الخميس ١٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم بسام الطعان

v قضية فانوس المشعل

غرز البقال الأنين في خاصرة الهواء، ثم دعا (فانوس المشعل) إلى وليمة من الشتائم، ولم ينس أن يدعــو معه (الحولي) الذي لولاه لما حصلت له كل هذه المصائب.

كل مساحات قلبه صارت قبوراً له، فانطلق باتجاه الغرب حيث مركز الناحية كثور هائج، أو كأنه هارب من مشنقة (جمال باشا).كان يعدو ولا يرد على تســـاؤلات زملائه أصحاب الدكاكين، فقد كان يثرثر مع رأسه المفجوع بثرثرة الدماء المستباحة، ومع كل آهة كان يمسح بيديه الخشنتين الخطوط الحمـراء القانية التي تشكلت فوق رأسه الأحمر، الخالي من الشعر، وفوق جبهته المليئة بالأخاديد، وخديه كجداول خجولة: طز؟!.. بسيطة، أنت تقول لي طز يا ابن الـ...؟

بعد أن قطع الأمل تماما في الحصول على ماله، وعلى الرغم من انه لم يشتك في حياته على أحد، ولم يدخل مركزا للشرطة، إلا انه في هذه المرة قرر أن يضع حداً لجبروت ذلك المحتال.
كثيرا ما توسل إليه وهو يطلب ما له بذمته، ولكن في كل مرة كان يتحجج بحجج واهية:( غداً.. يمكن بعد غد.. بعد أيام...)

وعوده كانت كثيرة، أكثر من إبر ذقنه، إلى أن اختفى من كان سنده لدى أصحاب الدكاكين، من كان يستند إليه في أيامه، ويقدم له ولزوجه الطعام في لحـظات الجوع، ثم اختفى هو، ولم يعد له وجود في السوق والشوارع.

قضى (فانوس المشعل) أياما مليئة بالحزن والقهر على أعز ما يملك، في البداية ظن أنه قد سرق، أو ضاع، لذلك راح يبحث عنه في البساتين والأودية، وحتى في زرائب الأهالي ولكن دون جدوى.

ارتعشت نفسه، ناوشته أفكار مألوفة وغير مألوفة، طال عذابه وحزنه وصل إلى الأعماق ولم يجده.

في كل صباح، كان يذهب إلى سـوق المواشي المحاذي للبلدة، يقف في مكان قريب وعيناه تجوسان الناس والدواب، لعل وعسى..

حين ارتطمت نظرات البقال به في سوق البلدة، ترك زبائنه ووقف أمام دكانه وناداه بعصبية، أما هو فكانت الأفكار تتعارك في رأسه، فقد قدم لتوه من بستان مهجور، حيث أخبره أحدهم في الصباح انه شاهد (الحولي) في البستان وقد انتفخت بطنه، وتفوح منه روائح كريهة. حين ذهب إلى هناك ورآه، ترنح نهر من الغضب على شفتيه، قلبه سقط في بئر عميقة بلا قرار، أما فمه فقد بقي يرتجف ويهذي، بكى طويلا، وشتم كثيرا، ثم عاد خائبا ليلتقي بغريمه الذي لم يكن يدري ان الجنون يقيم في رأسه.

ما إن طلب البقال منه نقوده حتى افرغ كل شحنات غضبه وحقده في رأسه وهو يكيل له الشتائم.

دخل البقال إلى مكتب المدير دون أن يقرع الباب وهو يلهث ويئن أنينا خافتا بينما الزبد يسيل من فمه، وما أن توسـط الغرفة حتى راح يوزع نظراته بالتساوي على الجالسين مع المدير، فقد تصادف أنه يعقد اجتماعا مع رؤساء البلديات وبعض أعوانه.

تطلع إليهم جميعا، ثم قال بشيء من العصبية:

ـ من منكم مدير الناحية؟

التفت الجميع إلى الجالس خلف طاولته، والذي تلمع النجوم على كتفيه ولم يتكلم أحد.

ـ قلت لكم من مدير الناحية؟

ابتسم صاحب النجوم ثم قال:

ـ أنا مدير الناحية.. ماذا تريد؟

مسح دموعه التي تلونت بلون احمر:

ـ فانوس يا سيدي فانوس..فانوس المشعل يريد (يخوزقني) لقد ضربني وأهانني ثم قال لي بكل وقاحة: الحولي(مات) ولم يبق لك عندي شيء.

تمتم المدير بكلام لم يسمعه أحد، ثم التفت إلى أحد الجالسين وسأله:

ـ ما هو (الحولي)؟

ـ العجل.. في هذه المناطق يسمونه (الحولي).

في تلك اللحظة ألقى البقال بجســده المتعب في الزاوية القريبة من الباب على الرغم من أن المدير لم يطلب منه ذلك وأضاف:

ـ جاءني فانوس المشعل..

لكن المدير صرخ في وجهه:

ـ انهض.

وقف بسرعة فبدا مثل فزاعة طيور:

ـ جاءني فانوس المشـعل وقال لي: أريد بعض الأغراض، وعندما أبيع (الحولي) سأرد لك نقودك (على داير مليم) وبسـبب طيبة قلبي استجبت له وأعطيته زيتاً وسـمناً وحلاوة ودبساً ومربى وتمراً وسكرا وشايا وصابونا، وبعد أن جلت الحساب في الدفتر طلب كيلو حناء لزوجته الخبيثة مثله، وأيضاً طلب (كروز) دخان مستورد، وخمسة كيلو من السم الهاري (يهري( قلبه وقلب زوجته، وبعد عدة أشهر ذهبت إلى بيته لأســترد نقودي، قالت لي زوجته انه سافر إلى العاصمة، فعدت أدراجي وأنا أعلم بأنه لا يستطيع أن يسافر إلى أقرب قرية من هنا، ظل يتهـرب مني ولا يرد على رسائلي، واليوم شاهدته صدفة في السـوق، فناديته، وما أن طلبت منه نقودي حتى صرخ في وجهي وشتمني وكأنني المدين له، وعندما هددته وقلت له سوف أخبر الشرطة قال لي: طز، ثم شتمني مرة أخرى، شتمته بدوري فضربني بعصاه الغليظة على رأسي وكل أنحاء جسدي، وهذه الدماء شاهدة على ذلك، وقبل أن يتركني قال بكل بساطة:

(الحولي مات) وليس لك عندي شيء بعد الآن وروح بلط البحر، فمن هو المظلوم يا سيدي؟

رن المدير الجرس، وبعد لحظات دخل شرطي ملامحه قاسية وتسبقه بطنه الكبيرة، أدى التحية وانتظر الأوامر.

ـ اذهب واحضر فانوس المشعل في الحال.

ثم طلب من البقال الانتظار في الخارج ريثما يحضر الطرف الثاني في القضية.

جلس في البهو والتعب يتثاءب في عينيه، بينما بقيت الشتائم تصب في عراء الفراغ.

عندما وقف فانوس المشعل أمام مدير الناحية، راح يسدد نظرات صاروخية نحو البقال الذي كان يرسم خرائط الصمت ويرتجف غيظا وألما.

ـ لماذا ضربته يا..؟ ولماذا لا تدفع له ثمن ما أخذت منه؟ هيا تكلم.
تمنى أن يهجم على غريمه مرة أخرى، ويفرغ بقايا الشحنات في رأسه، ولكن أمام نظرات المدير القاسية تصنع البراءة والوداعة:

ـ يا سيدي هذا يريد يمص دمي.

بغتة التفت إليه واستطرد بشيء من الغضب:

ـ ألم أقل لك انه مات يا طماع؟

تأجج الغضب في صدر المدير:

ـ لا تصرخ يا.. وإلا وضعتك في السجن.

ـ يا سيدي الله يخليك.. القضية معقدة ومسـتحيلة الحل.. لا أنكر انه كان له في ذمتي بعض المال، لكنني الآن بريء براءة الذئـب من دم يوسف.. لقد عقدت معه اتفاقا، أدفع له بموجبه ثمن الأغراض التي أخذتها منه في نفس اليوم الذي أبيع فيه الحولي، ولكن الحولي المسكين يا سيدي (مات) وشبع موتاً، فكيف أبيعه؟ وكيف أدفع له بعد أن مات أهم طرف في القضية؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى