السبت ١٣ أيار (مايو) ٢٠٢٣
بقلم محمد صالح رجب

بنية الزمن في رواية «القطائع» لريم بسيوني

القص فن زمني ولا يوجد رواية بلا زمن، لكن عند دراستنا للزمن كأحد اهم عناصر الرواية فإن أولى الإشكاليات التي تواجهنا هي تعدد الأزمنة وتداخلها، فزمن الخطاب أو الحكاية ليس هو زمن القصة، والاحداث التي تجري في آن واحد على أرض الواقع عديدة، وتختلف المدة الزمنية في القصة عن الحكاية، ويلجأ الكاتب الى التحريف الزمني او الكذب لأغراض جمالية، حيث يُخْضِع الكاتب تلك الأحداث لقوانين الابداع لا الطبيعة، فلا يلتزم بالتسلسل الزمني الطبيعي للأحداث، ولا المدة الزمنية التي يستغرقها كل حدث، ويسقط فترات زمنية ويطيل أخرى، ويعيد صياغة الأحداث وفق منظوره وقدراته وما يملكه من أدوات الابداع.

وإذا كان الزمن عنصرا هاما في الرواية فانه أكثر أهمية في الرواية التاريخية، ورواية "القطائع" للدكتورة ريم بسيوني الصادرة العام 2021 عن دار نهضة مصر هي نموذج للرواية التاريخية. وتتناول فترة زمنية هامة من تاريخ مصر، ولعل أول ما نبحث عنه عند دراسة الزمن هو زمن القصة وأعني به زمن وقوع الأحداث الحقيقية بعيدا عن طريقة سردها. لم يكن الأمر مجهدا للتعرف على هذا الزمن سواء من خلال اشارات الكاتبة اليه او عبر تواريخ ذكرت صريحة في الرواية، زمن القصة بدأ منذ تعين أحمد بن طولون نائبا لوالي مصر "بايكباك التركي" في العام ٢٥٤ هجري الموافق ٨٦٨ م واستمر بعد سقوط الدولة الطولونية في عهد المكتفي بالله على يد القائد العباسي محمد بن سليمان الكاتب، العام292 هجري الموافق 905 م، ثم استمر بعد ذلك حتى 1918 حين قرر السلطان أحمد فؤاد الصلاة في مسجد ابن طولون كأول شخص يصلي فيه منذ عهد المماليك وعثور"عادل"مع عالم الآثار البريطاني على ما دَوّنَه"سعيد الفرغاني"بيده لتلك الأحداث.

في الخطاب الروائي تلاعبت الكاتبة بالزمن وكسرت خَطِية تسلسل الأحداث ولم تلتزم بذلك الترتيب الزمني ومنعت المتلقي من متابعة الأحداث بذات الترتيب التي وقعت فيه ولجأت الى تقنيات الاسترجاع بشقيه الخارجي والداخلي كما في الخروج من زمن القصة الى زمن فرعون حين كان لمصر جيشٌ في حينها، ثم كانت الجيوش عربية، والحديث عن الفتح الاسلامي لمصر. واسترجاع أصول أحمد ابن طولون حتى تم تعيينه نائبا للوالي، وهناك استرجاع داخلي في زمن القصة وقد حدث في مواطن كثيرة كاسترجاع أنس لبداية علاقته بميسون.

أيضا استخدمت الكاتبة تقنية الاستباق كما هو الحال في المقطع الذي يتصور فيه أنس لقائه بميسون بعد التخلص من "ابن المدبر" وما سوف يفعله معها. وايضا في المقطع الذي يرتب فيه انس لما سوف يفعله بالغد: سوف يهرب بميسون الى الشام أو بغداد وربما يستقر بها في الشمال او الجنوب.

كما تحكمت الكاتبة في حركة السرد واستخدمت تقنيات الحذف والاختصار او التلخيص لتسريع السرد، فبناء أو حتى هدم مدينة بحجم "القطائع" مؤكد انه استغرق وقتا أكبر بكثير من تلك الاسطر المختصرة التي اشير اليها في الرواية، وكذا الحال في متابعة انس للرسائل المتبادلة بين الخليفة وبين "ابن المدبر" والتي من المؤكد انها استغرقت في الواقع وقتا زمنيا أطول منه في الرواية. وفي الاقتباس: "استمر انس في متابعة الرسائل بين الخليفة وجواسيسه وبين ابن المدبر والخليفة"

واختصرت الكاتبة واسقطت فترات زمنية منها ما هو قصير ومنها ما هو طويل، كقولها: بعد يومين استيقظ انس..، "مر شهران عليها قضتهما بين ذراعيه.."، وقولها: "بعد عدة شهور عادت ميسون الى عالمها بلا ابتسامة.."، وايضا: "بعد اربعة أشهر طلب أحمد بن طولون من انس ان يذهب الى العراق..".

كما اسقطت فترات زمنية كبيرة كتلك الفترة ما بين سقوط الدولة الطولونية وزيارة السلطان أحمد فؤاد لمسجد احمد ابن طولون والعثور على بقايا القطائع وما خَطَه بيده "سعيد الفرغاني".

وعلى الجانب الآخر استخدمت الكاتبة تقنيات أخرى لتُبْطِئ من حركة السرد كما في المشاهد الحوارية والوقفات الوصفية والنص عامر بهما.

وعند الحديث عن بنية الزمن لا يجب أن نغفل زمن الأفعال ودلالتها فاستُخْدِم المضارع للدلالة على الاستمرارية واستُخدِم الماضي في الحديث عن ذكرياتٍ واحداثٍ صارت واقعا مُستَقِرا، والتنقل من الحاضر الى الماضي لربط الحاضر بالماضي.

اجمالا، لعب الزمن دورا هاما في تطور الأحداث في الرواية ولم تلتزم الكاتبة بالترتيب الطبيعي للأحداث في القصة واستخدمت تقنيات حديثة مكنتها باللعب بالزمن والتحكم في مسار ووتيرة سرد الأحداث فتارة تُسرع حركة السرد وأخرى تُبطئها، وتعد الرواية ـ في نظري ـ واحدة من الروايات التي تشكل مادة خصبة للدارسين والباحثين لاسيما المهتمين بدراسة الزمن وبنيته كمستوى من مستويات الخطاب الروائي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى