الثلاثاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٤

عودة مشروخة

آمنة زيد الكيلاني ـ مشرفة تربوية/ جنين ـ فلسطين

ألقى بجسده المتعب من طول السفر على المقعد الأمامي بعد أن كدس حقائب سفره بمؤخرة السيارة... تناول علبة السجائر .. أشعل سيجارة وراح ينفث الدخان بعصبية زائدة ، لم ينبس بكلمة واحدة ... وأخذ يمتد بنظره أماماً إلى الأفق البعيد ، تسابق بنظراته سرعة السيارة وأن كانت تسير في بعض الحالات ببطء شديد تجنبا للحفر وأكوام التراب في وسط الشارع.

أحس بطول الرحلة .. وكأنما كانت بطول عشر سنوات قضاها بين الحنين ونار الغربة. الجو حار جدا ... فالشمس تسطع بأشعتها العمودية لتجعل السيارة كتلة معدنية شديدة الحرارة... الركاب بعضهم نيام، والبعض يتكئ على نافذة السيارة مسترخيا، الصمت قاتل .. فلا صوت سوى صوت محرك السيارة..

استيقظ المسافرون على وقع كوابح السيارة المفاجئ، لتفاجئهم رتل من السيارات التي تقف أمامهم .. لم يصدق هل هو في حلم؟! بالأمس توقف على حاجز مشابه.. نفس المكعبات الأسمنتية .. إشارات حمراء ... إشارات توقف.. خوذات عسكرية تظهر من خلف المتاريس.. جنود مدججون يصوبون بنادقهم.. يا الهي ما أشبه اليوم بالأمس.

أطياف عذاب وألم .. تمر أمام عينيه.. رافقته على امتداد مجرى دجلة.. ودعتها بقلب دام حزين... حزم حقائبه مودعا ومشى عبر متاهات الحياة... متاهات الاغتراب .. اغتراب الذات ... ما زال يغشى عيونه تراجيديا بغداد ... غارقا في تفسير المفارقات الغريبة... عندما دوى صوت الجندي في أذنيه.. أخرج من السيارة وارفع ملابسك.. لقد جاءت الاستجابة سريعة، فقد عهد هذا الأمر من قبل .

عاد إلى مقعده .. محتقن الوجه ... تخرج زفرات الغضب من بين جوانحه.. يا الهي إلى متى هذا العذاب؟!.
كان النهار بعد هذه الرحلة في رمقه الأخير ، ونهاية الرحلة .. ساحة المخيم.. انتزع حقائبه بسرعة .. متجها حيث البيت.. هل تاه في المكان .. هل يمكن للمرء أن ينسى بيته.. أين شجرة التوت؟!.. هل يمكن لي أن أسأل شخصا عن بيتي؟! هل من المعقول أن يسأل شخصا عن موقع بيته؟! إنه جنون بعينه .. أين بيوت الجيران .. هل بيت أبو خليل ...وبيت أبو احمد ... أين ؟؟؟...أين؟؟؟. هل حصل زلزال؟! لا اعتقد ذلك؟..

لم يجد أحدا يسأله.. فقد بدأت الشمس تميل إلى الغروب.. نحّى حقائبه جانبا.. وصعد حيث تلة من الأنقاض وبقايا كتل إسمنتية.. وثمة ملابس ممزقة وبقايا أثاث.. منزلي..وقع بصره على صورة مأطرة، وسلسلة تنتهي بميدالية فضية، التقطهما بسرعة.. تفحص الأشياء إنها سلسلة الصغيرة "أمل " كان قد أحضرها في عودته الاخيرة... قرأ على الميدالية.. بقايا من شريعة حمورابي.. السن بالسن.. والعين بالعين". زجها في جيبه.. وتفّرس في الصورة المأطرة.. لقد كانت صورة أخيه طالب الثانوية العامة "منير" وسط ذهول شديد .. كاد أن يفقد صوابه
انطلق مسرعا في الشارع المنطلق إلى غرب المخيم.. حيث مركز سكة الحديد القديمة.. ليبحث عن صديق الطفولة، التقاه باكيا.. لم يعرف سر البكاء... كان يظنها دموع الفرح ... تحدثا وسارا متجهين إلى امتداد الشارع غربا ..

وطرح أسئلة كثيرة على صديقه.. ولكن لم يتمالك الرد السريع .. أجهش بالبكاء.. متابعا السير نحو مقبرة الشهداء.. حيث غطت جوانبها الورود والرياحين.. وآيات من الذكر الحكيم.. تقدم نحو الأحداث.. يحاول قراءة ما عليها بصعوبة... حيث بدأت خيوط أشعة الشمس بالتآكل نحو الغرب.. استطاع أن يقرأ جملة واحدة... " هنا يرقد شهداء عائلة أبو علي" .. انكب الشاب العائد على شاهد القبر باكيا ومقبلا.. انسلت يده إلى حقيبته.. أخرج كافة كتب القانون.. ووثائق حقوق الإنسان.. وشهادة التخرج.. مزقها إربا إربا... تطايرت فوق شواهد القبور .. حمل حقائبه بمساعدة صديقه... يقسم ويتوعد مهددا بالانتقام.

آمنة زيد الكيلاني ـ مشرفة تربوية/ جنين ـ فلسطين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى