السبت ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
ميثيولوجيا الرغبة
بقلم سها جلال جودت

قراءة في رواية الساحلية لجمال خياط من البحرين

نوارة والبطل الكاتب أساسا العمل الروائي للكاتب جمال خياط في رواية الساحلية التي أعيدت طباعتها عام 2005 عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر بعد طباعتها عام 1993 حسب ماورد في الصفحة 120. والرواية ذات فصول متتابعة تحكي عن حالة خاصة وجدانية فهي مسرودة بضمير المتكلم أنا تنقل لنا عبر مفازات الصراع الداخلي والحاجة النفسية تداعيات وحالات متداخلة مع عالم التخييل والأسطرة الإسقاطية على مشاعر البطل الكاتب وهواجسه وانفعالاته ورغبائه .

في الرواية شخصيتان هما المحور الأساس لحراك كلا البطلين داخل إيقاعات متوازنة تتجاذبها اللغة الشعرية مع شيء من الواقع المحلي لبعض الأهازيج المتداولة في بلدة البطل الكاتب /أزقة حي "سيادي".

إن الطفل الذي تربى بين أحضان المرأة نوارة طفل يلهث وراء الحب والجمال والحاجة للحنان لأنه يعيش خواء مطرداً مفقوداً داخل بيئته الاجتماعية، وهنا يتمسك الكاتب البطل بشخصية نوارة الأنثى الأم، الحبيبة، المربية تمسكاً يبدو غير عفوي لأنه يصف في أكثر من مقطع أنوثة نوارة الموارة بالحياة والجسد الذي لم يذبل رغم فارق السن بينهما.

يبدأ بحيرته الأولى / لست متأكداً من أنك المرأة التي قضيت جلّ حياتي أبحث عنها/ ص 20، وبرغم خشيته من الظلام بإسقاطه على امرأة الليل فإنه يجهر بالأنانية المسكونة / لا تنتظري أن أقدم لك ولائي في العتمة التي أخشاها حتى الموت/ ص 21.

وكينونة المرأة الشخصية الروائية التي اعتمد عليها الكاتب البطل وحيدة لا تنتمي إلى تعدد الشخصيات من خلال حراك الأحداث نظراً لوحدتها القائمة على التداعيات والذكريات الطفلية والرغائب الجسدية النفسية.
وهي تعتمد على : المعرفة الذاتية داخل اعترافات النفس، لأنها المصدر الأساس للمواقف التي عاشتها الشخصية لتكشف عن جوانية هذه الكينونة بمعاناتها وأرقها وحاجتها ورفضها ففي كل صفحة وفصل تجد الكاتب السارد البطل لا يخرج عن إطار دائرة المحكي الذاتي.

التردد ، الخوف، الاستسلام، العودة، الرغبة، كلها عناصر أساسية معني بها الرجل والمرأة على حد سواء. والرواية هنا قريبة من رواية الاعترافات لكن بأسلوب جديد وفنية راقية تقترب من الخاطرة التي استطاع الكاتب من خلالها أن يلعب بمفاتيح السرد المحكي من خلال الإسقاطات بالمتخيل الحكائي.

وصوت نوارة طغى عليه صوت الكاتب الطرف الأساس في حراك الشخصيتين فهو يحكي عنها ويشرح حالتها بنفسه ويقدمها كما يقدم ذاته لأنه واع لحركة الحبيبة داخل روحه وخارجها، وهو يحسها في ذاته المنتمية إليها / أحسست بإمبراطورة الليل ترفرف فوق رؤوس الجميع، عندما اتسعت الدائرة من حولي، نظرت إلى السماء فوجدتها تتربع متكئة بيد على كرسيها الطائر في الهواء، وتحرك باليد الأخرى مروحة يدوية مذهبة صوب وجهي/ ص 26.

بهذا التخييل البصري يجعل من المرأة الحب الأمل نموذجاً للارتقاء فهي ورغم فقرها وغابات الوحشة التي تسكن حياتها أشبه بقديسة سماوية لكنه يطلب لأناتها الخافقة الكتومة أن تتنازل وتعيش معه لحظات الهيام التي يتوق إليها ويبحث عنها في شخصها /

يا ملكة الليل قد خذلني التعب
ياامرأة الليل ما عدت أستطيع تحمل أنة القلب
يا أمبراطورة الأحلام
يا سيدة الفوضى والغموض
يا مليكتي المحبوبة........ ترجلي بعيداً عن عربتك السماوية واكشفي اللثام عن هويتك، إذا كان النهار لعنتك فأنا أمنحك بركة المصابيح الكهربائية ولهفة الشموع/ ص 27- 28.

وما يلاحظ في الرواية مشاعر اللغة التلقائية داخل انزياحات كل فصل مركزاً على الوضع الاجتماعي للبطل الكاتب وعشيرته التي ينتمي إليها وحياة نوارة المرأة الفقيرة المتعبة العاملة كشغالة في خدمة البيوت وتربية الصغار.

ومن المؤثرات الخارجية على حياة نوارة لا يوجد ما هو خارجي عن نطاق زمنها وبيئتها وحالتها الاجتماعية، وجدت نفسها متزوجة بلا مقدمات عن أسباب هذا الزواج وصراعاته البيئية، أنجبت ذكراً تتكشف حقيقة العقوق للأم في نهاية الرواية وهو دور ثانوي لكنه كان مكملاً ومتمماً للوضع الاجتماعي الذي تعيشه نوارة، لم يخرج عن الواقع المألوف لشخصية المرأة التي تعمل في البيوت.

وحين ينعطف الكاتب بلغته بإدخال الميتافيزيقيا إلى عالم الواقع في سبر أغوار النفس فإنه سرعان ما ينكشف من خلال حرارة الاسترجاع الذاكرتي التي تجيش بها المشاعر الداخلية لتكون بمثابة محرض على الاستمرار في البحث عن الحبيبة صاحبة الحيرة الأولى والحنان المنسكب في فؤاد النفس التي شبت عن الطوق وما عادت صغيرة تخشى الليل والتبول في الثياب.

والمتمعن في قراءة الرواية يرى نوعية التساوق العام على البنية السردية للعمل من خلال شخصية التقديم الذاتي لتكون طرفاً أساسياً في تكوين حكاية لها دلالتها الخاصة.

ووفق هذا المظهر على صوت السارد العاشق نجده يضع المبررات ص 45 / تجلس نوارة على حصير من خوص النخيل، وتضعني في حجرها كما لو تبغي تنويمي، وتهز فخذيها بلطف منشدة بصوت ناعم رخيم، لم تغيره عجرفة السنين وغربتها الطويلة كلمات التهويدة القديمة..

هلو لوه .. هلو لوه.. هلو لوه

يرقد وليدي رقدة الهنية... رقدة الغزلان في البرية.

وحين يصف ملامح شخصية المرأة الحلم، الرغبة، الحاجة، فإنه يمهد لأسباب هذا العشق والرابط الوثيق الذي جمع بينهما، الحنان، الرعاية، الاهتمام، فهو في نظرها أميرها الصغير المدلل وهي بنظره أمبراطورة الأحلام والحياة التي ينشدها، لكن ثمة فارق يكوي قلب العاشق يقف حائلاً دون تحقيق رغبة الوصال ففي صفحة 53 / كنت أرى اثنتين وثلاثين درجة خضراء، وأخرى متقدة يصل عددها إلى الستة والخمسين جنباً إلى جنب/ وهي إشارة إلى عمر كل منهما، وهو على صوت بطلته المعشوقة يوضح هذا الأمر، ويا ليته استغنى عن هذا المقطع الذي أضاع متعة التحليل عند القارئ والناقد، لأن التشبيه والمشبه به كانا واضحين وهما رمزان قويان للدلالة على عمر كل منهما.
والسارد هنا تعمد الدخول في عالم ماوراء الحقيقة لصناعة فن يجذب القارئ إليه ويجعله يعيش حالة من التحليلات الواقعية بمسمياتها الحقيقية التي لم يتعرض لها الكاتب بل ضمنها ميتافيزيقيا الجمال لحراك الصورة داخل دينامية الأفعال المرتبطة بمشاعر وحواس البطلين وحاجتهما كل إلى الطرف الآخر.

والغزال الشارد دليل الحرية والراعي دليل الحراسة والقطيع دليل الحاشية الأسرية وهو في صفحة 67 يكشف عن حاجته الداخلية في أمنية تعتمد الرمز المكشوف غير المبطن والمبهم / تمنيت أن أكون ذلك الوعل الصغير الشاذ في القطيع.. ذلك الوعل المحتمي خلف الأنثى/ الملكة/ القائد.

في كل صراعاته وذكرياته وحاجاته لايخرج عن تبجيل وتقديس المرأة المربية صاحبة الحنان الأول الذي تحول مع نمو الزمن إلى حب وتعلق فيه شهوة الارتباط التي لم تتحقق!!.

وداخل هذه التوجسات واللعب بميتافيزيقيا الحراك فإنه يتساءل / ماهذا؟
خليط من الجنة والوهم أم شرور نفسي وتناقضاتها ؟ ص 68 فهذا لأنه متمسك بجذور عشقه لنوارة يا أنثاي

يا أميرة المفازة...

يا خيال اللحظة، ولحظة الخيال..

أنا قدرك المحتوم. ص 70

ويستكمل أحلامه وخيالاته بالاغتسال بين يدي نوارة / ما أروعه من استحمام، إنه أروع بكثير من الاستحمام مع الحوريات الفاتنات، الماجنات ص 77 مؤكد أنه لا يقصد حوريات الجنة فحوريات الجنة لسن بماجنات ولا ينطبق عليهن هذا الوصف، لأنه في صفحة 43 يقول: كل النساء – في نظري – مع تضمين هذه الجملة ضمن خطين صغيرين كتأكيد على تجربته مع الأنثى التي يفتقد فيها عناصر نوارة المعشوقة للأبد داخل فتق القلب والروح والمتربعة على عرش المشاعر لأنه لم يستطع أن يخرج من تجربته معها / نسخة واحدة مكررة على أجساد ووجوه عدة. كلهن نسخة باهتة. فستان جديد وثوب سهرة. كلهن شهوة متقدة وفراش وضوء أحمر ثالثهما ........ كلهن دجاجات متقدات يحلمن بديك نشيطة. كلهن نسخة مكررة من الخطيئة مع فوارق تافهة.

المسرود الحكائي على صوت البطل أنا، انطلق من وعيه لميثولوجيا الرغبة والحاجة الملحة في الذاكرة الشاعرية، فهو لم يقدم للمكان ولم يقدم للزمان بل اعتمد على التقديم الذاتي في نقل حكايته مع نوارة جسد الرواية ومن خلال هذا التقديم حدد أفكاره وأحلامه ورؤيته نحو المرأة فهو السارد وهو البطل وهو الحبيب العاشق، تجلى كل هذا من خلال تداعيات وذكريات بدأت من سنين الطفولة وانتهت بسنين الشباب والرجولة.
قدم نفسه على أنه عاشق مغرم بنوارة وتجربته معها لا ينساها لأنها انغرست في أعماق نفسه منذ أن كان طفلاً صغيراً لأنه حظي بحنان وحب هذه المرأة من خلال رعايتها له كمربية وحاضنة. فالزمان هنا ليس زمناً تاريخياً بل زمن ذاتي تطور مع نمو البطل وبقي محافظاً على هويته ودلالته من خلال سرده المثيولوجي لجموح الرغبة وتطورها في ذاته.

فالسارد بطل الرواية يهيمن على منظومة الحكي ويصوغ الأحداث باستراتيجية موقعه من المرأة البطل التي ناب عن صوتها صوت الرجل العاشق في التقديم الذاتي والغيري لأنه يقدمها بصوته وبرؤاه هو / أقرأ في عينيها رغبة مكبوتة في ضمي، وهذا الحشد المنافق يمنعها من تنفيذ هذه الرغبة المحمومة، لا يمكن أن تُضيع هيبة ملك توج لتوه، عادت نوارة لتكمل خطابها المبتور: والآن حان وقت الختام، خذوا هداياكم ورياءكم وانصرفوا / ص 94- 95

وما يمكن ملاحظته في هذه الرواية العفوية الدلالية بلغة شعرية متماسكة تنبي عن جوهر الحدث في صدامات النفس مع العائلة والحي المظلم وعلاقته بالأنثى الحلم التي ارتبطت بمثيولوجيا الرغبة من خلال الوعي الذاتي للبطل لنفسه ولحبيبته المعشوقة نوارة بتناغم تلقائي بلور أحداث تداعيات السارد بواحدة من الأصول الجمالية لفن الرواية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى