الأحد ٧ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم شريف حتاتة

ثلاثة أيام فى تونس الخضراء

كانت الساعة قد قاربت على منتصف الليل عندما هبطت فى مطار "تونس". سرت فى الممرات بين جدرانها الرخامية ازدانت بمساحات من الفسيفساء الملون. خارج الحاجز ، فى صالة الانتظار لمحت رجلا أدركت من نظراته أنه جاء للقائى. مربع الجسد ، أسمر البشرة لمعت عيناه بابتسامة ترحاب وهو يتقدم نحوى . شد على يدى بقبضة قوية وقال " الحمد لله على السلامة يا دكتور شريف. أنا أسمى "مختار ابن حفصة". أرسلنى الأصدقاء لاستقبالك. هل كانت رحلتك مريحة؟

قلت: "الحقيقة كانت متعبة وطويلة. جئت إلى "تونس" عن طريق "ميلانو" فالسفر المباشر بين القاهرة و "تونس" ولمدة ثلاثة أيام يزيد سعر التذكرة فيه بمقدار ألف ومائة جنيه عنه فى الخطوط الإيطالية لكنه يستغرق ثمانى بدلاً من أربع ساعات.

قال: "سآخذك إلى منزل الأستاذ "فتحى الشامخى" ، وهناك ستستريح ، لكن علينا أن ننتظر فى المطار قليلاً لاستقبال زميل قادم من "اليونان" أسمه "يانس توليوس". فهو سيقيم أيضاً فى دار الصديق " فتحى" ومعكما ثالث من "أمازيج" "المغرب" يدعى "محمد أجغوب".

خطر فى بالى أن اقامتى فى "تونس" ستكون مرهقة ، أننا قد نبيت نحن الثلاثة فى غرفة واحدة لكنى تذكرت أننى أقمت لمدة سنوات فى زنازين السجن مع أربعة عشرة من زملائى فى السياسة ، فسرعان ما تبخرت هذه الخواطر وفى تلك اللحظة لمحنا "يانس توليوس" مقدما علينا. وهو خبير اقتصادى ينشط فى الحركة اليسارية اليونانية تعرفت عليه فى "قبرص" أثناء اجتماع "لجنة التنسيق الدولية الخاصة بالمنتدى الاجتماعى للبحر الأبيض المتوسط.

هذا المنتدى مثل غيره من المنتديات الاجتماعية الإقليمية متفرع من المنتدى الاجتماعى العالمى وهى جميعا عبارة عن فضاءات شعبية يجتمع فيها ممثلو الحركات الاجتماعية فى القطاع المدنى من مختلف البلاد للتشاور ، والتباحث وتنسيق النضال ضد العولمة الرأسمالية الليبرالية ، ومن أجل إقامة نظام عالمى جديد تسود فيه العدالة الاجتماعية والديموقراطية ، والسلام .

عندما خرجنا من المطار كان الجو بارداً ، وكان المطر يسقط من السماء فى سيول فحشرنا أنفسنا بسرعة فى سيارة صديقنا التونسى تركها فى الموقف. كانت ملابسى مبتلة تماماً لكن برودة الجو أضاعت الإحساس بالتعب فاستغرقت فى الحديث معه طوال رحلة الثلاثين كيلو متر كانت تفصلنا عن الضاحية التى اتجهنا إليها . أما زميلنا اليونانى فلاذ إلى الصمت و لم يقطعه سوى لتوجيه بعض الأسئلة القلقة عن المكان الذى سنبيت فيه .

قرب الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وجدنا أنفسنا أمام "فيلا" بيضاء محاطة بسور عال. أخرجنا الحقائب من السيارة وضغط صديقنا "مختار" على مفتاح الجرس فانفتح الباب فورا لنجد امرأة تنتظرنا أعلى السلم عند باب من الزجاج الملون والحديد المشغول. كانت ترتدى جلباباً طويلاً وشالاً من الصوف المطرز. قالت
"الحمد لله على السلامة. تفضلا" ثم أضافت. "هل تريدان تناول شيئاً قبل النوم".؟

قلت: "فيما يتعلق بى أفضل أن أنام فورا فرحلتى كانت طويلة" ثم التفتت إلى "يانس" اليونانى فهز رأسه موافقا وقال بالإنجليزية : " وأنا كذلك أريد أن أنام".

صعدنا السلالم الرخامية البيضاء ترتفع فى شكل حلازونى إلى الدور الأعلى. قالت مضيفتنا: "سنوقظكما صباحا فى الساعة السابعة، فالاجتماع سيكون فى التاسعة ، والمكان بعيد من هنا ،" وفى تلك اللحظة خرج زوجها من أحد الأبواب وعلى وجهه علامات النوم. اخذ كل منا بالحضن قائلاً: "الدار داركم واطلبا ماتشاءان. لكل منكما غرفته." ثم فتح أحد الأبواب وأشار إلى بالدخول: " سنراكما فى الصباح ، وأرجو أن تستمتعا بنوم مريح"
دخلت إلى حجرة النوم التى خصصوها لى . فى الركن ، إلى جوار إحدى النوافذ العريضة وجدت سريرا مفردا وضعت عليه أغطية صوفية مغزولة يدويا ، ومناشف قرب السرير مدفأة كهربائية ومضت فيها عينها الحمراء.

خلعت ملابسى وعلقتها على شماعة. ارتديت الجلباب والخف أخرجتهما من الحقيبة . ذهبت إلى الحمام لاغتسل ثم عدت. دسست جسمى تحت الأغطية وبعد لحظات كنت غاطساً فى النوم.

أسرة كسرت قيود الأبوية

لم أعد إلى اليقظة سوى فى الصباح عندما التقطت أذنى نقرا حفيفا على الباب ورأيت وجه "فتحى الشامخى" الأسمر المبتسم يطل منه قال "الساعة السابعة والربع" ثم أغلقه . فتحت السواتر فتسربت إلى الشمس المشرقة صعدت فى زرقة السماء فوق البيوت ، فى الغرفة مكتبة ازدحمت رفوفها بالكتب: روايات ، ومسرحيات ، وشعر ، وقواميس ، وكتب عن الرياضيات ، وعن العلوم . التقطت عناوين عربية ، وفرنسية ، وإنجليزية ومن بينها سيرة حياة "تروسكى" مؤسس الدولية الرابعة ، تزيد صفحاتها عن الستمائة. إلى جوارها المكتب وضع عليه كومبيوتر ، وآلة تصوير مهنية ، وأدوات للكتابة كثيرة ومتنوعة ، ومساحيق للزينة نسائية قليلة العدد . على عتبة النافذة حلق للأذن ، وعقد من الفضة فيه فصوص حمراء صغيرة ، وعلب مستديرة للعدسات اللاصقة ، ومن تحتها منضدة صغيرة وضعت عليها زهرية فيها زهور جافة ، وعروسه .

تناولت دشاً ساخناً وحلقت ذقنى . ارتديت ملابسى وهبطت إلى الدور الأرضى. وجدت أفراد الأسرة فى المطبخ جالسين حول مائدة مستديرة ومعهم الضيفين الآخرين. كانوا يتناولون طعام الإفطار فانضممت إليهم ، وعلى الفور سار بنا الحديث سهلاً ، بسيطاً وأنا أرتشف القهوة السوداء الساخنة واكل خبزا مغموساً فى زيت الزيتون ، أو أضع عليه مربة التين. الى جوارى الإبنة "عزة" فتاة مرتفعة القوام ، بيضاء مثل أمها تدرس الرياضيات ، وتعشق العلوم ، ولكن فى الوقت نفسه مهتمة بالأدب ، وعلى الأخص المسرح وكتاباته ، أما الابن "صدرى" فقال لى أنه مغرم بلعبة كرة القدم التى يريد أن يصبح أحد نجومها ويحصل على مال كثير عن طريق ممارستها.

أحسست بالراحة منذ أول لحظة وسط هذه الأسرة التى تركت لنا غرف نوهمها لكى نبيت فيها ، بجو الدفء والتعامل التلقائى الذى لا مبالغة ، ولا افتعال فيه . الجميع يشاركون فى الحديث كأننا التقينا منذ زمن بعيد . أدركت أننى كنت احتل غرفة نوم "عزة" ظلت تنظر الى والبريق يضيء عينيها عندما علمت أننى روائى ، وزاد البريق عندما قلت لها أن إبنى "عاطف" مخرج سينمائى وأن غرفتها المليئة بكتب العلم ، والفن ، والتاريخ ، أن تمثال الوجه الأفريقى المنحوت فى الخشب ، ولوحة المرأة الفلاحة التونسية ، أن الكمبيوتر الذى غطت شاشته "بفانلة" رياضية ، أن المشغولات الفضية البسيطة ، والأقلام الملونة الكثيرة كلها تعبير عن شخصية هذه الفتاة التونسية المتطلعة الى المستقبل ، الى المعرفة ، والاكتشاف ، الى الارتباط بما يحدث فى العالم عن طريق إجادة أكثر من لغة أجنبية . فإلى جانب اللغة الفرنسية والإنجليزية فوجئت بها فيما بعد أثناء حفل العشاء تجلس أمام أحد أعضاء اللجنة التنسيقية حضر من "بارشلونة" وتسأل عن كلمات باللغة "الكتالونية" .

أما الإبن "صدرى" المولع بلعبة الكرة وكسب المال فقد استغرق فى التفكير بعد أن لفتت نظره الى اضطرار لاعب الكرة الاعتزال وهو لايزال فى سن الشباب وأن هناك مهن أخرى يستطيع أن يجد فيها مجالا للكسب مثل الطب ، أو العلوم الإلكترونية أو البيولوجية الحديثة وأن يمارس فيها حياة فكرية ومعرفية غنية .
بعد تناول الإفطار توجهنا الى محطة للسكة الحديد قريبة لنستقل القطار الذى سيحملنا الى وسط مدينة "تونس" حيث مقر الاجتماع فى المنظمة التونسية لحقوق الإنسان . كان الجو صحوا يملأ رئتى بهواء نقى ويطرد التلوث الذى حملته معى من القاهرة . جلست أطل من نافذة القطار على المساحات الخضراء تتلألأ فيها قطرات المطر . تذكرت رحلات الطفولة الى قريتى فى قطار الدلتا المفتوح على الجانبين يتهادى بين الحقول تحت سماء صافية زرقاء .

كنت جالسا الى جوار "ماجدة الشامخى" فسألتها عن حياتها ، وعن طفولتها ، وكيف التقت بشريك العمر "فتحى" منذ ما يزيد عن عشرين عاما . فحكت لى أن أسرة "فتحى" كانت جارة لأسرتها ، أنهما كانا يلعبان سويا مع الأطفال وأنه قامت بينهما صداقة عميقة . ثم سافر هو الى "فرنسا" ، وظل هناك عشرة سنوات الى أن نال الدكتوراه لكنهما كانا يتبادلان الرسائل طوال هذه المدة ، ولما عاد عرض عليها للزواج فوافقت . قالت إنه منذ ذلك الحين أصبحا يتعاونان فى كل شئون الحياة ، فى الأنفاق ، فى العمل داخل البيت ، وفى رعاية الأطفال ، أنهما يتقاسمان المسئوليات على قدم المساواة . يعمل هو أستاذا فى الجامعة ، وتعمل هى مديرة مدرسة ابتدائية فى مدينة "سليمان" تبعد عن الحى الذى يسكنان فيه مسافة ثمانية كيلومترات .

على جانبى خط السكة الحديد امتدت البوت التى لا تعلو عن دورين أو ثلاث ، فالعمارات فى "تونس" نادرة للغاية . البيوت كلها ناصعة البياض ، والسواتر زرقاء فى لون البحر مما يضفى جمالا على العمران . بين الحين والحين يتوقف القطار فى محطة فيصعد منها الناس . وجوههم جامدة تبدو على ملامحها أثقال الحياة ، فلا ضحك ولا ابتسام ، وإنما صمت شبه كامل . توقف القطار فى محطة كتب على لافتاتها "حمام الشط" فمال على "فتحى الشامخى" وقال :"هنا عاش الفلسطينيون عدة سنوات . أغارت عليهم الطائرات الإسرائيلية فى محاولة لقتل "ياسر عرفات" . فشلوا لكن مات تحت القنابل عشرات من الناس البسطاء ". خطر فى بالى أن الخيانة والسم نجحت فى تحقيق ما فشلت فى تحقيقه القنابل والطائرات .

وصلنا الى مكان الاجتماع فى الميعاد . كان عدد الحاضرين فيه أربعة وعشرون من بينهم ثمانية من النساء . حضر خمسة ممثلين وممثلات من "تونس" ينتمون الى منظمات حقوق الإنسان ، والنقابات العمالية ، والمنتدى الاجتماعى التونسى، كما شاركت رئيسة اتحاد النساء التونسى . أما باقى المشاركين فقد جاءوا من "المغرب" ، و"اليونان" ، و"أسبانيا" ، و"إيطاليا" ، و"فرنسا" ، وجئت أنا من "مصر" . غاب السوريون ، والجزائريون ، والأتراك لأنهم واجهوا عراقيل فى الحصول على فيزات فالنظام التونسى شأنه شأن بقية النظم العربية تغلغلت اليه الأساليب البوليسية فى كل المجالات . الأجانب الآتين من أوروبا يمنحون الفيزا فى المطار بينما العرب مرغمون على تقديم طلب قبل السفر بثلاثة أسابيع ، أو شهر وهو ذات النظام الذى يطبق فى "مصر" .

طوال المدة القصيرة التى قضيتها فى "تونس" لاحظت أن رجال للأمن يرتدون الملابس المدنية كانوا يتتبعون تحركات أعضاء اللجنة دون أن يخفوا أنفسهم ، كما أنهم ظلوا محيطين بمكان الاجتماع الى أن انصرفنا فى نهاية النهار .

كان هدف الاجتماع الإعداد للدورة التحضيرية الأولى الخاصة بالمنتدى الاجتماعى للبحر الأبيض المتوسط والتى ستعقد فى "أثينا" فى بداية شهر مايو القادم . عقد المنتدى الاجتماعى للبحر الأبيض المتوسط الأول فى شهر يونيو سنة 2005 فى مدينة "بارشلونة" وحضره أكثر من ستة آلاف مشارك ومشاركة من بينهم عدد من المصريين ، ومن بلاد عربية مختلفة . والنظام الذى يتبع فى الإعداد للمنتدى يعتمد على عقد خمس أو ست دورات تحضيرية يحضرها مابين 150 و 300 مشارك ومشاركة . أما المنتدى نفسه فيجرى تنظيمه كل سنتين ويتم توزيع الدورات التحضيرية على قدر الإمكان بالتساوى على بلاد شمال وجنوب البحر الأبيض المتوسط . لكن حتى الآن لم يتحقق هذا بسبب العراقيل المختلفة التى تضعها حكومات الدول العربية فى وجه المعارضين لسياسات الرأسمالية النيوليبرالية ، والاستعمار الجديد وبسسب ضعف وتشتت الحركات الاجتماعية فى هذه الدول .

عقد اجتماع اللجنة التنسيقية الدولية يوم السبت 25 فبراير الماضى من الصباح حتى نهاية النهار . اتفق فى هذا الاجتماع على مشروع جدول أعمال لعرضه على الدورة التحضيرية فى "أثينا" يشمل ميعاد ومكان عقد المنتدى الاجتماعى للبحر الأبيض المتوسط ، عدد الدورات التحضيرية ، صعوبات التمويل ووسائل الحصول عليه ، الميزانية المطلوبة ، ومشكلة "الفيزات" ، وأخيرا المحاور السياسية التى يقترح أن تكون موضوعا للحوار . ثم تم توزيع المهام المتعلقة بهذه البنود على أعضاء اللجنة.

أخترت أنا ومشارك من "بارشلونة" يدعى "لويس بلانكو" أن نتعاون فى اقتراح المحاور السياسية . و"لويس بلانكو" هو أمين عام إحدى النقابات المستقلة فى "بارشلونة" توثقت علاقتى به أثناء جهودنا السابقة فى عقد منتدى سنة 2005 . وفيما يتعلق بهذه النقطة اتفق على أن نكتب مقدمة للمحاور التى سنقترحها تتناول تقييم الوضع فى حوض البحر الأبيض المتوسط ، ومدى التقدم أو التخلف الذى أصاب الحركات الشعبية فى نضالها ضد الرأسمالية الليبرالية ، واتفاقات المشاركة التى عقدت فى "بارشلونة" سنة 1999 وكذلك تحليل الآثار التى ترتبت عليها فى بلاد الشاطئ الجنوبى للبحر الأبيض المتوسط . وفى هذا المجال من المهم التفرقة بين نشاط المنتدى الاجتماعى للبحر الأبيض المتوسط والنشاط الذى تقوم به عديد من منظمات القطاع المدنى باسم "الأورومتوسطية" ، من بينها منظمات فى مصر . فهذا النشاط الأخير يتم فى إطار اتفاقات المشاركة التى ووفق عليها فى "بارشلونة" ، والذى تباركه ، وتموله بلاد الاتحاد الأوروبى بهدف استخدام القطاع المدنى فى البلاد العربية لصالح سياسات السوق الحرة ، والخصخصة ، والاستثمار الأجنبى المتعدد الجنسيات الآتى من بلدان أوروبا .

المتعة بعد العمل

حرص صديقى "فتحى الشامخى" وزوجته "ماجدة" على أن تكون إقامتنا فى "تونس" مثمرة ، وممتعة فى آن واحد . ففى ليلة الأحد قاما بدعوة جميع أعضاء اللجنة على العشاء فى بيتهما . تعاون أفراد الأسرة فى إعداد "الكسكسى المشطط" و "المعكرونة" بحيوانات البحر ، والحساء ، وأعدت مختلف أنواع السلطات . تناولنا الطعام على مائدة طويلة مع أصناف من الشراب التونسى المصنوعة من العنب ، والبلح، والتين لا أتذكر من أسمائها سوى النوع الأخير واسمه "بوخا" . قضينا ساعات مفعمة بالدفء الإنسانى ، والفرحة التقى أثناءها رجال ونساء من مختلف البلدان مخترقين حواجز اللغة ، والدين ، والقومية ، والعمر ، والجنس . كانت جلستنا صورة مصغرة من عالم يولد بالتدريج رغم الصعوبات ، ونموذجا للتضامن والأخوة بين الشعوب .

فى اليوم التالى بعد الإفطار توجهنا أنا ، و"يانيس" اليونانى ، و"محمد" الأماريجى، و"فتحى" ، و"ماجدة" فى سيارة الأسرة العتيقة الى مدينة "قارطاج" . عبرنا البحر على "عبارة" (معدية) وتنزهنا وسط البيوت الجميلة ، ومساحات الخضرة ، والأشجار ، والزهور البرية ترقص فى الريح كالأجراس الصغيرة الصفراء اللون . توقفنا عند شاطئ البحر نستنشق الهواء ونملأ عيوننا بزرقة الماء ثم عدنا لنتناول وجبة من لحم الضأن المجفف تم طهيه بالبصل ، وعيش الغراب ، والفول الأخضر (الحراتى)، ومعه أطباق من الكسكسى .
فى الليل ذهبت مع "فتحى الشامخى" فى سيارة أحد أصدقائه الى مدينة "سليمان" التى أهدى "سليمان باى" موقعها للعرب الذين هاجروا من "الأندلس" الى "تونس" هربا من اضطهاد الإقطاع والكنيسة الكاثوليكية بعد أن أصيب العرب بهزائم متتالية على يد جكام وجيوش "فرنسا" و"أسبانيا" .

سرت على قدمى فى الشوارع الضيقة بين البيوت تزدان جدرانها بمربعات ودوائر من الفسيفساء الأحمر ، والأزرق والبرتقالى اللون ، وتعلو أبوابها ونوافذها الأقواس الأندلسية . فى المدينة جو من الهدوء والسلام . الناس يجلسون على دكك من الحجر فى الميدان العام ، ويتسامرون ، والشباب يتجمعون فى محلات الحلاقة . ألمح أحدهم وهو يجلس منتصبا فى المقعد أمام المرآة متأملا ما يحدث له فى اهتمام . وعجوزا تحمل أكياس الخضروات وتسير ببطء فوق ساقيها استهلكها الزمن ، والعمل الشاق . أقف فى محل العطارة أستمع الى صاحب المكان يشرح لى بالتفصيل أنواع البذور ، والبهرات التى يقوم بإعدادها فى البيت . أستشعر فى صوته رنة من يعتز بأصالة المهنة الموروثة تجاهد لكى تبقى حية فى عصر التكنولوجية والآلات حيث تفقد الأشياء طعمها الخاص لتصبح كلها سيان . ابتاع منه علبة كبيرة من البلح التونسى بثمانية دينارات هدية "لنوال السعداوى" تعشق التمر بمختلف أنواعه .

نعود الى البيت . أودع أفراد الأسرة ، وأهدى الى كل منهم كتابا: رواية أو مذكرات ، أو مجموعة مقالات ، ثم أصعد الى غرفتى لأنام . تنقضى هذه المحطة فى الحياة وأنا جالس فى "التاكسى" الى جوار سائق يرتدى طاقية من الصوف اسمه "لطفى" ، وأنفه طويل أراه تحت المصابيح يشبه منقار "أبى قردان" . أمر أمام ضابط الجوازات . وجه مربع منحوت فى الصخر ، شارب يخفى شفتيه ، ونظرة شك عندما يفحص جواز سفرى الأخضر اللون والصورة والاسم "شريف يوسف فتح الله حتاتة" ، فالعربى فى بلاد العرب مصدر ريبة وليس أخ . أجلس فى الصالة المستديرة على مقعد من الجلد تحت نجفة كريستال تتدلى من السقف . من حولى ثلة من أغنياء القوم . الأحذية المدببة ، والحقائب الأنيقة ، والنظرات اللامبالية تنظر الى من أعلى الأنف . فأنا لست من عالمهم . أنا من عالم آخر لم يأت بعد .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى