الأحد ١ شباط (فبراير) ٢٠٠٤
بقلم نضال نجار

قراءة في المجموعة الشعرية الأخيرة ( انتفاضيات ) للشاعر أيمن اللبدي

يُحيلناعنوان مجموعة الشاعر أيمن اللبدي " انتفاضيات" إلى عنوانٍ أكبر لمسرحٍ أكثرَ واقعيةً، حيث أحداث المعركة الحقيقية والتي أبطالها كلٌّ من الجلاد والطاغية والكاذب والجزار والفرعون وو.. بينما ضحيتها الشعب.. لابد أن أشيرَ إلى أن المجموعة تتألف من 45 قصيدة كُتِبَتْ بين الأعوام 2000 ــ 2003 ، وأنها المجموعة الثالثة بعد "من وصايا النزف" عام1981 ، و" هوامش على تغريبة القمر العائد" عام"1996"

حين نقرأ عناوين القصائد في هذه المجموعة نكتشف أن ثمة تداخلٍ بين الشعر والمسرح والموسيقى، فهناك قصيدة (إنهم يقتلون الأطفال ) بمشاهدها الستة ، فلاشات على الماضي الحاضر، سيفٌ على قامات فاتحة النهار، سوناتا مجد الزيتون، أغنية صامد وغيرها من القصائد التي تشيرُ بوضوحٍ إلى هذا التداخل...
" انتفاضيات" تقتادُ المتلقي لينطلقَ من القهر والضيق والحصار والموت إلى الحياة والمقاومة والصمود لكنها لا تتوانى عن الزجِّ به ـ بعد القراءة ـ في فضاء الفاجعة العربية والفلسطينية على وجه الخصوص؛

".. لا إطار
لا إطار
صورةٌ في الجدار
تحتفي بالدوار
واحتضار الضمير المستتر
لا اشتقاق..."

من ــ إنه الهولوكست ــ

".. كسرى مات
وقيصر ورثَ الأرض
وعدنان وقحطان أسيرة
ومحمد غائب
أما جلجامش فمحاصَر..." .. من ــ فلاشات على الماضي الحاضر ــ

ذلك الفضاء (الزاوية الحادة ) التي لن ينفرجَ ضلعاها إلا بالانتفاضة تلو الانتفاضة، انتفاضة الشعوب العربيةضد الذل والقهر والعبودية والاستسلام لمؤامرات الخيانة العربية قبل الإسراميريكية.. انتفاضة الشعوب ضدالموت ، ضد خارطة اللاطريق واللاغد واللاحياة..
هذه المجموعة مقسَّمة إلى جزأيْن وقد تقدَّمهما إهداء الشاعر اللبدي إلى فلسطين الحبيبة ؛".. إلى شجرها ، بحرها، غيمها، فينيقها، قلائدها، شهدائها وجرحاها وأسراها وابنتها شريكة حياته.."
قصائد هذه المجموعة يُمكنُ تقسيمها إلى الزمني والمكاني والسيكولوجي الذاتي؛ ففي الزمني كانت القصائد ( أغنية صامد، كل مرحلةٍ نكون، فلاشات ، بكائيات ، سيفٌ على ثلة قامات الموت يعود،..إلخ)
وفي المكاني كانت ( حسناً ستبقين هنا، سقط الكلام، جنين غراد، لا تغلق الباب خلفك... إلخ)..
وفي السيكولوجي كانت ( مثلكم ، إنه الهولوكوست، هذا دمي، ساميات، قصائد وبعد...إلخ).. وهذا بمجمله يدلُّ على رؤيةٍ فلسفيةٍ أو بُعدٍ فكريٍّ تجلّى بمواقف الشاعر الفكرية والإنسانية والواقعية اتجاه كل ما يحصل في الواقع العربي ..
وبدا ذلك واضحاً في الإهداء ، فكان إلى فلسطين وأبنائها العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، وفي قصيدة أخرى مهداة إلى راشيل عنوانها (حسناً ستبقين هنا)

".. يا سلة الفل النديِّ على الدخول
وغيمة الشهد العظيم
ورنة الروح البهية
هاك قد سقط المسيح
وفي يديكِ اليوم قام..."
وفي قصيدة (هذا دمي) والتي تعبر عن تشظي الإنسان " أسير الجلجلة" و"رهينة على وجع الطريق"..فكأن الشاعر يحصر الوجود في الراهن ، فالأمس ليس سوى الموت والصراخ والعويل؛
يقول في قصيدة " كل مرحلةٍ نكون"

... ليس ينفعنا الصراخ ولا العويل
ليس ينفعنا اشتقاق المستحيل
كل عاصمةٍ تجدد مكرها
كل عاصمةٍ تمثِّلُ دورها
وبكل عاصمةٍ ندور
وينحني الجسد النحيل
لكن لا...
لن نموت ولن نساوم..

وهاهو يكشف كذبة الحضارة القادمة من الغرب ، يكشف زيف الشعارات المرفوعة في كل مكان وزمان ومجالسَ ومؤتمرات...

يقول في قصيدة " قصائد وبعد"؛

... إلى متى؟..
يالوثة الحضارة
يا وصمة الخطايا
يا حومة السقوط والجنون
ويا حفلة المجون ـ إلى متى؟!..
يا خيبة الإرادة
يا سوءة المرايا
يا كذبة الإنسان والحياة
يا خدعة الطهارة
يا أيها العدم
إلامَ تنظرون؟!..
هذا الإحساس بالعدم لابد وأن يكون مقابله وجود يقوم على كمال الرؤية وصفاء العبارة وقد تجلّى بقصيدته تلك،هذا الإحساس عبَّر عنه الشاعر اللبدي برفض الأمس الذي حملَ الموت والضياع والعبث ..

".. قاتلْ باسم الزيتون
واصنع لحنكَ
وانقش في الشارع لحمكَ
لكن إياكَ أن تنظر خلفكَ" من ـ سوناتا مجد الزيتون ـ

أما قصيدة " مثلكم" فهي تفتح الباب على قضية أكبر وأخطر وهي التفاوت الهائل بين دول الشمال والجنوب؛

".. مثلكم نشتهي
أن يعود إلينا دمنا
كي نمارسَ طقوس الحضارة
مثلكم تفتننا تضاريس الأرض
مثلكم أيها الماشون
في باريس وبرلين وروما..."
من الواضح أن الخطاب للدول الغربية صانعة ورائدة الحضارة كما يُقال حالياً ، وهو لا يخلو من السخريةاللاذعة ( أيها الماشون) تُرى لو انقلبت الأدوار وتبادلت الشعوب العربية والغربية الأمكنة ،هل ستكون المعادلة ذاتها؟!.. حتماً لا.. فكل شيءٍ يتغير وفقاً للبيئة والظروف والضغوطات والمؤامرات ووو..

ونرى الشاعر وقد أخضع العديد من قصائده لتشكيلاتٍ حيوية من صنع الزمان والمكان والأسطورة والخرافة أحياناً ليستنهضَ العالم وليس لتجميده

" ... فلنرسم الزمن الذي لن يختفي
ولينهضِ الفينيقُ
من تحت الدمار..." من ــ لن تسقطوا الحجرــ

".. مريم الميلاد يا أنتِ تجلَّت منذ حين
فارتدي شالاتها
وافرح كبيراً أيها الشفق الحزين..." من ــ أنك الأنثى الوحيدة ــ

أما عن لحظة التكثيف الشعوري، فنراها واضحةً في غالبية القصائد ؛

".. سقط الكلام
فاحملوا أبياتكم عنا بعيداً
فانثروا ما قد تبقَّى من حروفٍ في الفضاء
وانقلوا راياتكم
لم تعد فينا قلوبٌ تحسنُ الإصغاء.." من ــ سقط الكلام ــ

هذه اللحظة استمدت مقوماتها من التجربة، من التمسك بالقناعات ورفض استغلال الجانب العاطفي الذي يكبح انطلاقة الإنسان ويقيد نهوضه من الدمار والموت والاحتلال..فالرؤية الشعورية بدأت بالسقوط ــ سقط الكلام ـ حين اختفت الدلالات السردية وراء فعل " احملوا،انثروا، انقلوا.." وبهذا فقد اختصر اللبدي المسافات الزمنية والمكانية والتجارب الطويلة والأحداث فكثَّفها في فعل " سقط" ومن ثم كانت نبرته الحادة الموجهة كالأمر " احملوا" وكأنها قرار عقوبة أو طرد بالمعنى الواسع للكلمة وما تحمله من مخاوف على مستقبل أرضٍ وشعبٍ و أجيال بأكملها..

وقد عبر عن هذه المخاوف برؤية ساخرةٍ رافضاً كل القرارات السياسية الهزيلة التي خلُصَتْ إليها السلطة فأعلنتها مراراً وتكراراً ثم عادت لتنقضها من بعد عهد ، وما تزال تعلنها ذاتها لكن بأشكالٍ وأشكال لخداع الشعب بغية إبعاده عن القرار والمصير، لقد شبَّه تلك القرارات بقصائد الغزل أو العشق والتي تقدمها السلطة للحالمين، ثم يؤكد موقفه الرافض لتلك السيمفونية ـ المأساة فيقول؛

"لم يعد فينا قلوبٌ تحسنُ الإصغاء"
ومن المُلاحَظ أن هيكلية قصائده بُنيَت على الذهني وهو المحرك الأساس الحيوي ما قدم عنصر الحركة بأسلوبٍ فكري جمالي بحت..
والتشكيلُ في قصائده قام أيضاً على الموقف الدرامي ولهذا فإننا نجدُهُ وقد توأمَ الماضي والحاضر في ولادةٍ جديدة مختصراً كل الأزمنة ما يعني أن هذا المخاض الآني قد سبقه حملٌ دراميٌّ مصحوبٌ بالعذابات والقهر والموت والحصار والتشرد والقمع والاعتقال والاغتيال والدمار...

".. ماذا تبقَّى من فصول..
من توابيت وزارٍ واحتراف العربدة..
من خداعٍ وضياعٍ وابتلاءٍ وكذب..
من شباك المصيدة..
_ ماذا تبقَّى من فصول؟!.." من ــ هذا دمي ــ
والخطاب إلى الأنا ـ الآخر ، إلى إنسان الحاضر والأمس والغد، إلى ذاك الذي عاش الخداع والمكر السياسي فلقيَ الذل والهوان .. هذا الخطاب بمثابة منبه ليوقظَ في الإنسان الرغبة والإرادة وتجاوز كل الكمائن والفخاخ بغية متابعة الوصول إلى الدرب المُشتَهى ، درب الحرية والتحرر والسلام..

أما آن لهذا الشعب الشقيق أن يستريح؟!..
أما آن لهؤلاء الأطفال أن يحلمون بمقعدٍ مدرسيٍّ، بحقيبة وكتبٍ وحلوى وألعاب وصدر حنون وقبلةٍ دافئةٍ كما أطفال العالم؟!..
أما آن للأمهات أن يُغمِضنَ أجفانهنَّ ؟!.. للآباءِ أن يُرافقون الأبناء للملاعب والمدارسِ بدل المقابر ؟!..
للشابات أن يحلمنَ بالربيع والحب والحياة؟!.. للشباب أن يبنون البلاد ؟... أما آن الأوان؟!..

 
" ماذا تبقى من فصول"...
أما عن التشكيل الداخلي ؛ اعتمد الشاعر اللبدي على الصور الممتدة أو الطويلة؛ فكانت الحركة الزمنية أساس حيوية الصورة:ونتلمسُ هذه الأبعاد الزمنية في الحاضر والماضي " خمس وخمسون ، ما زلتُ أسيرَ الجلجلة" من ( هذا دمي) وهذا النوع من الصور يعتمد على شخصية محورية " ما زلتُ" وعلى حادثة معينة تشكِّلُ نقطة انطلاق الشاعر " جثة العدل، الضمير المُستَباح"..

هي قصيدة الرحلة الأليمة المؤلِمة " وجع الطريق" وتنتهي الحركة ـ الرحلة هذه بانتهاء الصورة حين أعلن الشاعر " مازلتُ مرتهناً أسيرَ الجلجلة"..وكأنه يقول بأن النهاية كالبداية " مازلتُ" فالفلسطيني ما يزال في الحصار ، في الأسر، في الشتات، في الجوع والقهر والاحتلال..

واعتمد أيضاً على الصورة الحلزونية؛ بتداخلات الأزمنة ونفي الحاضِر إلى الأمس بفلسفةٍ عنيفةٍ تداخلَ فيها الرمزُ والإحاطة برتابة الذات الإنسانية؛

".. ليس مهماً أن نُدوِّنَ الألم
ولتختفوا الآن من التاريخ
من وجه البدايات الأخيرة التي
أبقت في الأمس سر إرثها
وديعةً عند الحمام
والغد الذي فوق العبيد.." . من ــ سيف على قامات فاتحة النهارــ

و" البدايات الأخيرة" هي التاريخ الذي منه انطلق الشاعر، هي بداية الجرح الفلسطيني الذي خلَّفَ إرثاً ثقيلاً كان سره "وديعةً" عند أصحاب القرار السياسي" الحمام" وما يزال هذا السرــ الإرث إلى اليوم جاثماً بتداعياته ، بفوضاه، بعبثيته، بجنونه، بهمجيته كالكابوسِ فوق صدر الفلسطينيين ..
و" سيفٌ" ليست تعني سوى الإطاحة بهذه البدايات " فاتحة النهار" والتي من بعدها كانت آيات الوجع والعتمة والفجيعة والانكسار و..و..و. لكن الرواية لم تنتهِ بعد، إنما هي نهاية الجزءِ الأول ــ الحصار ــ والذي منه الإعصار والنار للقضاء على كل هشٍّ يابسٍ سطحيٍّ ومراوغٍ تاجرَ بالقضيةـ الوطن فخان العهد والشعب والرب ساجداً راكعاً واقفاً جاثياً مستلقياً منبطحاً لربِّ الدولار..

ليس دمكَ أيها الشاعر إنما دمي، دمه، دمها،دمائهم التي منذ خمس وخمسين نُذِرَتْ قرابين عشقٍ للأرضِ فليعزفِ الزيتون سوناتا الحرية في مسارحِ الأرجوان.. لابدَّ الفجرُ آتٍ.. إنما يسبقه الغسق..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى