الجمعة ١٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

الشعر ينساب ألقاً في ديوان ( ذاكرة بلا أبواب )

للشاعر محمد بن خليفة العطية

مامن شك في أن القصيدة هي روح شاعرها ، وأن أبياتها هي دفق أحاسيسه واختلاجاته ، وحين يقرأ المرء قصيدة في ديوان لتستهويه حروفها ، فيشعر وكأنه في جملة من المشاعر والأحاسيس ، قدمها له الشاعر بلغة انسيابية تحفل بالصور الشعرية ، فإنه لابد من أن يبحر في قصائد الديوان جميعها ليتلمس أي شاعر هذا الذي رصف الحروف ليكوّنها قصائد تبوح بما في قلبه ، مجسداً نظرته الحقيقية في ما يؤديه من رسالة ثقافية إنسانية شاعرة ... ومامن شك أيضاً في أن الشاعر هو الحامل الحقيقي لذاكرة أمته ولقضاياها القومية والوطنية ولابد من أن تزرع قصائده في نفوسنا روح التطلع إلى مستقبل زاه يلف أمتنا من محيطها إلى خليجها ...

وفي ديوان ( ذاكرة بلا أبواب ) للشاعر محمد بن خليفة العطية يلمس القارئ جل ماقلناه ، بل وأكثر ، وهذا هو دور الفن الذي يسعى إلى واقع أسمى وأفضل ، واقع جدير بالإنسان أن يحياه ، بعد أن يغسل عن جسمه ماعلق به من بثور ، بيد أن قصائد هذا الديوان تنوس مابين الذاتي والموضوعي ، مابين القصيدة الوجدانية والقصيدة ذات الحس الوطني ، حتى لنرى أن كلاهما يشكلان بؤرة الإحساس بالكون وبالمجتمع وبالذات الأخرى ...

قدم للديوان الشاعر والصحفي حسن توفيق بمقدمة عنوانها ( الحبيبة تطارد عاشقها ) ليؤكد معنى القصيدة الأولى التي ضمها الديوان وهي بعنوان ( طارق الشعر ) إذ القصيدة تطارد شاعرها ليبوح لها بمافي سرّه ، ليمضي بعد ذلك في وصف الديوان بماحواه من قصائد ، مشيراً إلى أن صاحبها ( عاشق للشعر بمختلف أطيافه ، وهكذا تتلاقى في سماوات روحه قصائد امرئ القيس وطرفة بن العبد مع قصائد المتنبي وأحمد شوقي ومحمد مهدي الجواهري وإبراهيم ناجي وصولاً إلى قصائد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور ، فالمهم عند محمد بن خليفة العطية أن يكون الشعر شعراً بكل معنى الكلمة ) كما يمضي في الحديث عن الشكل الشعري للديوان وعن نشأة الشاعر وهمومه وقضاياه فيما يكتبه من شعر .
في ( ذاكرة بلا أبواب ) يفتح لنا الشاعر أبواب ذاكرته لنطل من خلالها على ما اكتنزت نفسه من شفافية ورومانسية في نزوعه نحو الحب والجمال ، ومن إيمان بقضية أمته الوطنية في إعلاء صوته بوجه كل من يشوه تاريخها أو يبتغي إذلالها أو يسير بها نحو العدم .
وبما أن الشاعر العطية قد انطلق من ديوانه بتسميته ( ذاكرة بلا أبواب ) فلنمض نحن معه بداية من خلال هذه الذاكرة ، إذ نطالع كثرة مفرداتها في قصائده ليدلل على أهميتها بالنسبة إليه ، فهي سجله ومخزونه من صور ماضية ، وهي الوعاء الذي تنسكب منه صوره الشعرية ، فها هو في قصيدته ( ذكرياتي ) يمسح ذكرياته من فوق مرآة نفسه ، فيقول:

دعني لأمسح ذكرياتي
من فوق مرآتي العتيقة خلف قضبان السنين
صور رقيقة ...
تنساب بين ضباب ذاتي
وكأنها من ذكرياتي ...
لكنها أمد بعيد قد بت أستجدي طريقه .

ولكن هذه الذكريات قد تأتيه عبر روح تناديه من البعيد لتٍسأله كتابة القصيدة ، فيتفجر نهر القلب فياضاً بما فيه من أسى ، إذ يقول في قصيدته ( فراغات ) :

ولعلني أهفو إلى روح تناديني بعيدة
وتظل تسألني القصيدة
عن لونها ...
عن كنهها المفقود في المهج الشريدة
صوت تحجّر في زمان بات نسياني وريده
وجداول الذكرى تمر ...
على ضفاف الأمس ولهى ...
حيت تسألني القصيدة .

أما في قصيدته ( حنين ) ففيها ظلال الأمس البعيد والقلب المرفرف في أجواء الحاضر اللاهب بالأماني :

إني احتضنت الذكريات مصافحا
والقلب رفرف لائماً ومسامحا
إذ جئت أحمل بالورود مودتي
وأصون – عن تلف النفوس – جوارحا
مازلت أحلم بالقديم وليس لي
إلاه عندك صورة وملامحا
كم أستعيد بك الخيال فطالما
أشجى وألهب في الضمير قرائحا

إن الشاعر ليمضي في رحاب الخيال مستذكراً كل جميل تهفو نفسه إلى استعادة تفاصيله ، ولعل المرأة هي السبيل الوحيد لانبلاج الفرح والغبطة في النفس ، لهذا يأتيها وفي نفسه وفاء لاحدود له ، متغلباً على مايقيد النفس من الانطلاق ، وهنا تتجسد النزعة الروحية التي نجدها في القصائد التي تمجد الحب والمرأة وتسعى إلى صفاء الروح والجسد ، فها هو في قصيدة ( العودة ) يقول :

أتيتك أبحث عن مستقر وأنفض عني غبار السفر

ففي ناظري امتداد الليالي وفي مقلتيكِ انبلاج القمر

أتيتك تحت ظلال الفؤاد وحر الشعور وبرد النظر

فلما زرعتُ حقول الحنين وجدتك أسمى جذوع الشجر

ونتلمس معاني هذا الصفاء في قصائد أخر ، يبث فيها الشاعر لواعج نفسه ومايعتمل في صدره من شوق إلى محبوبته وحنين إلى إلقائها ، متوقفاً عند أثرها في نفسه ومايفعله اللقاء من تجدد للحب وإشراق له ، ففي قصيدته ( أنت دنياي ) يؤكد كينونتها بالنسبة إليه ، ماضياً في وصف هذه العلاقة الشفافة التي بلغت منه القلب والروح :

حلوة الأحلام في دنيا المقل عذبة الآلام في ظل الأمل

قلبها في نشوة الراجي هوى يبلغ الآمال شوقاً لا الأجل

كلما راقبتها في بسمة ضحك القلب بعيني واكتحل

آه منها عندما أنأى وفي هاجسي منها نداء لايمل .

بيد أن هذه الروح الرومانسية التي نراها تتغلغل بين السطور ، تجاورها في قصائد الديوان مشاعر عديدة يحاول أن يبثها الشاعر مكنون قلبه ، حتى لنرى القصائد صورة مجسمة لحياة الشاعر ... أحاسيسه ... همومه ... قضاياه ... جميعها تمتد وتمتد في القصائد لتجتمع حول معنى رفيع ، ألا وهو القيم العليا والمثل التي ينثرها الشاعر في ديوانه ، باحثاً عن خلاص النفس وخلاص المجتمع والأمة ، فتتنوع مواضيعه ليتناول غير قضية ، فمن قضية الحب إلى قضية الأم الثكلي ، ومن قضية الأب العاجز الذي عقه ابنه إلى قضية الوطن ، أي من القضايا الصغيرة إلى القضايا الكبيرة ، وإثر هذا التنوع تتحول المشاعر فتتعدد وتغني النصوص بفيضها ، فحيناً نراه رقيقاً شفافاً متأملاً ، وحيناً آخر حزيناً مغرقاً في الوحدة ، ومرةًً ساخطاً غير مستكين ، متأهباً غير خانع ، ومرة أخرى حالماً بمستقبل بهي ...

كما وتتوزع تقنية الكتابة بين هذه النصوص ، فمن قصيدة التفعيلة إلى القصيدة العمودية ، وكأننا بالشاعر يبني ديوانه بناء محكماً في صيغ إبداعية أداتها الواقع والخيال ، بما فيهما من تنوع وغنى ، لنكتشف صدق هذا الشاعر وشاعريته ، وسعيه نحو زرع الوعي في قضايا الهم الإنساني الشامل ... ففي قصيدته ( طوفان سبأ ) نلمح هذا الوعي الذي يبثه الشاعر لتستيقظ النفوس من غفلتها :

أواه لو تدرين يايمن كم حرّفت أمم وتناسخت مدن

واستعجمت أهداف وحدتها وتلونت بفروضها السنن

فلكل شمل – يلتقي – مهج شتى جرت بدمائها الظنن

ولكل جري عابث زلل ولكل شيئ باطل زمن

داء العروبة أنها نسب قد قطّعت أرحامه الفتن .

فالحس الوطني عند الشاعر لاينحصر في الحدود الإقليمية وإنما يتجاوزها لتشمل بلاد العرب كلها ، ومن هنا فإننا لانعجب أن تتعدد القصائد التي تحفل بالأحاسيس الوطنية والقومية ، فكم آلمت هذا الشاعر مظاهر التشتت والضياع والجراح التي ابتلي بها من عدو غاشم يبتغي اغتصاب أراضيه وسلخها عن حاضرها وماضيها ومستقبلها ، ونراه يقول في قصيدة ( جراح ) مايبعث على الحزن جراء المآل الذي آل إليه وطننا العربي :

بتنا نسيغ الذل صرفاً بينما ضربت على نكباتنا الأزلام

وطن يباع فأي سلم يدّعي تحقيقه الأسياد والخدّام

سلخ يضر الشاة بعد مماتها ويقال سلم وهو الاستسلام

وهكذا نمضي في قصائد الشاعر محمد بن خليفة العطية حتى آخر الديوان ، قصائد زاخرة بالوجع الأليم على هذا الواقع العربي الذي تنهش فيه ذئاب الاستعمار والخونة ، إلا أن الشاعر لاتستسيغ نفسه هذا الخنوع والخضوع ، إذ لابد من فجر منير يتحقق فيه الحلم العربي بالتضامن والتعاون والانصهار في بوتقة مايجمع ولايفرق ألا وهو العروبة التي ندين لها بحاضرنا وأمسنا ومستقبلنا ، ففي قصيدة ( الحلم العربي ) يقول :

سيف العروبة صار من أوتار والمطربون جحافل الثوار

والأغنيات نشيد كل ( مجاهد ) في مسرح الطنبور والمزمار

أين الأساطين العظام وأين ما تسمو به الهامات من آثار .

( ذاكرة بلا أبواب ) ديوان حافل بنبض الشاعر وبانفعالاته ، فيه تتجلى شخصية الشاعر محمد بن خليفة العطية المتطلعة أبداً إلى الجمال ، والمتشوقة إلى مايقاسمها أشواقها وحنينها وأحلامها ، الغنية بالدفق الشعري الجذاب الذي تترقرق فيه المياه عذبة كالسلسبيل ، عبر لغة أمسك صاحبها بزمام أمورها فامتلك ناصيتها ، ليبدع من خلال هذا الديوان قصائد هي روحه وعقله ورؤاه .

للشاعر محمد بن خليفة العطية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى