الاثنين ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم أحمد الخميسي

المسلسلات المصرية

أشاهد لقطات من المسلسلات المصرية وأنا في الطريق من حجرتي إلي المطبخ لأعد فنجان قهوة ، أو أثناء رجوعي بالفنجان . مرة واحدة أو اثنتين جلست ربع الساعة أمام أحد المسلسلات ، ولم يسعفني الصبر والجلد وقوة التحمل على أكثر من ذلك . ذلك أن الفكرة الرئيسية في كل فن هي التكثيف والتركيز ، ولهذا فإن قصة قصيرة من عدة صفحات قد تضع بين يديك حياة كاملة ، بل ومغزى تلك الحياة ، كما أن رواية غير طويلة قد تجعلك تتابع مولد وتطور وزوال وموت وإخفاق ونجاح عشرات الشخصيات الإنسانية .

الفن تركيز وتكثيف ، بينما يعمل التلفزيون بمبدأ آخر ، مضاد للفن ، أي بالاعتماد على التمطيط والإطالة وفرشحة الأحداث والتفاصيل ليستكمل بها المؤلف ثلاثين حلقة متصلة ، يتجاوز حجم صفحاتها المكتوبة حجم رواية الحرب والسلام لتولستوي ، ويتخلف معناها وأثرها عن موضوع إنشائي لطالب ثانوية غرم أهله مصاريف تعليمه دون أمل . وكما أن في وكالة البلح مكانا خاصا لقطع غيار السيارات ، وآخر لمواتير الثلاجات القديمة ، فإن في الثقافة المصرية مكانا مخصصا لمؤلفي التلفزيون، عليك أن تقصده إذا أردت الحصول على مسلسل جديد ، أو مستخدم ، أو معدل . وعادة فإن مؤلفي المسلسلات يتمتعون بصحة جيدة تساعدهم في الجلوس فترات طويلة لاستحضار كل المشاهد التي مرت من قبل في جميع الأفلام والمسلسلات السابقة ، وكل العقد الفنية ، وحلولها ، والمصادفات ، وأطراف الحبكة ، وما شابه ، ولا فرق لدي المؤلف بين مسلسل و فيلم أجنبي ، أو آخر مصري . ولهذا فإن أغلب أفلامنا ملطوشة ، ويعاد لطشها ، كما أن تسعين بالمئة من الألحان الآن التي نسمعها مسروقة من ألحان هندية وتركية .

الشرط الأول في المؤلف التلفزيوني هو التمتع بصحة وذاكرة جيدة وليس الموهبة والثقافة ، والشرط الأول في التأليف هو التمطيط والإطالة وليس التركيز والتكثيف، هناك أيضا اعتبارات أخرى تساعد على نجاح للمسلسلات في استدعاء التثاؤب والنوم بعمق . منها أن التلفزيون صناعة ، وكل صناعة تحتاج إلى عمال لانتاج السلعة ، عمال وليس فنانين ، ومن ثم خرج علينا جيش من الممثلين الذين يتسمون بالجرأة والتحدي والإصرار على التمثيل بالمشاهدين ! والسبب الأساسي في ظهور هذا الجيش العرمرم هو أجور المسلسلات المرتفعة المغرية مع غياب أية شروط فنية من أي نوع . وإذا علمنا أن بعض النجوم يتقاضى أكثر من مليون جنيه عن المسلسل ، وأن الذي يؤدي الأدوار الثانوية يتقاضى فوق المائة ألف ، لأدركنا السبب في اندفاع الشباب النهم إلي الفن ! وهكذا أصبح الفن غناء وتمثيلا حرفة سهلة ، مربحة ، ومرموقة اجتماعيا ، لا تحتاج على الأغلب إلا لقص شعر الرأس بطريقة مميزة ، أو إطالته ، وارتداء القمصان المفتوحة ، وتسبيل العيون ، وأرجحة الرأس بشكل عاطفي ! كأن الولد نجم لكنه يذوب تواضعا وحساسية !

وقد لاحظت مؤخرا كيف تفشى داء الفن مثل انفلونزا الطيور بين أغلب من صادفتهم من الشباب أقربائي ومعارفي . الأولاد يريدون أن يصبحوا عمر دياب ، والبنات يردن أن يصبحن منى زكي . وقد رأيت بنفسي شابة من أقاربي عادية جدا ، لم ير أحد على وجهها حتى الثانوية العامة سوى الغباء المقيم والنوم والأكل بشراهة . وفجأة ارتدت جونلة قصيرة ، وقصت شعرها ، ولفت مؤخرتها الضخمة في سروال جينز وأمسكت بسيجارة وقالت لي : " أنا مش متخيلة حياتي خارج الفن " !

وأصبح الفن عندها هي أن تلازم المقاهي الملاصقة للمسارح طيلة الليل مع شبان فنانين مثلها ، ينقلون الوهم لبعضهم البعض ، ويدخنون ، ويتسائلون : ح نعمل إيه في المسرحية الجاية ؟ مع أنهم لم يشاركوا في مسرحية من قبل . لكن حياة الفن لذيذة ، ومغرية ، طالما لاحت في نهاية الطريق تلك الأجور الخيالية . هناك شاب آخر من أقاربي ، أمسك جيتارا ، وأطال شعره ، وأصر أنه مؤلف موسيقى . أمه تقول له : يا ابني التفت لدراستك أنت عندك ثانوية . فيرد عليها : " مش قادر يا ماما .. أنا ح أموت لو ما كتبتش موسيقى " . وبعد أن كان شابا عاديا جدا ، أصبح يدخل إلينا الشقة صائحا ملوحا بكفه من بعيد بمرح : هاي . وتبدلت طريقته في الكلام فلم نعد نسمعه بوضوح لأنه صار يغمغم كالبلبل ، ثم أصبح يصغي إلينا إذا تكلمنا بانتباه وتواضع يفرضهما عليه وضعه كنجم كبير ! جيوش من الممثلين والمطربين غمرت سطح حياتنا الفنية ، لأن الفن في حقل التلفزيون يختلط بالصناعة ، أي بتأجير الكاميرات والاستديو والميزانية وتسويق المسلسل والإعلانات وغير ذلك .

والصناعة مثل محل البقالة لابد أن تعرض سلعة ، وأن تبيع ، وأن تربح . وحينما يكون الربح وبيع السلعة هو وحده المحرك الأول ، فإننا لن نرى لا ثقافة ، ولا فنونا ، ولكن المزيد من كتاب المسلسلات الذين أكرمهم الله بصحة وعافية تكفي لذلك اللتأليف، والمزيد من الممثلين الذين لا يتخيلون حياتهم " خارج الفن " على إيقاعات مئات المطربين إياهم ، في مسلسلات تلفزيونية تمتاز بقدرة طبية على تسليك الأنف بفضل الشخير المنبعث من النائمين عند مشاهدتها .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى