الأربعاء ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٢
بقلم جورج سلوم

الحب في ليلة الميلاد

وكان لابدّ لي أن ألتقيها في ليلة الميلاد بعد طول بعاد، وكنت أتخيّل نفسي كبابا نويل يعود بعد سنة والطفلة الجميلة تنتظره، ينزل إليها من مدخنة البيت فيغرف لها الهدايا من كيسه، وما أشعرتني يوماً بأنّ بابا نويل شيخٌ ولحيتُه بيضاءَ كالثلج

وكنت أظنُّ أنّ عودتي إليها كعودة المياه إلى مجاريها، والمجرى المتعطّش لمائه بعد فصل الجفاف يتلقّفه ويحتضنه بين ضفّتيه، لكن هيهات!

فبابا نويل غدا هرِماً على ما يبدو، أوغير مُرحَّبٍ به، أو أن لديها بابا نويل آخر؟..لست أدري؟!

وقفز إلى خاطري اعتقادي القديم بأنّ لكلّ امرأة بابا نويل خاصٌّ بها تحلُم به، ويتسلل إليها في الليل من المدخنة أو النافذة، يأتيها على عربة سحريّة تجرّها الغزلان أو على حصانٍ أبيضَ مجنّح، يخطفها إلى حلمٍ ورديّ، أو يعطيها من جعبته هدية غير متوقّعة

ليلتَها، انتبذتُ وإيّاها عن القوم سويّا، واخترنا مكاناً سريّا، واستندنا إلى شجرة العيد وآل عمران لاهون عنا ولا يعلمون عن أمرنا شيّا، وهززنا جذع النخلة فلم تسقط علينا رطباً شهيّا، وكان المخاض بيني وبينها عسيراً وعسيراً وعصيّا، وكلّمَتني من تحتي (كما كلّم المسيح أمّه من تحتها) قائلة:

 لقد صارت العلاقة بيننا شيئاً فريّا..

وتنهّدت وتأوّهت:

 آهٍ..ثم آه وكم كنتُ لكَ مطيّة، وكنتَ لي عاشقاً وكنتُ لكَ بغيّا

قلت:

 ذلك أمرٌ هيّن، نتزوّج إذن فيكون أمراً مقضيّا..
وأطرقت إلى الأرض وهي تلملم نفسها، وقالت:

 دعِ الأيام تجري وأكون لكَ نسياً منسيّا

وكان يربطني بها حبل وداد ما انقطع يوماً مذ عرفْتُها، كالحبل السري بين الجنين وأمه تستمدُّ مني نسغ الحياة بواسطته

لكنّها في تلك الليلة رأت حبل الوداد مرتخياً ومرخيّا، وقد تحلّلت أليافه المجدولة بالتقادم، فمالت إلى فصمِ عُراه وفكِّ أواصره، كمن يقطع الحبل السري لتبقى عقدته محفورة في سرة البطن للذكرى فقط
وبعد أسبوعٍ، تواعَدْنا في ليلة رأس السنة الجديدة، وقد عقدتُ العزمَ أن نطوي الصفحة السابقة ونقلبها وأفتح معها صفحاتٍ جديدة، لكن هذا العام القادم لن يكون كسابقيه كما يبدو، والجوُّ البارد فرض نفسه على برودة اللقاء، والصّمت كان سيدَ الموقف بالرّغم من ضجيج المحتفلين معنا وصخبهم
قلت مبتسماً:

 عهدتكِ تأتين الليلة بثيابٍ تنكّرية وكنت أخمّن كيف ستكون حُلّتك اليوم وأي لبوسٍ ستلبسين؟..أم أنك اخترت اللباس الأسود العادي كحدادٍ على العام المنصرم سيء الذكر قبّحه الله، ثم أين زينتكِ الفاقعة وتبرّجكِ الأخّاذ؟..كأني بكِ تحضرين مأتماً، فلترحل أيها العام الثقيل غير مأسوفٍ عليك
قالت، ولم تلتقِ عيونها بعيوني إلا لماماً:

 على العكس، متنكّرةٌ أنا الآن، متنكرة بلباسي الأسود المحتشم وزينتي البسيطة، متنكرة بحلّةِ امرأةٍ عفيفة، أما حقيقتي المعاكسة فتعرفها أنت أكثر من غيرك..
وسحبَتْ يدها من تحت يدي التي حاولَتْ احتضانَها، وأردفت قائلة:

 دعْكَ من حركات الحب وفنونه، تماشياً مع حلّة الطهر والشرف الذي تنكّرتُ بها، وابق عني بعيداً، تنكّر أنت اليوم أيضاً بشخصية رجلٍ صالح ولو لليلة واحدة، تعال نتنكّر لماضينا كلّه وننكِره قبل أن يأتينا منكرٌ ونكير!..وما أحسبهما عني بعيدان

وكان لزاماً عليّ أن أغيّر دفة الحديث الكئيب وأضفي على الجو بعض الرطوبة، فقلت:

 الآن قد يجري سحبٌ لأوراق اليانصيب، تعالي نجرّب حظنا في ليلة رأس السنة الجديدة

 حظّي معروف ولا حظَّ لي، وأوراقي كلها سحبْتَها مني وكشفتَها ولم أربح شيئاً ونهضْتُ إليها وحاولتُ جذبَها من أطراف أكمامها لأعيدها إلى الجو الاحتفالي الذي يحيط بنا، لكني وجدتُ لمسَها ممنوعٌ اليوم على ما يبدو إذ تقمّصت شخصيتها التنكرية العفيفة..وقلت:

 فتعالي نقرأ طالعنا وهناك منجّمة تتنبّأ للحضور بما سيأتي، والكلّ قد تهافتَ عليها

 اذهب أنت لوحدك إن شئت، فأنا على يقين بأنّ الآتي أعظم

نظرْتُ إلى ساعتي وقلت:

 بعد قليل ستتراكب العقارب على بعضها، وتدقّ ساعة الفيصل بين العامين، فتعالي بنا نغوص بين الراقصين، نجنُّ مثلهم قليلاً ويستدفئ جسدك البارد، وتلتقي شفاهنا بقبلة العام الجديد لكنها أصرّت على الجلوس وانكمشت على نفسها كضيفةٍ غريبة عن القوم، وما زالت مطرقة إلى الأرض، وازداد شعورها بالبرد والقشعريرة داخلَتْها، وكأني بها بدأت ترتجف ومال لونها للشحوب كأنها أصبحت في عالمٍ آخر.

كانت تتمتم كلماتٍ فيها ذكر الله، ولم أسمع تفاصيلاً لها بسبب الموسيقى التي تصاعد أوارها وفوضى الجالسين وقد عصفت الخمرة برؤوسهم، وبدأت أراها تبتعد عني وتنسحب وتضيع في غيم السجائر والنراجيل كضبابٍ مصطنع مريض لا تتهطّل أمطاره، وكأني رأيتها تبكي بصمت أو نفرت الدموع من عينيها تنكّبَتْ حقيبتَها الجلدية ووقفت مذعورة كمن سمع إنذاراً بالخطر أو أن هاتفاً ما يناديها من الخارج، فوقفتُ مثلَها منتظراً أمراً ما قد تقوله، تلفّتَت يمنة ويسرة كمن يبحث عن مخرجٍ من مأزقِ الحفلة التي حمِيَ وطيسها في دقائقها الأخيرة من السنة الآفلة وسارت مسرعة وسرت معها مسايراً..

أعترف أنني رأيتها تبكي مراراً، ولكنّ دموعَها اليوم مختلفة تجبرك أن تبكي معها بالعدوى بدون أن تعرف السبب، وبدا لي وجهها لامعاً في ليل الشارع الذي سرنا به كأنه مضيء أو مُضاء من مصدرٍ خفيّ، أم أن فيض الدموع غسل وجهها، لست أدري؟

وكم كنت أمسح دمعاتها بيدي بلا منديل، وكم كنت أقبّل وجهها كله مرتشفاً تلك الدموع المالحة، لكنني اليوم شعرت بيداي مسمّرتان وبأني بعيدٌ كلّ البعد عنها ولو كنتُ لها مسايراً، كأنها أصبحت محصّنة لغيري وما عادت ملكاً لليمين وبدأت خطواتها تتسارع وكأني بها تركض متجاهلة كعبها العالي، وحتى برك الطريق الموحلة لم تحِد عنها بل خاضت بها وقد أصرّت على السير بصراطٍ مستقيم قلت وقد بدأت ألهث في رفقتي معها:

 إلى أين؟..إلى أين نذهب في هذا الليل، ولم تبقَ إلا دقائق معدودة وتدق ساعة العام الجديد؟
قالت بإصرار:

 إلى أمي، إلى أمي المريضة الآن في وحدتها، وقد تكون نائمةً بعد عشاءٍ عاديّ لأنّ ليلةَ رأس السنة لا تعني لها شيئاً. وسوف تصحو على ضجيج المحتفلين في البيوت المجاورة، وتفزّ مذعورة على صوت الطلقات المجنونة والألعاب النارية التي سوف تبدأ، عندها لن تشرب أمي كأساً من نبيذٍ معتّق ولن تبحث عن شفتي أبي لتقبّلهما، بل ستصلّي إلى الله صلواتٍ خفيّة، وتشعل شمعة إلى العذراء مريم وإلى من كان في المهد صبيّا، وسلامٌ عليه يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حيّا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى