الاثنين ١٤ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

في القُمْرة

حين صعدت إلى الطائرة التي ستقلّني من دمشق إلى باريس في يوم مشرق من أيام شهر أيار ، لم يكن يهمني إلا أن أجلس في مقعدي وأغط في نوم عميق بعد ليلة أمضيتها في ترتيب الحقائب ولم يذق فيها جفناي طعماً للنوم ، وكانت الساعات الأربع التي قضيتها في (الترانزيت) في مطار دمشق بعد إقلاعي من مطار حلب زمناً رتيباً وقاتلاً ، أحسست خلاله بأن جسدي سينهار ، وأنني لن أستطيع حتى صعود سلالم الطائرة لإفراط جسدي في التعب والإرهاق .

بعد مراحل التفتيش والتأكد من أوراق السفر والجواز صعدت إلى الطائرة وأنا أترنح ، ولم أعرف كيف وصلت مقعدي حتى جلست لأُجبر بعدها على سماع إرشادات النجاة في حال تعرض الطائرة لأمر سيء ... سمعت الإرشادات بصعوبة وكنت أود لو أن المضيف ينتهي من حديثه بأقصى سرعة ممكنة ، أو أن يختصر كلامه ، أو أن لا يتحدث البتة ... ماكنت أود فعله في تلك اللحظة هو أن أنام وحسب .

أخيراً انتهى حديث المضيف ، واستغرقتُ في حلم كانت مفرداته شاسعة كهذا الفضاء ، حلم لم أفق منه إلا بعد ساعات ... وحين فتحت عينيّ كانت حروفه لاتزال تنثال من جبيني ... لم أستوعب بداية أنني في الطائرة ، وكأن الزمن الذي أمضيته وأنا نائمة جعلني أتوه عن الزمان والمكان .

ولكنني نظرت من نافذة الطائرة فرأيت غيوماً تجري ، ووددت في تلك اللحظة لو أمسك واحدة منها لأعرف ملمسها ، أو أن أعبر من خلالها كما يعبر الطائر الفضاء بجناحيه .

نظرت إلى ساعتي فإذا هي الثانية عشرة ظهراً ... وهذا يعني أن هناك ثلاث ساعات للوصول إلى باريس .
كان نصف الركاب في حالة نوم والنصف الآخر في حالة صمت .

ولم أشأ أن أمضي بقية الساعات وأنا في حالة صمت كتلك التي يعيشونها وكأنهم في مأتم ..

خطر ببالي وبحكم عملي الصحفي أن أجري حواراً مع كابتن الطائرة ، وهي فرصة لي لأتعرف إلى هذا الذي يمسك الطائرة بيديه ...

بعد قليل مرّ المضيف من جانبي ، وترددت في البداية .. هل أعلمه بما يدور في خلدي أم أبقى صامتة كل الوقت ؟؟
ولكنني استوقفته ... وأبلغته أنني أرغب في إجراء حوار صحفي مع كابتن الطائرة ...

فذهب المضيف ورجع بعد ثوان ، ليبلغني أن الكابتن على استعداد لاستضافتي في قمرة القيادة.

نهضت من مقعدي وتوجهت نحو مقدمة الطائرة وقد سبقني المضيف لإعلام الكابتن بمجيئي .

دخلت قمرة القيادة من باب ضيق صغير ، وإذا بي أمام نافذة تطل على فضاء واسع ، ألقيت التحية فاستدار الكابتن مرحباً بي ، وقد دعاني للجلوس على مقعد صغير كان يتوسط الفراغ بينه وبين مساعده ولكنه يتراجع عنهما قليلاً ...عرفتهما بنفسي وبدورهما عرفاني بنفسيهما .

تأملت لوحة القيادة للوهلة الأولى ، فشعرت بشيء من الذهول أمام هذا العدد من لوحات القياس والمؤشرات والأضواء ..
سألت الكابتن عن استعداده لإجراء حوار معه ، فأجابني :

 دعكِ من الحوار وتأملي هذا المشهد الذي قد لاتتاح لكِ فرصة أخرى لتأمله ...

نظرت أمامي فوجدت لوحة جميلة جداً ، غيوم بيضاء كثيفة ترسم مايحلو لها من أشكال ، غيوم كأنها نتف كبيرة من الثلج ...قلت للكابتن :

 جميل هذا المنظر الخلاب ، وجميل عملكم لأنكم تستمتعون بما لايعيشه الآخرون على الأرض .

ودار حديث بيننا نحن الثلاثة ، وأمضيت الزمن المتبقي من الرحلة وأنا في مقعدي الصغير هذا ، ورأيت مالايمكنني أن أراه لو بقيت جالسة في مقعدي في الطائرة ...

لم أخف حينها لأنني لمست كيف يتعامل كابتن الطائرة ومساعده مع الأجهزة التي أمامهما ، وكيف يتصلان بأبراج المراقبة ، وكيف يلقيان التحية على طائرة أخرى وهي تمر قريباً منا.... وكيف تحدث المطبات الهوائية ... كل ذلك شعرت به وأدركت تفاصيله العلمية بشيء من البهجة ...

كانت الأجواء العليا تفسح المجال للخيال بأن يشتط قليلاً ويسرح ويمرح في هذا المشهد الأبيض الجميل ...وكان الحديث الذي دار بيننا ممتعاً لدرجة خلت معها أنني أعرف هذين الرجلين منذ زمن بعيد ... أو أنني التقيت بهم ذات مرة ، ولكن بالتأكيد ليس في وسط هذه الأجواء السماوية ...

في هذه القمرة الصغيرة تناولت وجبة الفطور ، وأحسست وأنا أتناولها بطعم هذا المشهد الذي أمامي ، حتى طعم الشاي الذي شربته كان مختلفاً جداً ...

لا أعرف ما الذي ينتاب المرء من مشاعر وهو يحلق على مسافة آلاف الأمتار فوق الأرض ... ولابد من أن تلك المشاعر تختلف من شخص إلى آخر ... ولكنني أذكر أنني كثيراً ما حلّقت إلى هذه الأمكنة فيما كتبته من قصائد ذات يوم ... وهاهو الخيال يتجسد حقيقة .. وها أنا في قلب ذاك الخيال المتجسد .

مضت الساعات كأنها دقائق ... كأنها حلم جميل لم أفق منه إلا بعد أن أشار الكابتن إلى أننا نحلق الآن في الأجواء الفرنسية ..

وماهي إلا ثوان حتى هبطت الطائرة قليلاً مخترقة تلك الغيوم السابحة في الفضاء ، وانقشع الغمام عن الأعين ، وظهر هذا الذي يتوسط مدينة باريس متجهاً نحونا .... أشار إلي الكابتن أن أنظر إليه ... إنه برج إيفل ...رأيته من عل ٍ... كان شامخاً بوقفته ... وكأنه يرحب بالقادمين إليه أو مودعاً الغادين الذين لوّحوا بأيديهم له قبل قليل ...

هاهي الطائرة تهبط متجهة نحو مكان معين ... هاهي تقترب من خط أبيض طويل .. إنه مدرج المطار .... تهبط أكثر فأكثر ... وقد أحسست بهذه اللحظة وكأنها لحظة امتحان للكابتن ... حتى لامست عجلات الطائرة أرض المدرج بكل هدوء ويسر ... ولم أجد نفسي إلا وأصفق لهذا الكابتن الذي أوصلنا إلى بر الأمان .... وسارت الطائرة في مسارها حتى اقتربت من نقطة النهاية ليختم الكابتن هذه الرحلة بقوله : الحمد لله على السلامة .

حينها وددتُ لو أنني بقيت محلّقة في ذاك المكان ، ولكن ليس في مقعدي داخل الطائرة ، وإنما خارجها ، متوسدة إحدى تلك الغيمات ؛ لأسافر مع قصائدي وأحلامي نحو أفق لاحدود له .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى