الخميس ١ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

رحلة مع الأديب وليد إخلاصي في أزمنة وأمكنة المدينة

( حلب بورتريه بألوان معتقة ) كتاب جديد للأديب وليد إخلاصي صادر عن دار نون 4 للنشر والطباعة والتوزيع في كانون الأول 2006 في طبعة خاصة بمناسبة احتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية ، وهو كتاب من القطع المتوسط ويقع في 140 صفحة حوت ذكريات هذا المؤلف في مدينته الشهباء حلب ، قصها علينا بأسلوبه الذي اعتدناه في قصصه ورواياته ، لا ليفتح أمام خيالنا أنفاقاً نعبرها إلى الزمن الماضي وحسب وإنما ليضعنا أمام هذا ( البورتريه المعتق ) لهذه المدينة العريقة .

وكانت الفاتحة التي أطل بها المؤلف إخلاصي من خلال الكتاب ، حديثاً عن تلك المرأة التي ( أطلت ... من شرفتها ، وتمطّت ... لم تغرّها شهقات المحبين وآهات التاريخ طمعاً في حبها ) عن حلب التي يراها فاتنة جميلة تتقن فن الحفاظ على فنتنها ، إذ راح يصفها لنا مقدماً صورة بانورامية لها وكأنه التقطها لها من مكان عل ، قد يكون القلعة ، ولم يكتف بتصويرها كمشاهد وإنما تغلغل إلى ماتمتاز به من أسواق وخانات وأبواب وبيوت تناثرت هنا وهناك ليكمل لنا تصويره عن تراثها المادي غير متوقف عنده ، إذ لابد من الحديث عن تراثها اللامادي وهو الغناء والطرب والإنشاد ، إلى ما رآه يلف ذلك التراث من تنوع الثقافات والعقائد ليشكل نسيجها أنموذجاً للتعايش بين كل الأديان .

كتاب ( بورتريه بألوان معتقة ) ليس قصة أو رواية يتحدث الأديب إخلاصي من خلال عناصرها وأشخاصها عن هذه المدينة، وإنما هو وقفة مع الذكريات الأصيلة ، مع المعتقدات والتقاليد التي نشأ عليها منذ صباه ، لتشكل الوعي الأولي له ، ومنها احترام الواجب ، والتوقف عند اللون الأخضر المزين للمزارات لأداء فروض الاحترام وتلاوة الأدعية ، وأهمية ذاك اللون في النفوس وتحوله إلى لون ديني لاجدال في قداسته ، إلى ماهنالك من أفكار متعلقة بالقداسة الشعبية ، وهذا مانجده تحت عنوان ( تهيؤات حلبية ) الذي اتخذ لنفسه اسم الفصل الأول من الكتاب ، على أن المؤلف قسم كتابه إلى ثلاثة عشر قسماً هي بعد الفاتحة وتهيؤات حلبية ، تخريفات حلبية ، صديقي الفلسطيني ، من الأخبار القديمة ، صراعات حلبية ، أحزاب ... أحزاب ، سيرة حلبية ، المدير الذي قال لا ، هامش على دفتر الذكريات الحلبية ، حلب 1946 ، مدام أوديت ، في رحاب السيدة الجميلة .

في ( تخريفات حلبية ) يقف المؤلف على الأحجية التي شكلت له أول معضلة فكرية يواجهها في حياته ، إذ وقف عاجزاً عن الإجابة عنها بعد أن ألقاها على مسمعه رجل في بداية شيخوخته ، ومفردات تلك الحجية هي : ( كنا تلاتة في بتّة ، أجانا الموت صرنا ستة ) ولنمضي مع المؤلف عبر صفحات يصف فيها اعتمال هذه المفردات في فكره طيلة سنوات ، رابطاً بينها وبين كل ماتقع عليه عينه من مشاهد أو مايتعلمه من أمثال ، أو مايشاهده من تظاهرات شعبية زمن الانتداب الفرنسي ، غير أنه خرج من دوامة تلك الأحجية حين وجد له شيخ كان يعلمه الإنشاد العربي في المدرسة الابتدائية التقاه مصادفة في مقهى مفتوح مقابل القلعة ، مخرجاً من هذا المأزق ليؤكد له أن هناك الكثير مما يقال لامعنى له ، ومثله الكثير من الحكايات .

وعلى الرغم من أن عناوين أقسام الكتاب تشي بأنها قصص كتبها المؤلف ، إلا أنها قصص ليست بخيالية وإنما هي قصص واقعية ، أبطالها أناس كانوا يعيشون بين ظهرانينا ، وأحداثها جرت في هذه المدينة ، فتحت عنوان ( صديقي الفلسطيني ) يؤثر المؤلف على الإحاطة بالمكان والزمان ، وبتصوير شخصية الفتى ( عمر ) الفلسطيني الأصل ، والقاطن في مخيم النيرب ، والذي تعرف إليه في يوم ثلجي من أيام حلب الماضية ، وقد أصبح في ذهن المؤلف فيما بعد بطلاً أو نموذجاً للمناضل الفلسطيني ، فلاتلبث ذكراه أو صورته تطل في مخيلته إثر كل حدث سياسي متعلق بفلسطين ، وكأن هذا الفتى هو الذي تتجسد في شخصيته كل ملامح القضية الفلسطينية .

ثم إن المؤلف يريد أن يستجمع كل ذكريات الماضي ، فيدرج أحداثاً تحت عنوان ، وأخرى تحت عنوان ثان ، حتى لايفلت منه أي خيط يربطه بذكرى ما من ذكريات الطفولة والشباب في هذه المدينة ، وكأنه اقتطع تلك الذكرى اقتطاعاً من الذاكرة لئلا تفوتنا مشاهدها وزمانها ومكانها ، وهذا ما استشعرته في كلامه عن ( الأخبار القديمة ) ليشير إلى ارتباط أيام طفولته بحي الفرافرة ، وبمدرسة الحمدانية ، وبمدرسيها الذين بقي بعضهم راسخاً في الذاكرة ، حتى لكأننا نتلمس في فصول هذا الكتاب فصولاً من سيرة هذا الروائي ، كتبها للتفنن في وصف جمال هذه المدينة ، ولتثبيت أزمنة أحداث مرت معه فيها ، ولتجميع مراحل الزمن الغابر ، تلك التي قضاها المؤلف إخلاصي بين ضلوعها .
غير أني وجدت في ( صراعات حلبية ) التي صور فيها ذلك الصراع الذي احتدم في مدرسة التجهيز الأولى بين أصحاب تيارات الفكر المتصارعة ، أيام كان فيها طالباً ، وإثر مجادلته أستاذ الديانة ، وجدت فيها قصة ممتعة لاتخلو من عنصري الإدهاش والتشويق ، ومازاد في استمتاعي بها ، تصويره الحوار الذي دار في مجلس التأديب الذي انعقد لإصدار قرار بشأن اعتدائه على المدرس على أنه ( نموذج للصراع الدائر بين الأحزاب القائمة بل الساحة السورية آنذاك ، وكان في تخفيف العقوبة نصر للأحزاب الجديدة على القديمة منها والتقليدية ) ، وتصويره كذلك ممر المدرسة الذي اجتازه للاعتذار من المدرس على أنه الصورة الواقعية السائدة في المدينة ، إذ قال :
( كانت حلب تغلي بالأحزاب والشعارات التي تنوس مابين يمين ويسار وتمثل أنواعاً من التعصب الديني وتجهر كذلك بالدفاع عن المبادئ القومية والاشتراكية ، فكان الممر الذي كنت أعبره نحو احتفال الاعتذار بات يعبر عن الصورة الواقعية السائدة في المدينة ، ويبدو أن النكبة الفلسطينية وماتبعها من انقلابات على البلاد كطائر يشوى حياً ، هي المحرك الفعال لتلك الحيوية الهائجة ، وهي التي أوقعتني في فخ الحياد الذي مازلت أجاهد للاستمرار فيه ) .

ولابد لخير الدين الأسدي في ظل هذه الذكريات ، من أن يأخذ طريقاً له في صفحات الكتاب ، حتى إذا ماجاءت صفحات ( سيرة حلبية ) لتعلن سيرة حياة هذا الإنسان العاشق لمدينة حلب ، وقفنا مع المؤلف وهو يستعرض سيرة حياته في تعليمه وشغفه بالعلم وبالكتب وبتدوينه موسوعته ، حتى الأيام الأخيرة من حياته والتي قضاها في دار العجزة ، لنقف معه مرة أخرى في ذكرى إحياء الأربعين له ، في موقف كان فيه الراوي المؤلف واحداً من الشخصيات التي ذهبت للتعرف على مثوى الأسدي ، ليعلمنا من خلال هذه الحادثة عن ضياع
اسم الأسدي في دفتر يوميات الدفن ، إذ سجل باسم ضياء الدين أسد ، وعن ضياع قبره في مقبرة الصالحين التي تولى التربي فيها دفنه بين قبرين متلاصقين حين جيء إليه بالأسدي ومامن مشيع واحد معه .

ونقف بعد ذلك على عنوان مثير وهو ( المدير الذي قال لا ) ذلك المدير الذي أدار ذات يوم مدرسة التجهيز الأولى بحلب ، ألا وهو الأستاذ عبد الغني جودة ، ورفض زيارة الجنرال الفرنسي للمدرسة أيام الانتداب الفرنسي ، إذ يقص علينا الأديب إخلاصي هذه الحادثة في خضم الأحداث التي كانت تجري في تلك المدرسة والمظاهرات التي كان الطلاب يقومون بها ، مدللاً على الانسجام والتوافق بينهم حول الهدف الذي تقوم من أجله تلك المظاهرات ، واصفاً التفاصيل الدقيقة في حالة الطلاب المتجمهرين في ممرات المدرسة وباحتها ، مستدعياً إياها من ذاكرته ، وكأنها حادثة لم يعل غبار الزمن على تفاصيلها ، ليشير إلى مايبقى في الذهن من تلك الحوادث التي تشكل نقاط علام في تاريخ مدرسة التجهيز الأولى .
وهكذا نمضي بلا توقف في صفحات معنونة بـ ( هامش على دفتر الذكريات الحلبية ) مع ذكريات هذا الأديب بدءاً بحكاية الكتب فخان الشربجي فسوق الجمعة مروراً بالمنصورية ومدرسة الحفّاظ وانتهاء بأسماء أعلام رواد الموسيقا والغناء في حلب ، ليطل علينا الأديب في حكايات تشكل بالنسبة إليه مفاصل مهمة وحيوية في حياته وحياة المدينة ، حتى لتمتزج الحياتان في لحظة من اللحظات فيخال القارئ أنها ليست حياة المدينة وحسب ، وإنما هي حياة كل الناس الذين عاشوا تفاصيل الأحداث وبقيت ذكرياتها شواهد على عظمتها .
وتحت تلك العناوين نشهد بذور الحياة الفتية التي عاشها الأديب وليد إخلاصي منفتحاً من خلالها على أنواع من المعرفة والزاد العلمي ، وأنواع أخرى من تجارب معيشية تكسب المرء خبرات عديدة في مجالات متعددة ، مؤكداً في نهاية كل ذكرى من تلك الذكريات الأثر الهام الذي تركته تلك الأيام في نفسه وفي شخصيته وفي فكره ، راسماً لنا من خلال صفحات الكتاب ليس ملامح المدينة وحسب وإنما ملامح شخصيته أيضاً ، تلك التي يكونها القارئ من خلال إبحاره في سطور الصفحات .

وتحت تلك العناوين أيضاً رجوع بالذاكرة إلى مشاهير الفن التشكيلي في حلب من أمثال لؤي كيالي وفاتح المدرس وغالب سالم ، وكذلك إلى مشاهير الموسيقا والغناء في مدينة حلب من أمثال بكري الكردي وعمر البطش ، في إطلالة لذكريات الأديب أحالته إلى أيام اللقاء معهم والتعرف إليهم ، ومن ثم الحزن على رحيلهم وهم الذين يشكلون علامات بارزة في حياة مدينة حلب الغنية بالموسيقا والطرب والفن الأصيل ، وكأنني بالأديب إخلاصي يفتح سجلات الزمن في هذه المدينة بالإضافة إلى السجلات الحافلة بمشاهد الموت ، وربما ليؤكد خلود أرواح هؤلاء العظام الذين لايمكن أن تطفئ جذوة وجودهم في هذه المدينة نيران الموت السارية في الجسد .

إلى أن نأتي إلى عنوان ( حلب 1946 ) لنقع على وصف جميل يهز المشاعر والألباب ، وهو وصف ليوم الاستقلال والإعلان عن فرح يوم استثنائي من أيام المدينة بعد ذكريات ربع قرن من الاحتلال الفرنسي للبلاد ، وصف فيه تشويق لما سيحدث في الملعب البلدي من مشاهد بهجة عارمة مانسيتها ذاكرة أديبنا ، لما فيها من مشاعر وطنية جياشة لابد للمرء من التعبير عنها ، راحلاً بالذاكرة إلى يوم مضى من أيام حلب الوطنية ، حتى نأتي على جمود تلك المشاعر بسقوط الطائرة التي كانت تلقي قصاصات ورق ملون واصطدامها بسور الملعب ، الأمر الذي أسفر عن فوضى وجلبة بين أبناء المدينة المحتشدين في الملعب للاحتفال بيوم الجلاء الأول ، وعن هلع وخوف وذعر لم يشهد لها أديبنا مثيلاً في حياته البتة .

إن قصص هذا الكتاب مشوقة ومثيرة ، تجعل القارئ منقاداً للكلمات والسطور لإكمال سلسلة المعرفة بنهايات القصص ، ولعل قصة مدام أوديت ، تلك الجارة التي اعتاد أديبنا زيارتها بين الفينة والأخرى ، واحدة من تلك القصص التي تشد الانتباه راسمة في الخيال مشاهد مايصوره لنا الأديب ، وكأننا نسير معه وندخل بيت أوديت معه ، ونلاطف كلبها فيديل معه ، ثم نحزن معه على موته ، ومن ثم موتها من دون أن تكون هناك زيارة لوداع أخير لن يحدث بعده لقاء أبداً ، إلى أن نأتي إلى ختام الكتاب بفصل عنوانه ( في رحاب السيدة الجميلة ) فنتملى من خلاله تضاريس هذه المدينة الجميلة ، وتاريخها ، وحضارتها الممتدة آلاف السنين ، وطريق الحرير الذي عبرها ، وشكل على جانبيه خانات وأسواقاً لاتزال تحمل الكثير من ذكريات القادمين والراحلين واللاهثين وراء الآثار والتاريخ ، حتى إذا أبحرنا في صفحات هذا الفصل الجميل ، وجدنا أنفسنا أمام صورة بانورامية للمدينة تتخللها علامات الفخر والاعتزاز والزهو بجمالها وتاريخها وحضارتها ، وشخصياتها الفكرية والأدبية والسياسية ، واضعاً المؤلف بين أيدينا ملخصاً عاماً عن المدينة يبتدئ بقلعتها ولاينتهي عند حدود الجمال فيها .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى