الثلاثاء ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم سامر مسعود

مأسسة التفكير

منذ ان وطئت قدماي "أرض الغريبة" وأنا منهمك في اجراء المقارنات بين واقع دولنا العربية من جهة، والواقع الذي تحياه الدول المتقدمة من جهة أخرى. وأصدقكم القول أنني، حتى هذه اللحظة، مصاب بصدمة فكرية فاجعة. أنا لا أتحدث عن الإمكانات المادية الهائلة التي تتمتع بها الدول المتقدمة، وإن كانت تدهشك منذ اللحظة الأولى، ولكنني أتحدث هنا عن طبيعة البنية الفكرية للأفراد بإعتبارهم كيانات منسجمة تماما مع نظام فكري شامل، تستمد استمرارها وتطورها وتحقيق غاياتها بمدى جهدها المبذول للتطوير والإبداع لهذا النظام. صحيح أنه نظام قائم على الرأسمالية الذي يعلي من قيمة الإشباع والتطلع لما هو مختلف وأفضل من منظور قيمي محدد سلفا، ولي بعض التحفظات هنا، ولكن في المقابل نجح، أي النظام، في إيجاد بنية مؤسساتية راسخة، أنعكست بمرور الزمن على إيجاد كيانات إجتماعية وفكرية أفرزت مفهوما معينا للتنشئة.

وأهم منجزات هذه التنشئة إيجاد نمط فكري وسلوكي محدد يخدمه بطريقة آلية أو بحكم العادة. بعبارة آخرى وضع الأفراد في مدى معادلة النفعية؛ فبقدر ما يقدم الفرد من خدمات وانجازات نوعية لهذا النظام، بقدر ما يحقق منفعته الشخصية.

إن هذا النمط السائد في معظم الدول المتقدمة على كافة المستويات المعيشية، أفرز أنماط قيمية إيجابياتها غلبت على سلبياتها بدليل نجاحها. وانا هنا لست بصدد الحديث عن هذه الأنماط، ومدى تقاطعها مع الأنماط القيمية السائدة في عالمنا العربي. وكل ما أتطلع إليه هنا تسليط الضوء على بعض الإفرازات السلوكية الإيجابية الناجمة بالضرورة عن تلك القيم النشأوية.

من هذه القيم قيمة الإنتماء بين الأفراد للنظام الشامل عموما، وللمؤسسة الإنتاجية العاملين فيها بشكل خاص. ويجدر التنويه هنا أن قيمة الإنتماء هنا لا تتطابق ومفهومها المعروف في عالمنا العربي. أنها قيمة مؤسسة منذ التنشئة على مبدأ النفعية السابق الذكر.

تلمس فاعلية هذه القيمة في سلوكيات الأفراد عموما؛ حيث يقوم كل فرد بدوره المنوط به بكل إخلاص ودقة. وتحضرني هنا عدة أمثلة سأكتفي بموقفين حدثا معي شخصيا للتدليل على ما أقول. بينما كنت أقود سيارتي على الطريق السريع حدث فيها عطل أجبرني على توقيفها بجانب الطريق. لم تمض سوى دقائق معدودة حتى قدمت سيارة شرطة، نزل السائق وتقدم مني، وسالني بكل لياقة: كيف استطيع مساعدتك؟ وأضاف: إذا أردت فنيا سأعطيك رقما، ولكن هذا سيكلفك مبلغا من المال، وذكر المبلغ بالتحديد. ثم نوه إلى ضرورة نقل السيارة من المكان خلال أربع وعشرين ساعة. شكرته وبينت له أن صديقي في طريقه إلي. لم تمض على مغادرة الشرطي عشر دقائق وإذا بسيارة آخرى تقف بالقرب من سيارتي، يهبط من السيارة ويعرض عليّ المساعدة. تم ذلك بمهنية عالية دون النظر إلى أي إعتبار.

أما الموقف الآخر فقد حدث بينما كنت أعاين بعض الكتب في مكتبة عامة، وقد دهشت من احتوائها على آخر الإصدارات الروائية والنقدية والفكرية باللغة العربية، كانت دهشتي تعادل تماما لقاء الوطن. المشكلة أنني لا أملك بطاقة اشتراك، وليس لي عنوان محدد، ولكنني، مع ذلك، قررت أن أحاول استعارتها!! توجهت إلى قيم المكتبة، وبينت له أنني أريد هذه الكتب ولكنني لا أملك بطاقة اشتراك. قكر لبرهة، ثم قال لي أنه لا يستطيع القيام بذلك. ثم استأنف حديثه، كمن تذكر شيئا، وقال: عبئ هذا الطلب، ووافيني بالكتب التي تريد استعارتها. قمت بذلك على عجل مخافة أن يغير رأيه، وما هي الإ لحظات حتى كانت الكتب معي. واصطحبني في جولة شاملة، يعرفني باقسام المكتبة ومقتنياتها، ونظام التصنيف فيها، وكيفية استخدام الحواسيب والآت التصوير والقسم المرئي والمسموع وغير ذلك.....

يقوم مثل هؤلاء الأشخاص، وغيرهم كثير في مجالات آخرى، بعملهم بطريقة مبرمجة أو بمعنى آخر، بتفكير مؤسس على إنجاز العمل بطريقة آلية دقيقة لتحقيق المنفعة المتبادلة.

كان الإنسان الغربي، في بداية هذه الحضارة، يؤسس لكيانات تضبط الحراك الحضاري نحو غايات التقدم والرفاهية بمختلف المجالات، ولكن ما أشاهده الآن كيانات عملاقة تمأسس تفكير الانسان. قد يكون في ذلك إجحاف بإنسانيته، ولكنه ارتضاه بحكم قانون النفعية القائم على الاشباع السابق الذكر.

لا أنكر في هذا المقام ما للامكانات المادية الهائلة من أثر بالغ للدفع بعجلة التقدم، والتسريع من وتيرتها، ولكن للوصول إلى فهم أعمق لفهم الحراك الحضاري في الدول المتقدمة علينا أن ندرك حقيقة في غاية الأهمية وهي التأثير العميق الذي فرضته دولة المؤسسات على أنماط التفكير والقيم السلوكية للافراد فيها، والتي تحولت بمرور السنين جزءا مهما في البنية الثقافية والفكرية في هذه المجتمعات. تلمس ذلك بوضوح تام أينما تنقلت في ارجاء تلك الدولة.

وإذا ما حاولنا مقارنة هذه القيمة، قيمة الإنتماء، في ثقافتنا العربية، سنجد أننا نمتلك مفهوما أرقى نظريا، ويصلح أن يكون مصدرا مهما لتحسين تلك القيمة في المجتمعات المتقدمة ذاتها. فالإنتماء في عالمنا العربي مرتبط بدلالات معنوية صرفة كالدلالات الدينية والحزبية والسلوكية...الخ، يكتسب الفرد من خلالها مكانة إجتماعية "معنوية". إلى هنا يبدو الطرح العربي لمفهوم "الالتزام" متقدما، ويفوق نظيره الغربي.

ولكن اذا ما تابعنا دورة هذه القيمة فاننا نلحظ الخلل في المستوى التطبيقي لهذا المبدأ. بمعنى آخر غياب مفهوم مؤسساتي قائم على منهج علمي واضح للاستفادة من تأثيراته الهائلة في خدمة السلوك الإيجابي القادر على التغيير.

ملخص القول: في عالمنا العربي منظومة قيمية متقدمة في كل المجالات، ولكن تفتقر إلى المنهج الفكري المؤسساتي على مستوى التطبيق الفعلي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى