السبت ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم محمد سمير عبد السلام

عبد الرحمن منيف الوجه الجمالي للشخصية العربية

بعد عامين من وفاته ، مازال صوت منيف الإبداعي والوجودي طليقا ، يحيا بيننا فنكاد نسمعه أو يمتزج بعوالمنا الداخلية فيكاد ينطق بوجود لم نتخيله أبدا عن أنفسنا ، ألا يشعرك منيف ببدائلك من خلال شخصياته ؟، إنه يقاوم موتك أنت ليمحو آثار موته هو .الحضور الآني لمنيف لا يمكن أن يحيله النقاد إلى أى مذهب أو اتجاه فني ؛ لأن نماذج منيف مازالت تتجدد و تبلور الوجه الجمالي للشخصية العربية في مستقبل أكثر ارتباطا بنصوصه الروائية حين تصبح واقعا فائقا يتجاوز أزمات التحديد التعسفي للهوية ، ويذكرني هذا بحديث ديريداderrida عن ميتات رولان بارت إذ إن تعريفه مثل الكتابة الأولى عند _ ديريدا ) ، ما يسبق أى لغة ميتافيزيقية أو مفهومية ، إن روايات منيف مازالت تنتج مستقبل الذات العربية الطليعية من داخل آثار الماضي ، فهل ستعيد شخصياته الفريدة قراءة واقعنا وتطورنا المعرفي ، فيكتسي ثوبا جديدا من منيف وما يليه من أجيال ؟ هكذا نجد أنفسنا فى مواجهة ثقافية دائمة مع منيف وأعماله خارج أى حدود فيزيقية أو نصية ، إنه الفراغ والتأويل المتجاوز للشفافية خلف النص وآثارة فى القارئ ، والذى يحقق خصوصيه الشخصية العربية خارج الأطر الشمولية في مراياه المستقبلية . لقد اكتسب منيف – إذا خصوصيته الوجودية الإبداعية من التطور النسبي الفريد لأماكنه وشخصياته ، فهو يغرق في العجائبية من داخل الواقع ليقاوم النزعات الاختزالية المشوهه لمظاهر الحضارة ، وكأن هذه المظاهر منتجة للتو من أساطير الوعى واللاوعى البشرى ، فى رواية(النهايات) يكسب منيف ضيعة ( الطيبة ) وجودا باهرا – كأنه مقطوع عن المعرفة السابقة – من حيث التكوين واللغة والعادات ، فأهلها لهم طريقة خاصة فى الحديث لا يفهمها من لا يعرفهم فيظنهم يتعاركون ، وقد يضطرون للمناداة على على الحيوانات الضالة أو الأخرى التى تذهب – بمزاجها الغريب إلى أماكن مجهولة ، ولهذه الأسباب يضيف الرواه إليها ما يشاءون من خيال عندما يأتى ذكرها . وهذا يؤكد أن أثر الطيبة المتجدد يقاوم واقعها المادي ، فهي صوت تحريفي للوقائع الغائبة والتي تتمتع في الوقت نفسه بحضور دائم في صوت منيف أو في قرائه ، والقابل للإنتاج فى كل وعى إنسانى يقتحمه بدواله الجديدة . يمزج ( منيف ) جماليات المكان أيضا بنشأه وتكوين البطل ( عساف ) ليصير الأخير مرآة تحرف (الطيبة ) وتبرز غرابتها . إن التاريخ الذى يفترض ( روائيا ) أنه واقعى لعساف يتحول إلى صورة تستبدل الأصل وتتحدث بلسانه فى تطور يخضع للتداعى الإبداعى ومحو ثبات الهوية وجمودها يقول " هذا النوع من البشر يتحول يوما بعد أخر إلى حالة من الغرابة والانطواء ويصبح بطبيعته أميل إلى الابتعاد عن الناس او الاهتمام بهم ، كما أنه له عالمه الخاص ... هكذا تعود أهل الطيبة على عساف ونتيجة الألفه والاستمرار لم يعد يثير تساؤلا أو استنكارا – النهايات ) لقد صار ( التحول) قانونا لعساف وطبيعته الصحراوية المتشظية . صورة الصحراء تحرك وعى وأفعال وتطور الشخص دون أن يكون له سيطرة على حركتها الخاصة.

من يوقف حركة الصحراء اللاواعية وعبثها بالبطل في رواية ( منيف) ؟ إنها تدفع الأشخاص إلى الاختفاء والتلاشى فى الظلمة ، يذكر الراوى أنها بقدر ما تشعر الإنسان بضآلته ، فإنها تدفعه للتوحد بشئ ما ، وقد يطارد الإنسان فى الصحراء ظله كالأبله ، وعندما ينفصل عن تلك اللحظة ينظر إليها بإعجاب ، إن المكان عند منيف هو هذا الشئ غير المرئى الذى ينتج دوما أدوارا خيالية يستطيع الممثل / البطل أن يحاكيها أو يحرفها دون أن يلتفت إلى الماضى كأن المجاز كامن في كينونته بالأساس ، وفى ( مدن الملح / التيه) يبرز منيف شخصية الحكيم (مفضى الجدعان) الذى لا يتقاضى أجراً عن ممارسته للطب، هذا الخارج عن المسار الخطى للحضارة ، يجمع فى تكوينه الواقع والأسطورة فيصف الراوى جسده كأنه منحوت من الصخر او الخشب ، ويرفض أن يتعامل بالنقود وقد يجمع الأرانب والوعول ثم يوزعها عن طيب خاطر، و صورة مفضي أيضا تجسد الممارسة الإنسانية في اتجاه التلاشي وابتكار النموذج فى وقت واحد ، فمفضي يشبه الكتابة المقاومة لآليات بناء المجتمع المدني . وإذا كانت الكتابة منتجة لأساطيرها الخاصة ، فإن النشاط الإبداعي لمفضي سيصبح صورة قابلة لإعادة التمثيل في وعى الرواة والقراء وكأن التحول يستبدل الصراع لصالح جمالياته ، فالغموض الذى اقترن باختفاء مفضى ووفاته فى ( التيه ) استدعى صورا جديدة فى الرواة فبعض الصيادين رآه وحيدا فى زورق أبيض وسط البحر ، وعند موته اضطربت الجنازة ثم ولد نور أبيض بلون الحليب . لقد تحول الرواه والقراء وفق التلقى المعاصر إلى جزء من جماليات اللوحة الأسطورية لمفضي . ومثلما ولد عساف فى(الطيبة) ، فقد ولدت ( التيه) فى وادى العيون الخارق ، والذي يمثل أعجوبة لمن يراه وتتشكل آثارة فى ماعداه من أماكن لها خصوصية مثل ( حران ) .

إن منيف يشكل الزمن من خلال تفتت الوعى والمكان، فيذكر فى (النهايات ) أن الزمن فى الصحراء يتحول إلى ذرات صغيرة ثم يتفتت الى ما لا نهاية وفى ( التيه) لم يتغير الوجه الملائكي لمفضي الجدعان. وبهذا الصدد يرى المفكر الراحل ، إدوارد سعيد أن الروائي العربي المعاصر قد واجه التداخل المعقد بين المعرفة والمجتمع بأساليب و هواجس وخلفيات أكثر تعقيدا دون التخلى عن الأزمة الجماعية ومداومة النظر إلى الأمام راجع (إدوارد سعيد - النثر الروائي بعد 48 / ت / فريال غزول ) وأرى أن الإضافة الحقيقية عند منيف أنه قاوم واقعية الواقع من خلال فن ( الرواية ) وهى مهمة صعبة فى تاريخ تطور هذا الفن فى الآونة الأخيرة ، فقد قبل التاريخ الآن التناقضات وامتزج بالنص الأدبي على مستوى اللغة ، ولهذا أثره المعرفى على شكل الرواية الآن ، وبخاصة فى أمريكا اللاتينية . ويطلق ( ديفيد لودج david lodge ) على هذه التقنية ( الوثائقية الجديدة ) وتبدو فى رواية ( النهايات ) عقب تلازم عساف وكلبه فى رحلات الصيد ، عندما يذكر بعض الرواه أن صورتهما تشابهتا كثيرا وفى ( التيه ) يذكر بعضهم عقب موت مفضى أن كلب حمدان عوى بطريقة أسطورية . إن توثيق هذه الأحداث اللاواقعية يجسد التناقض الجمالي التكويني في الشخصية العربية كما يربك مفهوم الواقع في علاقته المعرفية المعقدة بالنص و الزمن و الحضارة التي تأبي الظهور في مدلول أحادي .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى