الأحد ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠٢٤

الفُلكُ الآخَر

إيمان أحمد خالد التميمي

وأخيراً
اكتشفتُ بأنَّ فنَّ الهروبِ من الوعي
والرَّكضِ بلا وجهةٍ في أدغالِ الجُنون
هو السُّلوكُ الصِّحيُّ الوحيدُ للعيش.
رفيقُ يا رفيق!
خارجَ أسوارِ مَشفى الأمراضِ العقليّة
كنتُ المرأةَ الَّتي تتمنَّى لو أنَّها حبلٌ
الحبلُ الّذي يتمنّى لو يكونُ مشنقة
المشنقةُ الَّتي ترغبُ بالالتفاف
حولَ عُنقِ هذا العالم
العالمُ الَّذي تراكمَ كالأوساخِ تحتَ أظافري.
إخوةٌ
أصدقاءٌ
عشّاقٌ
الجميعُ كان يرتدي نظّاراتٍ سوداء
لا أحدَ استطاعَ رؤيتي كما أنا.
لقدْ حدثَ لي مؤخَّراً
أنّي عشتُ انفجاراتٍ كُبرى
في حقيقةِ الآخرين.
أقصدُ:
كانَ الأثرُ الطَّالعُ من مائهم
بريقَ النِّصفِ الفارغِ منَ الكأس.
حضورُهم ذروةُ اليأس.
غناؤهم زعيقُ بناتِ آوى
شبابيكُهم فاتحةُ الأَسر.
رفيقُ يا رفيق!
كانَ هُناكَ الكثيرُ منَ الطَّعامِ في مِنقارِ أبي
لكنَّ عشَّهُ كانَ بارداً
وخالياً
من أيَّةِ مظلّةٍ للطَّقسِ
ومن أيّةِ مظلَّةٍ للقفز.
كانَ مليئاً بأعقابِ السَّجائر
وبطائراتِ طُفولتي المُمزَّقة
وبالحقائبِ المصنوعةِ من جلدِ المفاهيمِ الَّتي عفا عليها الزّمن
والَّتي انغرستْ كَشفراتٍ حادّةٍ في جوفِ حرِّيّتي.
كانَ هُناكَ الكثيرُ
من الأعشابِ الخَضراء
في مراعي أُمنياتِ أمِّي الكبيرةِ بي.
لكنَّها كانتْ تُزهِرُ بتهوَّر
أكثرَ ممَّا تحتملُ معدةُ حِصاني.
اختنقتُ
كرِهتُ العُشبَ
كرِهتُ مآزقَ الحصان.
كرِهتُ النّظرَ بعينيها المتلألئتينِ بملحِ التَّحسُّر.
أمَّا بعد
لمْ يَكُنْ تاريخي مَحطَّ افتخارٍ
فلم أُعتَقَل يوماً مِن أجلِ قضيَّة
قضايايَ مجرَّدُ أفكارٍ مسروقةٍ من أناسٍ غيري
كنتُ مجرَّدَ امرأةٍ حسناءَ وحسْب.
كنتُ وجدَّتي
على نفسِ القدْرِ من السُّعال
هي تسعلُ لتُذكِّرِ الموتَ بأنَّها مازالتْ حيّةً
وأنا أسعلُ لسببٍ آخر.
لأقولَ لهُ:
أنِّي فريستُهُ المُتاحة.
رفيقُ يا رفيق!
أنا سعيدةٌ هنا..
حيثُ لا خُططَ تأمينٍ على الحياة.
لا زحمةَ مرورٍ
أو مواقعَ تواصلٍ اجتماعيّ.
حيثُ نسيتُ غريزتي
وحبَّ التّملُّك
وكلَّ الأفكارِ الّتي يكْسوها النّجاحُ أو الفشل.
وحيثُ الغثيانُ ليسَ مرضاً
إنَّما تخلّصاً من الذِّكريات.
هُنا
حيثُ يمكنني أنْ أصاحبَ نملةً
أمشي معها حافيةً فوقَ ظلالِ الآخرينَ
وفوقَ قشِّ الوصايا.
حيثُ الذّبابُ خاملٌ
أو ميِّت
فلا يحومُ بجشعٍ
حولَ حَلوى جسدي
كما كان يفعلُ الذّكورُ في الخارج.
حيثُ أصبحتُ حُرّةً
وحاسمةً
وحادّةً
كرُمح.
رُمحٍ غاضبٍ
وَحشيّ.
يخونُ كلَّ شيءٍ
ويطعنُ كلَّ شيء
ليجدَ في النِّهايةِ توازنَهُ.
أنا سعيدةٌ هُنا
حيثُ يُمكنني أن أتقافزَ كغزالةٍ مُشاغبة.
في غابةِ مزاجيَ المتقلِّب
دونَ أنْ يسيلَ على قرنيّ
ذلكَ العطشُ الخالد
لتلكَ الأنا
الثَّابتةِ
الكلاسيكيَّةِ
الوَقورة.
وحيثُ أستطيعُ أن أتخيَّلَ اللَّهَ
الَّذي لا شكلَ لَهُ
حمامةً بيضاء
لا أثرَ لبقعةِ حِبرٍ على جناحَيها
نتيجةَ العيشِ طويلاً
بين صَفحاتِ كتبِ الكهنوت.
وحيثُ يُمكنني أن أُدخِلَ منديلاً
في قُبَّعتي
فأسحبَ سمكةً فضيَّة
أُخبرُها بكلِّ أسرارِ غرقي القديم
دون أن تشمتَ بي..
رَفيقُ يا رَفيق!
أنا سعيدةٌ هنا.

إيمان أحمد خالد التميمي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى