السبت ١٠ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم أحمد زياد محبك

تل أم أحمد

طرقتان واثقتان، ولكن في احترام، ويفتح باب مكتبي، ويطل عليّ وجه أسمر، بشاربين كثيفين، وعينين تنبضان ثقة وحباً، ملأ دخوله وجداني كله، تلقيته بقلبي ومعرفتي وعواطفي، دفعة واحدة، مثل ضوء يغمر الكون فجأة، كاليوم الذي أشرفت بي فيه السيارة على قريته، قرية التل، فرأيتها كلها دفعة واحدة، ببيوتها الطينية ذات القباب الدافئة، الملتفة حول تل صغير يتوسط القرية، رأيتها أول مرة فعرفتها على الفور، ملكتها كلها، بل ملكتني كلي، كأني أعرفها، وكأنها تعرفني منذ ألف عام، كأني رأيتها من قبل في الحلم، ثم رأيتها في الواقع، كان الفصل ربيعاً، وكل شيء يموج وينفث عطره الحي الفاغم، وحين دخلتها ملأت صدري رائحة ترابها، ورائحة الخبز في تنور تقف أمامه امرأة محمرة الوجنتين والساعدين، وهي تمد يدها برشاقة إلى داخل التنور، وتسحب رغيفاً، تقدمه إلي، فأتناوله منها، وأقول لها: "على العافية"، وأحس أني قد أصبحت جزءاً من قرية التل، من نارها وترابها وهوائها، وهذا هو حسين، لابد أن يكون هو، بل إنه هو.‏

"هذا أنت يا حسين؟"‏

وقمت إليه، فتحت له ذراعيّ، وعانقته.‏

"نعم، هذا أنا يا أستاذي، أراك ذكرتني على الفور؟!"‏

"وكيف أنساك يا حسين؟!"‏

قرية التل هي أول مكان في العالم أرى من خلاله العالم، كلفت بالتدريس فيها، وأنا ما أزال طالباً بالجامعة، فكان فيها أول عهدي بالتدريس والعمل والحياة والناس والعالم، فيها عملت أول مرة في حياتي، وكسبت الرزق، وبفضلها لمست يدي أول مرة نقوداً أكسبها بعرق الجبين، وفيها عرفت أول مرة حلاوة التدريس وصعوبته، ومتعة التعرف إلى الناس والاختلاط بهم، وفيها ذقت أول مرة الخبز الذي لم أذقه في بيتي، وفيها شربت أول ماء لم أشربه في بيتي، فيها أكلت خبز الحنطة الخالصة، وشربت فيها الماء المسحوب من البئر، بما فيه من ملوحة ورمل وعكر، وفيها عرفت أم أحمد.‏

"أهلاً يا حسين، أصبحت رجلاً، لاشك أنك تخرجت من الجامعة"‏

"سنة أخيرة في كلية الطب"‏

"عظيم، عظيم جداً يا حسين"‏

"نحن نتابع أخبارك يا أستاذ، وقد علمنا بنيلك الدكتوراه، وانتقالك إلى الجامعة"‏

"أوه، شكراً، شكراً يا حسين"‏

كانت قرية التل بالنسبة إليّ جمهورية أفلاطون، أو لعلي هكذا رأيتها، وكان وصولي إليها يوم سوقها الأسبوعي، ففي يوم من أيام الأسبوع، وأظنه الاثنين، يعقد فيها سوق يأتي إليه الفلاحون من كل القرى، يحملون غلال أرضهم لبيعها، كما يأتي إليها البائعون من المدينة يحملون حاجات وبضائع كثيرة مما يحتاجه أهل القرى، ولعل أول ما لفت نظري في سوقها الجمال، كانت أول مرة أرى فيها الجمال، وأنا ابن المدينة، طالما قرأت عنها في الشعر، ولكني رأيتها في السوق رؤية العين، فسررت جداً برؤيتها، ثم رأيت باقات البنفسج والنرجس تبيعها الفلاحات، باقات زكية الرائحة، فاشتريت باقة بنفسج.‏

في قرية التل حسبت نفسي أمام نموذج مصغر للعالم كله، والتل الذي رأيته من بعيد، بدا لي داخل القرية كبيراً، كبيراً جداً، وكأنه نسر يحميها، وبيوتها تلتف من حولـه، فأثار خيالي، وبدا لي كأنه مركز الكون وقطبه، وعلى الفور تاقت نفسي إلى صعوده، ولم أتردد في سؤال طلابي عن إمكان صعوده بعد نهاية الدوام، فتحمس الجميع لذلك، وقال أحدهم: "ولكن لابد من موافقة أم أحمد".‏

وبعد نهاية الدوام كنا نصعد التل، تتقدمنا أم أحمد، تقودنا، ومن حولها يتراكض أربعة تلاميذ، "أستاذ، أم أحمد لا تسمح لأحد بصعود التل، إلا بإذنها"، "أم أحمد تخبئ في التل كنزاً، لا يعرف أحد موضعه إلا هي"، "كل يوم تصعد إلى التل في الصباح، وتنظر إلى السماء، ثم تقول للفلاحين: "اليوم سينزل المطر، لا تزرعوا، اليوم حار، اذهبوا واسقوا أرضكم، كل مرة بحسب الموسم، في الصيف أو الشتاء، في الربيع أو الخريف"، "أستاذ؛ مرة أخبرتهم عن جراد، وراحت قدام الرجال إلى البرية، ومعها كيس كبير، لتجمع الجراد"، والتفتت أم أحمد إلى التلاميذ، وصاحت بهم: "اسكتوا يا أولاد، اتركوا الأستاذ يتفرج على الضيعة، من فوق التل".‏

ويسألني حسين عن التدريس الجامعي واختلافه عن التدريس في المرحلة الثانوية، وعن إمكان التوفيق بين العمل والمطالعة والكتابة، فأشير إلى أوراق الامتحان على المنضدة أمامي، وأقول له:‏

"كما ترى، وأنت أيضاً طالب جامعي، وتستطيع أن تقدّر"‏

ثم أضغط الزر، داعياً الآذن، ليحضر لنا فنجاني قهوة.‏

لم يكن صعود التل سهلاً كما حسبته في البداية، كان تلاً ترابياً، ولكنه متماسك، وفيه مواضع انهيارات كثيرة، فيبدو كالجرف من المستحيل تسلقه، ولكن أم أحمد كانت تتقدمنا في مسالك تعرفها، وهي تمضي أمامنا، وقد جعلت يديها وراء ظهرها، تسحب خطواتها سحباً، وقد تجاوزت التسعين، من غير شك، ولابد أن تكون اليوم قد بلغت المئة، أو تجاوزتها، هذا إذا كانت ما تزال على قيد الحياة، فقد مر على ذلك نحو عشر سنوات، وحين سألتها عن عمرها، أجابت: "لا أعرف"، وتابعت سحب خطواتها، ثم أضافت: "لا أعرف لماذا يسأل الناس دائماً عن الأعمار، غلط يا بني، غلط، الأعمار لا قيمة لها، يا بني عاشت في قديم الزمان عجوز مثلي، طلبت من ربها أن تعيش ألف سنة، فعاشت ألف سنة، ولكن بعد المئة مرضت، وصارت تتمنى الموت، ماذا أفادتها ألف سنة؟! لو أنها طلبت العافية، المهم يا بني أن تعيش في صحة وعافية، وتعرف كيف تنفع الناس".‏

كان تراب التل ندياً بمطر الليلة السابقة، ولكنه لم يتحول إلى طين، فهو مطر ربيعي ناعم، سرعان ما تشربه الأرض، ويتبخر بأشعة الشمس الدافئة، وكانت الشمس المائلة إلى الأفق الغربي تدفئنا، حتى إنني أحسست بالتعرّق، وحين بلغت قمة التل، رأيتها فسيحة منبسطة، فيها مرج أخضر جميل، ما وطئته قدم، ولا رعته شاه، فهو طويل زاه، متألق بالشمس الضاربة إلى الصفرة.‏

وعلى الفور وجدت نفسي أقعد على الأرض، وقد قعدت أمامي أم أحمد، وقعد التلاميذ الأربعة، وإذا نحن حلقة مغلقة، وأخذت أداعب ورقة ندية من العشب الأخضر الناعم، ثم أخذت أنكت الأرض بيدي، وقد خيم علينا جميعاً صمت قدسي، كأننا ننتظر العجوز أن تتكلم.‏

كان وجهها ونحن فوق التل مثل الأرض في شهر تموز، وقد تشقق جلده، وحفرته الأخاديد وأحرقته الشمس، وعيناها تتوهجان في انخطاف غريب، مثل التوهج الأخير في ذبالة شمعة توشك أن تنطفئ، ولكنها لا تنطفئ، ومن ورائها كانت تمتد السهوب في انبساط سهل واسع، وهي سهوب خضر، تسكب عليها الشمس أشعة صفراء متألقة.‏

لم تتكلم، لم يتكلم التلاميذ، لم أتكلم، لفّنا جميعاً صمت مهيب، ثم نهضنا، وأخذنا نهبط، من الطرف الغربي للتل، مشرفين على مقابر القرية، والشمس بدأت تغيب.‏

ذكرت بيتي في المدينة، تصورت أهلي، وهم يجتمعون على المائدة، وأنا لست بينهم، اعتراني شعور غريب بالوحشة والاكتئاب.‏

وحين احتوتنا حارات القرية وطرقاتها الترابية، وصرنا بين جدران بيوتها الطينية، التي تعلوها قباب حانية، أحسست أنني أدخل رحم الأرض، والعجوز تقود خطاي، وأنا مستسلم لها، وقد بدأت العتمة تشمل العالم، كان لها سطوة قدسية هادئة.‏

الناس في حارات القرية يلقون عليها وعليّ السلام، نظراتهم تتفحصني بعفوية وبساطة، أحسست نحوها في البدء بالضيق، ولكني ما لبثت أن ألفتها، وكان ثلاثة من التلاميذ الأربعة مايزالون يسيرون معنا، أما الرابع فقد ودعنا وذهب إلى بيته.‏

وسأل العجوز أحد التلاميذ: "أين سينزل الأستاذ يا أم أحمد‍؟‍ في بيت أبو علي أو في بيت أبو حسين؟!" وعرفت أن أم أحمد هي التي تقرر كل شيء.‏

ويدخل علينا الآذن، فأطلب فنجاني قهوة، وحسين مايزال يعيد عليَّ ذكرى نزولي في دارهم، وكان في نحو الرابعة عشرة، كما يعيد عليَّ ذكرى دخولي عليهم أول مرة في الصف الأول الإعدادي، ويؤكد أنه مايزال يحتفظ بأحد دفاتره المدرسية، وعليه ملاحظاتي، وفيه موضوع مايزال يذكره، وهو: كتابة حكاية سمعتها عن جدتك.‏

"أم أحمد، هي أمنا الثانية"، هكذا قال لي أحد الطلاب، وأضافت هي: "كل هؤلاء أولادي، كل أهل القرية كنت أنا الداية التي تشرف على ولادتهم، حتى بعد تخرج نادية بنت بشير من الجامعة وعملها قابلة قانونية، أنا أقول لهم أحضروا القابلة، ولكنهم لا يريدون سواي، وفي النهاية وافقت على شرط أن تحضر هي أيضاً، أنا وهي نساعد كل حامل، أنا تعلمت منها، وهي تعلمت مني، ولكنها بصراحة أفضل مني".‏

في مساء ذلك اليوم سهرت عند "أبو القاسم"، مختار القرية، كان هناك مدير المدرسة، وطبيب القرية، وعدد من الرجال، ومن غير أن أسألهم، حدثوني. "لا شك أنك ستسألنا عن أم أحمد، الواقع هي كل شيء"، هكذا قال المختار، ثم اندفع كل منهم يقول شيئاً.‏

عمرها فوق التسعين، ولكنها طول عمرها لم تذهب إلى المدينة، ولم تزر أي طبيب، تعرف كل شيء، تعالج الحمى والصداع والفالج واليرقان، ولكنها آخر الأمر أقسمت ألف يمين مؤكدة أنها لن تعالج أي إنسان، قالت لهم: "هناك الطبيب، اذهبوا إليه، لا تأتوا إلي بعد اليوم".‏

وهي تساعد كل نساء القرية، هذه تريد أن تخبز فتساعدها على جمع الحطب، وتقطيع العجين، وتلك ضاعت عنزتها، فتذهب من بيت إلى بيت تسأل الناس عن عنزتها، وثالثة تريد الذهاب إلى المدينة، والدخول إلى المستشفى لإجراء عملية، فتبقى في بيتها، ترعى أطفالها، ثم تسهر عليها حين ترجع، وتبقى عندها حتى تشفى، وغيرها وغيرها كثير.‏

هي التي تفض كل النزاعات، فإليها يحتكم الرجال والنساء في أمور الزواج والطلاق والبيع والشراء والأرض والميراث والموت والحمل والولادة.‏

في كل عرس هي الماشطة التي تزين أنامل العروس بالحناء، وتضع في كفها النقش، وتحليها وتزينها وتعطرها، ثم تهمس لها كلمات ناعمة، فتتورد وجنتا العروس، وتخفي ضحكة مكتومة.‏

وكل امرأة تموت، فهي التي تغسلها وتكفنها.‏

"الموت كاس داير على كل الناس، ويا حظ فاعل الخير"، هذه هي كلمتها في كل مأتم.‏

وكانت دائماً تروي الحكايات.‏

مرة حكت لي أن لقمان الحكيم علم أنه لن يموت حتى ينفد ماله من رزق في الدنيا، فطمع في العيش، فصار يأكل في النهار مرة واحدة، بدلاً من مرتين، حتى لا ينفد رزقه، وحتى يطول عمره ثم صار يقسم اللقمة الواحدة إلى لقمتين، والكسرة الواحدة من الخبز إلى كسرتين، ويؤجل طعام اليوم إلى الغد، ثم لم يبق له من الطعام إلا حبة واحدة من الحمص، علم أنه متى أكلها فسوف يموت، فوضعها تحت لسانه أربعين يوماً، يتبلّغ بها، حتى رقت وذابت، ولم يبق منها إلا قشرتها، وعندئذ أدرك أنه لا مفر من الموت، فلفظها من فمه، وتمنى لو أنه استنفد رزقه من قبل، ولم يعمر ما عمّر.‏

ولم تكن في الأصل من قرية التل، وإنما هي من قرية غير بعيدة عنها، اسمها العدنانية، تزوجت إلى قرية التل، تزوجها أحمد العابد، كانت دون الخامسة عشرة، هكذا تروي هي، وهكذا يؤكد كل الناس، أنجبت له ثلاث بنات، وكاد يتزوج ثانية، فهو يريد ولداً ذكراً، مثل باقي الرجال، ولكنه سيق إلى حرب سفر برلك، إلى حرب الترك والمسقوف، هكذا سمعت، راح، ولم يرجع.‏

قبل أن تبلغ العشرين، كان زوجها قد سيق إلى الحرب، وبقيت هي مع بناتها، عملت في الأرض التي تركها لها زوجها، ربت بناتها، بلغت الخامسة والعشرين، تجمع حولها الخطاب طامعين في جمالها الناضج.‏

واستمرت في العمل في الأرض، ومرت سنة، وسنة أخرى، مرت عدة سنوات، الأرض لم تعط، عم القحط، ارتفعت الأسعار، وحام حولها أبو صالح يريد الزواج منها، ولكنها رفضت، كان عنده أربعة ذكور، وبنتان، وقد تجاوز الخمسين، وزوجته في عمرها، وازداد إلحاحه عليها، وازداد إصرارها على الرفض، وتدخل المختار، فأقسمت له أنها لن تتزوج أبداً، فطلب من الرجل أن يكف عن طلبها.‏

واضطرت إلى بيع الأرض لإطعام بناتها.‏

بعد سنة أو سنتين وصل إلى القرية بائع سمن، كان قادماً من البادية إلى سوق القرية، ومعه ولدان شابان، رآها مع بناتها في السوق، فخطب ابنتيها إلى ولديه، وسافرت البنتان مع زوجيهما إلى البادية. ومرت بضع سنوات، زارتها فيها البنتان مرة، أو مرتين، ثم انقطعت عنها أخبارهما.‏

وبلغت البنت الصغرى الخامسة عشرة، وكانت أجمل من أختيها، ولكن ذات ليلة أصابتها الحمى، وقبل أن يدركها الصباح ماتت. جزعت عليها أم أحمد أشد الجزع، وظلت تبكيها بضعة أشهر، ثم عادت إلى حياة، الناس، وبدأت تنساها شيئاً فشيئاً.‏

حتى ذلك الوقت كانت تدعى أم البنات، ولكن مختار القرية، وكان عجوزاً، اقترح دعوتها بأم أحمد، باسم زوجها، فسرت لذلك، واستجاب الناس، وبدؤوا يدعونها: أم أحمد.‏

ذات يوم زارها من العدنانية أخوها، ودعاها إلى العودة إلى العدنانية والعيش هناك، ولكنها رفضت، وقالت: "هذه قريتي".‏

ويدخل علينا الآذن حاملاً فنجاني قهوة، يقدم أحدهما إلى حسين، والآخر لي، وهو بادي التعب، فأبادره بالكلام:‏

"أنت يا أبو عبدو دائماً متعب، ولكن اليوم التعب واضح عليك أكثر؟!"‏

فيرسل زفرة طويلة، ثم يقول:‏

"إيه يا أستاذ، صار عمري فوق الستين، ومازلت كما ترى أعمل، هات فناجين، وخذ فناجين".‏

ثم يلتفت إلى حسين، وهو يقول له:‏

"هل تصدق؟! عندي خمسة أولاد، فيهم الموظف وصاحب المحل والتاجر، إيه، يا خسارة تعبي فيهم".‏

ثم يخرج منسحباً وهو يجر خطاه الثقيلة.‏

ومرت الأيام، وأم أحمد تزداد انشغالاً بحياة الآخرين، وتنسى حياتها، حين قررت البلدية هدم التل، كانت أول المعارضين، واستطاعت مع الفلاحين منع البلدية من تنفيذ قرارها، وحين شق طريق يمر بالقرية كانت أول العاملين في شقه، وحين أنشئت المدرسة تبرعت بدارها، واحتفظت لنفسها بغرفة صغيرة لتعيش فيها، وجعلتها خارج المدرسة، وعرض عليها المختار أن تعمل آذنة، ولكنها رفضت، وقالت: "لا أريد أن أقيد نفسي بأي شيء"، ثم أضافت: "وبعد موتي ضموا غرفتي إلى هذه المدرسة".‏

وتوفي المختار، وخلفه ابنه، وعاد أبو صالح إلى أم أحمد يعرض عليها الزواج منه، وطلبت من المختار الجديد أن يتدخل في الأمر، ولكنه كان شاباً ولم تكن له حنكة أبيه، فنصح لها بالزواج، وازداد إلحاح أبو صالح عليها، فذهبت إلى أولاده، وكانوا قد أصبحوا شباباً، وحدثتهم عن جنون أبيهم، وعزمها على رفض الزواج.‏

وبعد بضع سنوات اعتل أبو صالح وتوفي، وكان قد رجا أم أحمد قبل وفاته أن تسامحه لمضايقته لها، وإلحاحه عليها.‏

وفي السنة نفسها توفي المختار فجأة، ولم يكن له سوى ولد، لم يتجاوز العاشرة، فخلفه في المختارية أخوه بدلاً من ابنه، وهو أبو القاسم، المختار الذي أدركتُه حين كنت في التل، وطوال السنوات الثلاث التي أمضيتها فيها معلماً كانت أكثر سهراتنا عنده، وهو مضياف، حاضر البديهة، حلو الحديث، على الرغم من تجاوزه السبعين.‏

وقد حكى لي أنه انسكب مرة الحبر من يده على صفحة من صفحات دفتره، فلم يقلق، ولم يشغل، وأسرع على الفور إلى أم أحمد، فروت له أسماء أفراد الأسرة الذين انسكب الحبر على صفحتهم، فقد كانت تحفظ أنساب أهل القرية كلهم.‏

وأبو القاسم دائم الحديث عنها، وعن أخيه، وهو يؤكد أنه يعرفها حق المعرفة ويعيها منذ أن كان دون العاشرة، وكانت آنئذ في الثلاثين، كما يؤكد أنها كانت على مثل ما هي عليه اليوم، وهي في التسعين، من وقار واتزان ورجاحة رأي، تتكلم فيصغي الناس إلى كلامها، وتتركهم، فلا أحد يقول في غيبتها غير ما قالت.‏

والتفتُّ إلى حسين أسأله:‏

"وكيف حال أم أحمد؟!"‏

فأجابني:‏

"أوه يا أستاذ، توفيت"‏

وصمت، ثم أضاف:‏

"منذ ثلاث سنوات، كان شتاء قاسياً، حاد البرد، ماتت بعيد العصر، وهي تساعد جارتنا على إيقاد النار في التنور، ماتت فجأة، وقعت أمام التنور، ولم تنهض، ماتت وهي تعمل، كل أهل القرية كانوا يتوقعون أن يستيقظوا ذات يوم ليجدوها ميتة من البرد، متجمدة، أو أن تعتل وتمرض ثم تموت، ولكنها ماتت فجأة، كل الناس لم يصدقوا أنها ماتت، مع أن موتها كان متوقعاً".‏

وسألته:‏

"وهل دفنت فوق التل؟"‏

فأجاب:‏

"لا، ما فكر أحد في ذلك، فقد كان يوماً بارداً جداً، وساعة تشييعها هطل مطر غزير، فدفنوها في المقبرة الواقعة غربي التل، في قبر حتى الآن لا أحد يعرف أين هو"‏

"ولماذا؟"‏

"بعد دفنها استمر المطر يهطل غزيراً، طوال الليل ما انقطع المطر، وجرت السيول، واستيقظ الناس في اليوم التالي، وإذا جزء من التل قد انهار فوق المقبرة، فغطاها، وجرف السيل عدداً من القبور، ولم يبق منها شيء، وضاع قبرها مع القبور التي ضاعت".‏

"وغرفتها؟!"‏

"ضممناها إلى المدرسة، وحولناها إلى مكتبة"‏

"وكيف حال القرية؟ هل تطورت أو اتسعت؟!"‏

"أوه يا أستاذ، القرية تغيرت، لم تبق قرية التل، أصبحت قرية أم أحمد، بعد وفاتها بأيام اقترح أبو القاسم تسمية القرية باسمها، فوافق الجميع، وسرعان ما رفع كتاباً بذلك إلى البلدية، ورجع الكتاب بالموافقة"‏

"هذا شيء جميل يا حسين، ليتكم فعلتم ذلك في حياة أم أحمد"‏

"هناك شيء أجمل"‏

"وما هو؟"‏

فتح حقيبته، أخرج ملفاً ضخماً، فيه أوراق يزيد عددها على الخمسمئة، فسألته:‏

"ما هذا يا حسين؟!"‏

"مجموعة حكايات أم أحمد، كل واحد منا في القرية، دوّن ما كان قد سمعه عن أم أحمد من حكايات، وهي كما تعرف كانت تروي حكايات كثيرة، وجمعنا بعد ذلك مبلغاً لابأس به، ونحن عازمون على نشر هذه الحكايات في كتاب"‏

"هذا عمل عظيم يا حسين"‏

"وقد جئت إليك يا أستاذ باسم أهل القرية، لأطلب منك كتابة مقدمة للكتاب"‏

نظرت إليه، وهو يرشف قهوته، ثم قلت له:‏

"مثل هذا الكتاب أعظم من أن يحتاج إلى مقدمة"‏

"ولكننا نرغب في مقدمة تكتبها أنت بالذات، فنحن نعدّك ابن قريتنا، ولعلك تذكر أنك نبهتنا إلى تلك الحكايات حين كنا في المرحلة الإعدادية، ونحن نعرف أيضاً أن لك اهتماماً بالحكاية الشعبية، وأنك أصدرت كتاباً فيه مجموعة حكايات".‏

أشرت إليه بالموافقة، ثم قلت له:‏

"ولقد وضعت زوجتي يوم أمس بنتاً، وحتى الآن ما أزال أفكر في اختيار اسم لها، وأود سؤالك عن اسم أم أحمد، لتسمية ابنتي باسمها؟"‏

"في الحقيقة سألنا الكثيرين عن اسم أم أحمد، بعد أن جمعنا حكاياتها، ولكنّ أحداً لم يعرف".‏

"وهل سألتم المختار، أبو القاسم؟"‏

"أبو القاسم توفي العام الماضي، وانتقلت المختارية إلى أسرة جديدة، ومختارنا اليوم شاب مثقف، مثل سائر شباب القرية".‏

وشكرني للقهوة، ثم نهض مودعاً، فقلت له:‏

"يا حسين نسيت أن أسألك عن التل، ماذا حل به؟ هل فكرت البلدية مثلاً في هدمه؟! وهناك مشروع من هذا النوع، كما أعرف"‏

"بالعكس، البلدية منعت أخذ أي شيء من ترابه، كانت العادة أن يأخذ الفلاحون التراب من أطرافه لإشادة جدران بيوتهم وقبابها، ولكن البلدية حرمت الاقتراب منه".‏

"ولماذا؟‏

"ذكرت لك أن قسماً من طرف التل انهار، ولكن نسيت أن أخبرك أن انهياره كشف عن حجارة تشبه السور، على بعضها كتابات، قال أستاذ التاريخ هي كتابات عربية قديمة، وقال: ربما كانت القرية كلها مبنية على مدينة كانت مبنية أيضاً حول التل".‏

وصمت هنيهة، ثم قال:‏

"ما رأيك في زيارة تل أم أحمد؟!"‏

فأجبته:‏

"يسرني ذلك، سأزوركم في وقت قريب"‏

وتناولت منه مجموعة حكايات أم أحمد، احتضنتها إلى صدري بقوة، ثم شددت على يده وهو يصافحني مودعاً، وأنا أنظر إلى وجهه، فأرى سمرة الأرض، وشموخ التل، وأطيافاً بعيدة من ملامح أم أحمد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى