الأربعاء ٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

نازك الملائكة

هل أصبحت هذه العاشقة لتراب الوطن طي النسيان ؟

هل أصبحت صاحبة ( شظايا ورماد ) شظايا الغيبوبة والاكتئاب ، ورماداً للوهج الذي تألق ذات يوم بين أناملها حين خطت قصيدة ( الكوليرا ) ثائرة بها على المألوف والسائد في الشعر العربي وأوزانه ؟؟

هل أصبحت هذه العاشقة لليل والطفولة ولتراب الوطن طي النسيان، بعد أن أقعدها المرض في السرير لسنوات ، تصارع فيها روحها الانهيار النفسي والجسدي وفقدان الذاكرة ؟؟ ... لماذا غابت الصور الجمالية عن ذاكرتنا تجاه هذه الشاعرة الرائدة بعد أن قدمت خلاصة عمرها وتجربتها وشعرها وعلمها في سبيل أن تزرع أشعة من التجديد في نفوس محبي الشعر والحرية ؟؟

نازك الملائكة ، عاشقة الليل ، تغط اليوم في نوم عميق يبعدها الغياب عن موطنها العراق الذي تنهش جسده أنياب الاحتلال ، ألهذا عشقت هذه الشاعرة الليل وراحت تبحر في أمواجه كيلا تبصر صور المآسي والعذابات والانتهاكات التي تجري اليوم على أرض أنجبتها ؟؟

ترى لماذا تطوي الشيخوخة أولئك الكبار الذين عرفناهم رواداً كباراً حفروا طرق الشعر والفن والأدب بخطوط أقلامهم وأفكارهم ، وتطوي بالتالي ذاكرتنا تجاههم ... أهكذا يجزى الشعراء ؟؟

نازك الملائكة التي زاحمت الشعراء يوماً على كتابة قصيدة التفعيلة الحديثة ، فكانت رائدة لها ، موازنة في مسيرتها الطويلة بين النقد والإبداع الشعري ، تزاحمها اليوم وطأة الاكتئاب ، فنامت غائبة عما يجري حولها في هذا العالم ... ، نراها اليوم تغفو على ( شجرة القمر ) كعصفور جاءه الليل بعد أن عزفت ( مأساة الحياة وأغنية للإنسان ) لتستريح قليلاً من عذاباتها حاملة سرير حلمها إلى عالم غائب عن كل الذكريات ...

لقد طالت الغيبوبة بهذه الشاعرة بعد أن داهمها الزمن الكئيب ، الآن ترقد في القاهرة بعد أن غطت ووطنها في غيبوبة إنسانية ، ولعل الغيبوبة الإعلامية التي تعيشها اليوم لهي أقسى من غيبوبة الذاكرة ، ألم تكن يوماً رائدة الشعر الحر ؟ أليست اليوم آخر كنز لنا من كنوز الشعر ورموزه ؟ وإذا مانسيها وطنها العراق في زحمة آلامه ، فلماذا تتناساها الأقطار الأخرى ، إذ تركتها في القاهرة من دون أن ترسل إليها بلسماً يشفي جروحها ويحول بؤسها الدامي إلى لحظة تقدير تشرق من خلالها على العالم أجمع ؟

حين تمردت هذه الشاعرة على الأوزان التقليدية للشعر العربي ، وطلب منها ذات يوم كتابة سيرتها الذاتية ، أشارت إلى ذاك الاكتشاف الشعري الذي دوى في أرجاء الوطن العربي ، مسترجعة في تلك السيرة لحظات الانفعال الأولى وتجديدها للشكل التقليدي للشعر ، وتقول : ( بعد صدور " عاشقة الليل " بأشهر قليلة عام 1947 م انتشر وباء الكوليرا في مصر الشقيقة ، وبدأنا نسمع الإذاعة تذكر أعداد الموتى يومياً ، وحين بلغ العدد ثلاثمائة في اليوم انفعلت انفعالاً شعرياً ، وجلست أنظم قصيدة استعملت لها شكل الشطرين المعتاد ، مغيرة القافية بعد كل أربعة أبيات أو نحو ذلك ، وبعد أن انتهيت من القصيدة ، قرأتها فأحسست أنها لم تعبر عما في نفسي ، وأن عواطفي مازالت متأججة ، وأهملت القصيدة وقررت أن أعتبرها من شعري الخائب " الفاشل " وبعد أيام قليلة ارتفع عدد الموتى بالكوليرا إلى ستمائة في اليوم ، فجلست ونظمت قصيدة شطرين ثانية أعبر فيها عن إحساسي ، واخترت لها وزناً غير القصيدة الأولى ، وغيرت أسلوب تقفيتها ظانة أنها ستروي ظمأ التعبير عن حزني ، ولكني حين انتهيت منها شعرت أنها لم ترسم صورة إحساسي المتأجج ، وقررت أن القصيدة قد خابت كالأولى ، وأحسست أنني أحتاج إلى أسلوب آخر أعبر به عن إحساسي ، وجلست حزينة حائرة لا أدري كيف أستطيع التعبير عن مأساة الكوليرا التي تلتهم المئات من الناس كل يوم .

وفي يوم الجمعة 27 / 10 / 1947 أفقت من النوم ، وتكاسلت في الفراش أستمع إلى المذيع وهو يذكر أن عدد الموتى بلغ ألفاً فاستولى علي حزن بالغ ، وانفعال شديد ، فقفزت من الفراش ، وحملت دفتراً ، وغادرت منزلنا الذي يموج بالحركة والضجيج يوم الجمعة ، وكان إلى جوارنا بيت شاهق يبنى ، وقد وصل البناؤون إلى سطح طابقه الثانية ، وكان خالياً لأنه يوم عطلة العمل ، فجلست على سياج واطئ ، وبدأت أنظم قصيدتي المعروفة الآن ( الكوليرا ) وكنت قد سمعت في الإذاعة أن جثث الموتى كانت تحمل في الريف المصري مكدسة في عربات تجرها الخيل ، فرحت أكتب وأنا أتحسس أصوات أقدام الخيل :

سكن الليل

أصغ ، إلى وقع صدى الأنات

في عمق الظلمة ، تحت الصمت ، على الأموات

ولاحظت في سعادة بالغة أنني أعبر عن إحساسي أروع تعبير بهذه الأشطر غير المتساوية الطول ، بعد أن ثبت لي عجز الشطرين عن التعبير عن مأساة الكوليرا ، ووجدتني أروي ظمأ النطق في كياني ، وأنا أهتف :

الموت ، الموت ، الموت

تشكو البشرية تشكو مايرتكب الموت

وفي نحو ساعة واحدة انتهيت من القصيدة بشكلها الأخير ... وركضت بها إلى أمي فتلقفتها ببرودة ، وقالت لي : ماهذا الوزن الغريب ؟ إن الأشطر غير متساوية ، وموسيقاها ضعيفة يابنتي ، ثم قرأها أبي ، وقامت الثورة الجامحة في البيت ، فقد استنكر أبي القصيدة وسخر منها واستهزأ بها على مختلف الأشكال ، وتنبأ لها بالفشل الكامل ، ثم صاح بي ساخراً : " وماهذا الموت الموت الموت " .... وراح أخوتي يضحكون وصحت أنا بأبي :

 قل ماتشاء ، إني واثقة أن قصيدتي هذه ستغير خريطة الشعر العربي ) .

وحقاً لقد غيرت نازك الملائكة بقصيدتها هذه خارطة الشعر العربي ، بعد أن حالت التقاليد الموروثة في الشعر دون تطوره وتحرره من التقليد والاتباع ، فهي ترى أن الشاعر يستطيع ابتكار أشكال لاحدود لها في الشعر ، وأن من حقه الثورة على القديم ؛ ليجد طريقة تناسب مشاعره وأحاسيسه ونظرته تجاه الموضوع الذي يشعر به ، وطبعاً لم تقصد الشاعرة الملائكة كما نعرف الخروج نهائياً على الوزن والتخلص نهائياً من القافية ، أو نسف الشكل القديم ، وإنما ابتكار أشكال جديدة توائم روح الشاعر ونفسه وأحاسيسه .

في كتابها ( قضايا الشعر المعاصر ) دافعت ببسالة عن نظريتها الجدية مشيرة إلى أنه ( ينبغي ألا ننسى أن هذا الأسلوب الجديد ليس خروجاً على طريقة الخليل ، إنما هو تعديل لها ، يتطلبه تطوير المعاني والأساليب خلال العصور التي تفصلنا عن الخليل ) ففي ذاك الكتاب قدمت جهداً نقدياً ممنهجاً ذا موقف من القضايا الفنية واللغوية والفكرية في الأدب الحديث ، مشيرة في ثناياه إلى أنها صاحبة الفضل الأول ، والصوت الأول في اكتشاف شعر التفعيلة ، أو الشعر الحر ، وقد أشارت مجلة العربي في أحد أعدادها وفي مقال للشاعر جهاد فاضل نقلاً على لسان الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي في حديث لها عن نازك الملائكة ( أن الشعراء والأدباء الرجال وثبوا على هذه الشاعرة الطيبة الناعمة وأثخنوها جراحاً وأوقعوا فيها كل ألوان العسف والتنكيل ، الأمر الذي أدى مع الوقت إلى خفوت صوتها وذبول ظاهرتها وذلك أنهم ذعروا عندما وجدوا أنفسهم أمام شاعرة لاتستند في إبداعها إلى عرف شعري أنثوي عريق متنام ، كما أنها تخطت العرف الرجولي ومنحت الشعر العربي الحديث نفحة أنثوية جديدة زادته غنى ورونقاً ، لقد غاروا منها لأن التجربة عندها تجربة أنثوية جادة ترفعت فيها عن بوادر الدلال السطحي والزهو الأنثوي الذي يؤكد الرؤيا السلفية للمرأة ويعزلها عن الجاد المتكافئ في الحقل الأدبي ) .

وهكذا شأن المرأة في كل عصر ، وفي كل زمن ، تثور الدنيا بمن فيها إن هي تخطت السائد والمألوف لتطرح نفسها كائناً حياً ذا أحاسيس ومشاعر وأفكار بعيداً عن الرجل الذي يبتغي أن تبقى في جلبابه أبد الدهر ، فتحارَب ويُمد لها لسان النقد للنيل منها وسحق ماتطرحه من فكر وإبداع وأدب ، ولا نبالغ إن قلنا إن المرأة إلى وقتنا الحاضر تعيش هذا التنكيل لأنها حين تبصر نور الأدب والفن وتسعى إلى أن يكون لها موطئ قدم في هذا العالم الجمالي عبر نافذة تطل من خلالها على الساحة ، ينبري لها من تستثيره نجاحاتها وإقدامها وتحليقها في سماء الفن للنيل منها وسحق أدبها أو فنها ، وتكون الطامة الكبرى حين تتلقى هذه الضربات المؤلمة من امرأة مثلها ، وحينئذ لا يقارن ماتعيث فيه فساداً هذه المرأة تجاه بنت جنسها عما يفعله الرجل من تحطيم لها ، لأن المسافة تكون واسعة والكيد يكون أعظم !! .

نازك الملائكة بعد أن حجبت نفسها طويلاً عن الحياة العامة ، ربما بسبب النقد الجارح الذي آلمها ، هاهي الآن تحجبها ذاكرتها ونومها العميق عن هذه الحياة ، وعن الشعر والنقد والفن ، وعن الحروب والويلات والمآسي ، عن الاحتلال لأرضها وتشريد أبناء وطنها وتقتيلهم وذبحهم ، بعد أن كانت يوماً تضج بصور الحياة والشعر راسمة لهذا الأخير الذي توقف يوماً عن نبض الحياة طريقاً جديداً لايزال الشعراء يسيرون على منواله إلى يومنا هذا ... فماذا فعلت الحياة بهذه الشاعرة ، بعد أن أعطتها مشاعرها الرقيقة وأحاسيسها الجياشة ، وكلماتها العذبة ؟! .

لعلنا نفي هذه الشاعرة بعض حقوق الشعر تجاهها بأن نقيم مهرجاناً سنوياً لها وليكن على سبيل المثال في يوم المرأة العالمي ، عسى أن نرد للشعر بعض الجميل الذي ألقاه في ظلال حياتنا ولايزال ....

هل أصبحت هذه العاشقة لتراب الوطن طي النسيان ؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى