شرع الله، و بذلك يقول هؤلاء أن الإمامة تحفظ الملك من الخروج عما أنزله الله دون تكبيله عن التطلع إلى متطلبات القيادة الحداثية.

و يبدو أن هناك شبه إجماع ما بين الإسلاميين و العلمانيين بخصوص تحديث إمارة المؤمنين، إلا أن البعض يرى أن المطلوب ليس هو تغيير مؤسسة الإمامة و تطويرها لأنها في نظرهم ضرورة إسلامية، و إنما المطلوب في نظر هؤلاء هو ما يمكننا كمغاربة مسلمين أخذه من الآخرين دون أن نتخلى عن ثوابتنا و على رأسها وجود إمام واحد يضطلع بمسؤولية الحكم بما أنزل الله و إبقاء الحلال حلالا و الحرام حراما. و يرتكز هؤلاء في قولهم هذا على أن التحديث في ظل الإمامة كان دائما مطلوبا على امتداد التاريخ الإسلامي منذ عهد الرسول (صلع) عندما كانت الفتوحات الإسلامية متوالية و كذلك تلاقح الثقافات و الحضارات، لكن دون أن يمس ذلك بالشأن الأخروي اعتبارا لكون "القائد يجدد و الإمام يسدد" حفاظا على التوازن.

و بخصوص دور وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية، هناك إجماع على ضرورة إعادة هيكلتها لتخليصها من الانزلاقات التي تم تكريسها في عهد الوزير السابق المدغري العلوي، و هي الآن في حاجة إلى إصلاح على أكثر من مستوى للتصدي للاختلال الذي ساد فيها. و لم تعد خافية الآن التداعيات السلبية للتجربة السابقة على امتداد سنوات، مما يدعو إلى إعادة هيكلة المجالس العلمية و إعادة تأهيلها و مراجعة هيكلة الوزارة برمتها، و إعادة النظر في أوضاع نظارات الأوقاف و التي الكثير منها أضحى بمثابة دولة داخل الدولة إذ أن القائمين عليها أحرارا يتصرفون فيها كأنها اقطاعات خالصة لهم، لا يخضعون لأية مراقبة من أي نوع و لا لأي متابعة و تتبع بالرغم من جملة من التصرفات المشبوهة. هؤلاء ظلوا يتصرفون في ثروات هائلة و عقارات شاسعة و مداخيل غزيرة بدون أي شفافية و لا ضوابط لا تتبع، و بدون حسيب و لا رقيب. و ظل الحال على ما هو عليه رغم ظهور ممارسات مريبة بجلاء و رغم تراكم الشكايات و المطالبات في هذا الشأن.
و في هذا الإطار قدم الوزيأن الشأنللأوقاف و الشؤون الإسلامية استراتيجية جديدة و تصورا جديدا، و هو تصور يقع ضمن الإطار العالمي لمحاربة الإرهاب و التطرف و يروم إعطاء نفس جديد للمشروع الديني لمنعه من الانزياح نحو التطرف و الانفلات.و في هذا الصدد يرى البعض أن الشأن الديني لا يتعلق بوزارة الأوقاف وحدها لاسيما و أن المغاربة يعيشون الآن في عالم منفتح، يفعل فيه تداخل المذاهب و الثقافات و الأديان و يجعل الاقتصار على المذهب المالكي من باب التمسك بأمور تاريخية لا يمكن التمسك بها أراد من أراد و كره من كره. خصوصا و أن الأسئلة المطروحة في عهد الإمام مالك لا علاقة لها بالأسئلة المطروحة اليوم. و من ضمنها تلك المرتبطة بالتطرف، إذ أن الإمام مالك لم يعالج هذه الإشكالية بالمفهوم الحالي رغم أنه كان له موقف من الخوارج. و الأخذ بمذهب مالك أو بغيره ليس كافيا لإصلاح الحقل الديني بالمغرب ما دام الأمر لا يرتبط فقط بالشق الديني الصرف و إنما يرتبط بالأساس بإرادة سياسية تجتمع فيها كل مكونات المجتمع المغربي من أجل إصلاح هذا الحقل، و ذلك من أجل تهييء الظروف الملائمة لإجراء هذا الإصلاح.
و يرى البعض أنه إذا اعتمدنا المذهب المالكي وحده كنهج لتطبيق الدين فإننا قد نقتل الدين، لذا وجب الأخذ بروح المذهب المالكي و كذلك بالاجتهاد و هذا أضحى ضروريا. فالنص القرآني قادر على تقديم مقترحات بامكانها تحرير الفكر الديني مما علق به على امتداد قرون ما دام الإشكال يكمن في ترسبات علقت به عفا عليها الزمان و تحتاج لإعادة نظر. و بالتالي فان الالتزام بمذهب ما لن يسمح بهذا الإصلاح لكونه سيظل يفرض أشياء لم تعد صالحة للناس حاليا.

و يظل أكبر إشكال بالمغرب، في هذا الصدد، هو اعتقاد فئة ما أنها تمتلك الحقيقة و أن إسلامها هو الإسلام الحق و غيره ليس أسلاما. ناهيكم عن اللخبطة التي من شأنها أن تبرز بين الإسلام الرسمي و الإسلام الشعبي و الإسلام الحركي.

و في هذا الإطار نجد أن المسألة محسومة دستوريا بالمغرب، إلا أنه هناك حركات إسلامية منافسة في الحقل الديني. و من هنا يمكن القول أنه بالمغرب إذا كان الملك يملك السلطة الزمانية فان الحقل الديني تتفاعل فيه الكثير من المكونات، فهناك مكونات النص الديني و هناك حاجة الواقع المرتبطة بهذا النص (ربط النص بالواقع) أي الاجتهاد. و المشكلة هي أن البعض يعتقد بأن هذه العملية إذا أشرف عليها الرسميون فقط فهي باطلة، و هذا يجرنا من جديد إلى إشكالية احتكار النطق باسم الإسلام، علما أن كل عملية اجتهادية تظل عملية نسبية قابلة للصواب و الخطأ. و في هذا الصدد يدعو البعض إلى اعتبار ما يسمى حكما شرعيا أنه يبقى اجتهادا بشريا، و هذا الاجتهاد قابل للصواب و الخطأ و ليس ملزم للناس بشكل نهائي و أزلي، و إنما هو اقتراح من طرف الجهة المجتهدة (شخصا كان أو هيئة) و هو اقتراح يمكن تصحيحه أو تجاوزه، سواء كان اجتهاد مالكي أو شافعي أو حنبلي أو من عالم القرن الواحد و العشرين أو غيره، ما دام أننا لسنا ملزمين أزليا باجتهادات تاريخ معين دون سواه، و إلا سنعلن على اغتيال الاجتهاد و الانفتاح. علما أن الظرف الذي ظهر فيه الإمام مالك كان مرتبطا بالقوة الإسلامية آنذاك، و بالتالي من الصعب قبول حاليا جملة من اجتهادا ته، من قبيل أن تارك الصلاة يقتل حدا مثلا.

لهذا يبدو أن أنجع السبل هو أن يقوم الرسميون أو الوزارة الوصية بتأطير الحقل الديني في إطار حرية تسمح بنقاشات و حوارات خاصة بالحقل الديني دون إقصاء أي طرف و دون اعتماد أي نوع من أنواع الاحتكار في هذا المجال. و لعل مثل هذا التصور برز بشكل كبير عندما قام ثلة من العلماء بالمغرب بالتوقيع على نص الفتوى المحرمة لمشاركة المغرب في الحرب الأمريكية على الإرهاب، و حينها كان رد الوزارة الوصية عليها بعنف و صرامة.
و مهما يكن من أمر بالنسبة للمغرب حاليا، الأفضل هو التعبير في الضوء و أمام الملأ حيث يمكن الرد و الحوار و النقاش و ليس اعتماد القرارات في الظلام و الكواليس و وراء ستار ركح الواقع المعيش. و هذا يعني أن المغرب في حاجة إلى الحريات في المجال الديني، حريات مؤطرة و مسؤولة. لأن الشرعية لا تكتسب بالفرض و إنما تكتسب من خلال إعطاء الحرية. و هذه الشرعية أقوى و أمثن و أقدر على التصدي إلى أي انزلاق. و هذه الحرية لكي تكون مجدية هي في حاجة إلى تهييء فضاء علمي و ثقافي من أجل تجديد الفكر مادام لا يمكن انتظار أي جديد مهما كان في إطار اعتماد المطلق و غياب حرية التعبير في هذا المجال بالذات. فما يحتاجه المغرب اليوم بصدد الحقل الديني هو إصلاح ديني حضاري و ليس إصلاح احتكاري.

لقد ظل النقاش في الشأن الديني بالمغرب من الطابوهات الكبرى، رغم أن المغاربة متدينون، كما لو أنه لدينا رجال دين لهم وحدهم الحق في ذلك دون سواهم. فلا يحق لأي أحد أن يمنع الآخرين من المشاركة في تجديد الحقل الديني، فكفانا من احتقار العقول في هذا المجال، لأنه من الممكن أن توجد أفكار جيدة عند غير ما نسميهم برجال الدين، كما يمكن أن تكون لهم انتقادات قد تكشف خطأ اجتهاد رجال الدين – و الأمثلة كثيرة في هذا الصدد.

و تزداد أهمية تلك الحرية في وقت نعيش فيه أزمة دينية و أزمة ثقافية حادة، و هي في واقع الأمر جزء من التخلف العام الذي نعيشه على المستوى الحضاري، لاسيما و أن الاجتهاد توقف منذ زمن بعيد. و علينا أن نتذكر دائما أنه عندما كان العقل الإسلامي مجتهدا استفادت منه أوروبا قاطبة، و لا يخفى على أحد أن الإصلاح الديني بأوروبا نفسها قام بناء على اسهاملت ابن رشد و فكر الأنوار.

لقد أضحى من الضروري حاليا تفعيل الاجتهاد، و بالنظر إلى مدونة الأسرة يبدو أن هناك دفع بمسألة الاجتهاد إلى حدوده القصوى و الاستفادة من المذاهب الأخرى، إلا أن الانفتاح المذهبي، مع أحداث 16 مايو، قد يبدو متناقضا لاسيما و أن التهمة موجهة للاتجاه الوهابي الحنبلي الذي يعتبر مسؤولا إيديولوجيا عن تشكل جماعات العنف الديني المنفذة لتفجيرات الدار البيضاء. فلا يخفى على أحد أن المذهب المالكي يعتبر مذهبا وسطيا مثل المذهب الشافعي، في حين يعتبر المذهب الحنفي أكثر انفتاحا بين المذاهب الأربعة. و قد بدا من خلال قانون الأسرة أن الدولة حاولت الاستفادة من المذهب الحنفي، و هذا يعني الرغبة في عدم الاستمرار في التقوقع في المذهب المالكي، أي استنباط ما يمكن استنباطه من المذاهب الأخرى. فإذا كان هناك تصدي للوهابية من خلال استبعاد كل الأحكام المستنبطة من المذهب الحنبلي، و الاستفادة من المذهب الحنفي، فناك الحفاظ على أساسيات المذهب المالكي.
و تزداد أهمية الشأن الديني باعتبار أنه كان دائما عنصرا أساسيا لضبط التوازن السياسي في المغرب.

فالسياسة قامت دائما على حفظ التوازنات. و الكل لازال يتذكر كيف كان تخلق الأحزاب السياسية و تتناسل قصد تفعيل مواجهة أحزاب أخرى، و نفس النهج ظل حاضرا بامتياز في تدبير الشأن الديني. و هكذا دأبت الدولة على تشجيع فاعلين دينيين في مواجهة آخرين، لاسيما باستعمال الصوفية و الإسلام السياسي و الإسلام السلفي، إلا أنه في السنوات الأخيرة أخرج الإسلام السلفي من الحساب في هذه التوازنات لاعتبارات خارجية أساسا، و باعتبار أنه لم يعد مرتبط بالتوازنات الداخلية، خصوصا و أنه أضحى ذي ارتباطات مع الخارج ابتدءا من إعلان تنظيم القاعدة على حربها ضد الغرب و ظهور السلفية الجهادية. و هذا ما تسبب في اختلال على مستوى التوازنات القائمة على امتداد سنوات خلت. ففي السابق كان حفظ التوازن على صعيد الحقل الديني تتم بين المذهب المالكي السائد و الاستعانة ببعض التيارات ذات التأثيرات الحنبلية لمواجهة و التصدي لتيار الإسلام السياسي.

و ما دامت الدولة المغربية اتجهت نحو تبني مشروع مجتمعي ديموقراطي حداثي غير منفصل عن الهوية الدينية، فقد اضطرت إلى تطعيم المذهب المالكي السائد باجتهادات المذهب الحنفي بغية تحقيق محاصرة مختلف التيارات المتطرفة المعتمدة أساسا على المذهب الحنبلي المعروف بتشدده. و هذا يعني أن الدولة حاليا و على صعيد الحقل الديني ليست بصدد تدبير تناقض بنيوي مع خصومها، و إنما هي بالأساس بصدد تطويق التيار السلفي الجهادي الشيء الذي سيفرض عليها تدبير التناقضات الأقل أهمية حاليا مع الجماعات الإسلامية التي لا تتفق مع أطروحاتها و تصورها. و يبدو في هذا الصدد أن الدولة يبحث الآن على تذويب خلافاتها مع الجماعات الإسلامية بغية محاولة تشكيل جبهة لمواجهة التطرف بالمغرب، لا سيما التطرف الذي تجسده السلفية الجهادية و التي يبدو أن لها امتدادات أكيدة داخل المجتمع، لاسيما وسط الشباب المغربي المهمش.

و يرى الأستاذ محمد ضريف من الضروري إدخال جماعة العدل و الإحسان في ذلك التوافق الديني لأنه لا معنى لإقصائها من الجبهة المعارضة للتيار السلفي الجهادي، لاسيما و أن لها فعالياتها الأكيدة في هذا المضمار. و بذلك يرى الأستاذ محمد ضريف أن تلك الجبهة الدينية يمكن أن تتكون من الدولة و جماعة العدل و الإحسان و البديل الحضاري و الحركة من أجل الأمة و حركة الشبيبة الإسلامية الحالية لاسيما و أن هذه الأخيرة بصدد مراجعة خطها السياسي و الفكري في اتجاه اتخاذ موقف واضح إزاء العنف و الإرهاب. و يعتقد ذ. ضريف أنه من السهل تكوين هذه الجبهة باعتبار أن جماعة العدل و الإحسان عرفت تحولا أساسيا في خطها السياسي و الفكري، و هي الآن بصدد القيام بمراجعات لتصوراتها، و هذا من شأنه تقريب الرؤى و التصورات لإحداث تلك الجبهة، لاسيما و أنه لم يعد بالامكان إنجاز توافق سياسي في المغرب بمعزل عن التوافق الديني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى