الاثنين ٥ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم هند فايز أبوالعينين

عندما تُسبى الغزلان

إلى من قال لي يوما أن الدّواة لايدخلها القلمُ مرغمة ً :

كلّ ُ الأرواح ِ تـُُخلقُ حُرّة ...
ولا يطالُ الظالمون استعبادَها إلا لأنها مكبلة ٌ في قوالبَ فانية ...

في مرج ٍ أخضر ٍ مُمتد ، ينتهي في الأفق بضفة نهرٍ طويل، قفزت غزالةٌ رقطاءُ رشيقة، سبحان من سوّاها.

كانت غزالتنا بلون ٍ أحمر يعجب له الناظرون، رقطاء على جنبي صدرها، وتعلو جبينها رقعة ٌ بيضاءَ تصل بين عينيها. أما عيناها، فكانتا آية ً في الجمال، تحسدها عليها الحسان، لـَوْزيّة المحجر واسعة، يزيّنها إطارٌ من رموش ٍ كثيفة طويلة، كأنه كحلٌ كحلها به الخالقُ المبدع. كانت غزالة ً جميلة ً كيفما نظرت إليها.

والجميل يعرف نفسه جميلا، فكانت تختال برشاقتها ، وتراها مرفوعة الرأس دائما، كأنما هي في عصيان مبهم الأسباب.
حين كانت تقفزُ غزالة، كانت الطيور تصطف على فروع الشجر لتراقب ذلك المنظر البديع ، غزالة ٌٌ حمراء مرقـّطة، تجوب المرج الأخضر قفزا ، لتصل إلى النهر الأزرق، وتشرب منه إلى أن ترتوي. ثم تعود قفزا برشاقة لاتستطيع العيون تجاهلها. تقفز كما لو أن الهواء قد طـُوِّع لها، ليحملها بين الخطوة والخطوة، وكأنها لا تلامسُ الأرضَ إلا كما تلامس النسماتُ الصيفية أوراقَ الشجر، دون أن تهزها أو تساقطها.

كانت الفراشات تتحلق حول غزالة لتلاعبها، فهمست لها إحداهن مرّة : "هل تعلمين يا غزالة أني أطير من شجرة البلوط هذه إلى النهرقبل أن تصلي أنتِ نصف المسافة؟"

ردت عليها غزالة " مستحيل يا حلوة، لأن قفزاتي سريعة وطويلة، ثم أنك صغيرةٌ جدا ولا يمكن أن تضاهي سرعتي"

" لكن يا عزيزتي سرعتي هي في الطيران، فلا أرض تسحبني إليها ولا حجارة صغيرة في طريقي لأنزلق عليها"

" أنا لا أنزلق أبدا يا عزيزتي، لكن لا بأس بأن نجرب، ما رأيك ؟"

"مستعدة، وسنرى من منا تصل النهر أولا"

رفرفت الفراشات بأجنحتها مشجعة ً للتحدّي ...

انطلقت الفراشة ُ مرفرفة ً جناحيها بأقصى سرعة تستطيعها، وقفزت غزالة ُ بثقة، فهي تعلم أن قفزتين بسيقانها الرشيقة ستوصلها قبل الفراشة.

كان في الطريق منحدرٌ بسيط ، لايستطيعُ القادم إليه أن يرى أسفله. لكن غزالة كانت تعرف الأرض هناك كما تعرف وجه أمها، وكانت تقفز فوق هذا المنحدر كل يوم في طريقها إلى مشربها. فقفزت في الهواء قفزةً عالية، رفعتها فوق الهواء ثوان ٍ تخيلت فيها أنها تطير كما صديقتها الفراشة ...

في ذلك اليوم الربيعي الأخضر، دوّت في المرج صرخةُ ألم ٍ رهيبة ، سُمعت مرة واحدة ثم خبت ليغطيها صوت خرير النهر البعيد .

خرجت الطيور من أعشاشها على شجر البلوط، والأرانب من جحورها الدفينة، وتفرق جمع الفراشات باتجاهات متضاربة ، والعيون كلها تبحث عن مصدر الصوت.

" أمــسكتـُـها "

قطع الصمتَ صوتٌ آدمي خشن، يحمل فرحة ً خبيثة

تبعثرت جموع الحيوانات وعاد كلّ ٌ إلى مخبئه... ليسترق النظر بترقب ...

" ألم أقل لك أني سيّد الصيادين؟ ألم أقل لك أني سأتمكن منها ولو بعد حين؟"

خرج اثنان من البشر من بين الأحراش واقتربوا من غزالة الملقاة على الأرض... حاولت أن تنفر من لمساتهما، لكن كل حركة كانت تشد المصيدة على كاحلها، وتغرز أسنان الفكين في عروقها ، وتسبب لها ألما شديدا... كادت لاتستطيع التنفس من ويل الألم.

أخرج أحد الصيادين شيئا ما من جيبه وغرزه في أعلى ساقها، كان مؤلما جدا، لكنها بعده لم تشعر بأي ألم، ونامت...

حملها الصيادان ومشيا بها، والطيورُ تراقبُ بحزن ٍ صامت، والفراشاتُ تحومُ كأنها تاهت عن أزهارها.

وما بقي من أثرِ غزالة َ في المرج سوى بقعة ُ الدم التي سقت بها الحشائش مكان وقوعها .

** ** ** **

" مااااا أجملها من غزالة!!"

استفاقت غزالة على صوت بشريّ غريب، سمعته قبل أن تفتح عينيها الجميلتين

" كم رأيت من الغزلان في حياتي صيّاداً ؟ لم أرَ غزالة ً بهذا اللون... إلا واحدةً لمحتـُها قبل عامين ونويت عليها، لكني لم أجدها بعد ذلك اليوم "

تململت غزالة في مكانها، وشعرت بالألم يحرق ساقها كالنار.. حاولت أن تقف على أرجلها ، فوجدت نفسها تثني الساق الجريحة لتقف. أرادت أن تلتفت لترى أصحاب الأصوات التي تسمعها، ولتعرف أين هي.

وجدت غزالة نفسها وحيدة ً في قفص ٍ جميل، تفرش أرضه الحشائش الخضراء وتحفه أعشاب مختلفة ، وفي زاوية منه كان الماء يجري في نافورة صغيرة مبنية من الحجر. أحاطت الشـِِباك المعدنية بالقفص من كل الجهات ، وفي وسطه وقفت شجرة ٌ مورقة. استطاعت غزالة أن تميّزَ روائحَ حيواناتٍ أخرى تفوح في القفص، على الحشائش وعلى جذع الشجرة. منها روائحٌ كانت لتفزع وتهرب لو اشتمتها في المروج. بدا لها أن هذا القفص قد احتضن جرحى غيرها. لكن أين هم الآن؟

كان صاحبا الصوت يقفان خارج الشبك المعدني، ينظران إليها بترقب، كأنما يحاولان أن يتوقعا حركاتها القادمة.
" هل ستعرضها للبيع ؟ "
" أنت تمزح بالتأكيد ! .. بل سأعرضها في معرض الحيوانات النادرة الذي سيقام في آخر العام، أنا متأكد أنها ستلفتُ أنظارَ العالم بأسره. .. وما أدراك، فقد أزاوجها بغزال نادر مثلها وأبيع صغارها بأسعار تثريني لآخر العمر"

استمر حديثهما وهما يسيران بعيدا عن القفص. بقيت غزالة في سجنها الجميل، تحاول أن تفهم ... لماذا؟
" يا ربي ... هل أصبح جمالي فجأة نقمة عليّ، بعد أن كنت أختال به بين الحيوانات؟
أنت خلقت هيئتي ... وقد سبّحت بحمدك كثيرا ... فلماذا استحال جمالي سجنا ؟ "

مرّ على غزالة في حبسها أسبوع، كان خادمٌ يأتي إلى قفصها ليبقيه نظيفا. كانت تهرب منه دائما، إلى أن أيقنت أنه ما كان يريد إلا أن يغيّر ضمادة الجرح على ساقها، عندها وقفت مكانها تنتظر منه أن ينهي مداواتها، ثم ابتعدت عنه محاولة ً المشي. خفت آلامها، لكنها لازالت لاتستطيع السير على الأربعة.

كل يوم كانت الطيور تأتي لتقف على الشجرة في القفص، لتلقي التحية على صديقتها، وتخبرها أخبارا عن المرج والأصدقاء. كم كانت غزالة تشتاق إلى المرج الأخضر، والنهر الطويل والقفز عاليا حيث يحملها الهواء كالريشة.
أصابها حزنٌ شديد لبعدها عن مرعاها ، برغم أنها لم ينقصها في القفص مأكل أو مشرب، وكانت فيه آمنة من الحيوانات الضارية، إلا أن روحها لم تخلق سجينة.

deer

** ** ** ** ** ** ** ** **

أقدار

" وتعدّ هذه الفصيلةُ من الغزلان البرية نادرةً جدا، ذلك أنها تتميز بلون ٍ أحمر قاني يجعلها لافتة للانتباه جدا وغاية ً في الجمال... وقد وجد الصيّاد صعوبة في اصطياد هذه الغزالة النادرة نظرا لسرعتها ورشاقتها في القفز، ويذكر أن عدد هذه الغزلان في العالم لا يتجاوز ...."

أطفأت ريما التلفاز وهي جالسة على الكرسي الوحيد في غرفتها الصغيرة.
مسكينة ٌ هذه الغزالة الحمراء المرقّطة. لماذا لم يتركوها وشأنها في البراري.
ذرفت ريما دمعة ً وانطوت على نفسها. وجه تلك الغزالة حزين ... وهل تحزن الغزلان؟

تذكرت والدتها وأخوتها الصغار. تُرى كيف حالهم اليوم. أينتظرون منها رسالة ً تبلغهم فيها بمدى سعادتها بعملها الجديد.

لعلّي أكتب لهم شيئا ... غدا ربما.
لكن ماذا سأقول لهم... أأقول أني وصلتُ بالسلامة والبلاد رائعة والناسُ لطيفون؟
أم أقول لهم أني اتخذتُ سكنا ً مع فتيات رائعات من زميلاتي في العمل؟

لم يمر الأسبوع الأول على وجودها هنا ... لكنها بدأت تلعن اللحظة التي قررت فيها الرحيل منذ أول ليلة باتتها في هذه الغربة الحقيرة.
استيقظت ريما من سبات عقلها على صوت ميساء تدير المفتاح في الباب، وراقبتها بصمتٍ وهي تقترب منها لتجلس على حافة الكرسي بجانبها.

" كيف حالك اليوم يا حلوة ؟" قالت وهي تداعب شعر ريما المموج ، وتلف خصله على إصبعها. " لا بأس عليك ... أعلم أن الفترة الأولى تكون صعبة علينا كلنا... لكن تشجعي قليلا وسرعان ما تتغيّر الأمور"

أشاحت ريما بوجهها ناحية الشباك. وقف عصفور على حافته وبدا كأنه ينقر الشباك وينظر إليها. كأنما يريد لفت انتباهها في تلك اللحظة حتى لا تستمع إلى ذلك الحديث. ثم طار بعيدا ليعلنَ لها غلبته على حالها.
تدفع الباقي من عمرها مقابل بعضا من تلك الحريّة.

ما الذي جاء بي إلى هنا ؟ ... لماذا لم أبقَ في حضن أمي؟
أميييييييي يا أمييييييييييي ...

جهشت ريما بالبكاء فجأة ، وانثنت على ذراع الكرسي غامرة ً وجهها بيديها وألم الحنين يعتصر قلبها.

** ** ** ** ** **

البداية

أخذت ريما مكانها في مقعد الطائرة ، وجلست تستكشف محيطها، فهي لم تدخل طائرة ًً من قبل. من ساعة أن حزمت حقائبها في الليلة الماضية لم يهدأ نبضها، ولم تستطع النوم سوى دقائق متقطعة.

كانت تحملها مشاعرٌ متباينة لم تـُبق ِ في نفسها أية َ سكينة، فتارة كانت تتخيل كيف ستعيش لحظة فراقها عن أمها وأخوتها الصغار، وهي لم تفارقهم يوما واحدا في حياتها. وتارة كانت تتخيل كيف ستكون ليالي الغربة، حين يأتي الغد بصباح ٍ غريب في سريرٍ غريب، بعد أن تفارق سرير الطفولة الذي شاركت أخوتها الثلاث فيه. منذ أن عقدت العزم على الرحيل وهذه الأفكار تـُبكيها كلما أنصتت إلى صمت الغرفة ليلا بعد أن ينام أخوتها.

طوال سني عمرها الاثنتين وعشرين وهي تحلم بالرخاء الذي حرمها الفقر منه. كانت تدخل بيوت صديقاتها في الأحياء المجاورة لهم وتحسدهن على الحياة الرغيدة. ما كنّ يعتبرنه عاديا وهامشيا في حياتهن ، كان بالنسبة لها حلما بعيد المنال. كانت تحلم ببيت يتسع لهم – هي وأمها وأخوتها - بدلا من هاتين الغرفتين الرطبتين. وتحلم بشراء الملابس من المحلات كما يتحدثن بنات الكلية، بدلا من أن تخيط لها أمها ثيابا غير متناسقة من فضلات الأقمشة التي تستخدمها في الخياطة للنساء. فبرغم أنها كانت أجمل صديقاتها وجها إلا أنها لم تستطع أبدا أن تزهو بهذا الجمال، لأن الأناقة كانت بذخا لاتستطيعه في ظروفها الصعبة. فعائلتها عاشت سنين عجاف منذ أن توفي أبوها وهي في الخامس عشر من عمرها. وأمها كانت تخيط الملابس لنساء الحي وتصرف على أبنائها من هذا الدخل المتواضع، وكل مبتغاها أن تؤهلهم لأن يعملوا وينفقوا على أنفسهم إذا ما فقدوها، وعندها سيرفعون هذا الحمل الثقيل عن كاهلها.

أكملت ريما العام الماضي دراستها في كلية متوسطة، وأتمّت الدبلوم في العلوم الاجتماعية، لكنها لم تجد عملا في تخصصها. وكم سعت لتصبح مدرسة في إحدى المدارس الحكومية، لكنها علمت أن التعيينات تأتي من وزارة التعليم وليس من المدارس، وحتى يتم تعيينها يجب أن يكون لها واسطة قوية في الوزارة. وبعد أن سعت لها أمها بين نساء الحي، استطاعت أن تجد عملا كأجيرة في أحد صالونات التجميل في حيّ بعيد، كانت صاحبة الصالون صديقةً لزبونةٍ عند والدتها، وقد وافقت على تعيينها في الصالون بعد أن قابلتها. لم تكن بحاجة لشهادة علمية لتحصل على هذه الوظيفة، فما أن رأت المالكة وجهها البيضاوي الممتلىء وعينيها الخضراوين وقدها الأنثوي الممشوق حتى لمعت عيناها وقالت : " حسناً ... بإمكانك أن تبدئي العمل غدا، وسيكون راتبك تسعين دينارا شهريا إلى أن تتعلمي المهنة وتتقنيها، عندها سنعيد النظر في أمرك"

سعِدت ريما وأمها بهذا الراتب، فهو يساوي تقريبا راتب المعلمة في المدرسة الحكومية. لو علمت ريما أنها لن تحتاج لشهادتها لوفرت تكاليف تعليمها التي كانت أمها تقتطعها من مصروف مأكلهم ومعيشتهم كلما دخل عليها أيّ مبلغٍ من المال. التسعون دينارا تكاد تساوي دخل الأم من الخياطة شهريا. وها قد أتى الوقت الذي ستسهم فيه هي في مصروف العائلة.

** ** ** ** ** **

اجتهدت ريما في تعلّم صنعة التجميل، وكثيرا ما كانت المالكة تمرّ بها وهي تتعلم، وتجلس لتراقبها عن بعد. في تلك الأوقات كانت ريما تهمّ وتجتهد في عملها طمعا في أن تستحسن المالكة أداءها وترفع لها راتبها.

مرّ عليها شهران في صالون أم مازن، تعلمت ريما فيهما كيف تتجمّل وتجمّل النساء، وبإيعاز من المالكة كانت تجلس على كرسي التجميل لتعلّم عليها الموظفات الأخريات. وما أن ينتهين من رسم وجهها بالمكياج وتصفيف شعرها الأسود المموج حتى كانت تبدو كعارضات الأزياء. حتى هي كانت تُذهل للنتيجة.

فهي لم تلاحظ أن شفتيها ممتلئتان وبارزتان إلا عندما خطتهما باللون الورديّ، ولم تلاحظ أيضا أن لون عينيها الأخضر مائلٌ إلى الصفار إلا عندما أطّرتهما بالكحل العربي الغامق. وعندما صففن لها شعرها مرفوعا إلى الأعلى اتضحت معالم وجهها، وامتلاء خديها.

كانت نظرات الاستحسان تأتيها من كل الزبونات في المحل، كما أنها كانت تنال أكبر نصيب من البقشيش منهن لبشاشة وجهها ودوام ابتسامتها. أما أم مازن فكانت ترمقها بنظرات نهــِمة، تحتار ريما في فهمها.

لكن التعليقات التي كانت تسمعها من الزبونات ومن العاملات في الصالون لم تملأ يوما رأسها. فقد كانت تعمد إلى إزالة المساحيق عن وجهها وربط شعرها قبل النزول إلى الشارع في رحلة العودة إلى البيت. لأنها كانت تخاف أن تلفت النظر إليها وهي تعرف أن لاحامي لها. ما كانت تريد من الدنيا أكثر من الستر لها ولأمها وأخوتها.

وفي يوم حضرت إلى العمل مبكرةً كعادتها، لتجد المالكة أم مازن تجلس في الصالون قبل حضور العاملات. نادتها إلى مكتب الاستقبال، وقالت لها وهي تنفث دخان سيجارتها : " حبيبتي ريما ، مرّ على عملك في الصالون شهران، وأريد منك أن تزوريني في البيت لنتكلم حول راتبك... نستطيع الحديث هنا لكن كما تعلمين ... قد يولّد هذا فضولا عند زميلاتك ، فأفـَضل أن يتم ذلك بيني وبينك.. حسنٌ ؟"

أومأت ريما برأسها وهي تبتسم إبتسامة طفولية.

" ممتاز .. إذن غادري العمل مبكرة اليوم وسأكون في انتظارك في البيت" ، وابتسمت لها أم مازن ابتسامة ً ذات معنى مع دخول اثنتين من العاملات.

عند المساء، قرعت ريما جرس بيت أم مازن، ففتحت لها الباب بسرعة كأنها كانت تجلس خلفه.

" أهلا حبيبتي ... تفضلي" . تبعتها ريما في رواق البيت، وكلما مرّت بزاوية منه أُخذت بجمال الديكور الباهظ فيه. فالأطقم والستائر وقطع السجاد الوثير، كلها كانت تصرخ إعلانا بثراء سكان البيت. الصور المعلقة على الحوائط كانت في أطـِر ٍ مذهبة، وكانت هناك تماثيل كثيرة في رواق البيت، بعضٌ منها كان لنساء عاريات، وإحداها كانت مخجلة جدا، فأشاحت بوجهها عنها قبل أن تراها صاحبة البيت تمعن النظر فيها. .

كانت ريما تعلم أن أم مازن أرملة منذ عشرين عاما ، وأن ابنها طالب في جامعة خارج البلاد، فهل يُعقل أن امتلاك صالون للتجميل يأتي بكل هذا الثراء؟ وقبل أن تصلا إلى الحديقة الخلفية للمنزل عبر غرف الصالون العديدة كانت ريما قد وصلت بأحلامها إلى صورتها وهي تمتلك صالونا وتديره بنفسها.

" تفضلي عزيزتي ... إجلسي هنا بقربي" قاطع صوت أم مازن أحلام اليقظة، ووجدت نفسها في حديقة غنّاء، يكسو أرضها الحشيش الأخضر ويحيطها سورٌ عالٍ وأشجار كبيرة. وكانت في زاوية منه نافورة ماء مبنية من الحجر، ملأ خرير مائها الصمت بينهما . والتفتت لتجد أم مازن قد جلست على أرجوحة تتسع لثلاثة أشخاص.

كانت أم مازن امرأة ممتلئة في نصف العقد الخامس من عمرها، لكن صبغة الشعر الحمراء والمساحيق الثقيلة على وجهها كانت تخفي حقيقة عمرها. لم تكن السيجارة تفارق يدها، فلا تكاد ريما تذكر أنها رأتها بدونها. كانت تتكلم بصوتٍ مبحوح وبنبرة منخفضة.

جلست ريما بجوارها على الأرجوحة. كانت رائحة عطرٍ ثقيل تفوح منها ، واختلاطها برائحة الدخان جعل رأس ريما يدور فيما يشبه الغثيان.

" حسنٌ... أخبريني يا عزيزتي، كيف تجدين العمل في الصالون؟ "

" جميل جدا ... لم أتوقع أن أتعلم كل هذا في هذه المدة القصيرة"

ابتسمت أم مازن ابتسامة ً عريضة وقالت " إذن لم تعودي تحلمين بأن تصبحي مدرّسة ؟"

" في الحقيقة يا خالتي ... هذا لم يكن حلما بالنسبة لي، بل كان المخرج المتاح لي من الفقر الذي نعيشه، فأنا أريد أن أعمل لأساعد أمي وأريحها قليلا، ومهنة التدريس مهنةٌ شريفة ومحافظة ... ودخلها لا بأس به، ولهذا كنت أطمح إليها. أما بعد أن تعلمت مهنة التجميل على يديكِ فقد وجدتها ممتعة جدا، وأحب أن أعمل فيها طوال حياتي"

ابتسمت أم مازن وهي تنفثُ دخانها " جميل جدا إذن. لقد لاحظت أداءك في الفترة الماضية، ولاحظت أن الزبونات يطلبنك بالاسم، وهذا شيءٌ جيد لسمعة الصالون، ولهذا فقد قررت أن أزيد راتبك إلى مائتي دينار في الشهر .. ما رأيك؟"

لمعت عينا ريما فرحة ً بما سمعت، وصفقت بيديها، ورمت بنفسها في حضن أم مازن الضاحكة " أشكرك يا خالتي، وأعدك ألا أخيب ظنك أبدا"

"إجلسي يا عزيزتي، أود أن أحادثك في موضوع آخر"

جلست ريما في مكانها، ولازالت الابتسامة العريضة ملتصقة على وجهها. " تفضلي يا خالتي"

سحبت أم مازن نفسا من سيجارتها وأكملت " تعلمين يا عزيزتي أني وحيدة في هذا البيت، فإبني الوحيد مازن يدرس في الخارج منذ خمس سنوات، ولا يبدو لي أنه سيكمل تعليمه الجامعي عن قريب. وكما ترين فإن مستوى معيشتي يحتم عليّ ضمان دخل مرتفع لي ولإبني. ولذلك فقد قمت باستثمار ما تجمع لديّ من دخل الصالون في أعمال خارج البلاد والحمد لله فقد تعاظمت ثروتي منذ سنتين، وأصبحت شريكة في سلسلة من أفضل صالونات التجميل في دول الخيلج العربي"

صمتت أم مازن قليلا وهي تراقب نظرة الدهشة في عيون ريما ...

" نعم يا عزيزتي، هذا الصالون الصغير لا يمكن أن يشكل مصدر دخل كاف لي، لكني أبقيه لأنه يربطني بالناس وبمعارفي هنا. أما المال الحقيقي فيأتي من الخارج يا ريما.

لكن لدينا مشكلة في صالوناتي، وهي أننا لا نجد عاملات من نفس الدول التي نعمل فيها، لأن النساء هناك مرفهات، ولا يعملن في هذه المهن. لذلك فإني أضطر أن أصطفي بعضا من نخبة العاملات لديّ هنا، وأوظفهن في صالوناتي في الخارج."

ساد صمتٌ بينهما، في الوقت الذي كانت فيه أم مازن تتظاهر بأنها تتحسس قماش المخدة التي تستند إليها وهي تراقب وجه ضيفتها . ثم أكملت ...

" بطبيعة الحال هذه المسألة تكلفني الكثير، لأنه ليس من السهل على الفتاة أن تتغرب بعيدا عن أهلها وبيتها، ولهذا فإننا – أنا وشريكي – نعرض رواتب عالية لمن تقبل بالاغتراب والعمل لدينا. كما أننا مضطرون لتأمين مساكن للعاملات المغتربات تليق بهن. مرة أو مرتين في العام أجد كفاءة من بين العاملات لديّ تستحق كل هذه التكاليف التي أدفعها هناك..."

شعرت أم مازن بأنفاس ريما تحتبس في صدرها...

" أنا أعرف أن البنات في الصالون يتنافسن ليقع عليهن الاختيار ، ولهذا طلبت منك أن تحضري إلى بيتي ... حتى لايضايقنك إذا علمن أني سأنتخبكِ أنتِ ... فما رأيكِ؟ "

عندما أكملت أم مازن حديثها رفعت نظرها إلى ريما، لتراها قد أرخت حنكها وفتحت عينيها على وسعهما..

"بالطبع قبولك لهذا العرض سيعني إلتزامك بالعمل لمدة لاتقل عن ثلاث سنوات، أما رفضك فلن يؤثر على عملك في الصالون هنا، وكأن شيئا لم يكن، بشرط ألا تبوحي بما جرى هنا لأي من البنات... ماذا؟ ... لم تقولي لي رأيك بعد؟"

" لا أعلم يا خالتي ماذا أقول ... لكن الراتب الذي تتحدثين عنه .. يعني ... كم يكون تقريبا ؟"

" نحن عادة ً نكتب في العقد أن الراتب الشهري ألف وخمسمائة دينار .. لكن .."

ضحكت أم مازن ضحكة خفيفة ، كان سببها الصوت العفوي الذي سمعته يصدر من حنجرة ريما، وكأنها لم تسمع سابقا بأن الرواتب قد تصل إلى هذا العدد من الدنانير.

" لكن دخلك الحقيقي سيزيد عن ذلك بكثير إن بقيت على إجتهادك في كسب إعجاب الزبونات، فالزبونات هناك كريمات جدا"

" حسن يا خالتي، أعطني فرصة لأتشاور مع أمي في الموضوع، وسأعود إليك بالجواب"

" جيدٌ إذا ... أنا متأكدة أن والدتك ستوافق على هذا العرض، لأن فيه مصلحة لك ولأخوتك أيضا، أما في حال أنها رفضت فلن يتأثر حالك هنا، وسيبقى راتبك مائتي دينار ... لكن كما اتفقنا، بشرط ألا تذكري هذا الموضوع لأي أحد أبدا."

بعد هذا الحديث، احتسيتا الشاي معا، ثم افترقتا على وعد بأن تجيبها ريما عند الصباح.

** ** ** ** **

الوصول

استفاقت ريما من سباتها على صوت إعلان وصول الطائرة إلى مقصدها، ونظرت من الشباك بجوارها لترى أن الأضواء في الأسفل كانت صغيرة ً جدا وكأن السماء قد قـُلِبت لتصبح في الأسفل وقد تزينت بنجوم ٍ بعيدةٍٍ ملونة.

في المطار أنهى المسافرون إجراءاتهم للمغادرة وتوجهوا إلى قاعة المستقبلين. كانت أم مازن أكدت لريما أن شريكها نذير سيكون بانتظارها، فبحثت بنظرها عمّن يرفع شارةً باسمها. وعندما رأته تسمّرت مكانها. فقد كان الرجل ضخما بشكل مخيف. كان عريضا عرض رجلين يقفان ملتصقين. وكان طوله يفوق طولها بحوالي عشرين سنتمترا. وكان وجهه أسمرا وأنفه كبيرا.

عرفها الرجل من نظرتها إلى الشارة، فمشى إليها وعيناه تجوبان جسدها بإمعان أخجلها إلى درجة الارتباك. وباقترابه منها رفع عينيه ببطء إلى أن التقتا بعينيها. " أهلا وسهلا بك يا ريما ... حمداً لله على سلامتكِ ... أنا نذير "

كان صوته أشبه بفحيح الأفعى، لم تسمع صوتا مثله من قبل. " أهلا وسهلا .. تشرفنا "

" تفضلي معي"

وسار بجوارها بعد أن رفع حقيبتها الوحيدة. " كيف كانت رحلتك؟ أعلمتني أم مازن أنك لم تسافري من قبل "

" صحيح ، لم أسافر من قبل... لكن الرحلة كانت لطيفة ، نمتُ معظم الوقت "

كان بين لحظة وأخرى يضع يده خلف ظهرها ليدلها على اتجاه المخرج، وكلما لامسها كانت تقشعر من داخلها، وتهرب من لمسته. وعند المخرج كانت تنتظرهما سيارةٌ سوداء فارهة، لم تر ريما مثلها من قبل، وكان يجلس فيها سائق.

للحظة عابرة ترددت ريما في دخول السيارة، واقشعر بدنها عندما شعرت بنظرات نذير إلى صدرها حين وقف على مقربة منها ممسكا باب السيارة بانتظار ركوبها، فأسرعت ودخلت لتهرب من نظراته فقط.

سارت بهم السيارة في المدينة، وبُهرت ريما بعلوّ المباني فيها، وحجم الأضواء الإعلانية الكبيرة في الأسواق.
" قالت لي خالتي أم مازن أنك ستخبرني عن عنوان السكن يا أخ نذير، فهل لك أن تكتبه لي على ورقة ، حتى أراسل أمي به ؟"

" آآآه طبعا طبعا ... يا أخت ريما .. عندما نصل سنتركك ترتاحين، ثم نعود إليك في الصباح ويكون لك كل ما تشائين"

لم تستطع ريما أن تر وجهه وهو يتحدث، لأنه كان يجلس أمامها بجانب السائق، لكنها شعرت بأن كلامه فيه شيءٌ مريب. قد تكون تعجلت في الطلبات قبل أن تعرف ظروف العمل المطلوب منها.

عندما أوقف السائق السيارة كانت قد توقفت في موقف تحت الأرض لعمارة عالية كالأبراج، وقف الثلاثة ينتظرون المصعد.

" أشكركم، ولكن لا داعي لأن أزعجكم أكثر، تستطيع أن تدلني على الطابق ورقم الشقة، وتعطيني المفتاح وأنا سوف ..."

" لا يا أخت ريما .. لا إزعاج أبدا... نحن سنصعد معك لنعرّفك على شريكاتك في الشقة ، وهنّ يعملن لدينا أيضا.. وسنتأكد بأنك لاتحتاجين أي شيء، ثم نغادركن إلى الصباح"

كانت الشقة في الطابق الثالث عشر. وكان في الطابق ثلاث شقق غيرها. دق نذير جرس الباب، ففتحت لهم فتاة جميلة، تبدو في منتصف العشرينات. كانت تلبس ثوبا قصيرا وضيقا.

" أهلا أهلا ... أهلا بالريما الحلوة ... تفضلوا .."

كانت الفتاة تُدعى ميساء،وقد تزيّنت كأنها في حفل ساهر، لكن الشقة كانت هادئة ومرتبة، ولم يدل شيء على أن فيها أي زوّار. جالت ريما بنظرها فوجدت أنها في صالون مؤثث بشكل جيد لكن بسيط، وعلى يسارها كان المطبخ، وفي الردهة الممتدة أمامها رأت أربعة أبواب.

وقفت ريما تنتظر، فيما دخل الرجلان إلى المطبخ خلف ميساء وكأنهما يعرفان الشقة جيدا،

" أين رنا؟" سمعت نذير يسأل.. " نريدها أن تتعرف على ريما "
" أنسيت؟.."

وعندما عادت إليها طلبت ريما أن تعرف أين غرفتها لتوضب فيها أغراضها، فأدخلتها ميساء إلى غرفة فيها سرير منفرد وخزانة بسيطة ، ويغطي أرضها بساط خفيف.

"سأحضر لكِ كأسا من العصير"

شكرتها ريما ، وبدأت بتفريغ ملابسها من الحقيبة. وعندما عادت إليها ميساء كانت تحس بالعطش فعلا، فتجرعت العصير بسرعة وميساء تراقبها. وما أن مضى ربع ساعة حتى أحست بنعاس ٍ شديد. فنامت ...

أيقظها نورٌ باهر مسلـّط على عينيها، وكان هناك صوتٌ عال وغريب يناديها. أشاحت بوجهها عن الضوء فانطفأ، ثم حاولت أن تتحرك لتجد أن يديها محشورتان تحتها ولا تستطيع تفريقهما. أضاء صاحب الصوت ضوءا خافتا بجوار السرير، ففتحت عينيها لتجد وجها قريبا جدا من وجهها ، لم تره من قبل. كان رجلا أسمر وله شاربان أسودان وشعره خشن، تفوح منه رائحة التبغ وشيءٌ آخر مغث . وهي تنظر إليه رأت صدرها عارٍ تماما من أي غطاء، وأيقنت أنها كلها عارية أمام أعينه. فتحت فمها لتصرخ، لكن الرجل الغريب غطاه بيده.

"ش ش ش ... بهدوء يا حلوة، بهدوء ... أنا لا أحب الإزعاج. وحتى لو صرخت، النوافذ عالية جدا والحيطان كاتمة للصوت، فلن يسمعك أحد" كان يتكلم وهو يمرر يده الثانية على جسدها الأبيض ... كان مستلقياٍ بجاورها على السرير .

أخذ جسمها يرتجف بقوّة عندما أيقنت ماذا يحدث، كانت تشعر بالألم في جسمها كله، وشعرت بالألم في جوفها ... لم تستطع أن تحدد مكان الأم لأنها لم تشعر بمثله من قبل. لكن خوفها من القادم أجبرها على تجاهل الألم.. ذُعِرت وتقطعت أنفاسها تحت ضغط يده ، فأرخى قبضته على فمها وصار يمسح بها صدرها

" لا تخافي يا حلوة ... أنا إسمي صقر " بدأت تئن تحت لمسته بصوتٍ لم تسمعه هي .

" أسسستتـُرررنيييييي ، أرجوووووووووك " كان صوتها يرتجف كما كان جسدها.

سمِعَت ضحكات ٍ تأتي من ظلام الغرفة، فجالت بعينيها حول السرير لترى أن نذير والسائق يقفان عند حافة السرير من الناحية الأخرى. وخلفهم كان هناك شيئ يقف على عامودٍ أسود، لم تعرف ما هو ... لم تستطع أن ترى وجوههم بشكل واضح ، لكنها عرفت أن أحدهما كان بلا قميص.

" أستـُروني ، أرجوكم .... أرجوكم " تدحرجت ريما على جنبها وتقوقعت على نفسها، وحاولت أن تضم ساقيها إلى صدرها علّها تستر شيئا من عريّها... أغمضت عينيها وحاولت أن تطمر وجهها في الوسادة، لتختبىء من عريّها أمام أعينهم النهمة، كأنها إن لم تر نفسها فلن يروها هم...

أحست بصقر يتحرك من جنبها ... فعادت بنظرها إليه فوجدته يقف إلى جانب السرير، ولاحظت كم هو ضخم الجثة واقفا .. وفي تلك اللحظة دخلت ميساء إلى الغرفة، وكانت تحمل شيئا في يدها ناولته إلى نذير. " ها هو .. أبقه معك ... ليتك أضأت الأنوار الجانبية، لكانت الصورة أوضح"

في تلك اللحظات وقف صقر بجانب السرير يفك أزراره ، " هيا! إرحلوا واتركوني مع ريمتي الجميلة"

لم تعرف ريما معنى الذي يجري ، لكنها رأتهم يخرجون وكلّ يرمقها بنظرات وابتسامات لم تفهمها ... وبقيت في الغرفة مع صقر ..

" والآن يا حلوة .." قال وهو يتعرى من ملابسه ببطءٍ شديد " أنا لا أحب الجميلات نائمات ، أحب أن أنظر في عيونهن الجميلة... وحتى لاتفوتك المتعة أيضا كان يجب أن أيقظك .. لكن يجب أن تفهمي أنك ستحظين بميزة بين البنات الأخريات، فأنا لا أفعل هذا عادةً. أنت أجمل منهن جميعا ... ومن يوم أن رأيتك في فيلم الفيديو في الصالون عرفت أنك ستكونين هنا معي، وأنك ستكونين من بين المميزات. والآن لا تكوني طفلة واجلبي لي ولك السعادة".

مدّ نفسه ملتصقا بجسدها المرتعش، وفردها إلى أن استلقى بثقله فوقها، أصمتَ صيحاتِها بيدٍ واحدة ..
كان ثقيلا لدرجة أنها لم تستطع التنفس تحته، كما أن ضغط وزنيهما معا على أذرعها المقيدة تحتها جعلها تفقد الإحساس فيهما.

أحست بذلك الألم الحارق في جوفها يشتد ويشتد ... أرادت أن تصرخ لكنها لم تستطع أن تتنفس ... فانهمرت دموع غزيرة صامتة من عينيها..

كان وجهه قريبا من وجهها، وكان يحدق في عينيها الباكيتين كالغول الأسود... و شفتاه تتحركان حركة مقززة وأسنانه الصفراء تصطك في متعة مراقبةِ الرعب في نظراتها له ... كلما اشتد ألمها وأطبقت جفونها من الحرقة فتحتهما لتراه يبتسم كشيطان ٍ يتلذذ.

كانتا دقيقتين بمرارة الدهر كلـّه ... عندما أزاح يده عن فمها لم تستطع أن تشهق لتصرخ ... ثم أحست بالسواد يغلف الدنيا.

** ** ** ** **

أفاقت ريما في غرفتها على ضوء النهار يطل عليها من النافذة ... لثوانٍ عابرة لم تذكر أين هي. ثم تذكرت ما جرى في تلك الليلة ودفنت وجهها في الوسادة. لعله حلمٌ بغيض يذهب إلى غير رجعة. لكن الإحساس بالألم في جوفها وفي ذراعيها داهم صحوتها جالبا معه إحساسا عميقا بالغثيان. فتقوقعت على نفسها تحت الغطاء.

" لماذا يا ربي ....؟ ماذا فعلت لأستحق أن يجري لي هذا ؟ لماذا فعلوا بي هكذا؟ أنا لم أعرفهم من قبل ... فلماذا يجرمون بي هكذا؟"

سمعَت صوت جلبة تدور خلف بابها، فتحركت بسرعة وجلست في السرير وهي تسحب الغطاء على جسمها. دار مفتاحٌ في قفل الباب ودخلت ميساء حاملة ً صينية فيها شيئٌ ضئيلٌ من الطعام.

" صباح الخير، يا رُمرُم ... اسمك جميلٌ جدا، هل قلت لك ذلك سابقا ؟" وجلست على حافة السرير.

" من أنتم ؟ وماذا تريدون مني"

" لاشيء يا عزيزتي، بل أنتِ من تريدُ منا ... البارحة كانت أصعب أيامك هنا، لكن لا تخافي، فالأيام الآتية ستعوضك هذ اليوم. لكن يجب أن تكوني متعاونة ، حتى لا تقسي على نفسك"

" ماذا تقصدين، وما الذي أريده منكم؟ "

" يا عزيزتي ليلة الأمس كانت ليلة ساخنة جدا للشباب، وقد تم تسجيلها بالكامل على شريط فيديو، وهو الآن بحوزة نذير... وإن لم تتعاوني معنا وتلبي كل مطالبنا فالشريط سيصل ليد والدتك ، ويتفرج عليه كل أخوتك وأهلك"

كادت عينا ريما تنفران من وجهها جحوظا وهي تستمع إلى حديث ميساء.
" لا تخافي، كل ما عليك هو أن تضعي رضا الزبائن نصب عينيكِ، لأنهم هم من سيفرشون حياتكِ بالنعيم، ويلبسونك الحرير والجواهر ... وعندها ستستطيعين أن تبعثي المال الوفير لأهلك، وسيودعوا الفقر والجوع إلى الأبد..." قالت وهي تداعب خصلاتٍ من شعر ريما " فمن هي بجمالك يا عزيزتي، وبمثل هذا القد الرشيق لا تجوع أبدا"

تركتها ميساء بعد أن أغلقت الباب بالمفتاح ، وبقيت ريما وحدها تفكر فيما يجري لها...

هل يعقل أن يحتوي العالم كل هذا الشر؟ أليسوا هؤلاء بشرٌ مخلوقين من ذات طينة الخليقة كلها؟ أليس لهؤلاء أخوات وأمهات يشفقون عليهن؟ أم أنهم خُلقوا من نار كالشياطين؟ البارحة نامت وأحلام البداية الجديدة تراود منامها، وبين الغفوة والغفوة عاشت سوادا لم تعلم بوجوده في هذا العالم، ليطل عليها نهارٌ أشد سوادا وظلمة.

علمت ريما في الأيام التالية معنى الجحيم على الأرض، فكل يوم كان يأتيها صقر وينهش جسدها نهشا، وكلما كانت تحاول مقاومته كان يكيل لها الصفعات والضرب على وجهها حتى أصبح ملونا ً. كان يستطيع أن يغلبها بثقل جسمه فقط، فما أن يلقي بوزنه عليها حتى ينحبس الهواء في صدرها ويكتم نفسها. وضآلة الطعام المقدم لها جعلتها ضعيفة جدا.

وبعد عشرة أيام، دخل عليها صقر، وكل ما استطاعت فعله هو أن تشيح بوجهها عنه.

** ** ** ** ** ** **

يأس الغزلان

بعد شهرين من الحبس في القفص الكبير شـُفيت ساق غزالتنا تماما، واستطاعت أن تسير على أربع، فصارت تدور حول الشجرة ، وتسرع في دورانها.
التفت إليها الخادم ووقف لحظات يراقبها. كان يحاول أن يفهم سبب دورانها، وما أن فهم حتى ضحك عاليا ورحل.

أوقفت غزالة دورانها في القفص وهي تشعر بألم ٍ شديد في أرجلها الأربع، خارت قواها فجأة وارتمت على الأرض.
" يا إلهي!! .. لم تعد سيقاني قادرة على الركض .. فقدت قدرتي على الركض !!"

تعاظمت شفقتها على نفسها ، وبكت المسكينة بحرقة وألم، ولم يشعر بها سوى الطيور الواقفة على الشجرة تراقبها بحزن عميق.

لأيام بقيت غزالة راكدةً تعاني من آلامٍ في جسمها، لم ترغب في المأكل. نحُلَ جسمها لدرجة أن الخادم لاحظ ذلك، واقترب محاولا إطعامها بيديه، وكانت تشيح بوجهها عنه. فجلس بقربها يمسّد جسدها الناعم وهي مغمضة عينيها من الحزن.

في اليوم التالي حلُمت غزالة بأنها لو أطالت قفزتها قليلا ذلك اليوم لما كانت سجينة اليوم... تذكرت في حلمها كم كان جميلا القفز فوق ذلك المرتفع ... تحملها النسمات الدافئة إلى الأعلى، وتلمع الشمس على جلدها الأحمر المرقـّّط الجميل. استيقظت غزالة من حلمها وفي قلبها شوق كبير لأن تقفز ... ولو لمرةٍ واحدة فقط.

فقامت ببطءٍ وسارت إلى زاوية الماء ،و حفرت لأقدامها مكانا في الأرض بين الأعشاب ونظرت أمامها ... وقفزت ..

سمع الخادم صرختها من بعيد، وجاء يركض إليها، فتح القفص ليرى أنها ارتطمت بالشِباك المعدنية وانغرس بعض أطراف السياج في صدر الغزالة المسكينة.

" ما الذي تفعلينه يا صغيرة؟ ستقتلين نفسك بهذا الشكل؟ "

خرج من القفص مسرعا ثم عاد وبيده بعض الضماد والقماش. أخذ يمسح بهما صدرها الجريح ... وبعد حين تركها وجراحها.

" يا إلهي ! ... ألن أقفز ثانيةً أبدا؟ ألن أعانق الشمس مرة أخرى في حياتي ؟ "

بكت غزالة دموعا لم يرها الخادم ولا غيره، فقد بكت بروحها بكاء لم يصل إلى عينيها. أبقت عينيها مفتوحتين وهي ملقاة على الأرض، تأملت الشجرة.

" أحسدكِ أيتها الشجرة، فأنتِ لم تقفزي مرة في وجه الشمس ، ولهذا يحلو لك القفصُ ذو السياج... لم تسابقي الفـَراش إلى النهر يوما، فاستـَطبْتِ سجنا بنافورة... تورقُ أغصانـُك من مائها .."

صمتت غزالة لحظة ً تأملت فيها فروع الشجرة...

مشت إليها مشية ً أليمة، واستدارت حولها مرة، لم تكن قد لاحظت من قبل أن أحد الفروع منخفض.

نظرت إلى الفرع ، ثم مدت عنقها الطويل إلى الجرح في صدرها ولعقته ..

"لا بأس ... إذن ففيكِ الملاذ ُ يا رفيقة السجن ِ ، فلا تبخلي به عليّ ... هي قفزة ٌ واحدة .. وأخيرة "

ركـّزت غزالة نظرَها على الغصن، ورجعت إلى الوراء إلى أن لامست السياج ، وحفرت لأقدامها موقعا في الأرض. أغمضت عينيها وشهقت شهقة طويلة ... وقفزت...

جاء الخادم يركض مسرعا صوب القفص، لم يكن يعلم مصدر الصوت المريع، لكنه ذهِل ووقف مشدوها عندما علم...

" هذا هو الذي تريدون ... هو لكم إذن ... إعرضوه في المعارض أو زيّنوا به حائطا يليق بلوني الذي أعجبكم ...

أما أنا ... فسأقفز وأقفز ... فقد وُلِدتُ حرّة ً وسأبقى حُرّة . "

** ** ** ** **

العودة

" هل أنت متأكدٌ أنها جاهزة لهذا"

" نعم .. لقد أصبحت كالقطة الوديعة ... ما عليكِ إلا أن تعدّيها وتزينيها ، فالزبون ينتظر"

" أعدَدتـُها، وهي بالانتظار .. سأذهب وآتيك بها، لكني لا زلت أعتقد أن الوقت مبكرٌ عليها"

دخلت ميساء على ريما وهي تجلس على طرف السرير، كانت بكامل زينتها، وتلبس فستانا أحمرا قصيرا، وقد رفعت شعرها الأسود الكثيف. كان وجهها مغطىً بالمساحيق والألوان، لكن الحزن فيه لم يختبىء تحتها.

" هيا يا حلوة، الحظ ينتظرك الليلة ... تذكري ما قلته لك وستكونين على ما يرام ... جواهر وحرير، والبسمة على وجوه أخوتك"

تبعتها ريما إلى الخارج، ثم عطرتها ميساء بعطر ثقيل ، ولفتها بعباءة سوداء للطريق... خرجت بصحبة الرجلين وأحدهما يمسك بها من كوعها.

وصلوا إلى فيلا فارهة، كانت الأضواء في الخارج تضيء الطريق إلى البوابة عبر حديقة جميلة، وصوت خرير الماء يملؤ الجو.

فتح الباب لهم رجلٌ أشيب ، يبدو في منتصف الستينات. دخلت ريما ونذير ممسك بذراعها، في حين بقي السائق في السيارة.

" أهلا ومرحبا " قال الشيخ وهو يتفحص ريما، ثم مد يده وأزال نصف العباءة عن جسدها

" أهلا بك يا سيدي، أقدم لك ريما .. أرقّ ريما لدينا، وسأكون في الخارج بالانتظار "

خرج نذير بعد أن ناوله الشيخ ظرفا مغلقا. أمسك الشيخ بذراع ريما واقتادها إلى طابقٍ علويّ. دخلا معا إلى غرفة يفوح منها عبق البخور الكثيف، وفيها سرير كبير وواسع، لم تر في حياتها بضخامته.

بدأ الشيخ يداعبها ويتحسس بدنها، وهي تشعر بالغثيان والمقت. لم تقو على دفعه عنها...

" سيدي، هل أستطيع أن أطلب منك طلبا "

" أنت تأمرين يا حلوة، لكن دعي عنكِ الألقاب، فنحن الأن أحبة، وقد نلتقي مرارا أنا وإياكِ... ثم لا تخشي شيئا، إن أعجبتِني سوف أكرمك كثيرا جدا .." ودفن وجهه في كتفها.

" أريد بعد إذنك أن أستحم ... لأني لم تتسنَّ لي الفرصة لأستحم من آخر زبون ..."

"مااااذا ..؟" رفع رأسه وهو غاضب " كيف يكون هذا؟ نحن لم نتفق على هذا أبدا ؟ سأذهب وأتكلم مع نذير .."

همّ بالخروج فأمسكته ريما وتعلقت بثيابه: " لا أرجوووك" حاولت أن تجعل صوتها مغناجا لتخفي خوفها

" إن فعلتَ فستضيع علينا ليلة رائعة" ومالت عليه إلى أن انكشف له جزء من صدرها. " أرجوك، كل المسألة أن أغيب عنك عشر دقائق في الحمام، وأصبح كلّي لك"

سال لعاب الشيخ وهو يستمع إلى صوتها الرقيق دون أن يرفع نظره عن صدرها.

"حسن، من هنا ... لكن لا تطيلي عني الغياب"

أغلقت ريما على نفسها باب الحمام، وهبطت إلى الأرض. لم تكن تعلم ماذا ستفعل ... أو كيف ستستغل هذه الفسحة من الحرية.

سمعت صوت موسيقى يأتي من غرفة النوم، وجالت بنظرها في الحمام الفاخر. فتحت الماء ليجري ويسمع الشيخ صوته، عله يمهلها دقائق لتفكر. وقفت أمام المرآة وهالها ما رأت ... تكاد لا تعرف وجهها من تحت كل تلك الألوان والمساحيق.

"يا إلهي، أنا لم أولد أَمَة جسدي، ولم يولد جسدي عبدا لهؤلاء، فلماذا يكون هذا مصيري؟ ألهمني يا ربي ... ماذا أفعل؟"

بدأت تغسل المساحيق عن وجهها. الغرفة في السكن لم يكن فيها مرآة، وكذلك الحمام المرفق بها، لذلك لم تر صورتها بعد كل هذا التلوين، وكأن ميساء عمدت إلى طمس جمالها بكثرة التلوين بدلا من أن تجمّلها.

سالت المساحيق الملوّنة على الوجه الجميل الناظر إليها من المرآة. صوت الماء الجاري ورائحة الصابون المعطّر الفاخر هدآ أعصابها قليلا.

ارتكزت ريما على طرفيّ المغسلة بيديها ومرّت في المرآة أمامها صورٌ بتتابع لا يصدقه العقل.
كيف حدث كلّ هذا.. أي قدرٍ كان بانتظارها.

توقفت ريما للحظة أمام المرآة ...
لماذا لا توجد مرآة في غرفة السكن والحمام ؟

" رييييمااااا ... هل تحتاجين مساعدة؟"
سمعت صوت الشيخ في الخارج، وهرعت لتتأكد أن الباب مغلق بالمفتاح.
" لا شكرا، دقيقتين فقط وأكون معك"

عادت لتقف أمام المرآة .. أفكارها جعلتها تتنفس بعمق وبزفراتٍ طويلة. أمسكت ريما بالمنشفة، ولـفـّتها حول يدها لتكتم الصوت ، ثم ضربت بها المرآة ضربة واحدة.

" ربي أنت تعلم أني مؤمنة ٌ بك، وأعلم أنا أن حالي هذا لايرضيك، فأنت الرحمن الرحيم، وأنا وقعت فريسة من لارحمة في قلوبهم... إغفر لي يا ربي"

تناولت بيدها قطعة مدببة من الزجاج، وتحت صوت اندفاع الماء في الداخل وصوت الموسيقى الماجنة في الخارج، اختفى صوت شهقةٍ لريما.

فتح الشيخ الباب عنوةً بعد أن فرغ صبره، ليرى ريما تسبح في دمها وقطعة الزجاج بارزة من رقبتها.

" هو لك يا شايب، انهشه كما تشاء، أما أنا فقد ولِدتُ حرة وسأبقى حرة"
بعد هذا الحديث، احتسيتا الشاي معا، ثم افترقتا على وعد بأن تجيبها ريما عند الصباح.

** ** ** ** **

الوصول

استفاقت ريما من سباتها على صوت إعلان وصول الطائرة إلى مقصدها، ونظرت من الشباك بجوارها لترى أن الأضواء في الأسفل كانت صغيرة ً جدا وكأن السماء قد قـُلِبت لتصبح في الأسفل وقد تزينت بنجوم ٍ بعيدةٍٍ ملونة.

في المطار أنهى المسافرون إجراءاتهم للمغادرة وتوجهوا إلى قاعة المستقبلين. كانت أم مازن أكدت لريما أن شريكها نذير سيكون بانتظارها، فبحثت بنظرها عمّن يرفع شارةً باسمها. وعندما رأته تسمّرت مكانها. فقد كان الرجل ضخما بشكل مخيف. كان عريضا عرض رجلين يقفان ملتصقين. وكان طوله يفوق طولها بحوالي عشرين سنتمترا. وكان وجهه أسمرا وأنفه كبيرا.

عرفها الرجل من نظرتها إلى الشارة، فمشى إليها وعيناه تجوبان جسدها بإمعان أخجلها إلى درجة الارتباك. وباقترابه منها رفع عينيه ببطء إلى أن التقتا بعينيها. " أهلا وسهلا بك يا ريما ... حمداً لله على سلامتكِ ... أنا نذير "

كان صوته أشبه بفحيح الأفعى، لم تسمع صوتا مثله من قبل. " أهلا وسهلا .. تشرفنا "

" تفضلي معي"

وسار بجوارها بعد أن رفع حقيبتها الوحيدة. " كيف كانت رحلتك؟ أعلمتني أم مازن أنك لم تسافري من قبل "

" صحيح ، لم أسافر من قبل... لكن الرحلة كانت لطيفة ، نمتُ معظم الوقت "

كان بين لحظة وأخرى يضع يده خلف ظهرها ليدلها على اتجاه المخرج، وكلما لامسها كانت تقشعر من داخلها، وتهرب من لمسته. وعند المخرج كانت تنتظرهما سيارةٌ سوداء فارهة، لم تر ريما مثلها من قبل، وكان يجلس فيها سائق.

للحظة عابرة ترددت ريما في دخول السيارة، واقشعر بدنها عندما شعرت بنظرات نذير إلى صدرها حين وقف على مقربة منها ممسكا باب السيارة بانتظار ركوبها، فأسرعت ودخلت لتهرب من نظراته فقط.

سارت بهم السيارة في المدينة، وبُهرت ريما بعلوّ المباني فيها، وحجم الأضواء الإعلانية الكبيرة في الأسواق.
" قالت لي خالتي أم مازن أنك ستخبرني عن عنوان السكن يا أخ نذير، فهل لك أن تكتبه لي على ورقة ، حتى أراسل أمي به ؟"

" آآآه طبعا طبعا ... يا أخت ريما .. عندما نصل سنتركك ترتاحين، ثم نعود إليك في الصباح ويكون لك كل ما تشائين"

لم تستطع ريما أن تر وجهه وهو يتحدث، لأنه كان يجلس أمامها بجانب السائق، لكنها شعرت بأن كلامه فيه شيءٌ مريب. قد تكون تعجلت في الطلبات قبل أن تعرف ظروف العمل المطلوب منها.

عندما أوقف السائق السيارة كانت قد توقفت في موقف تحت الأرض لعمارة عالية كالأبراج، وقف الثلاثة ينتظرون المصعد.

" أشكركم، ولكن لا داعي لأن أزعجكم أكثر، تستطيع أن تدلني على الطابق ورقم الشقة، وتعطيني المفتاح وأنا سوف ..."

" لا يا أخت ريما .. لا إزعاج أبدا... نحن سنصعد معك لنعرّفك على شريكاتك في الشقة ، وهنّ يعملن لدينا أيضا.. وسنتأكد بأنك لاتحتاجين أي شيء، ثم نغادركن إلى الصباح"

كانت الشقة في الطابق الثالث عشر. وكان في الطابق ثلاث شقق غيرها. دق نذير جرس الباب، ففتحت لهم فتاة جميلة، تبدو في منتصف العشرينات. كانت تلبس ثوبا قصيرا وضيقا.

" أهلا أهلا ... أهلا بالريما الحلوة ... تفضلوا .."

كانت الفتاة تُدعى ميساء،وقد تزيّنت كأنها في حفل ساهر، لكن الشقة كانت هادئة ومرتبة، ولم يدل شيء على أن فيها أي زوّار. جالت ريما بنظرها فوجدت أنها في صالون مؤثث بشكل جيد لكن بسيط، وعلى يسارها كان المطبخ، وفي الردهة الممتدة أمامها رأت أربعة أبواب.

وقفت ريما تنتظر، فيما دخل الرجلان إلى المطبخ خلف ميساء وكأنهما يعرفان الشقة جيدا،

" أين رنا؟" سمعت نذير يسأل.. " نريدها أن تتعرف على ريما "
" أنسيت؟.."

وعندما عادت إليها طلبت ريما أن تعرف أين غرفتها لتوضب فيها أغراضها، فأدخلتها ميساء إلى غرفة فيها سرير منفرد وخزانة بسيطة ، ويغطي أرضها بساط خفيف.

"سأحضر لكِ كأسا من العصير"

شكرتها ريما ، وبدأت بتفريغ ملابسها من الحقيبة. وعندما عادت إليها ميساء كانت تحس بالعطش فعلا، فتجرعت العصير بسرعة وميساء تراقبها. وما أن مضى ربع ساعة حتى أحست بنعاس ٍ شديد. فنامت ...

أيقظها نورٌ باهر مسلـّط على عينيها، وكان هناك صوتٌ عال وغريب يناديها. أشاحت بوجهها عن الضوء فانطفأ، ثم حاولت أن تتحرك لتجد أن يديها محشورتان تحتها ولا تستطيع تفريقهما. أضاء صاحب الصوت ضوءا خافتا بجوار السرير، ففتحت عينيها لتجد وجها قريبا جدا من وجهها ، لم تره من قبل. كان رجلا أسمر وله شاربان أسودان وشعره خشن، تفوح منه رائحة التبغ وشيءٌ آخر مغث . وهي تنظر إليه رأت صدرها عارٍ تماما من أي غطاء، وأيقنت أنها كلها عارية أمام أعينه. فتحت فمها لتصرخ، لكن الرجل الغريب غطاه بيده.

"ش ش ش ... بهدوء يا حلوة، بهدوء ... أنا لا أحب الإزعاج. وحتى لو صرخت، النوافذ عالية جدا والحيطان كاتمة للصوت، فلن يسمعك أحد" كان يتكلم وهو يمرر يده الثانية على جسدها الأبيض ... كان مستلقياٍ بجاورها على السرير .

أخذ جسمها يرتجف بقوّة عندما أيقنت ماذا يحدث، كانت تشعر بالألم في جسمها كله، وشعرت بالألم في جوفها ... لم تستطع أن تحدد مكان الأم لأنها لم تشعر بمثله من قبل. لكن خوفها من القادم أجبرها على تجاهل الألم.. ذُعِرت وتقطعت أنفاسها تحت ضغط يده ، فأرخى قبضته على فمها وصار يمسح بها صدرها

" لا تخافي يا حلوة ... أنا إسمي صقر " بدأت تئن تحت لمسته بصوتٍ لم تسمعه هي .

" أسسستتـُرررنيييييي ، أرجوووووووووك " كان صوتها يرتجف كما كان جسدها.

سمِعَت ضحكات ٍ تأتي من ظلام الغرفة، فجالت بعينيها حول السرير لترى أن نذير والسائق يقفان عند حافة السرير من الناحية الأخرى. وخلفهم كان هناك شيئ يقف على عامودٍ أسود، لم تعرف ما هو ... لم تستطع أن ترى وجوههم بشكل واضح ، لكنها عرفت أن أحدهما كان بلا قميص.

" أستـُروني ، أرجوكم .... أرجوكم " تدحرجت ريما على جنبها وتقوقعت على نفسها، وحاولت أن تضم ساقيها إلى صدرها علّها تستر شيئا من عريّها... أغمضت عينيها وحاولت أن تطمر وجهها في الوسادة، لتختبىء من عريّها أمام أعينهم النهمة، كأنها إن لم تر نفسها فلن يروها هم...

أحست بصقر يتحرك من جنبها ... فعادت بنظرها إليه فوجدته يقف إلى جانب السرير، ولاحظت كم هو ضخم الجثة واقفا .. وفي تلك اللحظة دخلت ميساء إلى الغرفة، وكانت تحمل شيئا في يدها ناولته إلى نذير. " ها هو .. أبقه معك ... ليتك أضأت الأنوار الجانبية، لكانت الصورة أوضح"

في تلك اللحظات وقف صقر بجانب السرير يفك أزراره ، " هيا! إرحلوا واتركوني مع ريمتي الجميلة"

لم تعرف ريما معنى الذي يجري ، لكنها رأتهم يخرجون وكلّ يرمقها بنظرات وابتسامات لم تفهمها ... وبقيت في الغرفة مع صقر ..

" والآن يا حلوة .." قال وهو يتعرى من ملابسه ببطءٍ شديد " أنا لا أحب الجميلات نائمات ، أحب أن أنظر في عيونهن الجميلة... وحتى لاتفوتك المتعة أيضا كان يجب أن أيقظك .. لكن يجب أن تفهمي أنك ستحظين بميزة بين البنات الأخريات، فأنا لا أفعل هذا عادةً. أنت أجمل منهن جميعا ... ومن يوم أن رأيتك في فيلم الفيديو في الصالون عرفت أنك ستكونين هنا معي، وأنك ستكونين من بين المميزات. والآن لا تكوني طفلة واجلبي لي ولك السعادة".

مدّ نفسه ملتصقا بجسدها المرتعش، وفردها إلى أن استلقى بثقله فوقها، أصمتَ صيحاتِها بيدٍ واحدة ..
كان ثقيلا لدرجة أنها لم تستطع التنفس تحته، كما أن ضغط وزنيهما معا على أذرعها المقيدة تحتها جعلها تفقد الإحساس فيهما.

أحست بذلك الألم الحارق في جوفها يشتد ويشتد ... أرادت أن تصرخ لكنها لم تستطع أن تتنفس ... فانهمرت دموع غزيرة صامتة من عينيها..

كان وجهه قريبا من وجهها، وكان يحدق في عينيها الباكيتين كالغول الأسود... و شفتاه تتحركان حركة مقززة وأسنانه الصفراء تصطك في متعة مراقبةِ الرعب في نظراتها له ... كلما اشتد ألمها وأطبقت جفونها من الحرقة فتحتهما لتراه يبتسم كشيطان ٍ يتلذذ.

كانتا دقيقتين بمرارة الدهر كلـّه ... عندما أزاح يده عن فمها لم تستطع أن تشهق لتصرخ ... ثم أحست بالسواد يغلف الدنيا.

** ** ** ** **

أفاقت ريما في غرفتها على ضوء النهار يطل عليها من النافذة ... لثوانٍ عابرة لم تذكر أين هي. ثم تذكرت ما جرى في تلك الليلة ودفنت وجهها في الوسادة. لعله حلمٌ بغيض يذهب إلى غير رجعة. لكن الإحساس بالألم في جوفها وفي ذراعيها داهم صحوتها جالبا معه إحساسا عميقا بالغثيان. فتقوقعت على نفسها تحت الغطاء.

" لماذا يا ربي ....؟ ماذا فعلت لأستحق أن يجري لي هذا ؟ لماذا فعلوا بي هكذا؟ أنا لم أعرفهم من قبل ... فلماذا يجرمون بي هكذا؟"

سمعَت صوت جلبة تدور خلف بابها، فتحركت بسرعة وجلست في السرير وهي تسحب الغطاء على جسمها. دار مفتاحٌ في قفل الباب ودخلت ميساء حاملة ً صينية فيها شيئٌ ضئيلٌ من الطعام.

" صباح الخير، يا رُمرُم ... اسمك جميلٌ جدا، هل قلت لك ذلك سابقا ؟" وجلست على حافة السرير.

" من أنتم ؟ وماذا تريدون مني"

" لاشيء يا عزيزتي، بل أنتِ من تريدُ منا ... البارحة كانت أصعب أيامك هنا، لكن لا تخافي، فالأيام الآتية ستعوضك هذ اليوم. لكن يجب أن تكوني متعاونة ، حتى لا تقسي على نفسك"

" ماذا تقصدين، وما الذي أريده منكم؟ "

" يا عزيزتي ليلة الأمس كانت ليلة ساخنة جدا للشباب، وقد تم تسجيلها بالكامل على شريط فيديو، وهو الآن بحوزة نذير... وإن لم تتعاوني معنا وتلبي كل مطالبنا فالشريط سيصل ليد والدتك ، ويتفرج عليه كل أخوتك وأهلك"

كادت عينا ريما تنفران من وجهها جحوظا وهي تستمع إلى حديث ميساء.
" لا تخافي، كل ما عليك هو أن تضعي رضا الزبائن نصب عينيكِ، لأنهم هم من سيفرشون حياتكِ بالنعيم، ويلبسونك الحرير والجواهر ... وعندها ستستطيعين أن تبعثي المال الوفير لأهلك، وسيودعوا الفقر والجوع إلى الأبد..." قالت وهي تداعب خصلاتٍ من شعر ريما " فمن هي بجمالك يا عزيزتي، وبمثل هذا القد الرشيق لا تجوع أبدا"

تركتها ميساء بعد أن أغلقت الباب بالمفتاح ، وبقيت ريما وحدها تفكر فيما يجري لها...

هل يعقل أن يحتوي العالم كل هذا الشر؟ أليسوا هؤلاء بشرٌ مخلوقين من ذات طينة الخليقة كلها؟ أليس لهؤلاء أخوات وأمهات يشفقون عليهن؟ أم أنهم خُلقوا من نار كالشياطين؟ البارحة نامت وأحلام البداية الجديدة تراود منامها، وبين الغفوة والغفوة عاشت سوادا لم تعلم بوجوده في هذا العالم، ليطل عليها نهارٌ أشد سوادا وظلمة.

علمت ريما في الأيام التالية معنى الجحيم على الأرض، فكل يوم كان يأتيها صقر وينهش جسدها نهشا، وكلما كانت تحاول مقاومته كان يكيل لها الصفعات والضرب على وجهها حتى أصبح ملونا ً. كان يستطيع أن يغلبها بثقل جسمه فقط، فما أن يلقي بوزنه عليها حتى ينحبس الهواء في صدرها ويكتم نفسها. وضآلة الطعام المقدم لها جعلتها ضعيفة جدا.

وبعد عشرة أيام، دخل عليها صقر، وكل ما استطاعت فعله هو أن تشيح بوجهها عنه.

** ** ** ** ** ** **

يأس الغزلان

بعد شهرين من الحبس في القفص الكبير شـُفيت ساق غزالتنا تماما، واستطاعت أن تسير على أربع، فصارت تدور حول الشجرة ، وتسرع في دورانها.
التفت إليها الخادم ووقف لحظات يراقبها. كان يحاول أن يفهم سبب دورانها، وما أن فهم حتى ضحك عاليا ورحل.

أوقفت غزالة دورانها في القفص وهي تشعر بألم ٍ شديد في أرجلها الأربع، خارت قواها فجأة وارتمت على الأرض.
" يا إلهي!! .. لم تعد سيقاني قادرة على الركض .. فقدت قدرتي على الركض !!"

تعاظمت شفقتها على نفسها ، وبكت المسكينة بحرقة وألم، ولم يشعر بها سوى الطيور الواقفة على الشجرة تراقبها بحزن عميق.

لأيام بقيت غزالة راكدةً تعاني من آلامٍ في جسمها، لم ترغب في المأكل. نحُلَ جسمها لدرجة أن الخادم لاحظ ذلك، واقترب محاولا إطعامها بيديه، وكانت تشيح بوجهها عنه. فجلس بقربها يمسّد جسدها الناعم وهي مغمضة عينيها من الحزن.

في اليوم التالي حلُمت غزالة بأنها لو أطالت قفزتها قليلا ذلك اليوم لما كانت سجينة اليوم... تذكرت في حلمها كم كان جميلا القفز فوق ذلك المرتفع ... تحملها النسمات الدافئة إلى الأعلى، وتلمع الشمس على جلدها الأحمر المرقـّّط الجميل. استيقظت غزالة من حلمها وفي قلبها شوق كبير لأن تقفز ... ولو لمرةٍ واحدة فقط.

فقامت ببطءٍ وسارت إلى زاوية الماء ،و حفرت لأقدامها مكانا في الأرض بين الأعشاب ونظرت أمامها ... وقفزت ..

سمع الخادم صرختها من بعيد، وجاء يركض إليها، فتح القفص ليرى أنها ارتطمت بالشِباك المعدنية وانغرس بعض أطراف السياج في صدر الغزالة المسكينة.

" ما الذي تفعلينه يا صغيرة؟ ستقتلين نفسك بهذا الشكل؟ "

خرج من القفص مسرعا ثم عاد وبيده بعض الضماد والقماش. أخذ يمسح بهما صدرها الجريح ... وبعد حين تركها وجراحها.

" يا إلهي ! ... ألن أقفز ثانيةً أبدا؟ ألن أعانق الشمس مرة أخرى في حياتي ؟ "

بكت غزالة دموعا لم يرها الخادم ولا غيره، فقد بكت بروحها بكاء لم يصل إلى عينيها. أبقت عينيها مفتوحتين وهي ملقاة على الأرض، تأملت الشجرة.

" أحسدكِ أيتها الشجرة، فأنتِ لم تقفزي مرة في وجه الشمس ، ولهذا يحلو لك القفصُ ذو السياج... لم تسابقي الفـَراش إلى النهر يوما، فاستـَطبْتِ سجنا بنافورة... تورقُ أغصانـُك من مائها .."

صمتت غزالة لحظة ً تأملت فيها فروع الشجرة...

مشت إليها مشية ً أليمة، واستدارت حولها مرة، لم تكن قد لاحظت من قبل أن أحد الفروع منخفض.

نظرت إلى الفرع ، ثم مدت عنقها الطويل إلى الجرح في صدرها ولعقته ..

"لا بأس ... إذن ففيكِ الملاذ ُ يا رفيقة السجن ِ ، فلا تبخلي به عليّ ... هي قفزة ٌ واحدة .. وأخيرة "

ركـّزت غزالة نظرَها على الغصن، ورجعت إلى الوراء إلى أن لامست السياج ، وحفرت لأقدامها موقعا في الأرض. أغمضت عينيها وشهقت شهقة طويلة ... وقفزت...

جاء الخادم يركض مسرعا صوب القفص، لم يكن يعلم مصدر الصوت المريع، لكنه ذهِل ووقف مشدوها عندما علم...

" هذا هو الذي تريدون ... هو لكم إذن ... إعرضوه في المعارض أو زيّنوا به حائطا يليق بلوني الذي أعجبكم ...

أما أنا ... فسأقفز وأقفز ... فقد وُلِدتُ حرّة ً وسأبقى حُرّة . "

** ** ** ** **

العودة

" هل أنت متأكدٌ أنها جاهزة لهذا"

" نعم .. لقد أصبحت كالقطة الوديعة ... ما عليكِ إلا أن تعدّيها وتزينيها ، فالزبون ينتظر"

" أعدَدتـُها، وهي بالانتظار .. سأذهب وآتيك بها، لكني لا زلت أعتقد أن الوقت مبكرٌ عليها"

دخلت ميساء على ريما وهي تجلس على طرف السرير، كانت بكامل زينتها، وتلبس فستانا أحمرا قصيرا، وقد رفعت شعرها الأسود الكثيف. كان وجهها مغطىً بالمساحيق والألوان، لكن الحزن فيه لم يختبىء تحتها.

" هيا يا حلوة، الحظ ينتظرك الليلة ... تذكري ما قلته لك وستكونين على ما يرام ... جواهر وحرير، والبسمة على وجوه أخوتك"

تبعتها ريما إلى الخارج، ثم عطرتها ميساء بعطر ثقيل ، ولفتها بعباءة سوداء للطريق... خرجت بصحبة الرجلين وأحدهما يمسك بها من كوعها.

وصلوا إلى فيلا فارهة، كانت الأضواء في الخارج تضيء الطريق إلى البوابة عبر حديقة جميلة، وصوت خرير الماء يملؤ الجو.

فتح الباب لهم رجلٌ أشيب ، يبدو في منتصف الستينات. دخلت ريما ونذير ممسك بذراعها، في حين بقي السائق في السيارة.

" أهلا ومرحبا " قال الشيخ وهو يتفحص ريما، ثم مد يده وأزال نصف العباءة عن جسدها

" أهلا بك يا سيدي، أقدم لك ريما .. أرقّ ريما لدينا، وسأكون في الخارج بالانتظار "

خرج نذير بعد أن ناوله الشيخ ظرفا مغلقا. أمسك الشيخ بذراع ريما واقتادها إلى طابقٍ علويّ. دخلا معا إلى غرفة يفوح منها عبق البخور الكثيف، وفيها سرير كبير وواسع، لم تر في حياتها بضخامته.

بدأ الشيخ يداعبها ويتحسس بدنها، وهي تشعر بالغثيان والمقت. لم تقو على دفعه عنها...

" سيدي، هل أستطيع أن أطلب منك طلبا "

" أنت تأمرين يا حلوة، لكن دعي عنكِ الألقاب، فنحن الأن أحبة، وقد نلتقي مرارا أنا وإياكِ... ثم لا تخشي شيئا، إن أعجبتِني سوف أكرمك كثيرا جدا .." ودفن وجهه في كتفها.

" أريد بعد إذنك أن أستحم ... لأني لم تتسنَّ لي الفرصة لأستحم من آخر زبون ..."

"مااااذا ..؟" رفع رأسه وهو غاضب " كيف يكون هذا؟ نحن لم نتفق على هذا أبدا ؟ سأذهب وأتكلم مع نذير .."

همّ بالخروج فأمسكته ريما وتعلقت بثيابه: " لا أرجوووك" حاولت أن تجعل صوتها مغناجا لتخفي خوفها

" إن فعلتَ فستضيع علينا ليلة رائعة" ومالت عليه إلى أن انكشف له جزء من صدرها. " أرجوك، كل المسألة أن أغيب عنك عشر دقائق في الحمام، وأصبح كلّي لك"

سال لعاب الشيخ وهو يستمع إلى صوتها الرقيق دون أن يرفع نظره عن صدرها.

"حسن، من هنا ... لكن لا تطيلي عني الغياب"

أغلقت ريما على نفسها باب الحمام، وهبطت إلى الأرض. لم تكن تعلم ماذا ستفعل ... أو كيف ستستغل هذه الفسحة من الحرية.

سمعت صوت موسيقى يأتي من غرفة النوم، وجالت بنظرها في الحمام الفاخر. فتحت الماء ليجري ويسمع الشيخ صوته، عله يمهلها دقائق لتفكر. وقفت أمام المرآة وهالها ما رأت ... تكاد لا تعرف وجهها من تحت كل تلك الألوان والمساحيق.

"يا إلهي، أنا لم أولد أَمَة جسدي، ولم يولد جسدي عبدا لهؤلاء، فلماذا يكون هذا مصيري؟ ألهمني يا ربي ... ماذا أفعل؟"

بدأت تغسل المساحيق عن وجهها. الغرفة في السكن لم يكن فيها مرآة، وكذلك الحمام المرفق بها، لذلك لم تر صورتها بعد كل هذا التلوين، وكأن ميساء عمدت إلى طمس جمالها بكثرة التلوين بدلا من أن تجمّلها.

سالت المساحيق الملوّنة على الوجه الجميل الناظر إليها من المرآة. صوت الماء الجاري ورائحة الصابون المعطّر الفاخر هدآ أعصابها قليلا.

ارتكزت ريما على طرفيّ المغسلة بيديها ومرّت في المرآة أمامها صورٌ بتتابع لا يصدقه العقل.
كيف حدث كلّ هذا.. أي قدرٍ كان بانتظارها.

توقفت ريما للحظة أمام المرآة ...
لماذا لا توجد مرآة في غرفة السكن والحمام ؟

" رييييمااااا ... هل تحتاجين مساعدة؟"
سمعت صوت الشيخ في الخارج، وهرعت لتتأكد أن الباب مغلق بالمفتاح.
" لا شكرا، دقيقتين فقط وأكون معك"

عادت لتقف أمام المرآة .. أفكارها جعلتها تتنفس بعمق وبزفراتٍ طويلة. أمسكت ريما بالمنشفة، ولـفـّتها حول يدها لتكتم الصوت ، ثم ضربت بها المرآة ضربة واحدة.

" ربي أنت تعلم أني مؤمنة ٌ بك، وأعلم أنا أن حالي هذا لايرضيك، فأنت الرحمن الرحيم، وأنا وقعت فريسة من لارحمة في قلوبهم... إغفر لي يا ربي"

تناولت بيدها قطعة مدببة من الزجاج، وتحت صوت اندفاع الماء في الداخل وصوت الموسيقى الماجنة في الخارج، اختفى صوت شهقةٍ لريما.

فتح الشيخ الباب عنوةً بعد أن فرغ صبره، ليرى ريما تسبح في دمها وقطعة الزجاج بارزة من رقبتها.

" هو لك يا شايب، انهشه كما تشاء، أما أنا فقد ولِدتُ حرة وسأبقى حرة"

deer

بعد هذا الحديث، احتسيتا الشاي معا، ثم افترقتا على وعد بأن تجيبها ريما عند الصباح.

** ** ** ** **

الوصول

استفاقت ريما من سباتها على صوت إعلان وصول الطائرة إلى مقصدها، ونظرت من الشباك بجوارها لترى أن الأضواء في الأسفل كانت صغيرة ً جدا وكأن السماء قد قـُلِبت لتصبح في الأسفل وقد تزينت بنجوم ٍ بعيدةٍٍ ملونة.

في المطار أنهى المسافرون إجراءاتهم للمغادرة وتوجهوا إلى قاعة المستقبلين. كانت أم مازن أكدت لريما أن شريكها نذير سيكون بانتظارها، فبحثت بنظرها عمّن يرفع شارةً باسمها. وعندما رأته تسمّرت مكانها. فقد كان الرجل ضخما بشكل مخيف. كان عريضا عرض رجلين يقفان ملتصقين. وكان طوله يفوق طولها بحوالي عشرين سنتمترا. وكان وجهه أسمرا وأنفه كبيرا.

عرفها الرجل من نظرتها إلى الشارة، فمشى إليها وعيناه تجوبان جسدها بإمعان أخجلها إلى درجة الارتباك. وباقترابه منها رفع عينيه ببطء إلى أن التقتا بعينيها. " أهلا وسهلا بك يا ريما ... حمداً لله على سلامتكِ ... أنا نذير "

كان صوته أشبه بفحيح الأفعى، لم تسمع صوتا مثله من قبل. " أهلا وسهلا .. تشرفنا "

" تفضلي معي"

وسار بجوارها بعد أن رفع حقيبتها الوحيدة. " كيف كانت رحلتك؟ أعلمتني أم مازن أنك لم تسافري من قبل "

" صحيح ، لم أسافر من قبل... لكن الرحلة كانت لطيفة ، نمتُ معظم الوقت "

كان بين لحظة وأخرى يضع يده خلف ظهرها ليدلها على اتجاه المخرج، وكلما لامسها كانت تقشعر من داخلها، وتهرب من لمسته. وعند المخرج كانت تنتظرهما سيارةٌ سوداء فارهة، لم تر ريما مثلها من قبل، وكان يجلس فيها سائق.

للحظة عابرة ترددت ريما في دخول السيارة، واقشعر بدنها عندما شعرت بنظرات نذير إلى صدرها حين وقف على مقربة منها ممسكا باب السيارة بانتظار ركوبها، فأسرعت ودخلت لتهرب من نظراته فقط.

سارت بهم السيارة في المدينة، وبُهرت ريما بعلوّ المباني فيها، وحجم الأضواء الإعلانية الكبيرة في الأسواق.
" قالت لي خالتي أم مازن أنك ستخبرني عن عنوان السكن يا أخ نذير، فهل لك أن تكتبه لي على ورقة ، حتى أراسل أمي به ؟"

" آآآه طبعا طبعا ... يا أخت ريما .. عندما نصل سنتركك ترتاحين، ثم نعود إليك في الصباح ويكون لك كل ما تشائين"

لم تستطع ريما أن تر وجهه وهو يتحدث، لأنه كان يجلس أمامها بجانب السائق، لكنها شعرت بأن كلامه فيه شيءٌ مريب. قد تكون تعجلت في الطلبات قبل أن تعرف ظروف العمل المطلوب منها.

عندما أوقف السائق السيارة كانت قد توقفت في موقف تحت الأرض لعمارة عالية كالأبراج، وقف الثلاثة ينتظرون المصعد.

" أشكركم، ولكن لا داعي لأن أزعجكم أكثر، تستطيع أن تدلني على الطابق ورقم الشقة، وتعطيني المفتاح وأنا سوف ..."

" لا يا أخت ريما .. لا إزعاج أبدا... نحن سنصعد معك لنعرّفك على شريكاتك في الشقة ، وهنّ يعملن لدينا أيضا.. وسنتأكد بأنك لاتحتاجين أي شيء، ثم نغادركن إلى الصباح"

كانت الشقة في الطابق الثالث عشر. وكان في الطابق ثلاث شقق غيرها. دق نذير جرس الباب، ففتحت لهم فتاة جميلة، تبدو في منتصف العشرينات. كانت تلبس ثوبا قصيرا وضيقا.

" أهلا أهلا ... أهلا بالريما الحلوة ... تفضلوا .."

كانت الفتاة تُدعى ميساء،وقد تزيّنت كأنها في حفل ساهر، لكن الشقة كانت هادئة ومرتبة، ولم يدل شيء على أن فيها أي زوّار. جالت ريما بنظرها فوجدت أنها في صالون مؤثث بشكل جيد لكن بسيط، وعلى يسارها كان المطبخ، وفي الردهة الممتدة أمامها رأت أربعة أبواب.

وقفت ريما تنتظر، فيما دخل الرجلان إلى المطبخ خلف ميساء وكأنهما يعرفان الشقة جيدا،

" أين رنا؟" سمعت نذير يسأل.. " نريدها أن تتعرف على ريما "
" أنسيت؟.."

وعندما عادت إليها طلبت ريما أن تعرف أين غرفتها لتوضب فيها أغراضها، فأدخلتها ميساء إلى غرفة فيها سرير منفرد وخزانة بسيطة ، ويغطي أرضها بساط خفيف.

"سأحضر لكِ كأسا من العصير"

شكرتها ريما ، وبدأت بتفريغ ملابسها من الحقيبة. وعندما عادت إليها ميساء كانت تحس بالعطش فعلا، فتجرعت العصير بسرعة وميساء تراقبها. وما أن مضى ربع ساعة حتى أحست بنعاس ٍ شديد. فنامت ...

أيقظها نورٌ باهر مسلـّط على عينيها، وكان هناك صوتٌ عال وغريب يناديها. أشاحت بوجهها عن الضوء فانطفأ، ثم حاولت أن تتحرك لتجد أن يديها محشورتان تحتها ولا تستطيع تفريقهما. أضاء صاحب الصوت ضوءا خافتا بجوار السرير، ففتحت عينيها لتجد وجها قريبا جدا من وجهها ، لم تره من قبل. كان رجلا أسمر وله شاربان أسودان وشعره خشن، تفوح منه رائحة التبغ وشيءٌ آخر مغث . وهي تنظر إليه رأت صدرها عارٍ تماما من أي غطاء، وأيقنت أنها كلها عارية أمام أعينه. فتحت فمها لتصرخ، لكن الرجل الغريب غطاه بيده.

"ش ش ش ... بهدوء يا حلوة، بهدوء ... أنا لا أحب الإزعاج. وحتى لو صرخت، النوافذ عالية جدا والحيطان كاتمة للصوت، فلن يسمعك أحد" كان يتكلم وهو يمرر يده الثانية على جسدها الأبيض ... كان مستلقياٍ بجاورها على السرير .

أخذ جسمها يرتجف بقوّة عندما أيقنت ماذا يحدث، كانت تشعر بالألم في جسمها كله، وشعرت بالألم في جوفها ... لم تستطع أن تحدد مكان الأم لأنها لم تشعر بمثله من قبل. لكن خوفها من القادم أجبرها على تجاهل الألم.. ذُعِرت وتقطعت أنفاسها تحت ضغط يده ، فأرخى قبضته على فمها وصار يمسح بها صدرها

" لا تخافي يا حلوة ... أنا إسمي صقر " بدأت تئن تحت لمسته بصوتٍ لم تسمعه هي .

" أسسستتـُرررنيييييي ، أرجوووووووووك " كان صوتها يرتجف كما كان جسدها.

سمِعَت ضحكات ٍ تأتي من ظلام الغرفة، فجالت بعينيها حول السرير لترى أن نذير والسائق يقفان عند حافة السرير من الناحية الأخرى. وخلفهم كان هناك شيئ يقف على عامودٍ أسود، لم تعرف ما هو ... لم تستطع أن ترى وجوههم بشكل واضح ، لكنها عرفت أن أحدهما كان بلا قميص.

" أستـُروني ، أرجوكم .... أرجوكم " تدحرجت ريما على جنبها وتقوقعت على نفسها، وحاولت أن تضم ساقيها إلى صدرها علّها تستر شيئا من عريّها... أغمضت عينيها وحاولت أن تطمر وجهها في الوسادة، لتختبىء من عريّها أمام أعينهم النهمة، كأنها إن لم تر نفسها فلن يروها هم...

أحست بصقر يتحرك من جنبها ... فعادت بنظرها إليه فوجدته يقف إلى جانب السرير، ولاحظت كم هو ضخم الجثة واقفا .. وفي تلك اللحظة دخلت ميساء إلى الغرفة، وكانت تحمل شيئا في يدها ناولته إلى نذير. " ها هو .. أبقه معك ... ليتك أضأت الأنوار الجانبية، لكانت الصورة أوضح"

في تلك اللحظات وقف صقر بجانب السرير يفك أزراره ، " هيا! إرحلوا واتركوني مع ريمتي الجميلة"

لم تعرف ريما معنى الذي يجري ، لكنها رأتهم يخرجون وكلّ يرمقها بنظرات وابتسامات لم تفهمها ... وبقيت في الغرفة مع صقر ..

" والآن يا حلوة .." قال وهو يتعرى من ملابسه ببطءٍ شديد " أنا لا أحب الجميلات نائمات ، أحب أن أنظر في عيونهن الجميلة... وحتى لاتفوتك المتعة أيضا كان يجب أن أيقظك .. لكن يجب أن تفهمي أنك ستحظين بميزة بين البنات الأخريات، فأنا لا أفعل هذا عادةً. أنت أجمل منهن جميعا ... ومن يوم أن رأيتك في فيلم الفيديو في الصالون عرفت أنك ستكونين هنا معي، وأنك ستكونين من بين المميزات. والآن لا تكوني طفلة واجلبي لي ولك السعادة".

مدّ نفسه ملتصقا بجسدها المرتعش، وفردها إلى أن استلقى بثقله فوقها، أصمتَ صيحاتِها بيدٍ واحدة ..
كان ثقيلا لدرجة أنها لم تستطع التنفس تحته، كما أن ضغط وزنيهما معا على أذرعها المقيدة تحتها جعلها تفقد الإحساس فيهما.

أحست بذلك الألم الحارق في جوفها يشتد ويشتد ... أرادت أن تصرخ لكنها لم تستطع أن تتنفس ... فانهمرت دموع غزيرة صامتة من عينيها..

كان وجهه قريبا من وجهها، وكان يحدق في عينيها الباكيتين كالغول الأسود... و شفتاه تتحركان حركة مقززة وأسنانه الصفراء تصطك في متعة مراقبةِ الرعب في نظراتها له ... كلما اشتد ألمها وأطبقت جفونها من الحرقة فتحتهما لتراه يبتسم كشيطان ٍ يتلذذ.

كانتا دقيقتين بمرارة الدهر كلـّه ... عندما أزاح يده عن فمها لم تستطع أن تشهق لتصرخ ... ثم أحست بالسواد يغلف الدنيا.

** ** ** ** **

أفاقت ريما في غرفتها على ضوء النهار يطل عليها من النافذة ... لثوانٍ عابرة لم تذكر أين هي. ثم تذكرت ما جرى في تلك الليلة ودفنت وجهها في الوسادة. لعله حلمٌ بغيض يذهب إلى غير رجعة. لكن الإحساس بالألم في جوفها وفي ذراعيها داهم صحوتها جالبا معه إحساسا عميقا بالغثيان. فتقوقعت على نفسها تحت الغطاء.

" لماذا يا ربي ....؟ ماذا فعلت لأستحق أن يجري لي هذا ؟ لماذا فعلوا بي هكذا؟ أنا لم أعرفهم من قبل ... فلماذا يجرمون بي هكذا؟"

سمعَت صوت جلبة تدور خلف بابها، فتحركت بسرعة وجلست في السرير وهي تسحب الغطاء على جسمها. دار مفتاحٌ في قفل الباب ودخلت ميساء حاملة ً صينية فيها شيئٌ ضئيلٌ من الطعام.

" صباح الخير، يا رُمرُم ... اسمك جميلٌ جدا، هل قلت لك ذلك سابقا ؟" وجلست على حافة السرير.

" من أنتم ؟ وماذا تريدون مني"

" لاشيء يا عزيزتي، بل أنتِ من تريدُ منا ... البارحة كانت أصعب أيامك هنا، لكن لا تخافي، فالأيام الآتية ستعوضك هذ اليوم. لكن يجب أن تكوني متعاونة ، حتى لا تقسي على نفسك"

" ماذا تقصدين، وما الذي أريده منكم؟ "

" يا عزيزتي ليلة الأمس كانت ليلة ساخنة جدا للشباب، وقد تم تسجيلها بالكامل على شريط فيديو، وهو الآن بحوزة نذير... وإن لم تتعاوني معنا وتلبي كل مطالبنا فالشريط سيصل ليد والدتك ، ويتفرج عليه كل أخوتك وأهلك"

كادت عينا ريما تنفران من وجهها جحوظا وهي تستمع إلى حديث ميساء.
" لا تخافي، كل ما عليك هو أن تضعي رضا الزبائن نصب عينيكِ، لأنهم هم من سيفرشون حياتكِ بالنعيم، ويلبسونك الحرير والجواهر ... وعندها ستستطيعين أن تبعثي المال الوفير لأهلك، وسيودعوا الفقر والجوع إلى الأبد..." قالت وهي تداعب خصلاتٍ من شعر ريما " فمن هي بجمالك يا عزيزتي، وبمثل هذا القد الرشيق لا تجوع أبدا"

تركتها ميساء بعد أن أغلقت الباب بالمفتاح ، وبقيت ريما وحدها تفكر فيما يجري لها...

هل يعقل أن يحتوي العالم كل هذا الشر؟ أليسوا هؤلاء بشرٌ مخلوقين من ذات طينة الخليقة كلها؟ أليس لهؤلاء أخوات وأمهات يشفقون عليهن؟ أم أنهم خُلقوا من نار كالشياطين؟ البارحة نامت وأحلام البداية الجديدة تراود منامها، وبين الغفوة والغفوة عاشت سوادا لم تعلم بوجوده في هذا العالم، ليطل عليها نهارٌ أشد سوادا وظلمة.

علمت ريما في الأيام التالية معنى الجحيم على الأرض، فكل يوم كان يأتيها صقر وينهش جسدها نهشا، وكلما كانت تحاول مقاومته كان يكيل لها الصفعات والضرب على وجهها حتى أصبح ملونا ً. كان يستطيع أن يغلبها بثقل جسمه فقط، فما أن يلقي بوزنه عليها حتى ينحبس الهواء في صدرها ويكتم نفسها. وضآلة الطعام المقدم لها جعلتها ضعيفة جدا.

وبعد عشرة أيام، دخل عليها صقر، وكل ما استطاعت فعله هو أن تشيح بوجهها عنه.

** ** ** ** ** ** **

يأس الغزلان

بعد شهرين من الحبس في القفص الكبير شـُفيت ساق غزالتنا تماما، واستطاعت أن تسير على أربع، فصارت تدور حول الشجرة ، وتسرع في دورانها.
التفت إليها الخادم ووقف لحظات يراقبها. كان يحاول أن يفهم سبب دورانها، وما أن فهم حتى ضحك عاليا ورحل.

أوقفت غزالة دورانها في القفص وهي تشعر بألم ٍ شديد في أرجلها الأربع، خارت قواها فجأة وارتمت على الأرض.
" يا إلهي!! .. لم تعد سيقاني قادرة على الركض .. فقدت قدرتي على الركض !!"

تعاظمت شفقتها على نفسها ، وبكت المسكينة بحرقة وألم، ولم يشعر بها سوى الطيور الواقفة على الشجرة تراقبها بحزن عميق.

لأيام بقيت غزالة راكدةً تعاني من آلامٍ في جسمها، لم ترغب في المأكل. نحُلَ جسمها لدرجة أن الخادم لاحظ ذلك، واقترب محاولا إطعامها بيديه، وكانت تشيح بوجهها عنه. فجلس بقربها يمسّد جسدها الناعم وهي مغمضة عينيها من الحزن.

في اليوم التالي حلُمت غزالة بأنها لو أطالت قفزتها قليلا ذلك اليوم لما كانت سجينة اليوم... تذكرت في حلمها كم كان جميلا القفز فوق ذلك المرتفع ... تحملها النسمات الدافئة إلى الأعلى، وتلمع الشمس على جلدها الأحمر المرقـّّط الجميل. استيقظت غزالة من حلمها وفي قلبها شوق كبير لأن تقفز ... ولو لمرةٍ واحدة فقط.

فقامت ببطءٍ وسارت إلى زاوية الماء ،و حفرت لأقدامها مكانا في الأرض بين الأعشاب ونظرت أمامها ... وقفزت ..

سمع الخادم صرختها من بعيد، وجاء يركض إليها، فتح القفص ليرى أنها ارتطمت بالشِباك المعدنية وانغرس بعض أطراف السياج في صدر الغزالة المسكينة.

" ما الذي تفعلينه يا صغيرة؟ ستقتلين نفسك بهذا الشكل؟ "

خرج من القفص مسرعا ثم عاد وبيده بعض الضماد والقماش. أخذ يمسح بهما صدرها الجريح ... وبعد حين تركها وجراحها.

" يا إلهي ! ... ألن أقفز ثانيةً أبدا؟ ألن أعانق الشمس مرة أخرى في حياتي ؟ "

بكت غزالة دموعا لم يرها الخادم ولا غيره، فقد بكت بروحها بكاء لم يصل إلى عينيها. أبقت عينيها مفتوحتين وهي ملقاة على الأرض، تأملت الشجرة.

" أحسدكِ أيتها الشجرة، فأنتِ لم تقفزي مرة في وجه الشمس ، ولهذا يحلو لك القفصُ ذو السياج... لم تسابقي الفـَراش إلى النهر يوما، فاستـَطبْتِ سجنا بنافورة... تورقُ أغصانـُك من مائها .."

صمتت غزالة لحظة ً تأملت فيها فروع الشجرة...

مشت إليها مشية ً أليمة، واستدارت حولها مرة، لم تكن قد لاحظت من قبل أن أحد الفروع منخفض.

نظرت إلى الفرع ، ثم مدت عنقها الطويل إلى الجرح في صدرها ولعقته ..

"لا بأس ... إذن ففيكِ الملاذ ُ يا رفيقة السجن ِ ، فلا تبخلي به عليّ ... هي قفزة ٌ واحدة .. وأخيرة "

ركـّزت غزالة نظرَها على الغصن، ورجعت إلى الوراء إلى أن لامست السياج ، وحفرت لأقدامها موقعا في الأرض. أغمضت عينيها وشهقت شهقة طويلة ... وقفزت...

جاء الخادم يركض مسرعا صوب القفص، لم يكن يعلم مصدر الصوت المريع، لكنه ذهِل ووقف مشدوها عندما علم...

" هذا هو الذي تريدون ... هو لكم إذن ... إعرضوه في المعارض أو زيّنوا به حائطا يليق بلوني الذي أعجبكم ...

أما أنا ... فسأقفز وأقفز ... فقد وُلِدتُ حرّة ً وسأبقى حُرّة . "

** ** ** ** **

العودة

" هل أنت متأكدٌ أنها جاهزة لهذا"

" نعم .. لقد أصبحت كالقطة الوديعة ... ما عليكِ إلا أن تعدّيها وتزينيها ، فالزبون ينتظر"

" أعدَدتـُها، وهي بالانتظار .. سأذهب وآتيك بها، لكني لا زلت أعتقد أن الوقت مبكرٌ عليها"

دخلت ميساء على ريما وهي تجلس على طرف السرير، كانت بكامل زينتها، وتلبس فستانا أحمرا قصيرا، وقد رفعت شعرها الأسود الكثيف. كان وجهها مغطىً بالمساحيق والألوان، لكن الحزن فيه لم يختبىء تحتها.

" هيا يا حلوة، الحظ ينتظرك الليلة ... تذكري ما قلته لك وستكونين على ما يرام ... جواهر وحرير، والبسمة على وجوه أخوتك"

تبعتها ريما إلى الخارج، ثم عطرتها ميساء بعطر ثقيل ، ولفتها بعباءة سوداء للطريق... خرجت بصحبة الرجلين وأحدهما يمسك بها من كوعها.

وصلوا إلى فيلا فارهة، كانت الأضواء في الخارج تضيء الطريق إلى البوابة عبر حديقة جميلة، وصوت خرير الماء يملؤ الجو.

فتح الباب لهم رجلٌ أشيب ، يبدو في منتصف الستينات. دخلت ريما ونذير ممسك بذراعها، في حين بقي السائق في السيارة.

" أهلا ومرحبا " قال الشيخ وهو يتفحص ريما، ثم مد يده وأزال نصف العباءة عن جسدها

" أهلا بك يا سيدي، أقدم لك ريما .. أرقّ ريما لدينا، وسأكون في الخارج بالانتظار "

خرج نذير بعد أن ناوله الشيخ ظرفا مغلقا. أمسك الشيخ بذراع ريما واقتادها إلى طابقٍ علويّ. دخلا معا إلى غرفة يفوح منها عبق البخور الكثيف، وفيها سرير كبير وواسع، لم تر في حياتها بضخامته.

بدأ الشيخ يداعبها ويتحسس بدنها، وهي تشعر بالغثيان والمقت. لم تقو على دفعه عنها...

" سيدي، هل أستطيع أن أطلب منك طلبا "

" أنت تأمرين يا حلوة، لكن دعي عنكِ الألقاب، فنحن الأن أحبة، وقد نلتقي مرارا أنا وإياكِ... ثم لا تخشي شيئا، إن أعجبتِني سوف أكرمك كثيرا جدا .." ودفن وجهه في كتفها.

" أريد بعد إذنك أن أستحم ... لأني لم تتسنَّ لي الفرصة لأستحم من آخر زبون ..."

"مااااذا ..؟" رفع رأسه وهو غاضب " كيف يكون هذا؟ نحن لم نتفق على هذا أبدا ؟ سأذهب وأتكلم مع نذير .."

همّ بالخروج فأمسكته ريما وتعلقت بثيابه: " لا أرجوووك" حاولت أن تجعل صوتها مغناجا لتخفي خوفها

" إن فعلتَ فستضيع علينا ليلة رائعة" ومالت عليه إلى أن انكشف له جزء من صدرها. " أرجوك، كل المسألة أن أغيب عنك عشر دقائق في الحمام، وأصبح كلّي لك"

سال لعاب الشيخ وهو يستمع إلى صوتها الرقيق دون أن يرفع نظره عن صدرها.

"حسن، من هنا ... لكن لا تطيلي عني الغياب"

أغلقت ريما على نفسها باب الحمام، وهبطت إلى الأرض. لم تكن تعلم ماذا ستفعل ... أو كيف ستستغل هذه الفسحة من الحرية.

سمعت صوت موسيقى يأتي من غرفة النوم، وجالت بنظرها في الحمام الفاخر. فتحت الماء ليجري ويسمع الشيخ صوته، عله يمهلها دقائق لتفكر. وقفت أمام المرآة وهالها ما رأت ... تكاد لا تعرف وجهها من تحت كل تلك الألوان والمساحيق.

"يا إلهي، أنا لم أولد أَمَة جسدي، ولم يولد جسدي عبدا لهؤلاء، فلماذا يكون هذا مصيري؟ ألهمني يا ربي ... ماذا أفعل؟"

بدأت تغسل المساحيق عن وجهها. الغرفة في السكن لم يكن فيها مرآة، وكذلك الحمام المرفق بها، لذلك لم تر صورتها بعد كل هذا التلوين، وكأن ميساء عمدت إلى طمس جمالها بكثرة التلوين بدلا من أن تجمّلها.

سالت المساحيق الملوّنة على الوجه الجميل الناظر إليها من المرآة. صوت الماء الجاري ورائحة الصابون المعطّر الفاخر هدآ أعصابها قليلا.

ارتكزت ريما على طرفيّ المغسلة بيديها ومرّت في المرآة أمامها صورٌ بتتابع لا يصدقه العقل.
كيف حدث كلّ هذا.. أي قدرٍ كان بانتظارها.

توقفت ريما للحظة أمام المرآة ...
لماذا لا توجد مرآة في غرفة السكن والحمام ؟

" رييييمااااا ... هل تحتاجين مساعدة؟"
سمعت صوت الشيخ في الخارج، وهرعت لتتأكد أن الباب مغلق بالمفتاح.
" لا شكرا، دقيقتين فقط وأكون معك"

عادت لتقف أمام المرآة .. أفكارها جعلتها تتنفس بعمق وبزفراتٍ طويلة. أمسكت ريما بالمنشفة، ولـفـّتها حول يدها لتكتم الصوت ، ثم ضربت بها المرآة ضربة واحدة.

" ربي أنت تعلم أني مؤمنة ٌ بك، وأعلم أنا أن حالي هذا لايرضيك، فأنت الرحمن الرحيم، وأنا وقعت فريسة من لارحمة في قلوبهم... إغفر لي يا ربي"

تناولت بيدها قطعة مدببة من الزجاج، وتحت صوت اندفاع الماء في الداخل وصوت الموسيقى الماجنة في الخارج، اختفى صوت شهقةٍ لريما.

فتح الشيخ الباب عنوةً بعد أن فرغ صبره، ليرى ريما تسبح في دمها وقطعة الزجاج بارزة من رقبتها.

" هو لك يا شايب، انهشه كما تشاء، أما أنا فقد ولِدتُ حرة وسأبقى حرة"
بعد هذا الحديث، احتسيتا الشاي معا، ثم افترقتا على وعد بأن تجيبها ريما عند الصباح.

** ** ** ** **

الوصول

استفاقت ريما من سباتها على صوت إعلان وصول الطائرة إلى مقصدها، ونظرت من الشباك بجوارها لترى أن الأضواء في الأسفل كانت صغيرة ً جدا وكأن السماء قد قـُلِبت لتصبح في الأسفل وقد تزينت بنجوم ٍ بعيدةٍٍ ملونة.

في المطار أنهى المسافرون إجراءاتهم للمغادرة وتوجهوا إلى قاعة المستقبلين. كانت أم مازن أكدت لريما أن شريكها نذير سيكون بانتظارها، فبحثت بنظرها عمّن يرفع شارةً باسمها. وعندما رأته تسمّرت مكانها. فقد كان الرجل ضخما بشكل مخيف. كان عريضا عرض رجلين يقفان ملتصقين. وكان طوله يفوق طولها بحوالي عشرين سنتمترا. وكان وجهه أسمرا وأنفه كبيرا.

عرفها الرجل من نظرتها إلى الشارة، فمشى إليها وعيناه تجوبان جسدها بإمعان أخجلها إلى درجة الارتباك. وباقترابه منها رفع عينيه ببطء إلى أن التقتا بعينيها. " أهلا وسهلا بك يا ريما ... حمداً لله على سلامتكِ ... أنا نذير "

كان صوته أشبه بفحيح الأفعى، لم تسمع صوتا مثله من قبل. " أهلا وسهلا .. تشرفنا "

" تفضلي معي"

وسار بجوارها بعد أن رفع حقيبتها الوحيدة. " كيف كانت رحلتك؟ أعلمتني أم مازن أنك لم تسافري من قبل "

" صحيح ، لم أسافر من قبل... لكن الرحلة كانت لطيفة ، نمتُ معظم الوقت "

كان بين لحظة وأخرى يضع يده خلف ظهرها ليدلها على اتجاه المخرج، وكلما لامسها كانت تقشعر من داخلها، وتهرب من لمسته. وعند المخرج كانت تنتظرهما سيارةٌ سوداء فارهة، لم تر ريما مثلها من قبل، وكان يجلس فيها سائق.

للحظة عابرة ترددت ريما في دخول السيارة، واقشعر بدنها عندما شعرت بنظرات نذير إلى صدرها حين وقف على مقربة منها ممسكا باب السيارة بانتظار ركوبها، فأسرعت ودخلت لتهرب من نظراته فقط.

سارت بهم السيارة في المدينة، وبُهرت ريما بعلوّ المباني فيها، وحجم الأضواء الإعلانية الكبيرة في الأسواق.
" قالت لي خالتي أم مازن أنك ستخبرني عن عنوان السكن يا أخ نذير، فهل لك أن تكتبه لي على ورقة ، حتى أراسل أمي به ؟"

" آآآه طبعا طبعا ... يا أخت ريما .. عندما نصل سنتركك ترتاحين، ثم نعود إليك في الصباح ويكون لك كل ما تشائين"

لم تستطع ريما أن تر وجهه وهو يتحدث، لأنه كان يجلس أمامها بجانب السائق، لكنها شعرت بأن كلامه فيه شيءٌ مريب. قد تكون تعجلت في الطلبات قبل أن تعرف ظروف العمل المطلوب منها.

عندما أوقف السائق السيارة كانت قد توقفت في موقف تحت الأرض لعمارة عالية كالأبراج، وقف الثلاثة ينتظرون المصعد.

" أشكركم، ولكن لا داعي لأن أزعجكم أكثر، تستطيع أن تدلني على الطابق ورقم الشقة، وتعطيني المفتاح وأنا سوف ..."

" لا يا أخت ريما .. لا إزعاج أبدا... نحن سنصعد معك لنعرّفك على شريكاتك في الشقة ، وهنّ يعملن لدينا أيضا.. وسنتأكد بأنك لاتحتاجين أي شيء، ثم نغادركن إلى الصباح"

كانت الشقة في الطابق الثالث عشر. وكان في الطابق ثلاث شقق غيرها. دق نذير جرس الباب، ففتحت لهم فتاة جميلة، تبدو في منتصف العشرينات. كانت تلبس ثوبا قصيرا وضيقا.

" أهلا أهلا ... أهلا بالريما الحلوة ... تفضلوا .."

كانت الفتاة تُدعى ميساء،وقد تزيّنت كأنها في حفل ساهر، لكن الشقة كانت هادئة ومرتبة، ولم يدل شيء على أن فيها أي زوّار. جالت ريما بنظرها فوجدت أنها في صالون مؤثث بشكل جيد لكن بسيط، وعلى يسارها كان المطبخ، وفي الردهة الممتدة أمامها رأت أربعة أبواب.

وقفت ريما تنتظر، فيما دخل الرجلان إلى المطبخ خلف ميساء وكأنهما يعرفان الشقة جيدا،

" أين رنا؟" سمعت نذير يسأل.. " نريدها أن تتعرف على ريما "
" أنسيت؟.."

وعندما عادت إليها طلبت ريما أن تعرف أين غرفتها لتوضب فيها أغراضها، فأدخلتها ميساء إلى غرفة فيها سرير منفرد وخزانة بسيطة ، ويغطي أرضها بساط خفيف.

"سأحضر لكِ كأسا من العصير"

شكرتها ريما ، وبدأت بتفريغ ملابسها من الحقيبة. وعندما عادت إليها ميساء كانت تحس بالعطش فعلا، فتجرعت العصير بسرعة وميساء تراقبها. وما أن مضى ربع ساعة حتى أحست بنعاس ٍ شديد. فنامت ...

أيقظها نورٌ باهر مسلـّط على عينيها، وكان هناك صوتٌ عال وغريب يناديها. أشاحت بوجهها عن الضوء فانطفأ، ثم حاولت أن تتحرك لتجد أن يديها محشورتان تحتها ولا تستطيع تفريقهما. أضاء صاحب الصوت ضوءا خافتا بجوار السرير، ففتحت عينيها لتجد وجها قريبا جدا من وجهها ، لم تره من قبل. كان رجلا أسمر وله شاربان أسودان وشعره خشن، تفوح منه رائحة التبغ وشيءٌ آخر مغث . وهي تنظر إليه رأت صدرها عارٍ تماما من أي غطاء، وأيقنت أنها كلها عارية أمام أعينه. فتحت فمها لتصرخ، لكن الرجل الغريب غطاه بيده.

"ش ش ش ... بهدوء يا حلوة، بهدوء ... أنا لا أحب الإزعاج. وحتى لو صرخت، النوافذ عالية جدا والحيطان كاتمة للصوت، فلن يسمعك أحد" كان يتكلم وهو يمرر يده الثانية على جسدها الأبيض ... كان مستلقياٍ بجاورها على السرير .

أخذ جسمها يرتجف بقوّة عندما أيقنت ماذا يحدث، كانت تشعر بالألم في جسمها كله، وشعرت بالألم في جوفها ... لم تستطع أن تحدد مكان الأم لأنها لم تشعر بمثله من قبل. لكن خوفها من القادم أجبرها على تجاهل الألم.. ذُعِرت وتقطعت أنفاسها تحت ضغط يده ، فأرخى قبضته على فمها وصار يمسح بها صدرها

" لا تخافي يا حلوة ... أنا إسمي صقر " بدأت تئن تحت لمسته بصوتٍ لم تسمعه هي .

" أسسستتـُرررنيييييي ، أرجوووووووووك " كان صوتها يرتجف كما كان جسدها.

سمِعَت ضحكات ٍ تأتي من ظلام الغرفة، فجالت بعينيها حول السرير لترى أن نذير والسائق يقفان عند حافة السرير من الناحية الأخرى. وخلفهم كان هناك شيئ يقف على عامودٍ أسود، لم تعرف ما هو ... لم تستطع أن ترى وجوههم بشكل واضح ، لكنها عرفت أن أحدهما كان بلا قميص.

" أستـُروني ، أرجوكم .... أرجوكم " تدحرجت ريما على جنبها وتقوقعت على نفسها، وحاولت أن تضم ساقيها إلى صدرها علّها تستر شيئا من عريّها... أغمضت عينيها وحاولت أن تطمر وجهها في الوسادة، لتختبىء من عريّها أمام أعينهم النهمة، كأنها إن لم تر نفسها فلن يروها هم...

أحست بصقر يتحرك من جنبها ... فعادت بنظرها إليه فوجدته يقف إلى جانب السرير، ولاحظت كم هو ضخم الجثة واقفا .. وفي تلك اللحظة دخلت ميساء إلى الغرفة، وكانت تحمل شيئا في يدها ناولته إلى نذير. " ها هو .. أبقه معك ... ليتك أضأت الأنوار الجانبية، لكانت الصورة أوضح"

في تلك اللحظات وقف صقر بجانب السرير يفك أزراره ، " هيا! إرحلوا واتركوني مع ريمتي الجميلة"

لم تعرف ريما معنى الذي يجري ، لكنها رأتهم يخرجون وكلّ يرمقها بنظرات وابتسامات لم تفهمها ... وبقيت في الغرفة مع صقر ..

" والآن يا حلوة .." قال وهو يتعرى من ملابسه ببطءٍ شديد " أنا لا أحب الجميلات نائمات ، أحب أن أنظر في عيونهن الجميلة... وحتى لاتفوتك المتعة أيضا كان يجب أن أيقظك .. لكن يجب أن تفهمي أنك ستحظين بميزة بين البنات الأخريات، فأنا لا أفعل هذا عادةً. أنت أجمل منهن جميعا ... ومن يوم أن رأيتك في فيلم الفيديو في الصالون عرفت أنك ستكونين هنا معي، وأنك ستكونين من بين المميزات. والآن لا تكوني طفلة واجلبي لي ولك السعادة".

مدّ نفسه ملتصقا بجسدها المرتعش، وفردها إلى أن استلقى بثقله فوقها، أصمتَ صيحاتِها بيدٍ واحدة ..
كان ثقيلا لدرجة أنها لم تستطع التنفس تحته، كما أن ضغط وزنيهما معا على أذرعها المقيدة تحتها جعلها تفقد الإحساس فيهما.

أحست بذلك الألم الحارق في جوفها يشتد ويشتد ... أرادت أن تصرخ لكنها لم تستطع أن تتنفس ... فانهمرت دموع غزيرة صامتة من عينيها..

كان وجهه قريبا من وجهها، وكان يحدق في عينيها الباكيتين كالغول الأسود... و شفتاه تتحركان حركة مقززة وأسنانه الصفراء تصطك في متعة مراقبةِ الرعب في نظراتها له ... كلما اشتد ألمها وأطبقت جفونها من الحرقة فتحتهما لتراه يبتسم كشيطان ٍ يتلذذ.

كانتا دقيقتين بمرارة الدهر كلـّه ... عندما أزاح يده عن فمها لم تستطع أن تشهق لتصرخ ... ثم أحست بالسواد يغلف الدنيا.

** ** ** ** **

أفاقت ريما في غرفتها على ضوء النهار يطل عليها من النافذة ... لثوانٍ عابرة لم تذكر أين هي. ثم تذكرت ما جرى في تلك الليلة ودفنت وجهها في الوسادة. لعله حلمٌ بغيض يذهب إلى غير رجعة. لكن الإحساس بالألم في جوفها وفي ذراعيها داهم صحوتها جالبا معه إحساسا عميقا بالغثيان. فتقوقعت على نفسها تحت الغطاء.

" لماذا يا ربي ....؟ ماذا فعلت لأستحق أن يجري لي هذا ؟ لماذا فعلوا بي هكذا؟ أنا لم أعرفهم من قبل ... فلماذا يجرمون بي هكذا؟"

سمعَت صوت جلبة تدور خلف بابها، فتحركت بسرعة وجلست في السرير وهي تسحب الغطاء على جسمها. دار مفتاحٌ في قفل الباب ودخلت ميساء حاملة ً صينية فيها شيئٌ ضئيلٌ من الطعام.

" صباح الخير، يا رُمرُم ... اسمك جميلٌ جدا، هل قلت لك ذلك سابقا ؟" وجلست على حافة السرير.

" من أنتم ؟ وماذا تريدون مني"

" لاشيء يا عزيزتي، بل أنتِ من تريدُ منا ... البارحة كانت أصعب أيامك هنا، لكن لا تخافي، فالأيام الآتية ستعوضك هذ اليوم. لكن يجب أن تكوني متعاونة ، حتى لا تقسي على نفسك"

" ماذا تقصدين، وما الذي أريده منكم؟ "

" يا عزيزتي ليلة الأمس كانت ليلة ساخنة جدا للشباب، وقد تم تسجيلها بالكامل على شريط فيديو، وهو الآن بحوزة نذير... وإن لم تتعاوني معنا وتلبي كل مطالبنا فالشريط سيصل ليد والدتك ، ويتفرج عليه كل أخوتك وأهلك"

كادت عينا ريما تنفران من وجهها جحوظا وهي تستمع إلى حديث ميساء.
" لا تخافي، كل ما عليك هو أن تضعي رضا الزبائن نصب عينيكِ، لأنهم هم من سيفرشون حياتكِ بالنعيم، ويلبسونك الحرير والجواهر ... وعندها ستستطيعين أن تبعثي المال الوفير لأهلك، وسيودعوا الفقر والجوع إلى الأبد..." قالت وهي تداعب خصلاتٍ من شعر ريما " فمن هي بجمالك يا عزيزتي، وبمثل هذا القد الرشيق لا تجوع أبدا"

تركتها ميساء بعد أن أغلقت الباب بالمفتاح ، وبقيت ريما وحدها تفكر فيما يجري لها...

هل يعقل أن يحتوي العالم كل هذا الشر؟ أليسوا هؤلاء بشرٌ مخلوقين من ذات طينة الخليقة كلها؟ أليس لهؤلاء أخوات وأمهات يشفقون عليهن؟ أم أنهم خُلقوا من نار كالشياطين؟ البارحة نامت وأحلام البداية الجديدة تراود منامها، وبين الغفوة والغفوة عاشت سوادا لم تعلم بوجوده في هذا العالم، ليطل عليها نهارٌ أشد سوادا وظلمة.

علمت ريما في الأيام التالية معنى الجحيم على الأرض، فكل يوم كان يأتيها صقر وينهش جسدها نهشا، وكلما كانت تحاول مقاومته كان يكيل لها الصفعات والضرب على وجهها حتى أصبح ملونا ً. كان يستطيع أن يغلبها بثقل جسمه فقط، فما أن يلقي بوزنه عليها حتى ينحبس الهواء في صدرها ويكتم نفسها. وضآلة الطعام المقدم لها جعلتها ضعيفة جدا.

وبعد عشرة أيام، دخل عليها صقر، وكل ما استطاعت فعله هو أن تشيح بوجهها عنه.

** ** ** ** ** ** **

يأس الغزلان

بعد شهرين من الحبس في القفص الكبير شـُفيت ساق غزالتنا تماما، واستطاعت أن تسير على أربع، فصارت تدور حول الشجرة ، وتسرع في دورانها.
التفت إليها الخادم ووقف لحظات يراقبها. كان يحاول أن يفهم سبب دورانها، وما أن فهم حتى ضحك عاليا ورحل.

أوقفت غزالة دورانها في القفص وهي تشعر بألم ٍ شديد في أرجلها الأربع، خارت قواها فجأة وارتمت على الأرض.
" يا إلهي!! .. لم تعد سيقاني قادرة على الركض .. فقدت قدرتي على الركض !!"

تعاظمت شفقتها على نفسها ، وبكت المسكينة بحرقة وألم، ولم يشعر بها سوى الطيور الواقفة على الشجرة تراقبها بحزن عميق.

لأيام بقيت غزالة راكدةً تعاني من آلامٍ في جسمها، لم ترغب في المأكل. نحُلَ جسمها لدرجة أن الخادم لاحظ ذلك، واقترب محاولا إطعامها بيديه، وكانت تشيح بوجهها عنه. فجلس بقربها يمسّد جسدها الناعم وهي مغمضة عينيها من الحزن.

في اليوم التالي حلُمت غزالة بأنها لو أطالت قفزتها قليلا ذلك اليوم لما كانت سجينة اليوم... تذكرت في حلمها كم كان جميلا القفز فوق ذلك المرتفع ... تحملها النسمات الدافئة إلى الأعلى، وتلمع الشمس على جلدها الأحمر المرقـّّط الجميل. استيقظت غزالة من حلمها وفي قلبها شوق كبير لأن تقفز ... ولو لمرةٍ واحدة فقط.

فقامت ببطءٍ وسارت إلى زاوية الماء ،و حفرت لأقدامها مكانا في الأرض بين الأعشاب ونظرت أمامها ... وقفزت ..

سمع الخادم صرختها من بعيد، وجاء يركض إليها، فتح القفص ليرى أنها ارتطمت بالشِباك المعدنية وانغرس بعض أطراف السياج في صدر الغزالة المسكينة.

" ما الذي تفعلينه يا صغيرة؟ ستقتلين نفسك بهذا الشكل؟ "

خرج من القفص مسرعا ثم عاد وبيده بعض الضماد والقماش. أخذ يمسح بهما صدرها الجريح ... وبعد حين تركها وجراحها.

" يا إلهي ! ... ألن أقفز ثانيةً أبدا؟ ألن أعانق الشمس مرة أخرى في حياتي ؟ "

بكت غزالة دموعا لم يرها الخادم ولا غيره، فقد بكت بروحها بكاء لم يصل إلى عينيها. أبقت عينيها مفتوحتين وهي ملقاة على الأرض، تأملت الشجرة.

" أحسدكِ أيتها الشجرة، فأنتِ لم تقفزي مرة في وجه الشمس ، ولهذا يحلو لك القفصُ ذو السياج... لم تسابقي الفـَراش إلى النهر يوما، فاستـَطبْتِ سجنا بنافورة... تورقُ أغصانـُك من مائها .."

صمتت غزالة لحظة ً تأملت فيها فروع الشجرة...

مشت إليها مشية ً أليمة، واستدارت حولها مرة، لم تكن قد لاحظت من قبل أن أحد الفروع منخفض.

نظرت إلى الفرع ، ثم مدت عنقها الطويل إلى الجرح في صدرها ولعقته ..

"لا بأس ... إذن ففيكِ الملاذ ُ يا رفيقة السجن ِ ، فلا تبخلي به عليّ ... هي قفزة ٌ واحدة .. وأخيرة "

ركـّزت غزالة نظرَها على الغصن، ورجعت إلى الوراء إلى أن لامست السياج ، وحفرت لأقدامها موقعا في الأرض. أغمضت عينيها وشهقت شهقة طويلة ... وقفزت...

جاء الخادم يركض مسرعا صوب القفص، لم يكن يعلم مصدر الصوت المريع، لكنه ذهِل ووقف مشدوها عندما علم...

" هذا هو الذي تريدون ... هو لكم إذن ... إعرضوه في المعارض أو زيّنوا به حائطا يليق بلوني الذي أعجبكم ...

أما أنا ... فسأقفز وأقفز ... فقد وُلِدتُ حرّة ً وسأبقى حُرّة . "

** ** ** ** **

العودة

" هل أنت متأكدٌ أنها جاهزة لهذا"

" نعم .. لقد أصبحت كالقطة الوديعة ... ما عليكِ إلا أن تعدّيها وتزينيها ، فالزبون ينتظر"

" أعدَدتـُها، وهي بالانتظار .. سأذهب وآتيك بها، لكني لا زلت أعتقد أن الوقت مبكرٌ عليها"

دخلت ميساء على ريما وهي تجلس على طرف السرير، كانت بكامل زينتها، وتلبس فستانا أحمرا قصيرا، وقد رفعت شعرها الأسود الكثيف. كان وجهها مغطىً بالمساحيق والألوان، لكن الحزن فيه لم يختبىء تحتها.

" هيا يا حلوة، الحظ ينتظرك الليلة ... تذكري ما قلته لك وستكونين على ما يرام ... جواهر وحرير، والبسمة على وجوه أخوتك"

تبعتها ريما إلى الخارج، ثم عطرتها ميساء بعطر ثقيل ، ولفتها بعباءة سوداء للطريق... خرجت بصحبة الرجلين وأحدهما يمسك بها من كوعها.

وصلوا إلى فيلا فارهة، كانت الأضواء في الخارج تضيء الطريق إلى البوابة عبر حديقة جميلة، وصوت خرير الماء يملؤ الجو.

فتح الباب لهم رجلٌ أشيب ، يبدو في منتصف الستينات. دخلت ريما ونذير ممسك بذراعها، في حين بقي السائق في السيارة.

" أهلا ومرحبا " قال الشيخ وهو يتفحص ريما، ثم مد يده وأزال نصف العباءة عن جسدها

" أهلا بك يا سيدي، أقدم لك ريما .. أرقّ ريما لدينا، وسأكون في الخارج بالانتظار "

خرج نذير بعد أن ناوله الشيخ ظرفا مغلقا. أمسك الشيخ بذراع ريما واقتادها إلى طابقٍ علويّ. دخلا معا إلى غرفة يفوح منها عبق البخور الكثيف، وفيها سرير كبير وواسع، لم تر في حياتها بضخامته.

بدأ الشيخ يداعبها ويتحسس بدنها، وهي تشعر بالغثيان والمقت. لم تقو على دفعه عنها...

" سيدي، هل أستطيع أن أطلب منك طلبا "

" أنت تأمرين يا حلوة، لكن دعي عنكِ الألقاب، فنحن الأن أحبة، وقد نلتقي مرارا أنا وإياكِ... ثم لا تخشي شيئا، إن أعجبتِني سوف أكرمك كثيرا جدا .." ودفن وجهه في كتفها.

" أريد بعد إذنك أن أستحم ... لأني لم تتسنَّ لي الفرصة لأستحم من آخر زبون ..."

"مااااذا ..؟" رفع رأسه وهو غاضب " كيف يكون هذا؟ نحن لم نتفق على هذا أبدا ؟ سأذهب وأتكلم مع نذير .."

همّ بالخروج فأمسكته ريما وتعلقت بثيابه: " لا أرجوووك" حاولت أن تجعل صوتها مغناجا لتخفي خوفها

" إن فعلتَ فستضيع علينا ليلة رائعة" ومالت عليه إلى أن انكشف له جزء من صدرها. " أرجوك، كل المسألة أن أغيب عنك عشر دقائق في الحمام، وأصبح كلّي لك"

سال لعاب الشيخ وهو يستمع إلى صوتها الرقيق دون أن يرفع نظره عن صدرها.

"حسن، من هنا ... لكن لا تطيلي عني الغياب"

أغلقت ريما على نفسها باب الحمام، وهبطت إلى الأرض. لم تكن تعلم ماذا ستفعل ... أو كيف ستستغل هذه الفسحة من الحرية.

سمعت صوت موسيقى يأتي من غرفة النوم، وجالت بنظرها في الحمام الفاخر. فتحت الماء ليجري ويسمع الشيخ صوته، عله يمهلها دقائق لتفكر. وقفت أمام المرآة وهالها ما رأت ... تكاد لا تعرف وجهها من تحت كل تلك الألوان والمساحيق.

"يا إلهي، أنا لم أولد أَمَة جسدي، ولم يولد جسدي عبدا لهؤلاء، فلماذا يكون هذا مصيري؟ ألهمني يا ربي ... ماذا أفعل؟"

بدأت تغسل المساحيق عن وجهها. الغرفة في السكن لم يكن فيها مرآة، وكذلك الحمام المرفق بها، لذلك لم تر صورتها بعد كل هذا التلوين، وكأن ميساء عمدت إلى طمس جمالها بكثرة التلوين بدلا من أن تجمّلها.

سالت المساحيق الملوّنة على الوجه الجميل الناظر إليها من المرآة. صوت الماء الجاري ورائحة الصابون المعطّر الفاخر هدآ أعصابها قليلا.

ارتكزت ريما على طرفيّ المغسلة بيديها ومرّت في المرآة أمامها صورٌ بتتابع لا يصدقه العقل.
كيف حدث كلّ هذا.. أي قدرٍ كان بانتظارها.

توقفت ريما للحظة أمام المرآة ...
لماذا لا توجد مرآة في غرفة السكن والحمام ؟

" رييييمااااا ... هل تحتاجين مساعدة؟"
سمعت صوت الشيخ في الخارج، وهرعت لتتأكد أن الباب مغلق بالمفتاح.
" لا شكرا، دقيقتين فقط وأكون معك"

عادت لتقف أمام المرآة .. أفكارها جعلتها تتنفس بعمق وبزفراتٍ طويلة. أمسكت ريما بالمنشفة، ولـفـّتها حول يدها لتكتم الصوت ، ثم ضربت بها المرآة ضربة واحدة.

" ربي أنت تعلم أني مؤمنة ٌ بك، وأعلم أنا أن حالي هذا لايرضيك، فأنت الرحمن الرحيم، وأنا وقعت فريسة من لارحمة في قلوبهم... إغفر لي يا ربي"

تناولت بيدها قطعة مدببة من الزجاج، وتحت صوت اندفاع الماء في الداخل وصوت الموسيقى الماجنة في الخارج، اختفى صوت شهقةٍ لريما.

فتح الشيخ الباب عنوةً بعد أن فرغ صبره، ليرى ريما تسبح في دمها وقطعة الزجاج بارزة من رقبتها.

" هو لك يا شايب، انهشه كما تشاء، أما أنا فقد ولِدتُ حرة وسأبقى حرة"
بعد هذا الحديث، احتسيتا الشاي معا، ثم افترقتا على وعد بأن تجيبها ريما عند الصباح.

** ** ** ** **

الوصول

استفاقت ريما من سباتها على صوت إعلان وصول الطائرة إلى مقصدها، ونظرت من الشباك بجوارها لترى أن الأضواء في الأسفل كانت صغيرة ً جدا وكأن السماء قد قـُلِبت لتصبح في الأسفل وقد تزينت بنجوم ٍ بعيدةٍٍ ملونة.

في المطار أنهى المسافرون إجراءاتهم للمغادرة وتوجهوا إلى قاعة المستقبلين. كانت أم مازن أكدت لريما أن شريكها نذير سيكون بانتظارها، فبحثت بنظرها عمّن يرفع شارةً باسمها. وعندما رأته تسمّرت مكانها. فقد كان الرجل ضخما بشكل مخيف. كان عريضا عرض رجلين يقفان ملتصقين. وكان طوله يفوق طولها بحوالي عشرين سنتمترا. وكان وجهه أسمرا وأنفه كبيرا.

عرفها الرجل من نظرتها إلى الشارة، فمشى إليها وعيناه تجوبان جسدها بإمعان أخجلها إلى درجة الارتباك. وباقترابه منها رفع عينيه ببطء إلى أن التقتا بعينيها. " أهلا وسهلا بك يا ريما ... حمداً لله على سلامتكِ ... أنا نذير "

كان صوته أشبه بفحيح الأفعى، لم تسمع صوتا مثله من قبل. " أهلا وسهلا .. تشرفنا "

" تفضلي معي"

وسار بجوارها بعد أن رفع حقيبتها الوحيدة. " كيف كانت رحلتك؟ أعلمتني أم مازن أنك لم تسافري من قبل "

" صحيح ، لم أسافر من قبل... لكن الرحلة كانت لطيفة ، نمتُ معظم الوقت "

كان بين لحظة وأخرى يضع يده خلف ظهرها ليدلها على اتجاه المخرج، وكلما لامسها كانت تقشعر من داخلها، وتهرب من لمسته. وعند المخرج كانت تنتظرهما سيارةٌ سوداء فارهة، لم تر ريما مثلها من قبل، وكان يجلس فيها سائق.

للحظة عابرة ترددت ريما في دخول السيارة، واقشعر بدنها عندما شعرت بنظرات نذير إلى صدرها حين وقف على مقربة منها ممسكا باب السيارة بانتظار ركوبها، فأسرعت ودخلت لتهرب من نظراته فقط.

سارت بهم السيارة في المدينة، وبُهرت ريما بعلوّ المباني فيها، وحجم الأضواء الإعلانية الكبيرة في الأسواق.
" قالت لي خالتي أم مازن أنك ستخبرني عن عنوان السكن يا أخ نذير، فهل لك أن تكتبه لي على ورقة ، حتى أراسل أمي به ؟"

" آآآه طبعا طبعا ... يا أخت ريما .. عندما نصل سنتركك ترتاحين، ثم نعود إليك في الصباح ويكون لك كل ما تشائين"

لم تستطع ريما أن تر وجهه وهو يتحدث، لأنه كان يجلس أمامها بجانب السائق، لكنها شعرت بأن كلامه فيه شيءٌ مريب. قد تكون تعجلت في الطلبات قبل أن تعرف ظروف العمل المطلوب منها.

عندما أوقف السائق السيارة كانت قد توقفت في موقف تحت الأرض لعمارة عالية كالأبراج، وقف الثلاثة ينتظرون المصعد.

" أشكركم، ولكن لا داعي لأن أزعجكم أكثر، تستطيع أن تدلني على الطابق ورقم الشقة، وتعطيني المفتاح وأنا سوف ..."

" لا يا أخت ريما .. لا إزعاج أبدا... نحن سنصعد معك لنعرّفك على شريكاتك في الشقة ، وهنّ يعملن لدينا أيضا.. وسنتأكد بأنك لاتحتاجين أي شيء، ثم نغادركن إلى الصباح"

كانت الشقة في الطابق الثالث عشر. وكان في الطابق ثلاث شقق غيرها. دق نذير جرس الباب، ففتحت لهم فتاة جميلة، تبدو في منتصف العشرينات. كانت تلبس ثوبا قصيرا وضيقا.

" أهلا أهلا ... أهلا بالريما الحلوة ... تفضلوا .."

كانت الفتاة تُدعى ميساء،وقد تزيّنت كأنها في حفل ساهر، لكن الشقة كانت هادئة ومرتبة، ولم يدل شيء على أن فيها أي زوّار. جالت ريما بنظرها فوجدت أنها في صالون مؤثث بشكل جيد لكن بسيط، وعلى يسارها كان المطبخ، وفي الردهة الممتدة أمامها رأت أربعة أبواب.

وقفت ريما تنتظر، فيما دخل الرجلان إلى المطبخ خلف ميساء وكأنهما يعرفان الشقة جيدا،

" أين رنا؟" سمعت نذير يسأل.. " نريدها أن تتعرف على ريما "
" أنسيت؟.."

وعندما عادت إليها طلبت ريما أن تعرف أين غرفتها لتوضب فيها أغراضها، فأدخلتها ميساء إلى غرفة فيها سرير منفرد وخزانة بسيطة ، ويغطي أرضها بساط خفيف.

"سأحضر لكِ كأسا من العصير"

شكرتها ريما ، وبدأت بتفريغ ملابسها من الحقيبة. وعندما عادت إليها ميساء كانت تحس بالعطش فعلا، فتجرعت العصير بسرعة وميساء تراقبها. وما أن مضى ربع ساعة حتى أحست بنعاس ٍ شديد. فنامت ...

أيقظها نورٌ باهر مسلـّط على عينيها، وكان هناك صوتٌ عال وغريب يناديها. أشاحت بوجهها عن الضوء فانطفأ، ثم حاولت أن تتحرك لتجد أن يديها محشورتان تحتها ولا تستطيع تفريقهما. أضاء صاحب الصوت ضوءا خافتا بجوار السرير، ففتحت عينيها لتجد وجها قريبا جدا من وجهها ، لم تره من قبل. كان رجلا أسمر وله شاربان أسودان وشعره خشن، تفوح منه رائحة التبغ وشيءٌ آخر مغث . وهي تنظر إليه رأت صدرها عارٍ تماما من أي غطاء، وأيقنت أنها كلها عارية أمام أعينه. فتحت فمها لتصرخ، لكن الرجل الغريب غطاه بيده.

"ش ش ش ... بهدوء يا حلوة، بهدوء ... أنا لا أحب الإزعاج. وحتى لو صرخت، النوافذ عالية جدا والحيطان كاتمة للصوت، فلن يسمعك أحد" كان يتكلم وهو يمرر يده الثانية على جسدها الأبيض ... كان مستلقياٍ بجاورها على السرير .

أخذ جسمها يرتجف بقوّة عندما أيقنت ماذا يحدث، كانت تشعر بالألم في جسمها كله، وشعرت بالألم في جوفها ... لم تستطع أن تحدد مكان الأم لأنها لم تشعر بمثله من قبل. لكن خوفها من القادم أجبرها على تجاهل الألم.. ذُعِرت وتقطعت أنفاسها تحت ضغط يده ، فأرخى قبضته على فمها وصار يمسح بها صدرها

" لا تخافي يا حلوة ... أنا إسمي صقر " بدأت تئن تحت لمسته بصوتٍ لم تسمعه هي .

" أسسستتـُرررنيييييي ، أرجوووووووووك " كان صوتها يرتجف كما كان جسدها.

سمِعَت ضحكات ٍ تأتي من ظلام الغرفة، فجالت بعينيها حول السرير لترى أن نذير والسائق يقفان عند حافة السرير من الناحية الأخرى. وخلفهم كان هناك شيئ يقف على عامودٍ أسود، لم تعرف ما هو ... لم تستطع أن ترى وجوههم بشكل واضح ، لكنها عرفت أن أحدهما كان بلا قميص.

" أستـُروني ، أرجوكم .... أرجوكم " تدحرجت ريما على جنبها وتقوقعت على نفسها، وحاولت أن تضم ساقيها إلى صدرها علّها تستر شيئا من عريّها... أغمضت عينيها وحاولت أن تطمر وجهها في الوسادة، لتختبىء من عريّها أمام أعينهم النهمة، كأنها إن لم تر نفسها فلن يروها هم...

أحست بصقر يتحرك من جنبها ... فعادت بنظرها إليه فوجدته يقف إلى جانب السرير، ولاحظت كم هو ضخم الجثة واقفا .. وفي تلك اللحظة دخلت ميساء إلى الغرفة، وكانت تحمل شيئا في يدها ناولته إلى نذير. " ها هو .. أبقه معك ... ليتك أضأت الأنوار الجانبية، لكانت الصورة أوضح"

في تلك اللحظات وقف صقر بجانب السرير يفك أزراره ، " هيا! إرحلوا واتركوني مع ريمتي الجميلة"

لم تعرف ريما معنى الذي يجري ، لكنها رأتهم يخرجون وكلّ يرمقها بنظرات وابتسامات لم تفهمها ... وبقيت في الغرفة مع صقر ..

" والآن يا حلوة .." قال وهو يتعرى من ملابسه ببطءٍ شديد " أنا لا أحب الجميلات نائمات ، أحب أن أنظر في عيونهن الجميلة... وحتى لاتفوتك المتعة أيضا كان يجب أن أيقظك .. لكن يجب أن تفهمي أنك ستحظين بميزة بين البنات الأخريات، فأنا لا أفعل هذا عادةً. أنت أجمل منهن جميعا ... ومن يوم أن رأيتك في فيلم الفيديو في الصالون عرفت أنك ستكونين هنا معي، وأنك ستكونين من بين المميزات. والآن لا تكوني طفلة واجلبي لي ولك السعادة".

مدّ نفسه ملتصقا بجسدها المرتعش، وفردها إلى أن استلقى بثقله فوقها، أصمتَ صيحاتِها بيدٍ واحدة ..
كان ثقيلا لدرجة أنها لم تستطع التنفس تحته، كما أن ضغط وزنيهما معا على أذرعها المقيدة تحتها جعلها تفقد الإحساس فيهما.

أحست بذلك الألم الحارق في جوفها يشتد ويشتد ... أرادت أن تصرخ لكنها لم تستطع أن تتنفس ... فانهمرت دموع غزيرة صامتة من عينيها..

كان وجهه قريبا من وجهها، وكان يحدق في عينيها الباكيتين كالغول الأسود... و شفتاه تتحركان حركة مقززة وأسنانه الصفراء تصطك في متعة مراقبةِ الرعب في نظراتها له ... كلما اشتد ألمها وأطبقت جفونها من الحرقة فتحتهما لتراه يبتسم كشيطان ٍ يتلذذ.

كانتا دقيقتين بمرارة الدهر كلـّه ... عندما أزاح يده عن فمها لم تستطع أن تشهق لتصرخ ... ثم أحست بالسواد يغلف الدنيا.

** ** ** ** **

أفاقت ريما في غرفتها على ضوء النهار يطل عليها من النافذة ... لثوانٍ عابرة لم تذكر أين هي. ثم تذكرت ما جرى في تلك الليلة ودفنت وجهها في الوسادة. لعله حلمٌ بغيض يذهب إلى غير رجعة. لكن الإحساس بالألم في جوفها وفي ذراعيها داهم صحوتها جالبا معه إحساسا عميقا بالغثيان. فتقوقعت على نفسها تحت الغطاء.

" لماذا يا ربي ....؟ ماذا فعلت لأستحق أن يجري لي هذا ؟ لماذا فعلوا بي هكذا؟ أنا لم أعرفهم من قبل ... فلماذا يجرمون بي هكذا؟"

سمعَت صوت جلبة تدور خلف بابها، فتحركت بسرعة وجلست في السرير وهي تسحب الغطاء على جسمها. دار مفتاحٌ في قفل الباب ودخلت ميساء حاملة ً صينية فيها شيئٌ ضئيلٌ من الطعام.

" صباح الخير، يا رُمرُم ... اسمك جميلٌ جدا، هل قلت لك ذلك سابقا ؟" وجلست على حافة السرير.

" من أنتم ؟ وماذا تريدون مني"

" لاشيء يا عزيزتي، بل أنتِ من تريدُ منا ... البارحة كانت أصعب أيامك هنا، لكن لا تخافي، فالأيام الآتية ستعوضك هذ اليوم. لكن يجب أن تكوني متعاونة ، حتى لا تقسي على نفسك"

" ماذا تقصدين، وما الذي أريده منكم؟ "

" يا عزيزتي ليلة الأمس كانت ليلة ساخنة جدا للشباب، وقد تم تسجيلها بالكامل على شريط فيديو، وهو الآن بحوزة نذير... وإن لم تتعاوني معنا وتلبي كل مطالبنا فالشريط سيصل ليد والدتك ، ويتفرج عليه كل أخوتك وأهلك"

كادت عينا ريما تنفران من وجهها جحوظا وهي تستمع إلى حديث ميساء.
" لا تخافي، كل ما عليك هو أن تضعي رضا الزبائن نصب عينيكِ، لأنهم هم من سيفرشون حياتكِ بالنعيم، ويلبسونك الحرير والجواهر ... وعندها ستستطيعين أن تبعثي المال الوفير لأهلك، وسيودعوا الفقر والجوع إلى الأبد..." قالت وهي تداعب خصلاتٍ من شعر ريما " فمن هي بجمالك يا عزيزتي، وبمثل هذا القد الرشيق لا تجوع أبدا"

تركتها ميساء بعد أن أغلقت الباب بالمفتاح ، وبقيت ريما وحدها تفكر فيما يجري لها...

هل يعقل أن يحتوي العالم كل هذا الشر؟ أليسوا هؤلاء بشرٌ مخلوقين من ذات طينة الخليقة كلها؟ أليس لهؤلاء أخوات وأمهات يشفقون عليهن؟ أم أنهم خُلقوا من نار كالشياطين؟ البارحة نامت وأحلام البداية الجديدة تراود منامها، وبين الغفوة والغفوة عاشت سوادا لم تعلم بوجوده في هذا العالم، ليطل عليها نهارٌ أشد سوادا وظلمة.

علمت ريما في الأيام التالية معنى الجحيم على الأرض، فكل يوم كان يأتيها صقر وينهش جسدها نهشا، وكلما كانت تحاول مقاومته كان يكيل لها الصفعات والضرب على وجهها حتى أصبح ملونا ً. كان يستطيع أن يغلبها بثقل جسمه فقط، فما أن يلقي بوزنه عليها حتى ينحبس الهواء في صدرها ويكتم نفسها. وضآلة الطعام المقدم لها جعلتها ضعيفة جدا.

وبعد عشرة أيام، دخل عليها صقر، وكل ما استطاعت فعله هو أن تشيح بوجهها عنه.

** ** ** ** ** ** **

يأس الغزلان

بعد شهرين من الحبس في القفص الكبير شـُفيت ساق غزالتنا تماما، واستطاعت أن تسير على أربع، فصارت تدور حول الشجرة ، وتسرع في دورانها.
التفت إليها الخادم ووقف لحظات يراقبها. كان يحاول أن يفهم سبب دورانها، وما أن فهم حتى ضحك عاليا ورحل.

أوقفت غزالة دورانها في القفص وهي تشعر بألم ٍ شديد في أرجلها الأربع، خارت قواها فجأة وارتمت على الأرض.
" يا إلهي!! .. لم تعد سيقاني قادرة على الركض .. فقدت قدرتي على الركض !!"

تعاظمت شفقتها على نفسها ، وبكت المسكينة بحرقة وألم، ولم يشعر بها سوى الطيور الواقفة على الشجرة تراقبها بحزن عميق.

لأيام بقيت غزالة راكدةً تعاني من آلامٍ في جسمها، لم ترغب في المأكل. نحُلَ جسمها لدرجة أن الخادم لاحظ ذلك، واقترب محاولا إطعامها بيديه، وكانت تشيح بوجهها عنه. فجلس بقربها يمسّد جسدها الناعم وهي مغمضة عينيها من الحزن.

في اليوم التالي حلُمت غزالة بأنها لو أطالت قفزتها قليلا ذلك اليوم لما كانت سجينة اليوم... تذكرت في حلمها كم كان جميلا القفز فوق ذلك المرتفع ... تحملها النسمات الدافئة إلى الأعلى، وتلمع الشمس على جلدها الأحمر المرقـّّط الجميل. استيقظت غزالة من حلمها وفي قلبها شوق كبير لأن تقفز ... ولو لمرةٍ واحدة فقط.

فقامت ببطءٍ وسارت إلى زاوية الماء ،و حفرت لأقدامها مكانا في الأرض بين الأعشاب ونظرت أمامها ... وقفزت ..

سمع الخادم صرختها من بعيد، وجاء يركض إليها، فتح القفص ليرى أنها ارتطمت بالشِباك المعدنية وانغرس بعض أطراف السياج في صدر الغزالة المسكينة.

" ما الذي تفعلينه يا صغيرة؟ ستقتلين نفسك بهذا الشكل؟ "

خرج من القفص مسرعا ثم عاد وبيده بعض الضماد والقماش. أخذ يمسح بهما صدرها الجريح ... وبعد حين تركها وجراحها.

" يا إلهي ! ... ألن أقفز ثانيةً أبدا؟ ألن أعانق الشمس مرة أخرى في حياتي ؟ "

بكت غزالة دموعا لم يرها الخادم ولا غيره، فقد بكت بروحها بكاء لم يصل إلى عينيها. أبقت عينيها مفتوحتين وهي ملقاة على الأرض، تأملت الشجرة.

" أحسدكِ أيتها الشجرة، فأنتِ لم تقفزي مرة في وجه الشمس ، ولهذا يحلو لك القفصُ ذو السياج... لم تسابقي الفـَراش إلى النهر يوما، فاستـَطبْتِ سجنا بنافورة... تورقُ أغصانـُك من مائها .."

صمتت غزالة لحظة ً تأملت فيها فروع الشجرة...

مشت إليها مشية ً أليمة، واستدارت حولها مرة، لم تكن قد لاحظت من قبل أن أحد الفروع منخفض.

نظرت إلى الفرع ، ثم مدت عنقها الطويل إلى الجرح في صدرها ولعقته ..

"لا بأس ... إذن ففيكِ الملاذ ُ يا رفيقة السجن ِ ، فلا تبخلي به عليّ ... هي قفزة ٌ واحدة .. وأخيرة "

ركـّزت غزالة نظرَها على الغصن، ورجعت إلى الوراء إلى أن لامست السياج ، وحفرت لأقدامها موقعا في الأرض. أغمضت عينيها وشهقت شهقة طويلة ... وقفزت...

جاء الخادم يركض مسرعا صوب القفص، لم يكن يعلم مصدر الصوت المريع، لكنه ذهِل ووقف مشدوها عندما علم...

" هذا هو الذي تريدون ... هو لكم إذن ... إعرضوه في المعارض أو زيّنوا به حائطا يليق بلوني الذي أعجبكم ...

أما أنا ... فسأقفز وأقفز ... فقد وُلِدتُ حرّة ً وسأبقى حُرّة . "

** ** ** ** **

العودة

" هل أنت متأكدٌ أنها جاهزة لهذا"

" نعم .. لقد أصبحت كالقطة الوديعة ... ما عليكِ إلا أن تعدّيها وتزينيها ، فالزبون ينتظر"

" أعدَدتـُها، وهي بالانتظار .. سأذهب وآتيك بها، لكني لا زلت أعتقد أن الوقت مبكرٌ عليها"

دخلت ميساء على ريما وهي تجلس على طرف السرير، كانت بكامل زينتها، وتلبس فستانا أحمرا قصيرا، وقد رفعت شعرها الأسود الكثيف. كان وجهها مغطىً بالمساحيق والألوان، لكن الحزن فيه لم يختبىء تحتها.

" هيا يا حلوة، الحظ ينتظرك الليلة ... تذكري ما قلته لك وستكونين على ما يرام ... جواهر وحرير، والبسمة على وجوه أخوتك"

تبعتها ريما إلى الخارج، ثم عطرتها ميساء بعطر ثقيل ، ولفتها بعباءة سوداء للطريق... خرجت بصحبة الرجلين وأحدهما يمسك بها من كوعها.

وصلوا إلى فيلا فارهة، كانت الأضواء في الخارج تضيء الطريق إلى البوابة عبر حديقة جميلة، وصوت خرير الماء يملؤ الجو.

فتح الباب لهم رجلٌ أشيب ، يبدو في منتصف الستينات. دخلت ريما ونذير ممسك بذراعها، في حين بقي السائق في السيارة.

" أهلا ومرحبا " قال الشيخ وهو يتفحص ريما، ثم مد يده وأزال نصف العباءة عن جسدها

" أهلا بك يا سيدي، أقدم لك ريما .. أرقّ ريما لدينا، وسأكون في الخارج بالانتظار "

خرج نذير بعد أن ناوله الشيخ ظرفا مغلقا. أمسك الشيخ بذراع ريما واقتادها إلى طابقٍ علويّ. دخلا معا إلى غرفة يفوح منها عبق البخور الكثيف، وفيها سرير كبير وواسع، لم تر في حياتها بضخامته.

بدأ الشيخ يداعبها ويتحسس بدنها، وهي تشعر بالغثيان والمقت. لم تقو على دفعه عنها...

" سيدي، هل أستطيع أن أطلب منك طلبا "

" أنت تأمرين يا حلوة، لكن دعي عنكِ الألقاب، فنحن الأن أحبة، وقد نلتقي مرارا أنا وإياكِ... ثم لا تخشي شيئا، إن أعجبتِني سوف أكرمك كثيرا جدا .." ودفن وجهه في كتفها.

" أريد بعد إذنك أن أستحم ... لأني لم تتسنَّ لي الفرصة لأستحم من آخر زبون ..."

"مااااذا ..؟" رفع رأسه وهو غاضب " كيف يكون هذا؟ نحن لم نتفق على هذا أبدا ؟ سأذهب وأتكلم مع نذير .."

همّ بالخروج فأمسكته ريما وتعلقت بثيابه: " لا أرجوووك" حاولت أن تجعل صوتها مغناجا لتخفي خوفها

" إن فعلتَ فستضيع علينا ليلة رائعة" ومالت عليه إلى أن انكشف له جزء من صدرها. " أرجوك، كل المسألة أن أغيب عنك عشر دقائق في الحمام، وأصبح كلّي لك"

سال لعاب الشيخ وهو يستمع إلى صوتها الرقيق دون أن يرفع نظره عن صدرها.

"حسن، من هنا ... لكن لا تطيلي عني الغياب"

أغلقت ريما على نفسها باب الحمام، وهبطت إلى الأرض. لم تكن تعلم ماذا ستفعل ... أو كيف ستستغل هذه الفسحة من الحرية.

سمعت صوت موسيقى يأتي من غرفة النوم، وجالت بنظرها في الحمام الفاخر. فتحت الماء ليجري ويسمع الشيخ صوته، عله يمهلها دقائق لتفكر. وقفت أمام المرآة وهالها ما رأت ... تكاد لا تعرف وجهها من تحت كل تلك الألوان والمساحيق.

"يا إلهي، أنا لم أولد أَمَة جسدي، ولم يولد جسدي عبدا لهؤلاء، فلماذا يكون هذا مصيري؟ ألهمني يا ربي ... ماذا أفعل؟"

بدأت تغسل المساحيق عن وجهها. الغرفة في السكن لم يكن فيها مرآة، وكذلك الحمام المرفق بها، لذلك لم تر صورتها بعد كل هذا التلوين، وكأن ميساء عمدت إلى طمس جمالها بكثرة التلوين بدلا من أن تجمّلها.

سالت المساحيق الملوّنة على الوجه الجميل الناظر إليها من المرآة. صوت الماء الجاري ورائحة الصابون المعطّر الفاخر هدآ أعصابها قليلا.

ارتكزت ريما على طرفيّ المغسلة بيديها ومرّت في المرآة أمامها صورٌ بتتابع لا يصدقه العقل.
كيف حدث كلّ هذا.. أي قدرٍ كان بانتظارها.

توقفت ريما للحظة أمام المرآة ...
لماذا لا توجد مرآة في غرفة السكن والحمام ؟

" رييييمااااا ... هل تحتاجين مساعدة؟"
سمعت صوت الشيخ في الخارج، وهرعت لتتأكد أن الباب مغلق بالمفتاح.
" لا شكرا، دقيقتين فقط وأكون معك"

عادت لتقف أمام المرآة .. أفكارها جعلتها تتنفس بعمق وبزفراتٍ طويلة. أمسكت ريما بالمنشفة، ولـفـّتها حول يدها لتكتم الصوت ، ثم ضربت بها المرآة ضربة واحدة.

" ربي أنت تعلم أني مؤمنة ٌ بك، وأعلم أنا أن حالي هذا لايرضيك، فأنت الرحمن الرحيم، وأنا وقعت فريسة من لارحمة في قلوبهم... إغفر لي يا ربي"

تناولت بيدها قطعة مدببة من الزجاج، وتحت صوت اندفاع الماء في الداخل وصوت الموسيقى الماجنة في الخارج، اختفى صوت شهقةٍ لريما.

فتح الشيخ الباب عنوةً بعد أن فرغ صبره، ليرى ريما تسبح في دمها وقطعة الزجاج بارزة من رقبتها.

" هو لك يا شايب، انهشه كما تشاء، أما أنا فقد ولِدتُ حرة وسأبقى حرة"

deer

بعد هذا الحديث، احتسيتا الشاي معا، ثم افترقتا على وعد بأن تجيبها ريما عند الصباح.

** ** ** ** **

الوصول

استفاقت ريما من سباتها على صوت إعلان وصول الطائرة إلى مقصدها، ونظرت من الشباك بجوارها لترى أن الأضواء في الأسفل كانت صغيرة ً جدا وكأن السماء قد قـُلِبت لتصبح في الأسفل وقد تزينت بنجوم ٍ بعيدةٍٍ ملونة.

في المطار أنهى المسافرون إجراءاتهم للمغادرة وتوجهوا إلى قاعة المستقبلين. كانت أم مازن أكدت لريما أن شريكها نذير سيكون بانتظارها، فبحثت بنظرها عمّن يرفع شارةً باسمها. وعندما رأته تسمّرت مكانها. فقد كان الرجل ضخما بشكل مخيف. كان عريضا عرض رجلين يقفان ملتصقين. وكان طوله يفوق طولها بحوالي عشرين سنتمترا. وكان وجهه أسمرا وأنفه كبيرا.

عرفها الرجل من نظرتها إلى الشارة، فمشى إليها وعيناه تجوبان جسدها بإمعان أخجلها إلى درجة الارتباك. وباقترابه منها رفع عينيه ببطء إلى أن التقتا بعينيها. " أهلا وسهلا بك يا ريما ... حمداً لله على سلامتكِ ... أنا نذير "

كان صوته أشبه بفحيح الأفعى، لم تسمع صوتا مثله من قبل. " أهلا وسهلا .. تشرفنا "

" تفضلي معي"

وسار بجوارها بعد أن رفع حقيبتها الوحيدة. " كيف كانت رحلتك؟ أعلمتني أم مازن أنك لم تسافري من قبل "

" صحيح ، لم أسافر من قبل... لكن الرحلة كانت لطيفة ، نمتُ معظم الوقت "

كان بين لحظة وأخرى يضع يده خلف ظهرها ليدلها على اتجاه المخرج، وكلما لامسها كانت تقشعر من داخلها، وتهرب من لمسته. وعند المخرج كانت تنتظرهما سيارةٌ سوداء فارهة، لم تر ريما مثلها من قبل، وكان يجلس فيها سائق.

للحظة عابرة ترددت ريما في دخول السيارة، واقشعر بدنها عندما شعرت بنظرات نذير إلى صدرها حين وقف على مقربة منها ممسكا باب السيارة بانتظار ركوبها، فأسرعت ودخلت لتهرب من نظراته فقط.

سارت بهم السيارة في المدينة، وبُهرت ريما بعلوّ المباني فيها، وحجم الأضواء الإعلانية الكبيرة في الأسواق.
" قالت لي خالتي أم مازن أنك ستخبرني عن عنوان السكن يا أخ نذير، فهل لك أن تكتبه لي على ورقة ، حتى أراسل أمي به ؟"

" آآآه طبعا طبعا ... يا أخت ريما .. عندما نصل سنتركك ترتاحين، ثم نعود إليك في الصباح ويكون لك كل ما تشائين"

لم تستطع ريما أن تر وجهه وهو يتحدث، لأنه كان يجلس أمامها بجانب السائق، لكنها شعرت بأن كلامه فيه شيءٌ مريب. قد تكون تعجلت في الطلبات قبل أن تعرف ظروف العمل المطلوب منها.

عندما أوقف السائق السيارة كانت قد توقفت في موقف تحت الأرض لعمارة عالية كالأبراج، وقف الثلاثة ينتظرون المصعد.

" أشكركم، ولكن لا داعي لأن أزعجكم أكثر، تستطيع أن تدلني على الطابق ورقم الشقة، وتعطيني المفتاح وأنا سوف ..."

" لا يا أخت ريما .. لا إزعاج أبدا... نحن سنصعد معك لنعرّفك على شريكاتك في الشقة ، وهنّ يعملن لدينا أيضا.. وسنتأكد بأنك لاتحتاجين أي شيء، ثم نغادركن إلى الصباح"

كانت الشقة في الطابق الثالث عشر. وكان في الطابق ثلاث شقق غيرها. دق نذير جرس الباب، ففتحت لهم فتاة جميلة، تبدو في منتصف العشرينات. كانت تلبس ثوبا قصيرا وضيقا.

" أهلا أهلا ... أهلا بالريما الحلوة ... تفضلوا .."

كانت الفتاة تُدعى ميساء،وقد تزيّنت كأنها في حفل ساهر، لكن الشقة كانت هادئة ومرتبة، ولم يدل شيء على أن فيها أي زوّار. جالت ريما بنظرها فوجدت أنها في صالون مؤثث بشكل جيد لكن بسيط، وعلى يسارها كان المطبخ، وفي الردهة الممتدة أمامها رأت أربعة أبواب.

وقفت ريما تنتظر، فيما دخل الرجلان إلى المطبخ خلف ميساء وكأنهما يعرفان الشقة جيدا،

" أين رنا؟" سمعت نذير يسأل.. " نريدها أن تتعرف على ريما "
" أنسيت؟.."

وعندما عادت إليها طلبت ريما أن تعرف أين غرفتها لتوضب فيها أغراضها، فأدخلتها ميساء إلى غرفة فيها سرير منفرد وخزانة بسيطة ، ويغطي أرضها بساط خفيف.

"سأحضر لكِ كأسا من العصير"

شكرتها ريما ، وبدأت بتفريغ ملابسها من الحقيبة. وعندما عادت إليها ميساء كانت تحس بالعطش فعلا، فتجرعت العصير بسرعة وميساء تراقبها. وما أن مضى ربع ساعة حتى أحست بنعاس ٍ شديد. فنامت ...

أيقظها نورٌ باهر مسلـّط على عينيها، وكان هناك صوتٌ عال وغريب يناديها. أشاحت بوجهها عن الضوء فانطفأ، ثم حاولت أن تتحرك لتجد أن يديها محشورتان تحتها ولا تستطيع تفريقهما. أضاء صاحب الصوت ضوءا خافتا بجوار السرير، ففتحت عينيها لتجد وجها قريبا جدا من وجهها ، لم تره من قبل. كان رجلا أسمر وله شاربان أسودان وشعره خشن، تفوح منه رائحة التبغ وشيءٌ آخر مغث . وهي تنظر إليه رأت صدرها عارٍ تماما من أي غطاء، وأيقنت أنها كلها عارية أمام أعينه. فتحت فمها لتصرخ، لكن الرجل الغريب غطاه بيده.

"ش ش ش ... بهدوء يا حلوة، بهدوء ... أنا لا أحب الإزعاج. وحتى لو صرخت، النوافذ عالية جدا والحيطان كاتمة للصوت، فلن يسمعك أحد" كان يتكلم وهو يمرر يده الثانية على جسدها الأبيض ... كان مستلقياٍ بجاورها على السرير .

أخذ جسمها يرتجف بقوّة عندما أيقنت ماذا يحدث، كانت تشعر بالألم في جسمها كله، وشعرت بالألم في جوفها ... لم تستطع أن تحدد مكان الأم لأنها لم تشعر بمثله من قبل. لكن خوفها من القادم أجبرها على تجاهل الألم.. ذُعِرت وتقطعت أنفاسها تحت ضغط يده ، فأرخى قبضته على فمها وصار يمسح بها صدرها

" لا تخافي يا حلوة ... أنا إسمي صقر " بدأت تئن تحت لمسته بصوتٍ لم تسمعه هي .

" أسسستتـُرررنيييييي ، أرجوووووووووك " كان صوتها يرتجف كما كان جسدها.

سمِعَت ضحكات ٍ تأتي من ظلام الغرفة، فجالت بعينيها حول السرير لترى أن نذير والسائق يقفان عند حافة السرير من الناحية الأخرى. وخلفهم كان هناك شيئ يقف على عامودٍ أسود، لم تعرف ما هو ... لم تستطع أن ترى وجوههم بشكل واضح ، لكنها عرفت أن أحدهما كان بلا قميص.

" أستـُروني ، أرجوكم .... أرجوكم " تدحرجت ريما على جنبها وتقوقعت على نفسها، وحاولت أن تضم ساقيها إلى صدرها علّها تستر شيئا من عريّها... أغمضت عينيها وحاولت أن تطمر وجهها في الوسادة، لتختبىء من عريّها أمام أعينهم النهمة، كأنها إن لم تر نفسها فلن يروها هم...

أحست بصقر يتحرك من جنبها ... فعادت بنظرها إليه فوجدته يقف إلى جانب السرير، ولاحظت كم هو ضخم الجثة واقفا .. وفي تلك اللحظة دخلت ميساء إلى الغرفة، وكانت تحمل شيئا في يدها ناولته إلى نذير. " ها هو .. أبقه معك ... ليتك أضأت الأنوار الجانبية، لكانت الصورة أوضح"

في تلك اللحظات وقف صقر بجانب السرير يفك أزراره ، " هيا! إرحلوا واتركوني مع ريمتي الجميلة"

لم تعرف ريما معنى الذي يجري ، لكنها رأتهم يخرجون وكلّ يرمقها بنظرات وابتسامات لم تفهمها ... وبقيت في الغرفة مع صقر ..

" والآن يا حلوة .." قال وهو يتعرى من ملابسه ببطءٍ شديد " أنا لا أحب الجميلات نائمات ، أحب أن أنظر في عيونهن الجميلة... وحتى لاتفوتك المتعة أيضا كان يجب أن أيقظك .. لكن يجب أن تفهمي أنك ستحظين بميزة بين البنات الأخريات، فأنا لا أفعل هذا عادةً. أنت أجمل منهن جميعا ... ومن يوم أن رأيتك في فيلم الفيديو في الصالون عرفت أنك ستكونين هنا معي، وأنك ستكونين من بين المميزات. والآن لا تكوني طفلة واجلبي لي ولك السعادة".

مدّ نفسه ملتصقا بجسدها المرتعش، وفردها إلى أن استلقى بثقله فوقها، أصمتَ صيحاتِها بيدٍ واحدة ..
كان ثقيلا لدرجة أنها لم تستطع التنفس تحته، كما أن ضغط وزنيهما معا على أذرعها المقيدة تحتها جعلها تفقد الإحساس فيهما.

أحست بذلك الألم الحارق في جوفها يشتد ويشتد ... أرادت أن تصرخ لكنها لم تستطع أن تتنفس ... فانهمرت دموع غزيرة صامتة من عينيها..

كان وجهه قريبا من وجهها، وكان يحدق في عينيها الباكيتين كالغول الأسود... و شفتاه تتحركان حركة مقززة وأسنانه الصفراء تصطك في متعة مراقبةِ الرعب في نظراتها له ... كلما اشتد ألمها وأطبقت جفونها من الحرقة فتحتهما لتراه يبتسم كشيطان ٍ يتلذذ.

كانتا دقيقتين بمرارة الدهر كلـّه ... عندما أزاح يده عن فمها لم تستطع أن تشهق لتصرخ ... ثم أحست بالسواد يغلف الدنيا.

** ** ** ** **

أفاقت ريما في غرفتها على ضوء النهار يطل عليها من النافذة ... لثوانٍ عابرة لم تذكر أين هي. ثم تذكرت ما جرى في تلك الليلة ودفنت وجهها في الوسادة. لعله حلمٌ بغيض يذهب إلى غير رجعة. لكن الإحساس بالألم في جوفها وفي ذراعيها داهم صحوتها جالبا معه إحساسا عميقا بالغثيان. فتقوقعت على نفسها تحت الغطاء.

" لماذا يا ربي ....؟ ماذا فعلت لأستحق أن يجري لي هذا ؟ لماذا فعلوا بي هكذا؟ أنا لم أعرفهم من قبل ... فلماذا يجرمون بي هكذا؟"

سمعَت صوت جلبة تدور خلف بابها، فتحركت بسرعة وجلست في السرير وهي تسحب الغطاء على جسمها. دار مفتاحٌ في قفل الباب ودخلت ميساء حاملة ً صينية فيها شيئٌ ضئيلٌ من الطعام.

" صباح الخير، يا رُمرُم ... اسمك جميلٌ جدا، هل قلت لك ذلك سابقا ؟" وجلست على حافة السرير.

" من أنتم ؟ وماذا تريدون مني"

" لاشيء يا عزيزتي، بل أنتِ من تريدُ منا ... البارحة كانت أصعب أيامك هنا، لكن لا تخافي، فالأيام الآتية ستعوضك هذ اليوم. لكن يجب أن تكوني متعاونة ، حتى لا تقسي على نفسك"

" ماذا تقصدين، وما الذي أريده منكم؟ "

" يا عزيزتي ليلة الأمس كانت ليلة ساخنة جدا للشباب، وقد تم تسجيلها بالكامل على شريط فيديو، وهو الآن بحوزة نذير... وإن لم تتعاوني معنا وتلبي كل مطالبنا فالشريط سيصل ليد والدتك ، ويتفرج عليه كل أخوتك وأهلك"

كادت عينا ريما تنفران من وجهها جحوظا وهي تستمع إلى حديث ميساء.
" لا تخافي، كل ما عليك هو أن تضعي رضا الزبائن نصب عينيكِ، لأنهم هم من سيفرشون حياتكِ بالنعيم، ويلبسونك الحرير والجواهر ... وعندها ستستطيعين أن تبعثي المال الوفير لأهلك، وسيودعوا الفقر والجوع إلى الأبد..." قالت وهي تداعب خصلاتٍ من شعر ريما " فمن هي بجمالك يا عزيزتي، وبمثل هذا القد الرشيق لا تجوع أبدا"

تركتها ميساء بعد أن أغلقت الباب بالمفتاح ، وبقيت ريما وحدها تفكر فيما يجري لها...

هل يعقل أن يحتوي العالم كل هذا الشر؟ أليسوا هؤلاء بشرٌ مخلوقين من ذات طينة الخليقة كلها؟ أليس لهؤلاء أخوات وأمهات يشفقون عليهن؟ أم أنهم خُلقوا من نار كالشياطين؟ البارحة نامت وأحلام البداية الجديدة تراود منامها، وبين الغفوة والغفوة عاشت سوادا لم تعلم بوجوده في هذا العالم، ليطل عليها نهارٌ أشد سوادا وظلمة.

علمت ريما في الأيام التالية معنى الجحيم على الأرض، فكل يوم كان يأتيها صقر وينهش جسدها نهشا، وكلما كانت تحاول مقاومته كان يكيل لها الصفعات والضرب على وجهها حتى أصبح ملونا ً. كان يستطيع أن يغلبها بثقل جسمه فقط، فما أن يلقي بوزنه عليها حتى ينحبس الهواء في صدرها ويكتم نفسها. وضآلة الطعام المقدم لها جعلتها ضعيفة جدا.

وبعد عشرة أيام، دخل عليها صقر، وكل ما استطاعت فعله هو أن تشيح بوجهها عنه.

** ** ** ** ** ** **

يأس الغزلان

بعد شهرين من الحبس في القفص الكبير شـُفيت ساق غزالتنا تماما، واستطاعت أن تسير على أربع، فصارت تدور حول الشجرة ، وتسرع في دورانها.
التفت إليها الخادم ووقف لحظات يراقبها. كان يحاول أن يفهم سبب دورانها، وما أن فهم حتى ضحك عاليا ورحل.

أوقفت غزالة دورانها في القفص وهي تشعر بألم ٍ شديد في أرجلها الأربع، خارت قواها فجأة وارتمت على الأرض.
" يا إلهي!! .. لم تعد سيقاني قادرة على الركض .. فقدت قدرتي على الركض !!"

تعاظمت شفقتها على نفسها ، وبكت المسكينة بحرقة وألم، ولم يشعر بها سوى الطيور الواقفة على الشجرة تراقبها بحزن عميق.

لأيام بقيت غزالة راكدةً تعاني من آلامٍ في جسمها، لم ترغب في المأكل. نحُلَ جسمها لدرجة أن الخادم لاحظ ذلك، واقترب محاولا إطعامها بيديه، وكانت تشيح بوجهها عنه. فجلس بقربها يمسّد جسدها الناعم وهي مغمضة عينيها من الحزن.

في اليوم التالي حلُمت غزالة بأنها لو أطالت قفزتها قليلا ذلك اليوم لما كانت سجينة اليوم... تذكرت في حلمها كم كان جميلا القفز فوق ذلك المرتفع ... تحملها النسمات الدافئة إلى الأعلى، وتلمع الشمس على جلدها الأحمر المرقـّّط الجميل. استيقظت غزالة من حلمها وفي قلبها شوق كبير لأن تقفز ... ولو لمرةٍ واحدة فقط.

فقامت ببطءٍ وسارت إلى زاوية الماء ،و حفرت لأقدامها مكانا في الأرض بين الأعشاب ونظرت أمامها ... وقفزت ..

سمع الخادم صرختها من بعيد، وجاء يركض إليها، فتح القفص ليرى أنها ارتطمت بالشِباك المعدنية وانغرس بعض أطراف السياج في صدر الغزالة المسكينة.

" ما الذي تفعلينه يا صغيرة؟ ستقتلين نفسك بهذا الشكل؟ "

خرج من القفص مسرعا ثم عاد وبيده بعض الضماد والقماش. أخذ يمسح بهما صدرها الجريح ... وبعد حين تركها وجراحها.

" يا إلهي ! ... ألن أقفز ثانيةً أبدا؟ ألن أعانق الشمس مرة أخرى في حياتي ؟ "

بكت غزالة دموعا لم يرها الخادم ولا غيره، فقد بكت بروحها بكاء لم يصل إلى عينيها. أبقت عينيها مفتوحتين وهي ملقاة على الأرض، تأملت الشجرة.

" أحسدكِ أيتها الشجرة، فأنتِ لم تقفزي مرة في وجه الشمس ، ولهذا يحلو لك القفصُ ذو السياج... لم تسابقي الفـَراش إلى النهر يوما، فاستـَطبْتِ سجنا بنافورة... تورقُ أغصانـُك من مائها .."

صمتت غزالة لحظة ً تأملت فيها فروع الشجرة...

مشت إليها مشية ً أليمة، واستدارت حولها مرة، لم تكن قد لاحظت من قبل أن أحد الفروع منخفض.

نظرت إلى الفرع ، ثم مدت عنقها الطويل إلى الجرح في صدرها ولعقته ..

"لا بأس ... إذن ففيكِ الملاذ ُ يا رفيقة السجن ِ ، فلا تبخلي به عليّ ... هي قفزة ٌ واحدة .. وأخيرة "

ركـّزت غزالة نظرَها على الغصن، ورجعت إلى الوراء إلى أن لامست السياج ، وحفرت لأقدامها موقعا في الأرض. أغمضت عينيها وشهقت شهقة طويلة ... وقفزت...

جاء الخادم يركض مسرعا صوب القفص، لم يكن يعلم مصدر الصوت المريع، لكنه ذهِل ووقف مشدوها عندما علم...

" هذا هو الذي تريدون ... هو لكم إذن ... إعرضوه في المعارض أو زيّنوا به حائطا يليق بلوني الذي أعجبكم ...

أما أنا ... فسأقفز وأقفز ... فقد وُلِدتُ حرّة ً وسأبقى حُرّة . "

** ** ** ** **

العودة

" هل أنت متأكدٌ أنها جاهزة لهذا"

" نعم .. لقد أصبحت كالقطة الوديعة ... ما عليكِ إلا أن تعدّيها وتزينيها ، فالزبون ينتظر"

" أعدَدتـُها، وهي بالانتظار .. سأذهب وآتيك بها، لكني لا زلت أعتقد أن الوقت مبكرٌ عليها"

دخلت ميساء على ريما وهي تجلس على طرف السرير، كانت بكامل زينتها، وتلبس فستانا أحمرا قصيرا، وقد رفعت شعرها الأسود الكثيف. كان وجهها مغطىً بالمساحيق والألوان، لكن الحزن فيه لم يختبىء تحتها.

" هيا يا حلوة، الحظ ينتظرك الليلة ... تذكري ما قلته لك وستكونين على ما يرام ... جواهر وحرير، والبسمة على وجوه أخوتك"

تبعتها ريما إلى الخارج، ثم عطرتها ميساء بعطر ثقيل ، ولفتها بعباءة سوداء للطريق... خرجت بصحبة الرجلين وأحدهما يمسك بها من كوعها.

وصلوا إلى فيلا فارهة، كانت الأضواء في الخارج تضيء الطريق إلى البوابة عبر حديقة جميلة، وصوت خرير الماء يملؤ الجو.

فتح الباب لهم رجلٌ أشيب ، يبدو في منتصف الستينات. دخلت ريما ونذير ممسك بذراعها، في حين بقي السائق في السيارة.

" أهلا ومرحبا " قال الشيخ وهو يتفحص ريما، ثم مد يده وأزال نصف العباءة عن جسدها

" أهلا بك يا سيدي، أقدم لك ريما .. أرقّ ريما لدينا، وسأكون في الخارج بالانتظار "

خرج نذير بعد أن ناوله الشيخ ظرفا مغلقا. أمسك الشيخ بذراع ريما واقتادها إلى طابقٍ علويّ. دخلا معا إلى غرفة يفوح منها عبق البخور الكثيف، وفيها سرير كبير وواسع، لم تر في حياتها بضخامته.

بدأ الشيخ يداعبها ويتحسس بدنها، وهي تشعر بالغثيان والمقت. لم تقو على دفعه عنها...

" سيدي، هل أستطيع أن أطلب منك طلبا "

" أنت تأمرين يا حلوة، لكن دعي عنكِ الألقاب، فنحن الأن أحبة، وقد نلتقي مرارا أنا وإياكِ... ثم لا تخشي شيئا، إن أعجبتِني سوف أكرمك كثيرا جدا .." ودفن وجهه في كتفها.

" أريد بعد إذنك أن أستحم ... لأني لم تتسنَّ لي الفرصة لأستحم من آخر زبون ..."

"مااااذا ..؟" رفع رأسه وهو غاضب " كيف يكون هذا؟ نحن لم نتفق على هذا أبدا ؟ سأذهب وأتكلم مع نذير .."

همّ بالخروج فأمسكته ريما وتعلقت بثيابه: " لا أرجوووك" حاولت أن تجعل صوتها مغناجا لتخفي خوفها

" إن فعلتَ فستضيع علينا ليلة رائعة" ومالت عليه إلى أن انكشف له جزء من صدرها. " أرجوك، كل المسألة أن أغيب عنك عشر دقائق في الحمام، وأصبح كلّي لك"

سال لعاب الشيخ وهو يستمع إلى صوتها الرقيق دون أن يرفع نظره عن صدرها.

"حسن، من هنا ... لكن لا تطيلي عني الغياب"

أغلقت ريما على نفسها باب الحمام، وهبطت إلى الأرض. لم تكن تعلم ماذا ستفعل ... أو كيف ستستغل هذه الفسحة من الحرية.

سمعت صوت موسيقى يأتي من غرفة النوم، وجالت بنظرها في الحمام الفاخر. فتحت الماء ليجري ويسمع الشيخ صوته، عله يمهلها دقائق لتفكر. وقفت أمام المرآة وهالها ما رأت ... تكاد لا تعرف وجهها من تحت كل تلك الألوان والمساحيق.

"يا إلهي، أنا لم أولد أَمَة جسدي، ولم يولد جسدي عبدا لهؤلاء، فلماذا يكون هذا مصيري؟ ألهمني يا ربي ... ماذا أفعل؟"

بدأت تغسل المساحيق عن وجهها. الغرفة في السكن لم يكن فيها مرآة، وكذلك الحمام المرفق بها، لذلك لم تر صورتها بعد كل هذا التلوين، وكأن ميساء عمدت إلى طمس جمالها بكثرة التلوين بدلا من أن تجمّلها.

سالت المساحيق الملوّنة على الوجه الجميل الناظر إليها من المرآة. صوت الماء الجاري ورائحة الصابون المعطّر الفاخر هدآ أعصابها قليلا.

ارتكزت ريما على طرفيّ المغسلة بيديها ومرّت في المرآة أمامها صورٌ بتتابع لا يصدقه العقل.
كيف حدث كلّ هذا.. أي قدرٍ كان بانتظارها.

توقفت ريما للحظة أمام المرآة ...
لماذا لا توجد مرآة في غرفة السكن والحمام ؟

" رييييمااااا ... هل تحتاجين مساعدة؟"
سمعت صوت الشيخ في الخارج، وهرعت لتتأكد أن الباب مغلق بالمفتاح.
" لا شكرا، دقيقتين فقط وأكون معك"

عادت لتقف أمام المرآة .. أفكارها جعلتها تتنفس بعمق وبزفراتٍ طويلة. أمسكت ريما بالمنشفة، ولـفـّتها حول يدها لتكتم الصوت ، ثم ضربت بها المرآة ضربة واحدة.

" ربي أنت تعلم أني مؤمنة ٌ بك، وأعلم أنا أن حالي هذا لايرضيك، فأنت الرحمن الرحيم، وأنا وقعت فريسة من لارحمة في قلوبهم... إغفر لي يا ربي"

تناولت بيدها قطعة مدببة من الزجاج، وتحت صوت اندفاع الماء في الداخل وصوت الموسيقى الماجنة في الخارج، اختفى صوت شهقةٍ لريما.

فتح الشيخ الباب عنوةً بعد أن فرغ صبره، ليرى ريما تسبح في دمها وقطعة الزجاج بارزة من رقبتها.

" هو لك يا شايب، انهشه كما تشاء، أما أنا فقد ولِدتُ حرة وسأبقى حرة"

deer

بعد هذا الحديث، احتسيتا الشاي معا، ثم افترقتا على وعد بأن تجيبها ريما عند الصباح.

** ** ** ** **

الوصول

استفاقت ريما من سباتها على صوت إعلان وصول الطائرة إلى مقصدها، ونظرت من الشباك بجوارها لترى أن الأضواء في الأسفل كانت صغيرة ً جدا وكأن السماء قد قـُلِبت لتصبح في الأسفل وقد تزينت بنجوم ٍ بعيدةٍٍ ملونة.

في المطار أنهى المسافرون إجراءاتهم للمغادرة وتوجهوا إلى قاعة المستقبلين. كانت أم مازن أكدت لريما أن شريكها نذير سيكون بانتظارها، فبحثت بنظرها عمّن يرفع شارةً باسمها. وعندما رأته تسمّرت مكانها. فقد كان الرجل ضخما بشكل مخيف. كان عريضا عرض رجلين يقفان ملتصقين. وكان طوله يفوق طولها بحوالي عشرين سنتمترا. وكان وجهه أسمرا وأنفه كبيرا.

عرفها الرجل من نظرتها إلى الشارة، فمشى إليها وعيناه تجوبان جسدها بإمعان أخجلها إلى درجة الارتباك. وباقترابه منها رفع عينيه ببطء إلى أن التقتا بعينيها. " أهلا وسهلا بك يا ريما ... حمداً لله على سلامتكِ ... أنا نذير "

كان صوته أشبه بفحيح الأفعى، لم تسمع صوتا مثله من قبل. " أهلا وسهلا .. تشرفنا "

" تفضلي معي"

وسار بجوارها بعد أن رفع حقيبتها الوحيدة. " كيف كانت رحلتك؟ أعلمتني أم مازن أنك لم تسافري من قبل "

" صحيح ، لم أسافر من قبل... لكن الرحلة كانت لطيفة ، نمتُ معظم الوقت "

كان بين لحظة وأخرى يضع يده خلف ظهرها ليدلها على اتجاه المخرج، وكلما لامسها كانت تقشعر من داخلها، وتهرب من لمسته. وعند المخرج كانت تنتظرهما سيارةٌ سوداء فارهة، لم تر ريما مثلها من قبل، وكان يجلس فيها سائق.

للحظة عابرة ترددت ريما في دخول السيارة، واقشعر بدنها عندما شعرت بنظرات نذير إلى صدرها حين وقف على مقربة منها ممسكا باب السيارة بانتظار ركوبها، فأسرعت ودخلت لتهرب من نظراته فقط.

سارت بهم السيارة في المدينة، وبُهرت ريما بعلوّ المباني فيها، وحجم الأضواء الإعلانية الكبيرة في الأسواق.
" قالت لي خالتي أم مازن أنك ستخبرني عن عنوان السكن يا أخ نذير، فهل لك أن تكتبه لي على ورقة ، حتى أراسل أمي به ؟"

" آآآه طبعا طبعا ... يا أخت ريما .. عندما نصل سنتركك ترتاحين، ثم نعود إليك في الصباح ويكون لك كل ما تشائين"

لم تستطع ريما أن تر وجهه وهو يتحدث، لأنه كان يجلس أمامها بجانب السائق، لكنها شعرت بأن كلامه فيه شيءٌ مريب. قد تكون تعجلت في الطلبات قبل أن تعرف ظروف العمل المطلوب منها.

عندما أوقف السائق السيارة كانت قد توقفت في موقف تحت الأرض لعمارة عالية كالأبراج، وقف الثلاثة ينتظرون المصعد.

" أشكركم، ولكن لا داعي لأن أزعجكم أكثر، تستطيع أن تدلني على الطابق ورقم الشقة، وتعطيني المفتاح وأنا سوف ..."

" لا يا أخت ريما .. لا إزعاج أبدا... نحن سنصعد معك لنعرّفك على شريكاتك في الشقة ، وهنّ يعملن لدينا أيضا.. وسنتأكد بأنك لاتحتاجين أي شيء، ثم نغادركن إلى الصباح"

كانت الشقة في الطابق الثالث عشر. وكان في الطابق ثلاث شقق غيرها. دق نذير جرس الباب، ففتحت لهم فتاة جميلة، تبدو في منتصف العشرينات. كانت تلبس ثوبا قصيرا وضيقا.

" أهلا أهلا ... أهلا بالريما الحلوة ... تفضلوا .."

كانت الفتاة تُدعى ميساء،وقد تزيّنت كأنها في حفل ساهر، لكن الشقة كانت هادئة ومرتبة، ولم يدل شيء على أن فيها أي زوّار. جالت ريما بنظرها فوجدت أنها في صالون مؤثث بشكل جيد لكن بسيط، وعلى يسارها كان المطبخ، وفي الردهة الممتدة أمامها رأت أربعة أبواب.

وقفت ريما تنتظر، فيما دخل الرجلان إلى المطبخ خلف ميساء وكأنهما يعرفان الشقة جيدا،

" أين رنا؟" سمعت نذير يسأل.. " نريدها أن تتعرف على ريما "
" أنسيت؟.."

وعندما عادت إليها طلبت ريما أن تعرف أين غرفتها لتوضب فيها أغراضها، فأدخلتها ميساء إلى غرفة فيها سرير منفرد وخزانة بسيطة ، ويغطي أرضها بساط خفيف.

"سأحضر لكِ كأسا من العصير"

شكرتها ريما ، وبدأت بتفريغ ملابسها من الحقيبة. وعندما عادت إليها ميساء كانت تحس بالعطش فعلا، فتجرعت العصير بسرعة وميساء تراقبها. وما أن مضى ربع ساعة حتى أحست بنعاس ٍ شديد. فنامت ...

أيقظها نورٌ باهر مسلـّط على عينيها، وكان هناك صوتٌ عال وغريب يناديها. أشاحت بوجهها عن الضوء فانطفأ، ثم حاولت أن تتحرك لتجد أن يديها محشورتان تحتها ولا تستطيع تفريقهما. أضاء صاحب الصوت ضوءا خافتا بجوار السرير، ففتحت عينيها لتجد وجها قريبا جدا من وجهها ، لم تره من قبل. كان رجلا أسمر وله شاربان أسودان وشعره خشن، تفوح منه رائحة التبغ وشيءٌ آخر مغث . وهي تنظر إليه رأت صدرها عارٍ تماما من أي غطاء، وأيقنت أنها كلها عارية أمام أعينه. فتحت فمها لتصرخ، لكن الرجل الغريب غطاه بيده.

"ش ش ش ... بهدوء يا حلوة، بهدوء ... أنا لا أحب الإزعاج. وحتى لو صرخت، النوافذ عالية جدا والحيطان كاتمة للصوت، فلن يسمعك أحد" كان يتكلم وهو يمرر يده الثانية على جسدها الأبيض ... كان مستلقياٍ بجاورها على السرير .

أخذ جسمها يرتجف بقوّة عندما أيقنت ماذا يحدث، كانت تشعر بالألم في جسمها كله، وشعرت بالألم في جوفها ... لم تستطع أن تحدد مكان الأم لأنها لم تشعر بمثله من قبل. لكن خوفها من القادم أجبرها على تجاهل الألم.. ذُعِرت وتقطعت أنفاسها تحت ضغط يده ، فأرخى قبضته على فمها وصار يمسح بها صدرها

" لا تخافي يا حلوة ... أنا إسمي صقر " بدأت تئن تحت لمسته بصوتٍ لم تسمعه هي .

" أسسستتـُرررنيييييي ، أرجوووووووووك " كان صوتها يرتجف كما كان جسدها.

سمِعَت ضحكات ٍ تأتي من ظلام الغرفة، فجالت بعينيها حول السرير لترى أن نذير والسائق يقفان عند حافة السرير من الناحية الأخرى. وخلفهم كان هناك شيئ يقف على عامودٍ أسود، لم تعرف ما هو ... لم تستطع أن ترى وجوههم بشكل واضح ، لكنها عرفت أن أحدهما كان بلا قميص.

" أستـُروني ، أرجوكم .... أرجوكم " تدحرجت ريما على جنبها وتقوقعت على نفسها، وحاولت أن تضم ساقيها إلى صدرها علّها تستر شيئا من عريّها... أغمضت عينيها وحاولت أن تطمر وجهها في الوسادة، لتختبىء من عريّها أمام أعينهم النهمة، كأنها إن لم تر نفسها فلن يروها هم...

أحست بصقر يتحرك من جنبها ... فعادت بنظرها إليه فوجدته يقف إلى جانب السرير، ولاحظت كم هو ضخم الجثة واقفا .. وفي تلك اللحظة دخلت ميساء إلى الغرفة، وكانت تحمل شيئا في يدها ناولته إلى نذير. " ها هو .. أبقه معك ... ليتك أضأت الأنوار الجانبية، لكانت الصورة أوضح"

في تلك اللحظات وقف صقر بجانب السرير يفك أزراره ، " هيا! إرحلوا واتركوني مع ريمتي الجميلة"

لم تعرف ريما معنى الذي يجري ، لكنها رأتهم يخرجون وكلّ يرمقها بنظرات وابتسامات لم تفهمها ... وبقيت في الغرفة مع صقر ..

" والآن يا حلوة .." قال وهو يتعرى من ملابسه ببطءٍ شديد " أنا لا أحب الجميلات نائمات ، أحب أن أنظر في عيونهن الجميلة... وحتى لاتفوتك المتعة أيضا كان يجب أن أيقظك .. لكن يجب أن تفهمي أنك ستحظين بميزة بين البنات الأخريات، فأنا لا أفعل هذا عادةً. أنت أجمل منهن جميعا ... ومن يوم أن رأيتك في فيلم الفيديو في الصالون عرفت أنك ستكونين هنا معي، وأنك ستكونين من بين المميزات. والآن لا تكوني طفلة واجلبي لي ولك السعادة".

مدّ نفسه ملتصقا بجسدها المرتعش، وفردها إلى أن استلقى بثقله فوقها، أصمتَ صيحاتِها بيدٍ واحدة ..
كان ثقيلا لدرجة أنها لم تستطع التنفس تحته، كما أن ضغط وزنيهما معا على أذرعها المقيدة تحتها جعلها تفقد الإحساس فيهما.

أحست بذلك الألم الحارق في جوفها يشتد ويشتد ... أرادت أن تصرخ لكنها لم تستطع أن تتنفس ... فانهمرت دموع غزيرة صامتة من عينيها..

كان وجهه قريبا من وجهها، وكان يحدق في عينيها الباكيتين كالغول الأسود... و شفتاه تتحركان حركة مقززة وأسنانه الصفراء تصطك في متعة مراقبةِ الرعب في نظراتها له ... كلما اشتد ألمها وأطبقت جفونها من الحرقة فتحتهما لتراه يبتسم كشيطان ٍ يتلذذ.

كانتا دقيقتين بمرارة الدهر كلـّه ... عندما أزاح يده عن فمها لم تستطع أن تشهق لتصرخ ... ثم أحست بالسواد يغلف الدنيا.

** ** ** ** **

أفاقت ريما في غرفتها على ضوء النهار يطل عليها من النافذة ... لثوانٍ عابرة لم تذكر أين هي. ثم تذكرت ما جرى في تلك الليلة ودفنت وجهها في الوسادة. لعله حلمٌ بغيض يذهب إلى غير رجعة. لكن الإحساس بالألم في جوفها وفي ذراعيها داهم صحوتها جالبا معه إحساسا عميقا بالغثيان. فتقوقعت على نفسها تحت الغطاء.

" لماذا يا ربي ....؟ ماذا فعلت لأستحق أن يجري لي هذا ؟ لماذا فعلوا بي هكذا؟ أنا لم أعرفهم من قبل ... فلماذا يجرمون بي هكذا؟"

سمعَت صوت جلبة تدور خلف بابها، فتحركت بسرعة وجلست في السرير وهي تسحب الغطاء على جسمها. دار مفتاحٌ في قفل الباب ودخلت ميساء حاملة ً صينية فيها شيئٌ ضئيلٌ من الطعام.

" صباح الخير، يا رُمرُم ... اسمك جميلٌ جدا، هل قلت لك ذلك سابقا ؟" وجلست على حافة السرير.

" من أنتم ؟ وماذا تريدون مني"

" لاشيء يا عزيزتي، بل أنتِ من تريدُ منا ... البارحة كانت أصعب أيامك هنا، لكن لا تخافي، فالأيام الآتية ستعوضك هذ اليوم. لكن يجب أن تكوني متعاونة ، حتى لا تقسي على نفسك"

" ماذا تقصدين، وما الذي أريده منكم؟ "

" يا عزيزتي ليلة الأمس كانت ليلة ساخنة جدا للشباب، وقد تم تسجيلها بالكامل على شريط فيديو، وهو الآن بحوزة نذير... وإن لم تتعاوني معنا وتلبي كل مطالبنا فالشريط سيصل ليد والدتك ، ويتفرج عليه كل أخوتك وأهلك"

كادت عينا ريما تنفران من وجهها جحوظا وهي تستمع إلى حديث ميساء.
" لا تخافي، كل ما عليك هو أن تضعي رضا الزبائن نصب عينيكِ، لأنهم هم من سيفرشون حياتكِ بالنعيم، ويلبسونك الحرير والجواهر ... وعندها ستستطيعين أن تبعثي المال الوفير لأهلك، وسيودعوا الفقر والجوع إلى الأبد..." قالت وهي تداعب خصلاتٍ من شعر ريما " فمن هي بجمالك يا عزيزتي، وبمثل هذا القد الرشيق لا تجوع أبدا"

تركتها ميساء بعد أن أغلقت الباب بالمفتاح ، وبقيت ريما وحدها تفكر فيما يجري لها...

هل يعقل أن يحتوي العالم كل هذا الشر؟ أليسوا هؤلاء بشرٌ مخلوقين من ذات طينة الخليقة كلها؟ أليس لهؤلاء أخوات وأمهات يشفقون عليهن؟ أم أنهم خُلقوا من نار كالشياطين؟ البارحة نامت وأحلام البداية الجديدة تراود منامها، وبين الغفوة والغفوة عاشت سوادا لم تعلم بوجوده في هذا العالم، ليطل عليها نهارٌ أشد سوادا وظلمة.

علمت ريما في الأيام التالية معنى الجحيم على الأرض، فكل يوم كان يأتيها صقر وينهش جسدها نهشا، وكلما كانت تحاول مقاومته كان يكيل لها الصفعات والضرب على وجهها حتى أصبح ملونا ً. كان يستطيع أن يغلبها بثقل جسمه فقط، فما أن يلقي بوزنه عليها حتى ينحبس الهواء في صدرها ويكتم نفسها. وضآلة الطعام المقدم لها جعلتها ضعيفة جدا.

وبعد عشرة أيام، دخل عليها صقر، وكل ما استطاعت فعله هو أن تشيح بوجهها عنه.

** ** ** ** ** ** **

يأس الغزلان

بعد شهرين من الحبس في القفص الكبير شـُفيت ساق غزالتنا تماما، واستطاعت أن تسير على أربع، فصارت تدور حول الشجرة ، وتسرع في دورانها.
التفت إليها الخادم ووقف لحظات يراقبها. كان يحاول أن يفهم سبب دورانها، وما أن فهم حتى ضحك عاليا ورحل.

أوقفت غزالة دورانها في القفص وهي تشعر بألم ٍ شديد في أرجلها الأربع، خارت قواها فجأة وارتمت على الأرض.
" يا إلهي!! .. لم تعد سيقاني قادرة على الركض .. فقدت قدرتي على الركض !!"

تعاظمت شفقتها على نفسها ، وبكت المسكينة بحرقة وألم، ولم يشعر بها سوى الطيور الواقفة على الشجرة تراقبها بحزن عميق.

لأيام بقيت غزالة راكدةً تعاني من آلامٍ في جسمها، لم ترغب في المأكل. نحُلَ جسمها لدرجة أن الخادم لاحظ ذلك، واقترب محاولا إطعامها بيديه، وكانت تشيح بوجهها عنه. فجلس بقربها يمسّد جسدها الناعم وهي مغمضة عينيها من الحزن.

في اليوم التالي حلُمت غزالة بأنها لو أطالت قفزتها قليلا ذلك اليوم لما كانت سجينة اليوم... تذكرت في حلمها كم كان جميلا القفز فوق ذلك المرتفع ... تحملها النسمات الدافئة إلى الأعلى، وتلمع الشمس على جلدها الأحمر المرقـّّط الجميل. استيقظت غزالة من حلمها وفي قلبها شوق كبير لأن تقفز ... ولو لمرةٍ واحدة فقط.

فقامت ببطءٍ وسارت إلى زاوية الماء ،و حفرت لأقدامها مكانا في الأرض بين الأعشاب ونظرت أمامها ... وقفزت ..

سمع الخادم صرختها من بعيد، وجاء يركض إليها، فتح القفص ليرى أنها ارتطمت بالشِباك المعدنية وانغرس بعض أطراف السياج في صدر الغزالة المسكينة.

" ما الذي تفعلينه يا صغيرة؟ ستقتلين نفسك بهذا الشكل؟ "

خرج من القفص مسرعا ثم عاد وبيده بعض الضماد والقماش. أخذ يمسح بهما صدرها الجريح ... وبعد حين تركها وجراحها.

" يا إلهي ! ... ألن أقفز ثانيةً أبدا؟ ألن أعانق الشمس مرة أخرى في حياتي ؟ "

بكت غزالة دموعا لم يرها الخادم ولا غيره، فقد بكت بروحها بكاء لم يصل إلى عينيها. أبقت عينيها مفتوحتين وهي ملقاة على الأرض، تأملت الشجرة.

" أحسدكِ أيتها الشجرة، فأنتِ لم تقفزي مرة في وجه الشمس ، ولهذا يحلو لك القفصُ ذو السياج... لم تسابقي الفـَراش إلى النهر يوما، فاستـَطبْتِ سجنا بنافورة... تورقُ أغصانـُك من مائها .."

صمتت غزالة لحظة ً تأملت فيها فروع الشجرة...

مشت إليها مشية ً أليمة، واستدارت حولها مرة، لم تكن قد لاحظت من قبل أن أحد الفروع منخفض.

نظرت إلى الفرع ، ثم مدت عنقها الطويل إلى الجرح في صدرها ولعقته ..

"لا بأس ... إذن ففيكِ الملاذ ُ يا رفيقة السجن ِ ، فلا تبخلي به عليّ ... هي قفزة ٌ واحدة .. وأخيرة "

ركـّزت غزالة نظرَها على الغصن، ورجعت إلى الوراء إلى أن لامست السياج ، وحفرت لأقدامها موقعا في الأرض. أغمضت عينيها وشهقت شهقة طويلة ... وقفزت...

جاء الخادم يركض مسرعا صوب القفص، لم يكن يعلم مصدر الصوت المريع، لكنه ذهِل ووقف مشدوها عندما علم...

" هذا هو الذي تريدون ... هو لكم إذن ... إعرضوه في المعارض أو زيّنوا به حائطا يليق بلوني الذي أعجبكم ...

أما أنا ... فسأقفز وأقفز ... فقد وُلِدتُ حرّة ً وسأبقى حُرّة . "

** ** ** ** **

العودة

" هل أنت متأكدٌ أنها جاهزة لهذا"

" نعم .. لقد أصبحت كالقطة الوديعة ... ما عليكِ إلا أن تعدّيها وتزينيها ، فالزبون ينتظر"

" أعدَدتـُها، وهي بالانتظار .. سأذهب وآتيك بها، لكني لا زلت أعتقد أن الوقت مبكرٌ عليها"

دخلت ميساء على ريما وهي تجلس على طرف السرير، كانت بكامل زينتها، وتلبس فستانا أحمرا قصيرا، وقد رفعت شعرها الأسود الكثيف. كان وجهها مغطىً بالمساحيق والألوان، لكن الحزن فيه لم يختبىء تحتها.

" هيا يا حلوة، الحظ ينتظرك الليلة ... تذكري ما قلته لك وستكونين على ما يرام ... جواهر وحرير، والبسمة على وجوه أخوتك"

تبعتها ريما إلى الخارج، ثم عطرتها ميساء بعطر ثقيل ، ولفتها بعباءة سوداء للطريق... خرجت بصحبة الرجلين وأحدهما يمسك بها من كوعها.

وصلوا إلى فيلا فارهة، كانت الأضواء في الخارج تضيء الطريق إلى البوابة عبر حديقة جميلة، وصوت خرير الماء يملؤ الجو.

فتح الباب لهم رجلٌ أشيب ، يبدو في منتصف الستينات. دخلت ريما ونذير ممسك بذراعها، في حين بقي السائق في السيارة.

" أهلا ومرحبا " قال الشيخ وهو يتفحص ريما، ثم مد يده وأزال نصف العباءة عن جسدها

" أهلا بك يا سيدي، أقدم لك ريما .. أرقّ ريما لدينا، وسأكون في الخارج بالانتظار "

خرج نذير بعد أن ناوله الشيخ ظرفا مغلقا. أمسك الشيخ بذراع ريما واقتادها إلى طابقٍ علويّ. دخلا معا إلى غرفة يفوح منها عبق البخور الكثيف، وفيها سرير كبير وواسع، لم تر في حياتها بضخامته.

بدأ الشيخ يداعبها ويتحسس بدنها، وهي تشعر بالغثيان والمقت. لم تقو على دفعه عنها...

" سيدي، هل أستطيع أن أطلب منك طلبا "

" أنت تأمرين يا حلوة، لكن دعي عنكِ الألقاب، فنحن الأن أحبة، وقد نلتقي مرارا أنا وإياكِ... ثم لا تخشي شيئا، إن أعجبتِني سوف أكرمك كثيرا جدا .." ودفن وجهه في كتفها.

" أريد بعد إذنك أن أستحم ... لأني لم تتسنَّ لي الفرصة لأستحم من آخر زبون ..."

"مااااذا ..؟" رفع رأسه وهو غاضب " كيف يكون هذا؟ نحن لم نتفق على هذا أبدا ؟ سأذهب وأتكلم مع نذير .."

همّ بالخروج فأمسكته ريما وتعلقت بثيابه: " لا أرجوووك" حاولت أن تجعل صوتها مغناجا لتخفي خوفها

" إن فعلتَ فستضيع علينا ليلة رائعة" ومالت عليه إلى أن انكشف له جزء من صدرها. " أرجوك، كل المسألة أن أغيب عنك عشر دقائق في الحمام، وأصبح كلّي لك"

سال لعاب الشيخ وهو يستمع إلى صوتها الرقيق دون أن يرفع نظره عن صدرها.

"حسن، من هنا ... لكن لا تطيلي عني الغياب"

أغلقت ريما على نفسها باب الحمام، وهبطت إلى الأرض. لم تكن تعلم ماذا ستفعل ... أو كيف ستستغل هذه الفسحة من الحرية.

سمعت صوت موسيقى يأتي من غرفة النوم، وجالت بنظرها في الحمام الفاخر. فتحت الماء ليجري ويسمع الشيخ صوته، عله يمهلها دقائق لتفكر. وقفت أمام المرآة وهالها ما رأت ... تكاد لا تعرف وجهها من تحت كل تلك الألوان والمساحيق.

"يا إلهي، أنا لم أولد أَمَة جسدي، ولم يولد جسدي عبدا لهؤلاء، فلماذا يكون هذا مصيري؟ ألهمني يا ربي ... ماذا أفعل؟"

بدأت تغسل المساحيق عن وجهها. الغرفة في السكن لم يكن فيها مرآة، وكذلك الحمام المرفق بها، لذلك لم تر صورتها بعد كل هذا التلوين، وكأن ميساء عمدت إلى طمس جمالها بكثرة التلوين بدلا من أن تجمّلها.

سالت المساحيق الملوّنة على الوجه الجميل الناظر إليها من المرآة. صوت الماء الجاري ورائحة الصابون المعطّر الفاخر هدآ أعصابها قليلا.

ارتكزت ريما على طرفيّ المغسلة بيديها ومرّت في المرآة أمامها صورٌ بتتابع لا يصدقه العقل.
كيف حدث كلّ هذا.. أي قدرٍ كان بانتظارها.

توقفت ريما للحظة أمام المرآة ...
لماذا لا توجد مرآة في غرفة السكن والحمام ؟

" رييييمااااا ... هل تحتاجين مساعدة؟"
سمعت صوت الشيخ في الخارج، وهرعت لتتأكد أن الباب مغلق بالمفتاح.
" لا شكرا، دقيقتين فقط وأكون معك"

عادت لتقف أمام المرآة .. أفكارها جعلتها تتنفس بعمق وبزفراتٍ طويلة. أمسكت ريما بالمنشفة، ولـفـّتها حول يدها لتكتم الصوت ، ثم ضربت بها المرآة ضربة واحدة.

" ربي أنت تعلم أني مؤمنة ٌ بك، وأعلم أنا أن حالي هذا لايرضيك، فأنت الرحمن الرحيم، وأنا وقعت فريسة من لارحمة في قلوبهم... إغفر لي يا ربي"

تناولت بيدها قطعة مدببة من الزجاج، وتحت صوت اندفاع الماء في الداخل وصوت الموسيقى الماجنة في الخارج، اختفى صوت شهقةٍ لريما.

فتح الشيخ الباب عنوةً بعد أن فرغ صبره، ليرى ريما تسبح في دمها وقطعة الزجاج بارزة من رقبتها.

" هو لك يا شايب، انهشه كما تشاء، أما أنا فقد ولِدتُ حرة وسأبقى حرة"
بعد هذا الحديث، احتسيتا الشاي معا، ثم افترقتا على وعد بأن تجيبها ريما عند الصباح.

** ** ** ** **

الوصول

استفاقت ريما من سباتها على صوت إعلان وصول الطائرة إلى مقصدها، ونظرت من الشباك بجوارها لترى أن الأضواء في الأسفل كانت صغيرة ً جدا وكأن السماء قد قـُلِبت لتصبح في الأسفل وقد تزينت بنجوم ٍ بعيدةٍٍ ملونة.

في المطار أنهى المسافرون إجراءاتهم للمغادرة وتوجهوا إلى قاعة المستقبلين. كانت أم مازن أكدت لريما أن شريكها نذير سيكون بانتظارها، فبحثت بنظرها عمّن يرفع شارةً باسمها. وعندما رأته تسمّرت مكانها. فقد كان الرجل ضخما بشكل مخيف. كان عريضا عرض رجلين يقفان ملتصقين. وكان طوله يفوق طولها بحوالي عشرين سنتمترا. وكان وجهه أسمرا وأنفه كبيرا.

عرفها الرجل من نظرتها إلى الشارة، فمشى إليها وعيناه تجوبان جسدها بإمعان أخجلها إلى درجة الارتباك. وباقترابه منها رفع عينيه ببطء إلى أن التقتا بعينيها. " أهلا وسهلا بك يا ريما ... حمداً لله على سلامتكِ ... أنا نذير "

كان صوته أشبه بفحيح الأفعى، لم تسمع صوتا مثله من قبل. " أهلا وسهلا .. تشرفنا "

" تفضلي معي"

وسار بجوارها بعد أن رفع حقيبتها الوحيدة. " كيف كانت رحلتك؟ أعلمتني أم مازن أنك لم تسافري من قبل "

" صحيح ، لم أسافر من قبل... لكن الرحلة كانت لطيفة ، نمتُ معظم الوقت "

كان بين لحظة وأخرى يضع يده خلف ظهرها ليدلها على اتجاه المخرج، وكلما لامسها كانت تقشعر من داخلها، وتهرب من لمسته. وعند المخرج كانت تنتظرهما سيارةٌ سوداء فارهة، لم تر ريما مثلها من قبل، وكان يجلس فيها سائق.

للحظة عابرة ترددت ريما في دخول السيارة، واقشعر بدنها عندما شعرت بنظرات نذير إلى صدرها حين وقف على مقربة منها ممسكا باب السيارة بانتظار ركوبها، فأسرعت ودخلت لتهرب من نظراته فقط.

سارت بهم السيارة في المدينة، وبُهرت ريما بعلوّ المباني فيها، وحجم الأضواء الإعلانية الكبيرة في الأسواق.
" قالت لي خالتي أم مازن أنك ستخبرني عن عنوان السكن يا أخ نذير، فهل لك أن تكتبه لي على ورقة ، حتى أراسل أمي به ؟"

" آآآه طبعا طبعا ... يا أخت ريما .. عندما نصل سنتركك ترتاحين، ثم نعود إليك في الصباح ويكون لك كل ما تشائين"

لم تستطع ريما أن تر وجهه وهو يتحدث، لأنه كان يجلس أمامها بجانب السائق، لكنها شعرت بأن كلامه فيه شيءٌ مريب. قد تكون تعجلت في الطلبات قبل أن تعرف ظروف العمل المطلوب منها.

عندما أوقف السائق السيارة كانت قد توقفت في موقف تحت الأرض لعمارة عالية كالأبراج، وقف الثلاثة ينتظرون المصعد.

" أشكركم، ولكن لا داعي لأن أزعجكم أكثر، تستطيع أن تدلني على الطابق ورقم الشقة، وتعطيني المفتاح وأنا سوف ..."

" لا يا أخت ريما .. لا إزعاج أبدا... نحن سنصعد معك لنعرّفك على شريكاتك في الشقة ، وهنّ يعملن لدينا أيضا.. وسنتأكد بأنك لاتحتاجين أي شيء، ثم نغادركن إلى الصباح"

كانت الشقة في الطابق الثالث عشر. وكان في الطابق ثلاث شقق غيرها. دق نذير جرس الباب، ففتحت لهم فتاة جميلة، تبدو في منتصف العشرينات. كانت تلبس ثوبا قصيرا وضيقا.

" أهلا أهلا ... أهلا بالريما الحلوة ... تفضلوا .."

كانت الفتاة تُدعى ميساء،وقد تزيّنت كأنها في حفل ساهر، لكن الشقة كانت هادئة ومرتبة، ولم يدل شيء على أن فيها أي زوّار. جالت ريما بنظرها فوجدت أنها في صالون مؤثث بشكل جيد لكن بسيط، وعلى يسارها كان المطبخ، وفي الردهة الممتدة أمامها رأت أربعة أبواب.

وقفت ريما تنتظر، فيما دخل الرجلان إلى المطبخ خلف ميساء وكأنهما يعرفان الشقة جيدا،

" أين رنا؟" سمعت نذير يسأل.. " نريدها أن تتعرف على ريما "
" أنسيت؟.."

وعندما عادت إليها طلبت ريما أن تعرف أين غرفتها لتوضب فيها أغراضها، فأدخلتها ميساء إلى غرفة فيها سرير منفرد وخزانة بسيطة ، ويغطي أرضها بساط خفيف.

"سأحضر لكِ كأسا من العصير"

شكرتها ريما ، وبدأت بتفريغ ملابسها من الحقيبة. وعندما عادت إليها ميساء كانت تحس بالعطش فعلا، فتجرعت العصير بسرعة وميساء تراقبها. وما أن مضى ربع ساعة حتى أحست بنعاس ٍ شديد. فنامت ...

أيقظها نورٌ باهر مسلـّط على عينيها، وكان هناك صوتٌ عال وغريب يناديها. أشاحت بوجهها عن الضوء فانطفأ، ثم حاولت أن تتحرك لتجد أن يديها محشورتان تحتها ولا تستطيع تفريقهما. أضاء صاحب الصوت ضوءا خافتا بجوار السرير، ففتحت عينيها لتجد وجها قريبا جدا من وجهها ، لم تره من قبل. كان رجلا أسمر وله شاربان أسودان وشعره خشن، تفوح منه رائحة التبغ وشيءٌ آخر مغث . وهي تنظر إليه رأت صدرها عارٍ تماما من أي غطاء، وأيقنت أنها كلها عارية أمام أعينه. فتحت فمها لتصرخ، لكن الرجل الغريب غطاه بيده.

"ش ش ش ... بهدوء يا حلوة، بهدوء ... أنا لا أحب الإزعاج. وحتى لو صرخت، النوافذ عالية جدا والحيطان كاتمة للصوت، فلن يسمعك أحد" كان يتكلم وهو يمرر يده الثانية على جسدها الأبيض ... كان مستلقياٍ بجاورها على السرير .

أخذ جسمها يرتجف بقوّة عندما أيقنت ماذا يحدث، كانت تشعر بالألم في جسمها كله، وشعرت بالألم في جوفها ... لم تستطع أن تحدد مكان الأم لأنها لم تشعر بمثله من قبل. لكن خوفها من القادم أجبرها على تجاهل الألم.. ذُعِرت وتقطعت أنفاسها تحت ضغط يده ، فأرخى قبضته على فمها وصار يمسح بها صدرها

" لا تخافي يا حلوة ... أنا إسمي صقر " بدأت تئن تحت لمسته بصوتٍ لم تسمعه هي .

" أسسستتـُرررنيييييي ، أرجوووووووووك " كان صوتها يرتجف كما كان جسدها.

سمِعَت ضحكات ٍ تأتي من ظلام الغرفة، فجالت بعينيها حول السرير لترى أن نذير والسائق يقفان عند حافة السرير من الناحية الأخرى. وخلفهم كان هناك شيئ يقف على عامودٍ أسود، لم تعرف ما هو ... لم تستطع أن ترى وجوههم بشكل واضح ، لكنها عرفت أن أحدهما كان بلا قميص.

" أستـُروني ، أرجوكم .... أرجوكم " تدحرجت ريما على جنبها وتقوقعت على نفسها، وحاولت أن تضم ساقيها إلى صدرها علّها تستر شيئا من عريّها... أغمضت عينيها وحاولت أن تطمر وجهها في الوسادة، لتختبىء من عريّها أمام أعينهم النهمة، كأنها إن لم تر نفسها فلن يروها هم...

أحست بصقر يتحرك من جنبها ... فعادت بنظرها إليه فوجدته يقف إلى جانب السرير، ولاحظت كم هو ضخم الجثة واقفا .. وفي تلك اللحظة دخلت ميساء إلى الغرفة، وكانت تحمل شيئا في يدها ناولته إلى نذير. " ها هو .. أبقه معك ... ليتك أضأت الأنوار الجانبية، لكانت الصورة أوضح"

في تلك اللحظات وقف صقر بجانب السرير يفك أزراره ، " هيا! إرحلوا واتركوني مع ريمتي الجميلة"

لم تعرف ريما معنى الذي يجري ، لكنها رأتهم يخرجون وكلّ يرمقها بنظرات وابتسامات لم تفهمها ... وبقيت في الغرفة مع صقر ..

" والآن يا حلوة .." قال وهو يتعرى من ملابسه ببطءٍ شديد " أنا لا أحب الجميلات نائمات ، أحب أن أنظر في عيونهن الجميلة... وحتى لاتفوتك المتعة أيضا كان يجب أن أيقظك .. لكن يجب أن تفهمي أنك ستحظين بميزة بين البنات الأخريات، فأنا لا أفعل هذا عادةً. أنت أجمل منهن جميعا ... ومن يوم أن رأيتك في فيلم الفيديو في الصالون عرفت أنك ستكونين هنا معي، وأنك ستكونين من بين المميزات. والآن لا تكوني طفلة واجلبي لي ولك السعادة".

مدّ نفسه ملتصقا بجسدها المرتعش، وفردها إلى أن استلقى بثقله فوقها، أصمتَ صيحاتِها بيدٍ واحدة ..
كان ثقيلا لدرجة أنها لم تستطع التنفس تحته، كما أن ضغط وزنيهما معا على أذرعها المقيدة تحتها جعلها تفقد الإحساس فيهما.

أحست بذلك الألم الحارق في جوفها يشتد ويشتد ... أرادت أن تصرخ لكنها لم تستطع أن تتنفس ... فانهمرت دموع غزيرة صامتة من عينيها..

كان وجهه قريبا من وجهها، وكان يحدق في عينيها الباكيتين كالغول الأسود... و شفتاه تتحركان حركة مقززة وأسنانه الصفراء تصطك في متعة مراقبةِ الرعب في نظراتها له ... كلما اشتد ألمها وأطبقت جفونها من الحرقة فتحتهما لتراه يبتسم كشيطان ٍ يتلذذ.

كانتا دقيقتين بمرارة الدهر كلـّه ... عندما أزاح يده عن فمها لم تستطع أن تشهق لتصرخ ... ثم أحست بالسواد يغلف الدنيا.

** ** ** ** **

أفاقت ريما في غرفتها على ضوء النهار يطل عليها من النافذة ... لثوانٍ عابرة لم تذكر أين هي. ثم تذكرت ما جرى في تلك الليلة ودفنت وجهها في الوسادة. لعله حلمٌ بغيض يذهب إلى غير رجعة. لكن الإحساس بالألم في جوفها وفي ذراعيها داهم صحوتها جالبا معه إحساسا عميقا بالغثيان. فتقوقعت على نفسها تحت الغطاء.

" لماذا يا ربي ....؟ ماذا فعلت لأستحق أن يجري لي هذا ؟ لماذا فعلوا بي هكذا؟ أنا لم أعرفهم من قبل ... فلماذا يجرمون بي هكذا؟"

سمعَت صوت جلبة تدور خلف بابها، فتحركت بسرعة وجلست في السرير وهي تسحب الغطاء على جسمها. دار مفتاحٌ في قفل الباب ودخلت ميساء حاملة ً صينية فيها شيئٌ ضئيلٌ من الطعام.

" صباح الخير، يا رُمرُم ... اسمك جميلٌ جدا، هل قلت لك ذلك سابقا ؟" وجلست على حافة السرير.

" من أنتم ؟ وماذا تريدون مني"

" لاشيء يا عزيزتي، بل أنتِ من تريدُ منا ... البارحة كانت أصعب أيامك هنا، لكن لا تخافي، فالأيام الآتية ستعوضك هذ اليوم. لكن يجب أن تكوني متعاونة ، حتى لا تقسي على نفسك"

" ماذا تقصدين، وما الذي أريده منكم؟ "

" يا عزيزتي ليلة الأمس كانت ليلة ساخنة جدا للشباب، وقد تم تسجيلها بالكامل على شريط فيديو، وهو الآن بحوزة نذير... وإن لم تتعاوني معنا وتلبي كل مطالبنا فالشريط سيصل ليد والدتك ، ويتفرج عليه كل أخوتك وأهلك"

كادت عينا ريما تنفران من وجهها جحوظا وهي تستمع إلى حديث ميساء.
" لا تخافي، كل ما عليك هو أن تضعي رضا الزبائن نصب عينيكِ، لأنهم هم من سيفرشون حياتكِ بالنعيم، ويلبسونك الحرير والجواهر ... وعندها ستستطيعين أن تبعثي المال الوفير لأهلك، وسيودعوا الفقر والجوع إلى الأبد..." قالت وهي تداعب خصلاتٍ من شعر ريما " فمن هي بجمالك يا عزيزتي، وبمثل هذا القد الرشيق لا تجوع أبدا"

تركتها ميساء بعد أن أغلقت الباب بالمفتاح ، وبقيت ريما وحدها تفكر فيما يجري لها...

هل يعقل أن يحتوي العالم كل هذا الشر؟ أليسوا هؤلاء بشرٌ مخلوقين من ذات طينة الخليقة كلها؟ أليس لهؤلاء أخوات وأمهات يشفقون عليهن؟ أم أنهم خُلقوا من نار كالشياطين؟ البارحة نامت وأحلام البداية الجديدة تراود منامها، وبين الغفوة والغفوة عاشت سوادا لم تعلم بوجوده في هذا العالم، ليطل عليها نهارٌ أشد سوادا وظلمة.

علمت ريما في الأيام التالية معنى الجحيم على الأرض، فكل يوم كان يأتيها صقر وينهش جسدها نهشا، وكلما كانت تحاول مقاومته كان يكيل لها الصفعات والضرب على وجهها حتى أصبح ملونا ً. كان يستطيع أن يغلبها بثقل جسمه فقط، فما أن يلقي بوزنه عليها حتى ينحبس الهواء في صدرها ويكتم نفسها. وضآلة الطعام المقدم لها جعلتها ضعيفة جدا.

وبعد عشرة أيام، دخل عليها صقر، وكل ما استطاعت فعله هو أن تشيح بوجهها عنه.

** ** ** ** ** ** **

يأس الغزلان

بعد شهرين من الحبس في القفص الكبير شـُفيت ساق غزالتنا تماما، واستطاعت أن تسير على أربع، فصارت تدور حول الشجرة ، وتسرع في دورانها.
التفت إليها الخادم ووقف لحظات يراقبها. كان يحاول أن يفهم سبب دورانها، وما أن فهم حتى ضحك عاليا ورحل.

أوقفت غزالة دورانها في القفص وهي تشعر بألم ٍ شديد في أرجلها الأربع، خارت قواها فجأة وارتمت على الأرض.
" يا إلهي!! .. لم تعد سيقاني قادرة على الركض .. فقدت قدرتي على الركض !!"

تعاظمت شفقتها على نفسها ، وبكت المسكينة بحرقة وألم، ولم يشعر بها سوى الطيور الواقفة على الشجرة تراقبها بحزن عميق.

لأيام بقيت غزالة راكدةً تعاني من آلامٍ في جسمها، لم ترغب في المأكل. نحُلَ جسمها لدرجة أن الخادم لاحظ ذلك، واقترب محاولا إطعامها بيديه، وكانت تشيح بوجهها عنه. فجلس بقربها يمسّد جسدها الناعم وهي مغمضة عينيها من الحزن.

في اليوم التالي حلُمت غزالة بأنها لو أطالت قفزتها قليلا ذلك اليوم لما كانت سجينة اليوم... تذكرت في حلمها كم كان جميلا القفز فوق ذلك المرتفع ... تحملها النسمات الدافئة إلى الأعلى، وتلمع الشمس على جلدها الأحمر المرقـّّط الجميل. استيقظت غزالة من حلمها وفي قلبها شوق كبير لأن تقفز ... ولو لمرةٍ واحدة فقط.

فقامت ببطءٍ وسارت إلى زاوية الماء ،و حفرت لأقدامها مكانا في الأرض بين الأعشاب ونظرت أمامها ... وقفزت ..

سمع الخادم صرختها من بعيد، وجاء يركض إليها، فتح القفص ليرى أنها ارتطمت بالشِباك المعدنية وانغرس بعض أطراف السياج في صدر الغزالة المسكينة.

" ما الذي تفعلينه يا صغيرة؟ ستقتلين نفسك بهذا الشكل؟ "

خرج من القفص مسرعا ثم عاد وبيده بعض الضماد والقماش. أخذ يمسح بهما صدرها الجريح ... وبعد حين تركها وجراحها.

" يا إلهي ! ... ألن أقفز ثانيةً أبدا؟ ألن أعانق الشمس مرة أخرى في حياتي ؟ "

بكت غزالة دموعا لم يرها الخادم ولا غيره، فقد بكت بروحها بكاء لم يصل إلى عينيها. أبقت عينيها مفتوحتين وهي ملقاة على الأرض، تأملت الشجرة.

" أحسدكِ أيتها الشجرة، فأنتِ لم تقفزي مرة في وجه الشمس ، ولهذا يحلو لك القفصُ ذو السياج... لم تسابقي الفـَراش إلى النهر يوما، فاستـَطبْتِ سجنا بنافورة... تورقُ أغصانـُك من مائها .."

صمتت غزالة لحظة ً تأملت فيها فروع الشجرة...

مشت إليها مشية ً أليمة، واستدارت حولها مرة، لم تكن قد لاحظت من قبل أن أحد الفروع منخفض.

نظرت إلى الفرع ، ثم مدت عنقها الطويل إلى الجرح في صدرها ولعقته ..

"لا بأس ... إذن ففيكِ الملاذ ُ يا رفيقة السجن ِ ، فلا تبخلي به عليّ ... هي قفزة ٌ واحدة .. وأخيرة "

ركـّزت غزالة نظرَها على الغصن، ورجعت إلى الوراء إلى أن لامست السياج ، وحفرت لأقدامها موقعا في الأرض. أغمضت عينيها وشهقت شهقة طويلة ... وقفزت...

جاء الخادم يركض مسرعا صوب القفص، لم يكن يعلم مصدر الصوت المريع، لكنه ذهِل ووقف مشدوها عندما علم...

" هذا هو الذي تريدون ... هو لكم إذن ... إعرضوه في المعارض أو زيّنوا به حائطا يليق بلوني الذي أعجبكم ...

أما أنا ... فسأقفز وأقفز ... فقد وُلِدتُ حرّة ً وسأبقى حُرّة . "

** ** ** ** **

العودة

" هل أنت متأكدٌ أنها جاهزة لهذا"

" نعم .. لقد أصبحت كالقطة الوديعة ... ما عليكِ إلا أن تعدّيها وتزينيها ، فالزبون ينتظر"

" أعدَدتـُها، وهي بالانتظار .. سأذهب وآتيك بها، لكني لا زلت أعتقد أن الوقت مبكرٌ عليها"

دخلت ميساء على ريما وهي تجلس على طرف السرير، كانت بكامل زينتها، وتلبس فستانا أحمرا قصيرا، وقد رفعت شعرها الأسود الكثيف. كان وجهها مغطىً بالمساحيق والألوان، لكن الحزن فيه لم يختبىء تحتها.

" هيا يا حلوة، الحظ ينتظرك الليلة ... تذكري ما قلته لك وستكونين على ما يرام ... جواهر وحرير، والبسمة على وجوه أخوتك"

تبعتها ريما إلى الخارج، ثم عطرتها ميساء بعطر ثقيل ، ولفتها بعباءة سوداء للطريق... خرجت بصحبة الرجلين وأحدهما يمسك بها من كوعها.

وصلوا إلى فيلا فارهة، كانت الأضواء في الخارج تضيء الطريق إلى البوابة عبر حديقة جميلة، وصوت خرير الماء يملؤ الجو.

فتح الباب لهم رجلٌ أشيب ، يبدو في منتصف الستينات. دخلت ريما ونذير ممسك بذراعها، في حين بقي السائق في السيارة.

" أهلا ومرحبا " قال الشيخ وهو يتفحص ريما، ثم مد يده وأزال نصف العباءة عن جسدها

" أهلا بك يا سيدي، أقدم لك ريما .. أرقّ ريما لدينا، وسأكون في الخارج بالانتظار "

خرج نذير بعد أن ناوله الشيخ ظرفا مغلقا. أمسك الشيخ بذراع ريما واقتادها إلى طابقٍ علويّ. دخلا معا إلى غرفة يفوح منها عبق البخور الكثيف، وفيها سرير كبير وواسع، لم تر في حياتها بضخامته.

بدأ الشيخ يداعبها ويتحسس بدنها، وهي تشعر بالغثيان والمقت. لم تقو على دفعه عنها...

" سيدي، هل أستطيع أن أطلب منك طلبا "

" أنت تأمرين يا حلوة، لكن دعي عنكِ الألقاب، فنحن الأن أحبة، وقد نلتقي مرارا أنا وإياكِ... ثم لا تخشي شيئا، إن أعجبتِني سوف أكرمك كثيرا جدا .." ودفن وجهه في كتفها.

" أريد بعد إذنك أن أستحم ... لأني لم تتسنَّ لي الفرصة لأستحم من آخر زبون ..."

"مااااذا ..؟" رفع رأسه وهو غاضب " كيف يكون هذا؟ نحن لم نتفق على هذا أبدا ؟ سأذهب وأتكلم مع نذير .."

همّ بالخروج فأمسكته ريما وتعلقت بثيابه: " لا أرجوووك" حاولت أن تجعل صوتها مغناجا لتخفي خوفها

" إن فعلتَ فستضيع علينا ليلة رائعة" ومالت عليه إلى أن انكشف له جزء من صدرها. " أرجوك، كل المسألة أن أغيب عنك عشر دقائق في الحمام، وأصبح كلّي لك"

سال لعاب الشيخ وهو يستمع إلى صوتها الرقيق دون أن يرفع نظره عن صدرها.

"حسن، من هنا ... لكن لا تطيلي عني الغياب"

أغلقت ريما على نفسها باب الحمام، وهبطت إلى الأرض. لم تكن تعلم ماذا ستفعل ... أو كيف ستستغل هذه الفسحة من الحرية.

سمعت صوت موسيقى يأتي من غرفة النوم، وجالت بنظرها في الحمام الفاخر. فتحت الماء ليجري ويسمع الشيخ صوته، عله يمهلها دقائق لتفكر. وقفت أمام المرآة وهالها ما رأت ... تكاد لا تعرف وجهها من تحت كل تلك الألوان والمساحيق.

"يا إلهي، أنا لم أولد أَمَة جسدي، ولم يولد جسدي عبدا لهؤلاء، فلماذا يكون هذا مصيري؟ ألهمني يا ربي ... ماذا أفعل؟"

بدأت تغسل المساحيق عن وجهها. الغرفة في السكن لم يكن فيها مرآة، وكذلك الحمام المرفق بها، لذلك لم تر صورتها بعد كل هذا التلوين، وكأن ميساء عمدت إلى طمس جمالها بكثرة التلوين بدلا من أن تجمّلها.

سالت المساحيق الملوّنة على الوجه الجميل الناظر إليها من المرآة. صوت الماء الجاري ورائحة الصابون المعطّر الفاخر هدآ أعصابها قليلا.

ارتكزت ريما على طرفيّ المغسلة بيديها ومرّت في المرآة أمامها صورٌ بتتابع لا يصدقه العقل.
كيف حدث كلّ هذا.. أي قدرٍ كان بانتظارها.

توقفت ريما للحظة أمام المرآة ...
لماذا لا توجد مرآة في غرفة السكن والحمام ؟

" رييييمااااا ... هل تحتاجين مساعدة؟"
سمعت صوت الشيخ في الخارج، وهرعت لتتأكد أن الباب مغلق بالمفتاح.
" لا شكرا، دقيقتين فقط وأكون معك"

عادت لتقف أمام المرآة .. أفكارها جعلتها تتنفس بعمق وبزفراتٍ طويلة. أمسكت ريما بالمنشفة، ولـفـّتها حول يدها لتكتم الصوت ، ثم ضربت بها المرآة ضربة واحدة.

" ربي أنت تعلم أني مؤمنة ٌ بك، وأعلم أنا أن حالي هذا لايرضيك، فأنت الرحمن الرحيم، وأنا وقعت فريسة من لارحمة في قلوبهم... إغفر لي يا ربي"

تناولت بيدها قطعة مدببة من الزجاج، وتحت صوت اندفاع الماء في الداخل وصوت الموسيقى الماجنة في الخارج، اختفى صوت شهقةٍ لريما.

فتح الشيخ الباب عنوةً بعد أن فرغ صبره، ليرى ريما تسبح في دمها وقطعة الزجاج بارزة من رقبتها.

" هو لك يا شايب، انهشه كما تشاء، أما أنا فقد ولِدتُ حرة وسأبقى حرة"

deer

بعد هذا الحديث، احتسيتا الشاي معا، ثم افترقتا على وعد بأن تجيبها ريما عند الصباح.

** ** ** ** **

الوصول

استفاقت ريما من سباتها على صوت إعلان وصول الطائرة إلى مقصدها، ونظرت من الشباك بجوارها لترى أن الأضواء في الأسفل كانت صغيرة ً جدا وكأن السماء قد قـُلِبت لتصبح في الأسفل وقد تزينت بنجوم ٍ بعيدةٍٍ ملونة.

في المطار أنهى المسافرون إجراءاتهم للمغادرة وتوجهوا إلى قاعة المستقبلين. كانت أم مازن أكدت لريما أن شريكها نذير سيكون بانتظارها، فبحثت بنظرها عمّن يرفع شارةً باسمها. وعندما رأته تسمّرت مكانها. فقد كان الرجل ضخما بشكل مخيف. كان عريضا عرض رجلين يقفان ملتصقين. وكان طوله يفوق طولها بحوالي عشرين سنتمترا. وكان وجهه أسمرا وأنفه كبيرا.

عرفها الرجل من نظرتها إلى الشارة، فمشى إليها وعيناه تجوبان جسدها بإمعان أخجلها إلى درجة الارتباك. وباقترابه منها رفع عينيه ببطء إلى أن التقتا بعينيها. " أهلا وسهلا بك يا ريما ... حمداً لله على سلامتكِ ... أنا نذير "

كان صوته أشبه بفحيح الأفعى، لم تسمع صوتا مثله من قبل. " أهلا وسهلا .. تشرفنا "

" تفضلي معي"

وسار بجوارها بعد أن رفع حقيبتها الوحيدة. " كيف كانت رحلتك؟ أعلمتني أم مازن أنك لم تسافري من قبل "

" صحيح ، لم أسافر من قبل... لكن الرحلة كانت لطيفة ، نمتُ معظم الوقت "

كان بين لحظة وأخرى يضع يده خلف ظهرها ليدلها على اتجاه المخرج، وكلما لامسها كانت تقشعر من داخلها، وتهرب من لمسته. وعند المخرج كانت تنتظرهما سيارةٌ سوداء فارهة، لم تر ريما مثلها من قبل، وكان يجلس فيها سائق.

للحظة عابرة ترددت ريما في دخول السيارة، واقشعر بدنها عندما شعرت بنظرات نذير إلى صدرها حين وقف على مقربة منها ممسكا باب السيارة بانتظار ركوبها، فأسرعت ودخلت لتهرب من نظراته فقط.

سارت بهم السيارة في المدينة، وبُهرت ريما بعلوّ المباني فيها، وحجم الأضواء الإعلانية الكبيرة في الأسواق.
" قالت لي خالتي أم مازن أنك ستخبرني عن عنوان السكن يا أخ نذير، فهل لك أن تكتبه لي على ورقة ، حتى أراسل أمي به ؟"

" آآآه طبعا طبعا ... يا أخت ريما .. عندما نصل سنتركك ترتاحين، ثم نعود إليك في الصباح ويكون لك كل ما تشائين"

لم تستطع ريما أن تر وجهه وهو يتحدث، لأنه كان يجلس أمامها بجانب السائق، لكنها شعرت بأن كلامه فيه شيءٌ مريب. قد تكون تعجلت في الطلبات قبل أن تعرف ظروف العمل المطلوب منها.

عندما أوقف السائق السيارة كانت قد توقفت في موقف تحت الأرض لعمارة عالية كالأبراج، وقف الثلاثة ينتظرون المصعد.

" أشكركم، ولكن لا داعي لأن أزعجكم أكثر، تستطيع أن تدلني على الطابق ورقم الشقة، وتعطيني المفتاح وأنا سوف ..."

" لا يا أخت ريما .. لا إزعاج أبدا... نحن سنصعد معك لنعرّفك على شريكاتك في الشقة ، وهنّ يعملن لدينا أيضا.. وسنتأكد بأنك لاتحتاجين أي شيء، ثم نغادركن إلى الصباح"

كانت الشقة في الطابق الثالث عشر. وكان في الطابق ثلاث شقق غيرها. دق نذير جرس الباب، ففتحت لهم فتاة جميلة، تبدو في منتصف العشرينات. كانت تلبس ثوبا قصيرا وضيقا.

" أهلا أهلا ... أهلا بالريما الحلوة ... تفضلوا .."

كانت الفتاة تُدعى ميساء،وقد تزيّنت كأنها في حفل ساهر، لكن الشقة كانت هادئة ومرتبة، ولم يدل شيء على أن فيها أي زوّار. جالت ريما بنظرها فوجدت أنها في صالون مؤثث بشكل جيد لكن بسيط، وعلى يسارها كان المطبخ، وفي الردهة الممتدة أمامها رأت أربعة أبواب.

وقفت ريما تنتظر، فيما دخل الرجلان إلى المطبخ خلف ميساء وكأنهما يعرفان الشقة جيدا،

" أين رنا؟" سمعت نذير يسأل.. " نريدها أن تتعرف على ريما "
" أنسيت؟.."

وعندما عادت إليها طلبت ريما أن تعرف أين غرفتها لتوضب فيها أغراضها، فأدخلتها ميساء إلى غرفة فيها سرير منفرد وخزانة بسيطة ، ويغطي أرضها بساط خفيف.

"سأحضر لكِ كأسا من العصير"

شكرتها ريما ، وبدأت بتفريغ ملابسها من الحقيبة. وعندما عادت إليها ميساء كانت تحس بالعطش فعلا، فتجرعت العصير بسرعة وميساء تراقبها. وما أن مضى ربع ساعة حتى أحست بنعاس ٍ شديد. فنامت ...

أيقظها نورٌ باهر مسلـّط على عينيها، وكان هناك صوتٌ عال وغريب يناديها. أشاحت بوجهها عن الضوء فانطفأ، ثم حاولت أن تتحرك لتجد أن يديها محشورتان تحتها ولا تستطيع تفريقهما. أضاء صاحب الصوت ضوءا خافتا بجوار السرير، ففتحت عينيها لتجد وجها قريبا جدا من وجهها ، لم تره من قبل. كان رجلا أسمر وله شاربان أسودان وشعره خشن، تفوح منه رائحة التبغ وشيءٌ آخر مغث . وهي تنظر إليه رأت صدرها عارٍ تماما من أي غطاء، وأيقنت أنها كلها عارية أمام أعينه. فتحت فمها لتصرخ، لكن الرجل الغريب غطاه بيده.

"ش ش ش ... بهدوء يا حلوة، بهدوء ... أنا لا أحب الإزعاج. وحتى لو صرخت، النوافذ عالية جدا والحيطان كاتمة للصوت، فلن يسمعك أحد" كان يتكلم وهو يمرر يده الثانية على جسدها الأبيض ... كان مستلقياٍ بجاورها على السرير .

أخذ جسمها يرتجف بقوّة عندما أيقنت ماذا يحدث، كانت تشعر بالألم في جسمها كله، وشعرت بالألم في جوفها ... لم تستطع أن تحدد مكان الأم لأنها لم تشعر بمثله من قبل. لكن خوفها من القادم أجبرها على تجاهل الألم.. ذُعِرت وتقطعت أنفاسها تحت ضغط يده ، فأرخى قبضته على فمها وصار يمسح بها صدرها

" لا تخافي يا حلوة ... أنا إسمي صقر " بدأت تئن تحت لمسته بصوتٍ لم تسمعه هي .

" أسسستتـُرررنيييييي ، أرجوووووووووك " كان صوتها يرتجف كما كان جسدها.

سمِعَت ضحكات ٍ تأتي من ظلام الغرفة، فجالت بعينيها حول السرير لترى أن نذير والسائق يقفان عند حافة السرير من الناحية الأخرى. وخلفهم كان هناك شيئ يقف على عامودٍ أسود، لم تعرف ما هو ... لم تستطع أن ترى وجوههم بشكل واضح ، لكنها عرفت أن أحدهما كان بلا قميص.

" أستـُروني ، أرجوكم .... أرجوكم " تدحرجت ريما على جنبها وتقوقعت على نفسها، وحاولت أن تضم ساقيها إلى صدرها علّها تستر شيئا من عريّها... أغمضت عينيها وحاولت أن تطمر وجهها في الوسادة، لتختبىء من عريّها أمام أعينهم النهمة، كأنها إن لم تر نفسها فلن يروها هم...

أحست بصقر يتحرك من جنبها ... فعادت بنظرها إليه فوجدته يقف إلى جانب السرير، ولاحظت كم هو ضخم الجثة واقفا .. وفي تلك اللحظة دخلت ميساء إلى الغرفة، وكانت تحمل شيئا في يدها ناولته إلى نذير. " ها هو .. أبقه معك ... ليتك أضأت الأنوار الجانبية، لكانت الصورة أوضح"

في تلك اللحظات وقف صقر بجانب السرير يفك أزراره ، " هيا! إرحلوا واتركوني مع ريمتي الجميلة"

لم تعرف ريما معنى الذي يجري ، لكنها رأتهم يخرجون وكلّ يرمقها بنظرات وابتسامات لم تفهمها ... وبقيت في الغرفة مع صقر ..

" والآن يا حلوة .." قال وهو يتعرى من ملابسه ببطءٍ شديد " أنا لا أحب الجميلات نائمات ، أحب أن أنظر في عيونهن الجميلة... وحتى لاتفوتك المتعة أيضا كان يجب أن أيقظك .. لكن يجب أن تفهمي أنك ستحظين بميزة بين البنات الأخريات، فأنا لا أفعل هذا عادةً. أنت أجمل منهن جميعا ... ومن يوم أن رأيتك في فيلم الفيديو في الصالون عرفت أنك ستكونين هنا معي، وأنك ستكونين من بين المميزات. والآن لا تكوني طفلة واجلبي لي ولك السعادة".

مدّ نفسه ملتصقا بجسدها المرتعش، وفردها إلى أن استلقى بثقله فوقها، أصمتَ صيحاتِها بيدٍ واحدة ..
كان ثقيلا لدرجة أنها لم تستطع التنفس تحته، كما أن ضغط وزنيهما معا على أذرعها المقيدة تحتها جعلها تفقد الإحساس فيهما.

أحست بذلك الألم الحارق في جوفها يشتد ويشتد ... أرادت أن تصرخ لكنها لم تستطع أن تتنفس ... فانهمرت دموع غزيرة صامتة من عينيها..

كان وجهه قريبا من وجهها، وكان يحدق في عينيها الباكيتين كالغول الأسود... و شفتاه تتحركان حركة مقززة وأسنانه الصفراء تصطك في متعة مراقبةِ الرعب في نظراتها له ... كلما اشتد ألمها وأطبقت جفونها من الحرقة فتحتهما لتراه يبتسم كشيطان ٍ يتلذذ.

كانتا دقيقتين بمرارة الدهر كلـّه ... عندما أزاح يده عن فمها لم تستطع أن تشهق لتصرخ ... ثم أحست بالسواد يغلف الدنيا.

** ** ** ** **

أفاقت ريما في غرفتها على ضوء النهار يطل عليها من النافذة ... لثوانٍ عابرة لم تذكر أين هي. ثم تذكرت ما جرى في تلك الليلة ودفنت وجهها في الوسادة. لعله حلمٌ بغيض يذهب إلى غير رجعة. لكن الإحساس بالألم في جوفها وفي ذراعيها داهم صحوتها جالبا معه إحساسا عميقا بالغثيان. فتقوقعت على نفسها تحت الغطاء.

" لماذا يا ربي ....؟ ماذا فعلت لأستحق أن يجري لي هذا ؟ لماذا فعلوا بي هكذا؟ أنا لم أعرفهم من قبل ... فلماذا يجرمون بي هكذا؟"

سمعَت صوت جلبة تدور خلف بابها، فتحركت بسرعة وجلست في السرير وهي تسحب الغطاء على جسمها. دار مفتاحٌ في قفل الباب ودخلت ميساء حاملة ً صينية فيها شيئٌ ضئيلٌ من الطعام.

" صباح الخير، يا رُمرُم ... اسمك جميلٌ جدا، هل قلت لك ذلك سابقا ؟" وجلست على حافة السرير.

" من أنتم ؟ وماذا تريدون مني"

" لاشيء يا عزيزتي، بل أنتِ من تريدُ منا ... البارحة كانت أصعب أيامك هنا، لكن لا تخافي، فالأيام الآتية ستعوضك هذ اليوم. لكن يجب أن تكوني متعاونة ، حتى لا تقسي على نفسك"

" ماذا تقصدين، وما الذي أريده منكم؟ "

" يا عزيزتي ليلة الأمس كانت ليلة ساخنة جدا للشباب، وقد تم تسجيلها بالكامل على شريط فيديو، وهو الآن بحوزة نذير... وإن لم تتعاوني معنا وتلبي كل مطالبنا فالشريط سيصل ليد والدتك ، ويتفرج عليه كل أخوتك وأهلك"

كادت عينا ريما تنفران من وجهها جحوظا وهي تستمع إلى حديث ميساء.
" لا تخافي، كل ما عليك هو أن تضعي رضا الزبائن نصب عينيكِ، لأنهم هم من سيفرشون حياتكِ بالنعيم، ويلبسونك الحرير والجواهر ... وعندها ستستطيعين أن تبعثي المال الوفير لأهلك، وسيودعوا الفقر والجوع إلى الأبد..." قالت وهي تداعب خصلاتٍ من شعر ريما " فمن هي بجمالك يا عزيزتي، وبمثل هذا القد الرشيق لا تجوع أبدا"

تركتها ميساء بعد أن أغلقت الباب بالمفتاح ، وبقيت ريما وحدها تفكر فيما يجري لها...

هل يعقل أن يحتوي العالم كل هذا الشر؟ أليسوا هؤلاء بشرٌ مخلوقين من ذات طينة الخليقة كلها؟ أليس لهؤلاء أخوات وأمهات يشفقون عليهن؟ أم أنهم خُلقوا من نار كالشياطين؟ البارحة نامت وأحلام البداية الجديدة تراود منامها، وبين الغفوة والغفوة عاشت سوادا لم تعلم بوجوده في هذا العالم، ليطل عليها نهارٌ أشد سوادا وظلمة.

علمت ريما في الأيام التالية معنى الجحيم على الأرض، فكل يوم كان يأتيها صقر وينهش جسدها نهشا، وكلما كانت تحاول مقاومته كان يكيل لها الصفعات والضرب على وجهها حتى أصبح ملونا ً. كان يستطيع أن يغلبها بثقل جسمه فقط، فما أن يلقي بوزنه عليها حتى ينحبس الهواء في صدرها ويكتم نفسها. وضآلة الطعام المقدم لها جعلتها ضعيفة جدا.

وبعد عشرة أيام، دخل عليها صقر، وكل ما استطاعت فعله هو أن تشيح بوجهها عنه.

** ** ** ** ** ** **

يأس الغزلان

بعد شهرين من الحبس في القفص الكبير شـُفيت ساق غزالتنا تماما، واستطاعت أن تسير على أربع، فصارت تدور حول الشجرة ، وتسرع في دورانها.
التفت إليها الخادم ووقف لحظات يراقبها. كان يحاول أن يفهم سبب دورانها، وما أن فهم حتى ضحك عاليا ورحل.

أوقفت غزالة دورانها في القفص وهي تشعر بألم ٍ شديد في أرجلها الأربع، خارت قواها فجأة وارتمت على الأرض.
" يا إلهي!! .. لم تعد سيقاني قادرة على الركض .. فقدت قدرتي على الركض !!"

تعاظمت شفقتها على نفسها ، وبكت المسكينة بحرقة وألم، ولم يشعر بها سوى الطيور الواقفة على الشجرة تراقبها بحزن عميق.

لأيام بقيت غزالة راكدةً تعاني من آلامٍ في جسمها، لم ترغب في المأكل. نحُلَ جسمها لدرجة أن الخادم لاحظ ذلك، واقترب محاولا إطعامها بيديه، وكانت تشيح بوجهها عنه. فجلس بقربها يمسّد جسدها الناعم وهي مغمضة عينيها من الحزن.

في اليوم التالي حلُمت غزالة بأنها لو أطالت قفزتها قليلا ذلك اليوم لما كانت سجينة اليوم... تذكرت في حلمها كم كان جميلا القفز فوق ذلك المرتفع ... تحملها النسمات الدافئة إلى الأعلى، وتلمع الشمس على جلدها الأحمر المرقـّّط الجميل. استيقظت غزالة من حلمها وفي قلبها شوق كبير لأن تقفز ... ولو لمرةٍ واحدة فقط.

فقامت ببطءٍ وسارت إلى زاوية الماء ،و حفرت لأقدامها مكانا في الأرض بين الأعشاب ونظرت أمامها ... وقفزت ..

سمع الخادم صرختها من بعيد، وجاء يركض إليها، فتح القفص ليرى أنها ارتطمت بالشِباك المعدنية وانغرس بعض أطراف السياج في صدر الغزالة المسكينة.

" ما الذي تفعلينه يا صغيرة؟ ستقتلين نفسك بهذا الشكل؟ "

خرج من القفص مسرعا ثم عاد وبيده بعض الضماد والقماش. أخذ يمسح بهما صدرها الجريح ... وبعد حين تركها وجراحها.

" يا إلهي ! ... ألن أقفز ثانيةً أبدا؟ ألن أعانق الشمس مرة أخرى في حياتي ؟ "

بكت غزالة دموعا لم يرها الخادم ولا غيره، فقد بكت بروحها بكاء لم يصل إلى عينيها. أبقت عينيها مفتوحتين وهي ملقاة على الأرض، تأملت الشجرة.

" أحسدكِ أيتها الشجرة، فأنتِ لم تقفزي مرة في وجه الشمس ، ولهذا يحلو لك القفصُ ذو السياج... لم تسابقي الفـَراش إلى النهر يوما، فاستـَطبْتِ سجنا بنافورة... تورقُ أغصانـُك من مائها .."

صمتت غزالة لحظة ً تأملت فيها فروع الشجرة...

مشت إليها مشية ً أليمة، واستدارت حولها مرة، لم تكن قد لاحظت من قبل أن أحد الفروع منخفض.

نظرت إلى الفرع ، ثم مدت عنقها الطويل إلى الجرح في صدرها ولعقته ..

"لا بأس ... إذن ففيكِ الملاذ ُ يا رفيقة السجن ِ ، فلا تبخلي به عليّ ... هي قفزة ٌ واحدة .. وأخيرة "

ركـّزت غزالة نظرَها على الغصن، ورجعت إلى الوراء إلى أن لامست السياج ، وحفرت لأقدامها موقعا في الأرض. أغمضت عينيها وشهقت شهقة طويلة ... وقفزت...

جاء الخادم يركض مسرعا صوب القفص، لم يكن يعلم مصدر الصوت المريع، لكنه ذهِل ووقف مشدوها عندما علم...

" هذا هو الذي تريدون ... هو لكم إذن ... إعرضوه في المعارض أو زيّنوا به حائطا يليق بلوني الذي أعجبكم ...

أما أنا ... فسأقفز وأقفز ... فقد وُلِدتُ حرّة ً وسأبقى حُرّة . "

** ** ** ** **

العودة

" هل أنت متأكدٌ أنها جاهزة لهذا"

" نعم .. لقد أصبحت كالقطة الوديعة ... ما عليكِ إلا أن تعدّيها وتزينيها ، فالزبون ينتظر"

" أعدَدتـُها، وهي بالانتظار .. سأذهب وآتيك بها، لكني لا زلت أعتقد أن الوقت مبكرٌ عليها"

دخلت ميساء على ريما وهي تجلس على طرف السرير، كانت بكامل زينتها، وتلبس فستانا أحمرا قصيرا، وقد رفعت شعرها الأسود الكثيف. كان وجهها مغطىً بالمساحيق والألوان، لكن الحزن فيه لم يختبىء تحتها.

" هيا يا حلوة، الحظ ينتظرك الليلة ... تذكري ما قلته لك وستكونين على ما يرام ... جواهر وحرير، والبسمة على وجوه أخوتك"

تبعتها ريما إلى الخارج، ثم عطرتها ميساء بعطر ثقيل ، ولفتها بعباءة سوداء للطريق... خرجت بصحبة الرجلين وأحدهما يمسك بها من كوعها.

وصلوا إلى فيلا فارهة، كانت الأضواء في الخارج تضيء الطريق إلى البوابة عبر حديقة جميلة، وصوت خرير الماء يملؤ الجو.

فتح الباب لهم رجلٌ أشيب ، يبدو في منتصف الستينات. دخلت ريما ونذير ممسك بذراعها، في حين بقي السائق في السيارة.

" أهلا ومرحبا " قال الشيخ وهو يتفحص ريما، ثم مد يده وأزال نصف العباءة عن جسدها

" أهلا بك يا سيدي، أقدم لك ريما .. أرقّ ريما لدينا، وسأكون في الخارج بالانتظار "

خرج نذير بعد أن ناوله الشيخ ظرفا مغلقا. أمسك الشيخ بذراع ريما واقتادها إلى طابقٍ علويّ. دخلا معا إلى غرفة يفوح منها عبق البخور الكثيف، وفيها سرير كبير وواسع، لم تر في حياتها بضخامته.

بدأ الشيخ يداعبها ويتحسس بدنها، وهي تشعر بالغثيان والمقت. لم تقو على دفعه عنها...

" سيدي، هل أستطيع أن أطلب منك طلبا "

" أنت تأمرين يا حلوة، لكن دعي عنكِ الألقاب، فنحن الأن أحبة، وقد نلتقي مرارا أنا وإياكِ... ثم لا تخشي شيئا، إن أعجبتِني سوف أكرمك كثيرا جدا .." ودفن وجهه في كتفها.

" أريد بعد إذنك أن أستحم ... لأني لم تتسنَّ لي الفرصة لأستحم من آخر زبون ..."

"مااااذا ..؟" رفع رأسه وهو غاضب " كيف يكون هذا؟ نحن لم نتفق على هذا أبدا ؟ سأذهب وأتكلم مع نذير .."

همّ بالخروج فأمسكته ريما وتعلقت بثيابه: " لا أرجوووك" حاولت أن تجعل صوتها مغناجا لتخفي خوفها

" إن فعلتَ فستضيع علينا ليلة رائعة" ومالت عليه إلى أن انكشف له جزء من صدرها. " أرجوك، كل المسألة أن أغيب عنك عشر دقائق في الحمام، وأصبح كلّي لك"

سال لعاب الشيخ وهو يستمع إلى صوتها الرقيق دون أن يرفع نظره عن صدرها.

"حسن، من هنا ... لكن لا تطيلي عني الغياب"

أغلقت ريما على نفسها باب الحمام، وهبطت إلى الأرض. لم تكن تعلم ماذا ستفعل ... أو كيف ستستغل هذه الفسحة من الحرية.

سمعت صوت موسيقى يأتي من غرفة النوم، وجالت بنظرها في الحمام الفاخر. فتحت الماء ليجري ويسمع الشيخ صوته، عله يمهلها دقائق لتفكر. وقفت أمام المرآة وهالها ما رأت ... تكاد لا تعرف وجهها من تحت كل تلك الألوان والمساحيق.

"يا إلهي، أنا لم أولد أَمَة جسدي، ولم يولد جسدي عبدا لهؤلاء، فلماذا يكون هذا مصيري؟ ألهمني يا ربي ... ماذا أفعل؟"

بدأت تغسل المساحيق عن وجهها. الغرفة في السكن لم يكن فيها مرآة، وكذلك الحمام المرفق بها، لذلك لم تر صورتها بعد كل هذا التلوين، وكأن ميساء عمدت إلى طمس جمالها بكثرة التلوين بدلا من أن تجمّلها.

سالت المساحيق الملوّنة على الوجه الجميل الناظر إليها من المرآة. صوت الماء الجاري ورائحة الصابون المعطّر الفاخر هدآ أعصابها قليلا.

ارتكزت ريما على طرفيّ المغسلة بيديها ومرّت في المرآة أمامها صورٌ بتتابع لا يصدقه العقل.
كيف حدث كلّ هذا.. أي قدرٍ كان بانتظارها.

توقفت ريما للحظة أمام المرآة ...
لماذا لا توجد مرآة في غرفة السكن والحمام ؟

" رييييمااااا ... هل تحتاجين مساعدة؟"
سمعت صوت الشيخ في الخارج، وهرعت لتتأكد أن الباب مغلق بالمفتاح.
" لا شكرا، دقيقتين فقط وأكون معك"

عادت لتقف أمام المرآة .. أفكارها جعلتها تتنفس بعمق وبزفراتٍ طويلة. أمسكت ريما بالمنشفة، ولـفـّتها حول يدها لتكتم الصوت ، ثم ضربت بها المرآة ضربة واحدة.

" ربي أنت تعلم أني مؤمنة ٌ بك، وأعلم أنا أن حالي هذا لايرضيك، فأنت الرحمن الرحيم، وأنا وقعت فريسة من لارحمة في قلوبهم... إغفر لي يا ربي"

تناولت بيدها قطعة مدببة من الزجاج، وتحت صوت اندفاع الماء في الداخل وصوت الموسيقى الماجنة في الخارج، اختفى صوت شهقةٍ لريما.

فتح الشيخ الباب عنوةً بعد أن فرغ صبره، ليرى ريما تسبح في دمها وقطعة الزجاج بارزة من رقبتها.

" هو لك يا شايب، انهشه كما تشاء، أما أنا فقد ولِدتُ حرة وسأبقى حرة"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى