الخميس ٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم محمد المزوغي

بؤس الليبراليّين العرب

الظلاميّون يفتون والليبراليّون يتنبؤون، ولِكُلّ منهم نَكبَته. الفتاوى في العالم الإسلامي غير مُلزمة لأحد، وقد يَصرخ أصحاب العمائم بأعلى أصواتهم، ولكن لا أحد مُجبَر على تلبية نداءاتهم أو تنفيذ أحكامهم، وهذه نَكبتهم. لكن نَكبة المتنبئين أشدّ، فهم يَتحرّكون خارج المجال الديني ـ وهذا شيء يُحمدون عليه ـ إلاّ أنهم لا يَرضون بأقل من لقب العقلانيين، ولذلك فإن نبوءاتهم علمية ومَبنية على مُعطيات واقعية لا تقبل الدّحض. أين نكبتهم إذن؟ في بقائهم بعد نبوءاتهم. هكذا حصل أخيرا للمثقفين والمُحللين السياسيين في الغرب، الذين بَرزوا كالفِطر بعد أحداث ما يُسمّى بالحادي عشر من سبتمبر، وقَبل الحرب على العراق؛ ثم تكثّف عددهم حين انضمّ إليهم فريق ممّن يُدعون بالليبراليين العرب. لقد تنبّئوا بعهد جديد، وبأن الحرب على العراق ستكون مُجرّد فسحة للأمريكان ولن يَقع فيها قتيل مدني واحد، وأن الديمقراطية والسلام والرّخاء ستعمّ العراق من شماله إلى جنوبه، وسيصبح البلد وكيل أمريكا في تصدير الديمقراطية للعالم العربي ويغدو جنّة تَدُرّ لبنًا وعسلا: الواقع كذّبهم بصفة مُزرية، والأحداث مَحَقتهم إلى درجة أننا نَعجب الآن كيف يُواصلون الكتابة والتّنظير دون أن يَنتابهم أي شعور بالخجل. ولو كان واحد منهم يملك حسا نقديا صادقا لاستحيَى مما قاله، ولباء بإثمه علنا. ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل تَمَادوا في هذيانهم ووَاصلوا في إغراق القراء بتَفاهاتهم، مثل زعيمهم العفيف الأخضر الذي وصلت به شدّة الوجد والحماسة إلى حدّ الدعوة لمَنح، أحد الرجال المسؤولين على نكبة العراق، جائزة نوبل للسلام.

لقد كتب في مقال له بتاريخ (2005 / 4 / 10) إن « تحرير العراق من كابوس صدام يَستحق حربا » ثم يواصل متنبئا ـ بكل تفاؤل وغبطة ـ بالمزيد من الحرب، ومُترنّما بوَليمة التقتيل التي ستُقام عن قريب في بعض الدول العربية ومنها إلى الدول الإسلامية المارقة، قائلا: « مثال العراق، ستنتقل عدواه ربما، في السيناريو المتفائل، إلى سوريا، تركيا وإيران. إسقاط صدام دق الأجراس للأنظمة المشابهة قليلا أو كثيرا لنظامه الكابوسي»، ثم يُمَنّي الأكراد بمستقبل زاهر ويُثني عليهم ويَعِدهم بالجنّة: « فصبرا آل صلاح الدين، صبرا فموعدكم جنة الحرية». هذا في ما يخص الأكراد، أما أولئك الذين تواطؤوا علنًا، ولا زالوا إلى يومنا هذا، مع الأمريكان لاقتسام العراق، وتحويله إلى دويلة إسلامية شيعية تابعة لإيران فإنه يُثني عليهم وعلى زعيمهم بهذه العبارات التي لا تليق بالمثقف العلماني الليبرالي التنويري، الذي سمّته جريدة هاآرتس "سبينوزا العرب" وسماه، أحد "التنويرين" العرب الذي خدعنا لمدة سنين، أعني هاشم صالح، بفرط من التمجيد، "فولتير العرب". انظر كيف يُمجّدا "سبينوزا وفولتير العرب" رجلا مثلهما من لحم ودم: « وبهذه المناسبة أوجّه تحية إكبار لآية الله علي السيستاني لأنه رفض إعلان الجهاد، الذي كان منذ قرنين وبالا على المسلمين والإسلام، ولأنه أبى أن يردّ على الإرهاب السني الوهابي والصدّامي المجنون بإرهاب شيعي مضاد. وهو لذلك جدير بجائزة نوبل للسلام، كما اقترح توماس فريدمان ، تشجيعا لرجال الدين المسلمين المسالمين». أقول، فقط للأمانة التاريخية، إن إعلان الجهاد، هو ليس إلاّ إعلان حركة المقاومة الشعبية ضد لغزاة والمستعمرين. ثم إن المقاومة الشعبية لم تكن في يوم ما وبَالا على أي شعب، إن كان الغرض منها، كما قلتُ، الدفاع عن النفس ودَحر المستعمر. والدليل على ذلك أن إعلان الجهاد (المقاومة الشعبية) في إحدى الدول الإسلامية في القرن التاسع عشر، وبالتحديد في أفغانستان، هو الذي قسَم الجيوش الإنجليزية، مرّتين، ووضع حدّا لعجرفتهم وانتهاكاتهم المستمرة لحرمة شعوب العالم وخصوصا العالم الإسلامي.

إن لم يكونوا من المتنبئين الكاذبين فإن هؤلاء الليبراليين المزيّفين، الذين لم يفهموا من الليبرالية شيئا، أقول إن لم يكونوا من زمرة المتنبئين الفاشلين، فهم يَنضمّون إلى معسكر الشامتين. انظر مثلا، هذا الذي يُدعى عبد الله الدلق الذي كَتب مُتعمّدا وشَامتا، مقالا بعنوان "يا ليتني كنتُ جنديا إسرائيليا" (جريدة الوطن الكويتية بتاريخ 11/7/2006)، يتحسّر فيه على حظّه التعيس الذي أوجده في العالم العربي، في الوقت الذي كانت تَدُكّ فيه مدافع الحرب، وترسانة أولئك البرابرة الشرسين، الذي يَتمَنّى أن يكون منهم، البيوت على رؤوس سكّانها العُزّل في بيروت وضواحيها. إنه أمر يدعو معا للشفقة واليأس والحزن. لقد اندَفنَ الحقّ أشدّ اندِفَان، وانكَتَم الصّدق أشدّ انكِتَام.

لم يقف الخطب عند هذا الحدّ بل إن الجنس "اللطيف" أيضا، دخل المعمعة من بابها الأرحب، وأدلى هو الآخر بدَلوه مُنساقا مع هذا التيار دون أن يزن بميزان العقل تبعات مواقفه، ومخاطرها على مصداقيته كمثقف عقلاني. وأقصد بالخصوص الكاتبة التونسية رجاء بن سلامة: في مقال لها بعنوان "حول عبارة ما يسمّى بالإرهاب" تُثني على قناة الفيحاء، تلك القناة المتحيّزة كلّيا لطائفة من الطوائف العراقية الأكثر تزمتا وكرها للمقاومة. وتقول بأنه على عكس هذه القناة، التي تسمِّي «الإرهاب إرهابا»، فإن « إعلاميّي قناة الجزيرة وغيرها من المنابر الإعلامية المحلية والعربية... يَتردّدون في تسمية الإرهاب إرهابا». وقد يكون ذلك راجعا إلى أن مُحللي الجزيرة يدركون جيّدا أن مقاومة الغزاة والمستعمرين، لا يمكن أن توضع على قدم المساواة مع الإرهاب؛ ثم إن تقنية الحطّ من المقاومة، وإضفاء العدوّ صفات مُشينة تدخل في إطار الحرب النفسية، وهي تقنية دعائية مشهورة ومتداولة في النزاعات المسلحة الحديثة. لقد أطلق الإنجليز وحلفاؤهم في الحرب العالمية الأولى على الألمان لقب البرابرة، ونَزعوا عنهم حتى انتماءهم الغربي. هذه أمور معروفة، ومُسجّلة في كُتب التاريخ ويكفي فقط قراءتها والإطلاع عليها. لكن الدكتورة رجاء بن سلامة لها نظرة أخرى وتفسير مغاير لعدم انسياق القنوات الإخبارية مع الدعاية الأمريكية، لقد أدركت مكنونات قلوب الناس وما يختلج صدورهم، واكتشفت الخاصية المتفردة البغيضة التالية وهي أن إعلاميي قناة الجزيرة هم أناس « قساة غلاظ القلوب، ولأن منطق القبيلة والأخذ بالثأر أعمى أبصارهم وأصمّ آذانهم». ثم قالت بأن صحفيّي الجزيرة "البدائيين" الذين « يُبدون تحفظهم بترديد عبارة "ما يسمى بالإرهاب"» هم الذين « شمتوا على نحو بدائي مُخز في آلاف الضحايا الأبرياء الذين احتَرقوا يوم 11 أيلول/سبتمبر... وهم الذين ينفون وجود مدنيين وضحايا في إسرائيل، ولا يرون الضحية إلاّ عندما تكون في صفهم ومن بني جلدتهم»، والنتيجة، هي أن العاملين في الجزيرة هم « أهل قصاص ودماء لا أهل قانون وحق».
لم تكتف بهذه التّهم الخطيرة والتي لم تُقدِّم ولو شهادة أو نصا واحدا لتدعيمها، بل إنها تمادت ووصل كلامها إلى حدّ الفلكلور أو الخور، قائلة مثلا بأن أولئك الصحفيين « بَكوا يوم سقوط ذاك التمثال الذي نصّبه المستبدّ لنفسه لكي يُخلّد نفسه ويرتهن عراق المستقبل كما ارتهن عراق عهده». وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة، فإن أقل ما تقول في أولئك الصحفيين الباكين على التماثيل، أنهم « العبيد الخائفون من فقدان العبودية، المطالبون بدماء مصاصي دماء البشر».

ماذا أقول؟ وكيف الردّ على هذا القذف والتشنيع؟ تالله إن بوش ورهطه هم مَصّاصو دماء البشر، وأن السيدة رجاء بن سلامة هي الشامتة في مِحَن العرب، والدليل على ذلك أنها تتغنّى بتلك الإهانة التي أصابت العالم العربي من محيطه إلى خليجه، حتى وإن جاءت في حق دكتاتور دموي ككلّ الدكتاتوريّين في العالم أجمع، وكثير منهم لازالوا يَحكمون العالم العربي إلى يومنا هذا. إنها تصف عملية القبض على الرئيس العراقي بِلُغة صلفة لا تُخفي شحنة السخرية والشماتة: « ويوم ألقي القبض على صاحب التمثال الضخم الرهيب، وأخرج من جُحره كما تخرج الفئران، وسقطت هالته الحربية والفحولة الواهية، رأيت وسمعتُ مثقفين وجامعيين يعبّرون عن "الإهانة" التي شعروا بها من جراء ما فعله المحتل الغاشم بزعيم عربي». لكنها هي، كمثقفة ليبرالية عقلانية، لم تشعر أبدا بالإهانة أو الضيم، ولا أستبعد قطّ أنها في قمّة الفرح والغبطة يوم 31 ديسمبر 2006 حينما شُنق ذاك الرجل بعد التبديع به وإهانته أمام شاشات العالم أجمع. إنه أمر مخزٍ، بؤس لا وراءه بؤس، وأكثر منه خزيا هو كلامها العنصري، أقول العنصري، في حق آدميين عرب مثلي ومثلها، قذفتهم بأبشع النعوت، لا لشيء إلاّ لأنهم تصدوا للغزات وقاوموهم. لقد زعمت بأنها في أيام حصار الفلوجة رأت وسمعت « حشودا يُشبهون الرّهط البدائي»، إن أخراجها لهذه الحشود من صنف البشرية المتحضرة لا لشيء إلاّ لأنهم « يتغنّون بأبطال الفلوجة... ويستعدون لجَلد كل شيطان مارق يشكك في المقاومة العراقية». نودّ أن نصدّق الدكتورة رجاء بن سلامة ونَتفهّم تَخوّفها من الجلد، لكن مؤازرتنا لا تذهب إلى حدّ تبنّي مواقفها العنصرية. وإذا أردنا الدقة والموضوعية، لم نر أمام أعيننا في الفلّوجة أبطالا (على الأقلّ في وسائل الإعلام)، رأينا دمارا شاملا وأكواما من الجثث، المبعثرة في الشوارع؛ رأينا رجالا ونساء جرحى في المساجد المُدمّرة، أرْدَاهم الجنود الأمريكان قتلى وهم يتمرّغون في جراحهم. مدينة الفلوجة التي ضربها الأمريكان بقنابل فسفورية جهنمية، لم تُدَغدغ مشاعر الإنسانية فيها (أشك في أن هذه الإنسانة لديها مشاعر إنسانية، وأودّ أن أُعارض في كلامي هذا)، ولم تُثر في نفسها ذرّة من التضامن مع المدنيين العُزّل، من أطفال ونساء وشيوخ، لم يستطيعوا الفرار من جحيم الفسفور المتساقط على رؤوسهم. كلّنا يعلم ذلك، والقناة التي تتهجّم عليها هذه الإنسانة، هي الأولى التي فَضَحت تلك المجازر.

لكن الدكتورة رجاء بن سلامة لها فلسفة أخرى في الحياة، وتَمتلك وصْفة جديدة كي تُداوي بها تَعنّت أهل الفلوجة وتستأصل، من الجذور، هوس المقاومة. إنها فلسفة "المُمكِن المُهْمَل"، أعني على حدّ قولها: « إن الخير يمكن أن ينبع من الشرّ، وإن عراقا جديدا يمكن أن يَنتَفض ويخرج من رَماد الحرب والاحتلال كما ينتفض طائر الفِينيق وينبعِث من حريقه ». هذه الفلسفة التي ما هي بفلسفة، وهذه النبوءات السّخيّة والواعدة، تُكذبها الأحداث الراهنة بصفة جدّ مُخزية، كما كذّبت العفيف الأخضر ورهطه من المثقفين العرب الموالين للإمبريالية الجديدة.

تبرير الحرب والتقتيل والدمار لأجل وَهم إمكانٍ مُهملٍ لا نعرف زمن تحقّقه، ولا الشروط الموضوعية لتنفيذه هو مُجرد هوس فكري لا أكثر ولا أقلّ. أما بخصوص الدكتاتورية، التي أصبحت الآن المبرّر الأوحد لدخول الأمريكان العراق، أنا أتحدّى رجاء وغيرها أن تُريَني دولة عربية واحدة تُقام فيها انتخابات نزيهة وصحافة حرّة، ومجتمع مدني فاعل ومؤثر في القرار السياسي. القاصي والدّاني، الصغير والكبير، العاقل والمعتوه، يَعلم أن دخول بوش إلى العراق سببه الأساسي والأوحد هو البترول وحماية إسرائيل. هذه بداهة، ولا جدوى في البرهنة على البداهة. لكن لا أودّ أن أفوّت هذه الفرصة لكي أعبّر عن خيبة أملي من هؤلاء الناس، رجالا ونساء، ممن يُدعون بالعقلانيين العرب. ولكي أرفع أيّ التباس، أقول بأن كاتب هذه السطور مع العقلانية والتنوير والعلمانية وضدّ الظلامية الدينية الفقهية، ومُعادٍ، حتى الموت، للحركات الأصولية التي زاد في تمتينها بوش في الخارج وأنصاره من أشباه الليبراليين في الداخل. واقتناع كاتب هذه السطور راسخ من أنه ليس هناك من سبيل أمام الأمة العربية للخروج من المآزق التي تتخبّط فيها إلاّ بتفعيل تلك المكاسب الإنسانية الشاملة، والتصدي للتزمت الديني بجميع أشكاله. لكن ليبراليينا العرب، أو ما يُسمى بالعقلانيين، إن كانوا مثل العفيف الأخضر وعبد الله الدلق ورجاء بن سلامة، فهم نَكبة، بل نكبة مضاعفة، لأن المثقف التنويري الصادق يجد نفسه بين نارين: نار الأصوليّين أعداء العقل والمرأة والديمقراطية وحقوق الإنسان، من جهة، ونار ما يُسمّى بالعقلانيين العرب المصابين بداء "الانفصام" لفقدانهم روح التضامن مع الشعوب المقهورة من طرف الإمبريالية الأمريكية الإسرائيلية، ولتَزكِيتهم غزو البلدان العربية الواحدة تلو الأخرى تحت ذريعة الدكتاتورية، ثم انهزاميتهم المقزّزة وحقدهم الضغين على المقاومة الشعبية. ومع ذلك فهُم لا ينفكّون من إعلانهم أمام الملأ بأنهم عقلانيون متنوّرون، ولا يتوانون من تصنيف معارضيهم، أيٍّ كان، حتى وإن كان شيوعيا ملحدا، في خانة اللامعقول. أودّ أن أسألهم: أين هي العقلانية في من يُساند غزو بَلد آمن؟ أين التنوير عند من يرغب في نشر قيم أخلاقية عظيمة ومسالمة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان عن طريق سفك دماء الأبرياء؟ ما الفرق بينكم وبين من تَدّعون مُحاربتهم من الأصوليين والإرهابيين؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى