الثلاثاء ٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم نبيل درغوث

الوصف في نوارس الذاكرة لكمال الرياحي

قال بعض المتأخّرين: أبلغ الوصف ما قلب السّمع بصرا

(ابن رشيق)

إن كل الأجناس الأدبية كالقصة والرواية والشعر...لم تستغن عن الوصف.فالأدب العربي منذ القديم عرف الوصف، وشعراء الجاهلية مارسوا الوصف في نظمهم لقصائدهم سواء وصف الحبيبة أو وصف الأطلال أو وصف المعارك الخ...

فالوصف في المعجم العربي هو التجسيد والابراز والإظهار وفي التراث النقدي العربي يقول قدامة بن جعفر في الوصف: "إنما هو ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات" [1]
إن الوصف ملازم لكل الأجناس السردية "فليس ثمة عمل سردي خال تماما من البعد الوصفي" (2) فالوصف أداة أساسية في القصة. إذ السرد ينقل الأحداث أما الوصف فموكول إليه تقديم الأشياء والشخصيات [2] .

وللوصف أهمية خاصة في تأثيره على المتقبل باعتباره أداة إيهام بالواقعية. وفي هذا يقول "هامون": " لا يمكن أن تستغني القصة عن الوصف لأنها تستمد منه قدرتها على التخييل وكذلك قدرتها على الإيهام بالواقعية" [3] فالوصف مكون أساسي من مكونات القصّ عند الرياحي. إذ الوصف يرجئ الأحداث ليقدم ملامح الشخصيات:

"تقدم منه زنجي عملاق أصلع الرأس عاري الصدر يحمل في يديه أوراقا.." (نوارس الذاكرة، ص 24)

"هذا هو عبد الرحمان التيس رجل في الأربعين طويل القامة ضعيف البنية..." (نوارس الذاكرة، ص33)

"هي فتاة في العشرين مستديرة الوجه دعجاء العينين، سوداء الشعر والحاجبين، يبدو عليها الكثير من البراءة".(نوارس الذاكرة، ص33)

"...حبيبها العائد بعينيه الواسعتين وحاجبيه العريضين". (نوارس الذاكرة، ص 51)

"دقّق النظر فلاحت له امرأة مشحونة لحوما وزيوتا، تصرخ في وجه شيخ أصلع تنساب لحيته طويلة في غير نظام..." (نوارس الذاكرة، ص 107)

تتناول هذه المقاطع الوصفية كلها رسم الشخصية فيزيقيا (ماديا) سواء ملامح الوجه أو حجم الجسم. وهذا الرسم باللغة وبالكلمات يمكّن القارىء من أن يتابع المشهد/المشاهد وكأنها صورة بصرية. فلذلك الوصف هو أداة التمثيل الرئيسية الذي لا يمكن أن يؤديه السرد. وهكذا يكون هذا النوع من الوصف مكمّلا للسرد غير مُوقف له.

والرياحي في وصفه الشخصيات لا يقتصر على مظهرها الخارجي فقط بل ينقل عبر الوصف هيئاتها وأحوالها أيضا:

"أغلقت العجوز الباب بعصبية وهي تصب وابلا من الشتائم والسب على فتاة بائسة، ترتدي بقايا فستان وتنتعل الجروح ورصيف الطريق، تشد إليها طفلا صغيرا حافي القدمين، شاحب الوجه، هزيل الجسم تظهر ركبتاه رقيقتان كتلك المسامير التي تدق معدته جوعا وألما [...] كانت علامات الجوع بادية على الطفل الذي غارت عيناه في جمجمته واصفر وجهه..." (نوارس الذاكرة، ص 38)

طفل حافي القدمين، هزيل الجسم، شاحب الوجه... وفتاة تلبس بقايا فستان. هي عناصر وصف موضوعي تنقل لنا حالة البؤس والتعاسة التي عليها الشخصيات. فبهذا الوصف نلمس ظروف هذه الشخصيات عبر رسم ملامحها المتصلة بالجسم والهندام وسمات الوجه. وعبر هذا يمكن للقارىء أن يتعاطف مع هذه الشخصيات. ففي هذا السياق نختلف مع ما ذهب إليه "آدم" الذي يرى أن الوصف يبطىء دوما مجرى الأحداث أو الحكاية و يخلق نتوءا في مستوى النص [4] فخاصية الوصف الذي تطرقنا إليه في السابق ليس خلقا لنتوء في النص بل هو في تماه مع نسق وسياق السرد. متمم لنقل الأعمال بنقل الأحوال.
فوظيفة كل هذا الوصف هو رسم ملامح الشخصيات، معرفا بها ومبرزا خصائص مظهرها الخارجي للقارىء.
ونجد في أقاصيص المدونة صنفا آخر من الوصف يتعلق بالأماكن وهو معطى مساعد على فهم الشخصية من الداخل وكشف باطنها.

"توقف متأملا...لم يكن المكان زاوية كما أعتقد بل هو كهف زائغ في الجبل، تجويف عميق، قد تكون صنعته مياه السيلان...لا يبدو آهلا إلا بالخرافات والثعابين والغيلان...يطلق عليه اسم الغرّافة. هذه الأكف من الحنّاء على جوانب الكهف وهذه الشموع المنطفئة ورؤوس الأسماك العظيمة والطيور السوداء الميتة..أشباح تذكرك بأساطير الغجر وخرافات العجائز تسلل داخل الكهف الغائر في عمق الرعب. وقد بدأه التوتر أو هو الخوف المتستر بجلالة الأمر. كان الكهف عميقا صامتا باردا باهتا يشلّ الحركة، جلس في الركن يسند رأسه إلى كف يده المغروسة في ركبته. بردت أطرافه وهزّه النعاس فأسلم نفسه للحلم".(نوارس الذاكرة، ص 106)

هذا المكان هو كهف في أعلى الجبل فيه شيخ يقال أنه "ولي صالح" ورجل مبارك. فتكبدت الشخصية (سالم) مشاق ومخاطر الطريق في صعودها إلي هذا الكهف أملا في شفاء عقمها على يد هذا الشيخ العرّاف وسالم هو أستاذ، يقيم دائما خطبا لطلابه حول الشعوذة والدجل وعلاقتها بالتخلف والجهل والأمية...

ولكن هذا الوصف الذي أسلفنا ذكره يقوم بوظيفة استبطان الشخصية وتجلّي نفسيتها إذ أن سالم رغم تعلّمه وادعائه رفض الشعوذة والدجل، بقي تفكيره بدائيا كبدائية الكهف.، ونفسيته الخاوية ممتلئة منذ القدم بالخرافات والأساطير. وانهيار معنوياته لتصبح غبارا صاعدا بلهاث إلى أعلى الجبل على أمل التبرك بالشعوذة والدجل.
هذا الضرب من وصف المكان مشحون بإشارات رمزية تحيل على أغوار نفسية الشخصية من جهة وعلى عوالم الفكر والثقافة المحيلة على باطن الشخصية من جهة أخرى.
إن وصف المكان كما تجلّى في المقطع السابق ممتلي بإيحاءات وأبعاد أساسها التفاعل بين الشخصية والمكان بكل تعقدهما إلى حد تلاشي الحدود الفاصلة بين الشخصية (أي باطنها) والعناصر المكونة للمكان حيث تصبح الشخصية هي المكان، والمكان هو الشخصية.
فهذا الصنف من الوصف لا ينقل الحيّز ويؤطر فضاء الحكي فقط بل هو يكشف دواخل الشخصية ويساعد على استبطان هواجسها وبسط شواغلها المضمرة.

هكذا كان الوصف رسما بالكلمات لموصوفات وكأنها صورا بصرية.


[1قدامة بن جعفر، نقد الشعر، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة الخانجي، ط3، القاهرة1979 ص- 118-119

[2المرجع نفسه، ص 56

[3عن الصادق قسومة، طرائق تحليل القصة، دار الجنوب للنشر، تونس 2000، ص 168

[4عن محمد نجيب العمامي، في الوصف، دار محمد علي للنشر، تونس 2005-ص 59


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى