الجمعة ٢٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
(1939 _ 1986)
بقلم أوس داوود يعقوب

محطات من حياة داوود يعقوب

(غادرت قريتي وأنا في التاسعة من عمري، وما زلت بالنسبة لهذا الموضوع في التاسعة من عمري).
داوود يعقوب

في اليوم الثَّاني من أيَّام شهر شباط لسنة تسع وثلاثين وتسعمائة وألف، وُلد ببلدة طيرة حيفا بفلسطين المُحتلَّة (داوود يعقوب).

وعلى سهول قريته الخضراء، وبين روابيها ترعرع وتغلغل حبُّ تلك المواطن والمرابع
في نفسه، و ما إن بلغ سن السادسة حتى حمل كتبه وتوجَّه إلى مدرسة القرية مع العشرات من أقرانه تحدوه رغبة في التحصيل والدرس، وانتقل إلى السَّنة الثَّانية من التَّعليم الابتدائي، و ما إن أنهاها حتى اضطُرَّ مع أهله إلى الخروج من بلدته عام النكبة (1948) مع قوافل اللاجئين الفلسطينيين إلى البلدان العربية المجاورة، وكان عمره ـ آنذاك ـ تسع سنوات.

يقول داوود يعقوب: (قد أكون أنا وجيلي غير واعين لأحداث النكبة... إلا أنَّ ما يطبع في ذاكرة الطفل لا يُمحى... لقد شاهدت كثيراً من المآسي وأنا هناك ولعلَّني لم أدرك لها معنى آنئذ...
و لكن عندما عشت النكبة في الخيام... في الفقر والجوع... في الذل والإهانة بدأت تتوضح المعالم في ذهني... وبدأت أعرف معنى المآسي التي شاهدتها... واليوم وقد عرفت كلَّ الأسباب والدوافع التي أدَّت إلى النكبة حتى نؤمن بالعودة... إن ارتباطنا بتلك الأرض أكثر عمقاً من أحداث النكبة... إن لنا فيها جذوراً ضاربة في أعماقها؛ لن تستطيع السنوات أن تقتلعها... لأننا مازلنا نرعاها ونستقيها... و لعلَّنا اليوم بعد تسعة عشر عاماً أشدّ ما نكون إيماناً بيوم العودة... وأكثر ما نكون التصاقاً بتلك الأرض، وأخيراً أقول: إن جيل ما بعد النكبة هو جيل الغد... هو جيل العودة).

ومن فلسطين اتَّجهت عائلة داوود يعقوب إلى الأردن، ومنها استقرَّ بهم المطاف في سورية.

وتحت وطأة الظروف والحاجة الملحَّة اضطُرَّ داوود إلى امتهان كثير من المهن ليؤمِّن بعض المال الذي يعين الأسرة على العيش.

إلا أنَّ ظروفه الجديدة لم تقتل في نفسه حبَّ العلم والمعرفة، فحنَّت نفسه إلى الكتاب، لذلك نراه في سن الرابعة عشرة من عمره يستطيع الحصول على شهادة الدراسة الابتدائية بجهد شخصي (دراسة حُرَّة)، ويعود إثر ذلك إلى المدرسة طالباً نظامياً في إعدادية صفد بدمشق، فيحصل على شهادة الدراسة الإعدادية.

وممَّا يذكره القاص والناقد الأدبي الراحل الدكتور محمود موعد عن طفولة داوود يعقوب: "مضى زمن... مضى تاريخ... ثلاثون عاماً أو يزيد... على أبواب مخيم اليرموك التقينا... بيوته كانت تعدُّ أيامها على أصابع اليدَيْن... أيام تقاسمنا الفقر والبؤس، والبرد والطين، وحليب الإعاشة ومدارس الوكالة، والآمال الصعبة، والأحلام التي لا تطال. كنا نبحث عن شيء فقدناه... نبحث عن فلسطين، عبر قرانا الصغيرة، عبر حقول البرقوق... عبر الألوان والروائح والطعوم...
كنا نبحث بطريقتنا الطفولية... بأجسادنا الغضَّة... وأحساسينا العارمة؛ لأن عقولنا لم تكن قد نضجت بعد... على أبواب المخيم... كرة القدم... البيادر... السِّباحة... صيد الصُّقور... السَّطو على البساتين... النَّوم في العراء على أكوام القش، وعلى الشِّفاه كانت القلوب تُردِّد: بلاد العرب أوطاني، وموطني موطني، وحُماة الدِّيار عليكم سلام... وتقشعر منا الأبدان، وتمتزج العزَّة بالدموع...".

ولم يستطع داوود يعقوب أن يُكمل دراسته الثانوية بسبب الظُّروف المادِّيَّة الصَّعبة التي كانت تمرُّ بها أسرته، فكان لابدَّ من البحث عن عمل يتناسب وميوله، فاتَّجه إلى العمل المسرحي، فعمل ممثلاً ـ وكان ذلك في العام 1958 ـ ثم التفت إلى التأليف المسرحي، فكتب عدَّة مسرحيات ذات فصل واحد، وكتب في بعض الصحف المحلِّية والعربية مقالات في النقد الأدبي والفني.

وفي نهاية الخمسينيات بدأ اتِّصاله بالإذاعة السورية، فبدأ العمل مذيعاً و ممثلاً في الكثير من البرامج والأعمال الدّرامية.

يذكر الفقيد عن فترة البدايات: "بدأت في نادٍ صغير أُلقي الشعر في ندوة أسبوعية، فأخذني المرحوم الأستاذ أكرم خلقي لأمثِّل في الإذاعة حياة الشهيد المرحوم عدنان المالكي، ثم بدأت العمل مع مجموعة من الهواة على خشبة المركز الثقافي العربي ـ عندما افتُتح أول مرة في ظلِّ دولة الوحدة السُّورية المصرية ـ ومن ثَمَّ؛ تمَّ اختياري بواسطة الفنَّان الكبير المرحوم صبري عياد للعمل
في مسرحيات "الصياد" و"صرخة دمشق". وكان آنذاك الدكتور رفيق الصبَّان مكلفاً بتأسيس المسرح القومي، ورآني أمثل على مسرح المركز الثقافي، فطلب أن يقابلني، ودهش عندما لمس اطلاعي على المسرح اليوناني، وتناقشنا حول "أوديب" و"كامو" و"بريخت"، وفُوجئ أكثر عندما عرف أني نشرت العام 1958 وعلى حلقات متسلسلة في صحيفة "صوت العرب" تلخيصاً لكتاب ستانسلافسكي. وقد طلب مني أن أمثِّل مشهداً من "أوديب" فنفذّت المشهد الأول من المسرحية، وتمَّ على أساسها تعييني في المسرح القومي، ومثَّلت في عدد من المسرحيات ومنها "العادلون" لألبير كامي و"المزيفون" لمحمود تيمور، و"الخروج من الجنة" و"براكسا" لتوفيق الحكيم
و"ثمن الحرية" لعمانويل روبنصون...".

ومن ذكريات الفنَّان الراحل الأستاذ نهاد قلعي عن تلك الأيام: "كان انطباعي عن داوود يعقوب يوم عرفته أن شخصية الأديب فيه تطغى على شخصية الفنَّان الممثِّل، ورغم ذلك وجدت نفسي أسند إليه أهمَّ دور في أول مسرحية أخرجتها للمسرح القومي وكانت مسرحية "المزيفون"
من تأليف الكاتب المصري الكبير محمود تيمور، الذي سعد لاختيارنا مسرحيته، فجاء يزور القطر ويطَّلع على المراحل الأولى للتَّمارين... فتضاعفت سعادته من خلال النقاش الذي جرى معه، حول المسرحية بعد فترة التمرين، واستأثر داوود بالجزء الأكبر من هذا النقاش... فقال يومها تيمور:
إنه سيعود إلى القاهرة مطمئنَّاً إلى أن مسرحيته في أيدٍ أمينة، ولم يُخطئ حدسه، فقد كان داوود هو المبرز حين عرض المسرحية".

وممَّا يذكره الكاتب الأستاذ رياض عصمت عن بدايات تأسيس المسرح السوري: إن نهضة المسرح في سورية جاءت على يد كلٍّ من رفيق الصبان، وشريف خزندار اللذين كانا قد عادا إلى سورية من فرنسا، بعد أن تدرَّبا على أيدي الفنَّانين الكبيرين جان لوي بارو، وجان فيلار، فأخذا يقدمان نماذج من المسرح العالمي، محاولين وضع أسس لثقافة مسرحية واعية تضمن ـ في الوقت نفسه ـ إقبال الجماهير، وأسَّس الدكتور رفيق في هذه الفترة نواة مسرحية كان لها أكبر الفضل في دعم مسيرة المسرح في سورية، وأطلق على طاقمه الفني هذا اسم "ندوة الفكر والفن".

ويؤكد الناقد الأدبي الأستاذ يوسف سامي اليوسف أن داوود يعقوب ظلَّ حتى أيامه الأخيرة مهتماً بالمسرح إذ يقول: "ذبلت وأنت تفكر في إنشاء مسرح في المخيم، ويوم اقترحت علي أن نمارس ضرباً من القراءة التمثيلية؛ أدركت أنَّك مُترع بالطاقة المسرحية، وأنَّك قادر على أن تهب الكثير"...

 الطَّريق إلى إذاعة دمشق..

كانت البداية مع الوحدة بين سُورية ومصر، أي في مطلع عام 1960، حين كان داوود يُلقي الشِّعر في نادٍ صغير، في دمشق، وفي ندوة أسبوعيَّة؛ حيثُ أخذه المرحوم الأُستاذ أكرم خلقي ليُمثِّل في الإذاعة، حياة الشَّهيد المرحوم عدنان المالكي.

عاد بعد ذلك لعمله المسرحي في المسرح القومي، حتَّى مُنتصف عام 1961؛ حيثُ ذهب لأداء خدمة العلم، أما البداية الحقيقيَّة، فكانت عام 1962 حين عُيِّن في إذاعة دمشق مُذيعاً ومُعاوناً لمُدير التَّوجيه السِّياسي فيها، ولم يكنْ داوود في الإذاعة والتلفزيون السُّوري، الفلسطيني الوحيد، فقد زامله فيها توءمه الإذاعي الكبير مُحَمَّد صالحيَّة، والشَّاعر الفلسطيني الرَّاحل الكبير كمال ناصر، والشَّاعر الفلسطيني الكبير يُوسف الخطيب، والأُستاذ عبد الله الحوراني.

ويحدثنا داوود يعقوب عن فترة البدايات قائلا: "لم أبقَ بالمسرح القومي طويلاً، فقد انتقلت بعد ذلك إلى "ندوة الفكر والفن" ومن ثمَّ؛ عملت في الإذاعة ـ بشكل رسمي ـ غير أني بقيت على صلة مباشرة بكل ما يصدر عن المسرح من دراسات، وقد شاركت بالنشاطات الفنية للمسرح العسكري أثناء تأدية خدمة العلم، وكان ذلك في منتصف العام 1961. وفي العام 1963 عملت في إذاعة دمشق معاوناً لمدير التوجيه السياسي، وباشرت الإخراج الإذاعي العام 1964، وحاولت أن أكتشف الفرق بين الإخراج المسرحي والإخراج الإذاعي...".

ومنذ مطلع شبابه آمن داوود يعقوب بالكفاح المسلَّح طريقاً لتحرير الوطن المغتصَب، ففي احتفال نظَّمته الهيئة العربية العليا لفلسطين إحياءً لذكرى الشهداء الذين سقطوا في ميادين الشرف وساحات الكفاح والجهاد دفاعاً عن عروبة فلسطين، وذلك بمكتب الهيئة في دمشق في السابع من نيسان/أبريل 1965 بمشاركة جموع من الشبان والمجاهدين والمثقَّفين الفلسطينيين والسوريين، ارتجل داوود يعقوب كلمة حماسية جاء فيها: "لو أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه القوَّة التي في ألسنتنا، في سواعدنا لكنَّا الآن في الوطن المغتصَب أعزَّة كراماً، ولكُنَّا أقمنا هذا الاحتفال في القسطل"... وقد كان الراحل من أوائل الذين ساهموا في إنشاء إذاعة فلسطين في دمشق، إيماناً منه بقضية شعبه، وبضرورة إيصال صوت الشعب الفلسطيني إلى العالم.
وفي سنة ثمان وستين أصبح عضواً في نقابة الفنَّانين في القطر العربي السوري، كما ساهم مع عدد من رفاق درب التحرير في تأسيس اتّحاد الكتَّاب والصّحفيين الفلسطينيين، وكان له دور بارز في تأسيس الاتّحاد العام للفنَّانين الفلسطينيين، وقد انتُخب في دورته الأولى أميناً عاماً، و ذلك سنة 1970.

كما خاض داوود يعقوب غمار تجربة هي الأولى من نوعها في الشَّتات الفلسطيني، حيث ساهم مع عدد من الفنَّانين الفلسطينيين في تأسيس المسرح الوطني الفلسطيني، ومما يذكره الشاعر خالد أبو خالد عن تلك المرحلة: "لقد كان صاحب وجهة نظر في تأسيس اتِّحادنا العام للكتَّاب والصَّحفيين الفلسطينيين... وواحداً من المبادرين للمشاركة في تأسيسه من موقعه المؤثِّر في قاعدة شعبنا الفلسطيني، فقد كان بالإضافة إلى كونه واحداً من المثقَّفين الثَّوريين الفلسطينيين، قريباً من القلوب التي يتعامل معها ووفياً لنبضها العظيم في سنوات نهوض الثَّورة... أتحدَّث عنه لأنني واحد من الذين عرفوه وزاملوه في استديو الإذاعة إلى سفوح الأغوار وجبال عمان البعيدة الآن... يوم جاء في يديه مشروع تأسيس المسرح الوطني الفلسطيني ومشروع اتِّحاد الفنَّانين والمثقَّفين الفلسطينيين، وفي صدره وعقله ولاء للأرض والثَّورة وحسب. وما من شك أن معاناة داوود في محاولته لتأسيس مسرح وطني فلسطيني واتِّحاد للفنَّانين الفلسطينيين، توازي معاناة الكثيرين من مثقَّفي شعبنا، من أجل السير على طريق تطوير مؤسسة الثَّورة كلها، وعلى مختلف المستويات".

وكما آمن داوود يعقوب بالفعل الثَّوري المسلح، آمن بأهمية الكلمة المقاتلة إذ يقول:
"هذه الثَّورة لم تكن ثورة بندقية فحسب، بل كانت ثورة كلمة وبندقية، وفي هذه الثَّورة تحقِّق التَّلاحم الحقيقي بين الكلمة والبندقية. وقدَّمنا من الكتَّاب الفلسطينيين شهداء كثيرين على طريق مسيرة ثورتنا، ولايزال كتَّابنا الفلسطينيون وشعراؤنا العرب التقدميون مصرِّين على أن يتابعوا المسيرة أياً كانت التضحيات، وأياً كانت التحديات".
وهو مُحقٌّ بذلك فقد سقط غسان كنفاني شهيداً، و وائل زعيتر، وكمال ناصر، و كمال عدوان، وماجد أبو شرار، و عبد الوهاب الكيالي، وعلي فودة، وخليل حاوي شاعر لُبنان الكبير الَّذي رفض عقله الاحتلال الصّهيوني لبيروت العاصمة العربيَّة، فأطلق النَّار على رأسه، كُلُّ هؤلاء وغيرهم سقطوا شهداء الكلمة والرَّصاصة، وعلى الطَّريق نفسه، الَّتي سلكها الشَّاعر الشَّهيد عبد الرَّحيم محمود، في المُواجهة مع البغي والاحتلال.

ولم يعرف داوود يعقوب المساومة يوماً في مواقفه الوطنية وثباته عند الحقِّ، فقد كان عنيداً صلباً إذا ما تعلَّق الأمر بأرضه وقضيته وحقوق شعبه. والسلام الذي كان يتحدَّث عنه؛ هو السَّلام العادل والشامل للأرض والإنسان، مؤمناً أنْ لا سلام في المنطقة مع وجود الكيان الإسرائيلي الغاصب المحتل، الذي قام على أنقاض حقِّنا وأرضنا. فالسَّلام يعني ـ حسب داوود يعقوب ـ زوال هذا الكيان وعودة القادم المغتصب من المكان الذي جاء منه قبل النكبة العام 1948. أما اليهود من أبناء فلسطين، فلهم في الأرض ما للمسيحيين والمسلمين من حقوق، وعليهم من الواجبات ما علينا.
فالسَّلام العادل يعني ـ بالضرورة الحتمية ـ أن تعود فلسطين بمساحتها الجغرافية (27.009) كيلومترات مربعة، وحدودها الطبيعية: سورية والأردن شرقاً، والبحرالأبيض المتوسط غرباً، ومن الشمال لبنان وسورية، ومن الجنوب سيناء وخليج العقبة.

نعم، هذه هي الأرض التي يجب أن يُرفع فوقها العلم الفلسطيني. هكذا كان يقول دائماً مؤكداً أن تحرير القدس يمرُّ عبر تحرير قرية "طيرة حيفا". لقد آمن أن تحرير القدس عاصمة الدولة الفلسطينية؛ إنما يعني إيمان كلِّ فلسطيني بتحرير قريته أو مدينته أولاً، ومن ثمَّ؛ تحرير القدس.

وقد كان داوود حاذقا في عمله وعطائه خاصة إبان حرب تشرين التحررية التي كان فخورا بها لأنها كانت حلمه دائما وكان فخورا بالسواعد العربية التي اتحدت يوم تشرين التحرير وانطلقت تقاتل تحت راية واحدة. وبعد الحرب بدأ يفكر ويعمل ويكتب، كانت باكورة أعماله تتحدث عن تلك الحرب (حرب تشرين) وهي رواية " أزهار معطرة بالدم " للدكتور عبد السلام العجيلي حيث قام داوود بإعدادها وإخراجها عام 1978.

وكَتَبَت عنه الكاتبة العربيَّة السُّوريَّة الكبيرة كوليت الخوري، في العدد 507 من مجلَّة "المُستقبل"… وفي صفحة أسمتها: صفحة لي… وتحت عُنوان "مع صديق":" بلى… إنِّي أعرف كُلَّ أجزاء هذا الوطن، توحَّدت في قلبك الكبير، أنت الفلسطيني المُؤمن، بل أنت الفلسطيني… السُّوري المُؤمن بالوطن الكبير، وأعود سريعاً إلى ذكرياتي معك، فأنا أعرفك مُنذُ زمن بعيد، من ندوة الفكر والفنِّ في دمشق، وكنت أتردَّد عليكم بين الحين والحين، ثُمَّ المسرح القومي، ثُمَّ الإذاعة والإعلام، فقد كُنَّا نجتمع دائماً. نحن الَّذين كُنَّا في مطلع شبابنا، براعم تشقُّ طريقها في دُنيا الأدب والفنِّ والصَّحافة، وأنت تطمح في أنْ تسهم في بناء الوطن من جديد وعلى الشَّكل الأحسن".

 داوود يعقوب.. أبكى الأمة مرتين

و قد رأس داوود يعقوب أوَّل رحلة قام بها المسرح الوطني الفلسطيني خارج ساحة الصراع المباشر، وقدَّم أوضح الصور لكفاءة الفنَّان في خدمة قضيَّته، بالرغم من أنَّ النَّصَّ، والمناخ السائد لم يكونا في مستوى طموحه، ولكنَّ داوود السياسي، كان يدرك أنَّ الثورة هي فنُّ الممكن، وهي أيضاً تحويل المستحيل إلى ممكن في الإطار الَّذي اختار أنْ يعمل فيه، ولم يكن هذا الإسهام الوحيد لداوود، وإنَّما كان من أوائل منْ أسهموا بتأسيس إذاعة فلسطين بدمشق، وكان مؤسِّساً لاتحاد الفنَّانين الفلسطينيِّيْن الَّذي كان أوَّل أمين عامٍّ له، وكذا عُضواً في اتِّحاد الكُتَّاب والصَّحافيِّيْن الفلسطينيِّيْن.

وعن المناضل والسياسي داوود يعقوب يحدثنا الدكتور الراحل محمود موعد: "... أنت لم تكن لترضى أن نتنازل حتى عن قرية من فلسطين لئلا يفجع فلسطيني آخر بفجيعتك بقريتك الصغيرة.
وقد استطاع الراحل الكبير أن يوفق بين واجبه الثَّوري ونشاطاته المتعددة، وبين عمله في الميدان الإذاعي، حيث احتل مكانة بارزة في إذاعة دمشق، إذ اعتبر في العام 1968 مُذيعاً ممتازاً في شعبة المذيعين، وفي العام الذي يليه تسلَّم رئاسة شعبة المذيعين والمنفذين في الإذاعة السورية.

ولأن أبا يزن وهو اللقب الذي اشتهر به كان حاضر الذهن اعتبر بحق ومن خلال صوته الدافئ المميز واحدا من رجال الكلمة القلائل الذين تركوا بصماتهم واضحة في كل استوديوهات الإذاعة والتلفزيون السورية والعربية.
فقد تميز داوود يعقوب بصوت إذاعي رائع، حاز إعجاب ملايين المستمعين الذين عايشهم في أفراح الأمة وفي انتصاراتها، كما شاركهم آلام هذه الأمة وانتكاساتها.

ومما يذكره الشاعر الأستاذ أحمد دحبور عن المذيع داوود يعقوب: "لست في معرض توثيق لمسيرته الوظيفية بطبيعة الحال، وقد لا يشغلني كثيراً أنه كان "كبير المذيعين" في دمشق فترة غير قصيرة، لكنني لا أستطيع أن أنسى صوته في واقعتين تاريخيتين في حياة العرب المعاصرين:

الأولى يوم حرب 1967 عندما هدر صوته هاتفاً: سلمت يداك يا قاهرة... ثم كيف خَفَتَ هذا الصَّوت بعد أيام قليلة حين فُوجئت الأمة بالنبأ العظيم.
والواقعة الثانية عندما ذهب إلى القاهرة ليشيّع زعيم الأمة جمال عبد الناصر، وكيف تهدَّج صوته أثناء البث المباشر... لقد بكى في الواقعتين، فأبكى الأمة مرتين...
ويضيف أحمد دحبور: "لم يكن مجرد صوت ذهبيٍّ، بل كان قادراً على جعل المستمع شريكه في الخبر والتعليق، بنقل جرعات عالية من الإحساس الخطير الذي يعطي معدن المذياع عصباً وروحاً... و لعل دراسته العصامية، بالجهد الذاتي، لستانستلافسكي قد أعدته لهذه القدرة الخاصة في تقمص الحدث، واستبطان المشاعر...".
ويكتب الإعلامي الأستاذ فايز قنديل: "لقد عرفت الإذاعة، وعرف المستمعون داوود يعقوب سيداً للمنبر سواء أكان ذلك في استديو الأخبار والتعليق السياسي المغلق، أم في الميادين المفتوحة للنَّقل الإذاعي الخارجي، خصوصاً في أيام الوطن المشهودة؛ أي أعيادنا القومية... ولكن هذا يصنع من داوود يعقوب مذيعاً ناجحاً بل لامعاً بل متميزاً... ولكن طموح داوود كان أكبر، وهكذا حقَّق شخصية "الإذاعي الشامل" دون أن يهدف إلى مثل هذا التعبير".
وبالفعل استطاع داوود يعقوب أن يتميز في كلِّ مجالات العمل في الميدان الإذاعي، ولعل سرَّ نجاحه في ذلك أن يخوض غمار أيِّ تجربة إلا بعد دراسة نظرية ومحاولات عديدة إلى أن يتمكن ويدرك أن النجاح سيكون حليفه.

وفي أواخر السبعينيات نراه يخوض غمار الإخراج الإذاعي، فأحبَّ عمله حتى الثمالة ولأنه أراد أن يبدع في هذا المجال ابتعد عن الميكرفون كمذيع رسمي وبقي كمقدِّم برامج ـ كان في أغلب الأحيان هو معدُّها ـ ومما يذكره الفقيد عن عمله في مجال الإخراج الإذاعي: "مارست الإخراج نتيجة خبرة وممارسة، وأما ما يخص الأمور النَّظرية فقد قرأتها لوحدي في المراجع الكثيرة التي تحصَّلت عليها وأعتقد أن نجاحي في ميدان الإخراج الإذاعي هو ضعف نجاحي في العمل كمذيع، وذلك لأني أؤمن بالاختصاص".

وفي فترة السبعينيات قدَّم داوود يعقوب لإذاعة دمشق أعمالاً أدبية رائعة كان يعدُّها ويقدِّمها للمستمعين بأسلوب فني فريد من نوعه، ويعزو كلُّ من عرف الفقيد سرَّ نجاح هذه الأعمال إلى ملكته الأدبية، وثقافته الموسوعية، وهذا ما تؤكِّده الأدبية السيدة قمر كيلاني: "داوود ليس فقط صاحب الصَّوت الإذاعي، بل هو مخرج وناقد وممثِّل أيضاً، لقد امتلك مواهب كثيرة ساعدتها على الظهور ثقافته الغزيرة والعميقة، فقد كان قارئاً مطَّلعاً واسع الاطلاع، هائماً بحب الكتب وقراءتها؛ بل واقتنائها".
وقد يستغرب الإنسان عندما يسمع أنه أطلق على المذيع داوود يعقوب لقب "المذيع الذي لا يُخطئ أبداً" فكيف لهذا الذي لم يتجاوز في دراسته المرحلة الثانوية أن يلم كلَّ هذا الإلمام باللغة العربية وقواعدها؟
يأتي الردُّ على لسان داوود يعقوب نفسه إذ يقول: "أعتزُّ جدَّاً بلغتي العربية الفصحى إلى أقصى حدٍّ". إذاً فقد كان اعتزازه بلغته العربية وحبُّه لها هو الدافع لتعلُّمها وإتقانها. ومما لاشك فيه أنه مولعاً بالكتب أيّما ولع، وقد تجمَّع لديه في مكتبته الخاصة قُرابة العشرة آلاف كتاب من أمهات تراثنا العربي، ما رشحها لأن تكون واحدة من أكبر المكتبات المنزلية في سورية. تقول الأديبة السيدة قمر كيلاني: "كان داوود متحمساً للقراءة أشد الحماسة... وخاصة للكتب الصفراء القديمة. وكان يعتقد أننا لا نوفِّي تراثنا حقَّه من الاهتمام والرعاية وكان يأمل أن ينقطع يوماً إلى البحث والدرس والتأليف، وأن يعود إلى تلك الكتب تحقيقاً لتخرج إلى النُّور برؤية معاصرة، وبمنهج علمي، وبطبعات أنيقة معقولة الثمن، و هكذا تستفيد الأجيال من التراث، ويرسخ وجهنا القومي والحضاري أمام العالم، لكنَّ ظروف عمله لم تساعده على ذلك. والعمر لم يمهله".

ويبرز الأديب الأستاذ عادل أبو شنب ما لداوود يعقوب من أهمية ومكانة في الحياة الأدبية والإعلامية قائلاً: "ما كان صوت داوود وحده يشدُّنا إليه، كان يشدُّنا دماثة وظرف وحبَّ الأدب والأدباء. كان داوود أديباً بحتاً، أديباً أدركته المهنة، لكن المايكرفون حرفه عنها إلى مهنة أخرى لصيقة بها. وإني لأتذكر اليوم محاولاته القديمة الأولى، كان يكتب ويمزِّق الورق، ثم يكتب ويمزق ناشداً الأفضل، ولعلَّه نشر أحياناً. ولو لم تجرّه الإذاعة إلى حضنها... لكان اليوم أديباً لامعاً. نتاجه المطبوع والمنشور أكثر من نتاجه المُذاع والمسموع ولأن الظُّروف في بلادنا هي التي تصنع الناس وليس العكس، قُوبلت داووداً ظروفه وبعضها قاهر، فعمل في الإذاعة مذيعاً ومعلِّقاً وكاتباً وداعية وممثِّلاً ومخرجاً. وأبدع فيها جميعاً. فكان أديب هذا النوع من الأدب".

 أعماله الإذاعية:

من أهم البرامج الإذاعية التي كتبها وأعدها الراحل داوود يعقوب للإذاعة السورية، وشارك في تقديم معظمها، وأخرج العديد منها، نذكر على سبيل الذكر لا الحصر:

• برنامج جائزة المدينة (منوعات، أسبوعي / إعداد وتقديم وإخراج،العام 1975 ـ 1976):

وهو برنامج مسابقات منوَّع يعتمد في طرح الأسئلة على تقديم معلومات تاريخية وجغرافية وثقافية عن المدينة العربية السورية التي تُسجَّل فيها الحلقة، بهدف إلقاء الضوء على مدن القطر من خلال الأسئلة التي يطرحها على المتسابقين، كما يهدف البرنامج إلى اكتشاف المواهب الفنية الشابة. وقد دخل داوود يعقوب بهذا البرنامج إلى مخيمات الشعب الفلسطيني في المدن السورية، لتكون فلسطين أرضاً وشعباً وتاريخاً وجغرافيا ومواويل مادة غنية يتعرَّف على خصوصياتها شعبنا العربي أينما كان. وقد شاركته في تقديم البرنامج الفنَّانة القديرة السيدة مها الصالح.

• برنامج قراءة في الرِّواية العربية (ثقافي، أدبي، أسبوعي / إعداد وتقديم وإخراج، العام 1976):

في هذا البرنامج يستعرض داوود يعقوب أهمَّ الروايات العربية، ويقوم بتقديمها درامياً موضحاً الهدف الذي من أجله كُتبت الرواية، ومن أبرز الروايات التي قدَّمها وتعرَّف عليها الجمهور: رواية "حافية على الشوك" للكاتب المصري فتحي أبو الفضل، رواية "السمكة الطائرة" للكاتب السوري حنا مينه والدكتورة نجاح العطار، رواية "المرحلة المرَّة" للروائية السورية كوليت خوري "وما تبقى لكم" للروائي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني...

• برنامج "أعمال أشهر من صانعيها" (ثقافي، أدبي، أسبوعي ـ إعداد وتقديم وإخراج،العام 1977):

يستعرض برنامج "أعمال أشهر من صانعيها" أهم الأعمال التي نالت شهرة عالمية واسعة أكثر من صانعها مُبرزاً فضل مبدعها أو صانعها الذي لولاه ما وجد هذا الأثر الخالد، ومن هذه الأعمال؛ "الجوكندة" لصانعها ليونارد دافنشي، "قصة كوخ العم توم" للكاتبة هاريبت بيتشر ستاو ومسرحية "روميو وجوليت" لوليم شكسبير...

• برنامج أحلى ما عندهم (ثقافي، أدبي، أسبوعي ـ إعداد وتقديم وإخراج،
العام 1978):

يختار داوود يعقوب في برنامجه هذا أحلى ما كتب الأدباء، ويتمُّ الاختيار ـ حسب داوود يعقوب ـ: "هناك نوعان من الكتَّاب؛ نوع ترك أثراً تميَّز أحدها عنها جميعاً مثل "الصخب والعنف" لفوكنر و "الحرب والسلام" لتولستوي... وهناك كتَّاب لاتزال المفاضلة بين أعمالهم قائمة مذ كتبت تلك الأعمال، وكلُّ ناقد أو دارس يبحث عن قيم ومواصفات وشخصيات في العمل الذي يرجِّح كفته عند تفضيله، وهذا ما سأعمد إليه عند اختياري الأعمال الأحلى التي سأقدِّمها في هذا البرنامج مع التأكيد على أني سأحاول قدر الإمكان الاستفادة من آراء بعض النُّقاد المؤيدة لوجهة النَّظر التي دفعتني لاختيار عمل دون آخر...".

وقد أعدَّ من هذا البرنامج ثلاث عشرة حلقة. ومن الأعمال التي اختارها نذكر: "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، و "المسيح يصلب من جديد" لينكوس كازنتزاكي، و "مسرحية عطيل" لوليم شكسبير، و"عائد إلى حيفا" للشهيد غسان كنفاني.

* برنامج روايات مختارة (ثقافي، أدبي، أسبوعي / إعداد وتقديم وإخراج، العام 1979):
في هذا البرنامج وعلى مدار ثلاث عشرة حلقة منه، يختار داوود يعقوب مجموعة من الروايات العربية والعالمية القيِّمة ليقدِّمها للمستمع العربي بشكل درامي محاولاً في ذلك إتاحة الفرصة للجمهور ليتعرفوا على الإنتاجات الأدبية المتميزة عبر الأثير. ومن الأعمال التي تعرَّف عليها الجمهور العربي من خلال هذا البرنامج: "مئة عام من العزلة" لغابريال غارسيا ماركيز، و"الحرب في بر مصر" ليوسف القعيد و"كافكان العوام الذي مات مرتين" لجورج أمادو وغيرهم...

• برنامج رحلة عطاء (أدبي، أسبوعي / إعداد وتقديم وإخراج،العام 1982 ـ 1983):

برنامج أدبي اعتبر بمنزلة أرشيف للأدباء المعاصرين، حيث يلتقي داوود يعقوب بأديب عربي يواكب معه عبر حلقات البرنامج حياته ورحلة عطائه، مع تقديم نماذج من إنتاجه سواء المسرحي أو الروائي أو القصصي، بإخراج متميز يؤدِّيه مذيعون أو ممثِّلون معروفون، وقد التقى البرنامج بالأدباء: عادل أبو شنب، وياسين رفاعية، وقمر كيلاني، وعلي عقلة عرسان...

• برنامج حروف ومعان (ثقافي، منوع، أسبوعي/ إعداد وتقديم،العام 1984 ـ 1986):

كان هذا البرنامج آخر الأعمال الإذاعية التي قدَّمها وأعدها الراحل داوود يعقوب الذي ظلَّ وفياً لمستمعيه في تقديم هذا البرنامج وإعداده، حتى الأيام الأخيرة من رحيله. وهو برنامج ثقافي منوع، وقد استعرض في مئة وتسع وأربعين حلقة، من خلال المئات من الموسوعات والمعاجم والقواميس؛ مصطلحات الفلكلور والفنون والأدب عبر الحروف متنقلاً من حرف إلى آخر حسب الترتيب الأبجدي... ويتضمَّن البرنامج محطات موسيقية وغنائية وشعرية متوخياً في ذلك تقديم المعلومة، والتعريف بالمصطلح، أو تجسيد الشخصيات والأعلام، وينتهي البرنامج بفقرة تمثيلية معدَّة من إبداعات المسرح العالمي.

هذه بعض من أعمال الراحل الكبير داوود يعقوب التي يُضاف إليها عشرات البرامج والأعمال الإذاعية الدرامية؛ تأليفاً وإعداداً وإخراجاً، وقد حاولنا ذكر بعضها في جدول استعنا في إعداده على ما عثرنا عليه من إشارات وأخبار وردت هنا أو هناك في أوراق الفقيد. كما يُضاف إلى هذا الرصيد الثري للإعلامي والأديب والفنَّان داوود يعقوب مشاركته كممثِّل في ثلاثة أعمال تلفزيونية هي المسلسل التاريخي "وضاح اليمن" ومسلسل "المواسم" والمسلسل الديني
"أم عمارة" وقد عرضت في عدة تلفازات عربية.

كما كتب داوود يعقوب مسلسلاً تلفزيونياً بعنوان "سراب" لم يرَ النور حتى الآن.. علماً أنه تحدَّث في حوار صحفي أنه قام بإعداد عملين آخرين للتلفزة هما "ومر صيف" عن رواية للكاتبة السيدة كوليت خوري. والعمل الثاني بعنوان "المفتاح" إلا أننا لم نجد هذين العملين في أوراقه الخاصة!!.

وبأسف شديد يكتب الشاعر خالد أبو خالد مقالاً في مجلة "هنا دمشق" بعد رحيل الصديق ورفيق الدرب متحدِّثاً عن نتاجه الأدبي المسموع قائلاً: "ما يحزنني الآن أن داوود لم يكن مقروءاً بقدر ما كان مسموعاً، فالكتابة على الهواء غيرها على الورق.. ومن أجل هذا أنا حزين.. بالرغم من أنني أحببت دوره في الكتابة على الهواء، وفي استخدام صوته الشجاع للتعبير عن أمة بكاملها.. لكنني الآن مقتنع أكثر من أي وقت مضى بأن داوود الإذاعي والإعلامي البارز والفنَّان كان من الممكن أن يكون كاتباً كبيراً أيضاً.
روائياً.. أو ناقداً.. أو باحثاً أو كاتباً سياسياً.. على أي حال.. ذلك أن داوود لم يتوقَّف لحظة واحدة حتى يومه الأخير عن تثقيف نفسه في كلِّ الاتجاهات، وهو لمن لا يعرف يملك مكتبة غنية
لا يملكها إلا قلَّة من الكتَّاب والفنَّانين.. كما أن داوود أحد القادرين على إعطاء وجهة نظر موضوعية في نقد الشعر والأدب والسياسة، وحتى التراث، ومن هنا جاءت قناعتي بداوود الكاتب الذي لم يصدر له كتاب واحد.. للأسف..

هذا جانب واحد من تكوين داوود يعقوب الذي رحل، مخلِّفاً وراءه تلا من الأوراق التي أنتجها على صعيد الإذاعة..

وثمَّة جوانب لا تقلُّ أهمية يضيق المجال عن الحديث حولها، وسيأتي الوقت الذي يصبح فيه داوود حضوراً على الورق، كما كان حضوراً على الهواء".

والسؤال المهمُّ الذي يطرح نفسه الآن هو: لماذا لم ينشر داوود يعقوب أي كتاب في حياته، وهو الأديب المُبدع الذي خلَّف وراءه تلاً من الأوراق والأعمال الأدبية والفكرية والثقافية الإذاعية، كان يسهل إعدادها لتصبح مؤلَّفات تُضاف إلى رفوف المكتبة العربية؟

الجواب على هذا السؤال إذا ما طُرح ممكن بالنسبة إلي لاسيما أنني كنت من المقربين جداً إلى الراحل في أيامه الأخيرة، وربطتني به علاقة حميمة تجاوزت علاقة الأب بابنه. فقد كان يتعامل معي كصديق يمكن أن يسرَّ له بكل شيء.. وقد سألته ذات يوم عن هذا الأمر فأكَّد لي ـ رحمه الله ـ أنه يدرك جيداً أن هناك عدَّة أعمال إذاعية جديرة بأن تُعدَّ لتنشر، ولعلَّ أبرزها برامج مثل (أعمال أشهر من صانعيها)، و(أديب ورواية)، و(أحلى ما عندهم)، و(روايات مختارة)، و(قراءة في الرواية العربية)، و(رحلة عطاء) وغيرها الكثير.

غير أن شغف المرحوم داوود يعقوب بالعمل الإذاعي، وما ألمَّ به من أمراض متتالية، كان أولها إصابته بداء السكري، ومن ثمَّة إصابته بقصور تروية في القلب، ويلي ذلك ـ وهو لم يتجاوز الخامسة والأربعين عاماً ـ إصابته بنوع من أنواع السرطان يُطلق عليه الأطباء اسم "ليمفوما هوتشكن"..

كل هذا، فضلاً عما خلفه ذلك من إرهاق وتعب نفسي، أعاقه عن انجاز الكثير من مشروعاته الأدبية والفنية.. وما أكثرها.
ومن يعرف داوود يعقوب يُدرك جيداً أنه كان مُصمِّماً على الحياة ـ ليس حبَّاً فيها ـ وإنما إيماناً منه بأنه مازال قادراً على تقديم الكثير لأبناء أمته العربية، ولقضية شعبه العادلة ولأسرته وصغيره فؤاد.
وقد كانت نزعة الإيمان في البقاء لديه قوية وكان يعلن دائماً أنه لن يستسلم للسَّرطان والأورام وسيدحرها.. إلا أن قلبه الفلسطيني النَّابض بحبِّ الأرض والإنسان خانه، وأسلم روحه لبارئها يوم الجمعة الموافق السابع عشر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) العام 1986.

وفي صبيحة اليوم التالي شيَّعت دمشق بموكب مهيب جثمان الراحل الكبير إلى مثواه الأخير الذي اختاره في مخيم اليرموك (فوق قبر والده المرحوم محمود يعقوب)، وبذلك فقدت السَّاحة الوطنية والأدبية والإعلامية الفلسطينية والسورية والعربية رجلاً من أبرز رجالاتها في ميدانه، عمل بإخلاص ووفاء لخلاص شعبه وتحرير أرضه رافضاً كل مشروعات التَّسوية والاستسلام. ولقد كان حلمه دائما أن يُدفن هناك في أرض الوطن فلسطين بين زيتونها وبرتقالها إذ لا شيء أحلى من عبير الذكرى والدنيا وفاء..

اذ كانت فلسطين دوماً هاجسه، والذي عرف داوود يعقوب يعلم أنه عمل منذ نعومة أظفاره بروح فدائية وعزيمة وطنية صادقة من أجل أن يعود وأبناء جيله كلٌُ إلى قريته أو مدينته.

ولم يذهب جُهد واجتهاد ومُواظبة داوود يعقوب سدىً، وإنَّما نال من التَّكريم ما يليق بمناضل، ومُذيع، وفنَّان شامل، ومُثقَّف، فقد سبق و أن عُيِّن عام 1985 مُدرِّساً في المركز العربي للتَّدريب الإذاعي والتِّلفزيوني لمادتي "تربية الصَّوت"، و"فنِّ الإلقاء"، وهي صفة مُشتركة بينه وبين المُذيع الفلسطيني الكبير منير شمَّة، عندما كان كبير المُذيعين في إذاعة الـ"بي بي سي". وكان من قبل المُنفِّذين بمُديريَّة الإذاعة السُّوريَّة، كما نال الراحل الكبير في حياته عدداً كبيراً من الجوائز والأوسمة وشهادات التقدير تكريماً لما قدَّمه من عطاء وإبداع لشعبه ووطنه وأمته العربية، ومن بين هذه الجوائز والشهادات براءة تقدير مع ميدالية ذهبية منحته إياها في 30 تموز (يوليو) 1985 نقابة الفنَّانين السوريين تقديراً لما قدَّمه من جهد وعطاء في مجال مهنته الفنية في الإذاعة.

وفي أيام فلسطين الثقافية والفنية في القاهرة (10 ـ 16 كانون الثاني / يناير 1990) برعاية دائرة الثقافة بمنظَّمة التَّحرير الفلسطينية، وبالتعاون مع اتِّحاد الفنَّانين العرب منح اسمه مع كوكبة من رجالات الفكر والإبداع والثقافة الفلسطينيين وسام القدس للثقافة والفنون، وهو أرفع وسام تقدِّمه الثَّورة الفلسطينية لمبدعيها.

وفي عيد إذاعة دمشق الثامن والخمسين عام 2005 منح شهادة تقدير لما قدمه من جهد وعطاء متميز في مجال مهنته في العمل الإذاعي.

 صدر عنه:

الإعلامي والفنان داوود يعقوب.. فارس يواصل الرحيل _ في ذكرى رحيله العشرين _ (مشترك)، دارصفحات للنشر والدراسات، دمشق 2006.

قالوا عنه:
 مات شيءٌ ما فينا، بموت داوود يعقوب، الصَّديق والزَّميل الذي جاء من فلسطين إلينا، أو جاء بفلسطين إلينا على طريقته، تفاحة في القلب تخضرُّ كلَّ سنة، وتكتسي بالأوراق كلَّ سنة، ويحلو طعمها كلَّ سنة.
الصَّحفي سهيل إبراهيم

 أحقَّاً غاب وجهك؟ أحقَّاً أنَّ لا لقاء أبداً بعد اليوم؟ ما رأيت أحداً في حياتي كُلِّها أقدر منك على مُواجهة الموت، وفي هذا الظَّرف حصراً تعلَّمت أنا شخصيَّاً أنَّ الإنسان ما وُجد على الأرض إلا لكي يطيق، ذبلت ونحن نراك تذبل ولا نملك صًنع شيء ذي بال، ذبلت وأنت في أوج العمر، وفي أقدر المراحل على العطاء.
الناقد يوسف سامي اليوسف

 إذا كان هناك "فنَّان شامل" يُمثِّل ويُغنّي ويرقص، وربما يكتب ويُخرج، فهناك أيضا "الإذاعي الشَّامل" وهذا ما تقوله سيرة داوود يعقوب؛ زميلنا الذي فارقنا مؤخراً، عن حياة قصيرة لامعة مضيئة كالشِّهاب..
الإعلامي فايز قنديل
 اسمح لي ألا أتحدث عنك كمحترف إذاعي... أو إعلامي... بالرغم من تقديري لمثل هذا الدور إلا أن معرفتي بك... تتجاوز هذا الدور إلى دورك كمبدع... وكمناضل... يملك نظرة شمول لوطن يمتدُّ من الماء... إلى الماء... ولا يكون إلا بفلسطين... تاريخاً... وجغرافيا... ومواويل... وانتصاراً قادماً... وحتمياً... يبشِّر به الصَّوت الذي يتدفَّق من الحنجرة إلى القلب... وبالأعصاب... التي تتَّصل بجذور الشَّجر في بلادنا... وبالصخر... بالبرق، والرعد، والمطر، والسهوب الواعدة بالمواسم التي مرَّت، والتي سوف تأتي...
الشاعر خالد أبو خالد

 شاب لامع متعدد المواهب.. حنجرة دافئة تتحدَّث إلى الملايين يومياً في الثَّقافة والأدب والحبِّ.. ثم فجأة تسقط الدَّمعة الحارة إلى الداخل.. وترتَبِك الحنجرة الدافئة، وهي تكلَّف بإبلاغ الناس جميعاً خبر الانكسار. ترددتَ قليلاً.. بكيتَ.. اتصلتَ برئيسك المباشر.. فجاءت الأوامر صريحة.. كفكفتَ دموعك.. وأعلنتَ نبأ الاندحار صبيحة يوم من أيام حزيران عام 1967. ومنذ ذلك اليوم.. ابتدأ الصَّوت يتقصَّف، والقامة الطويلة تذوي.. تحرَّك الحزن ليصنع فيك ظلامك الدَّاخلي.. شاخت خلاياك واحدة بعد أخرى: لا شيء يقتل كالحزن.. ولا شيء أمرَّ من أن يسمع المرء خبر الوطن وهو ينكسر.. إلاّ أن يكون مكلَّفاً بأن ينقله للناس جميعاً ليحزنوا وينكسروا.
الشاعر الراحل فواز عيد

 كانت فلسطين شعلة متوهِّجة في صوته، وكانت وردة حنون.
كانت حركة الحياة في مخيم اليرموك لا تتوقف.. والمخيم يتكوَّن من شارعين رئيسيين.. شارع فلسطين، وشارع اليرموك. كانا يتدفَّقان بالحياة كنهرين عظيمين.
والغريب أن الشَّارعين، النَّهرين كانا يصبَّان أمام داره مثلما يصبُّ دجلة والفرات في شطِّ العرب.
كان داوود يعقوب يجلس في المساء، في أيامه الأخيرة، يُشاهد حركة الحياة، ويحرس بعينيه بساتين أحلامنا جميعاً، وكروم طفولته وطفولتنا..
لعلَّه كان يفكر بالأيام الجميلة التي لم تأتِ بعد..
لعلَّه كان يحلم بالانتفاضة، وبأسوار القدس.

الروائي يحيى يخلف

ظلَّ داوود يعقوب الشَّاب رغم كُلِّ العذابات، وحرارة اللُّجوء يُيَمِّمُ وجهه نحو فلسطين الَّتي غادرها صبيَّاً صغيراً، فقد فعلت سياسته بتثقيف نفسه فعلها وعياً، وإصراراً على حقِّ العودة إلى الوطن، الَّذي يرزح تحت نير الاحتلال، و رغم أنَّ المرحلة آنذاك كانت حُبلى بالأحداث، وتشهد حالة من النُّهُوض والتَّمرُّد على الأنظمة الإقطاعيَّة الرَّجعيَّة، الَّتي تسبَّبت بضياع فلسطين، ورغم أنَّ مطلع الخمسينيات شهد بداية نُشُوء الأحزاب والحركات الوطنيَّة، مثل حركة القوميِّيْن العرب، وحزب البعث، إلى جانب الأحزاب الشُّيُوعيَّة الموجودة أصلاً وغيرها، فقد كان لداوود رأي،
أنَّ الانتماء لفلسطين أكبر وأهمُّ. وهذا ما دفع داوود الشَّاب إلى أنْ يُمارس دوره وقناعاته في فعاليَّات وطنيَّة مُتنوِّعة، كانت تُقيمها الأحزاب والحركات الوطنيَّة.
ففي العدد (51) الصَّادر أوَّل أيَّار (مايو) عام 1965، من نشرة فلسطين الدَّوريَّة، الَّتي تُصدرها الهيئة، وإحياءً لذكرى شهداء فلسطين، كان داوود يعقوب، الشَّاب، أحد خُطباء المهرجان إلى جانب العديد من الزُّعَماء والشَّخصيَّات السِّياسيَّة من فلسطين وسُورية أمثال القاضي فيصل العظمة، والمُعلِّم أحمد اللُّوباني، والمُجاهد صبري البديوي، والشَّاعر عبد الهادي كامل، والأُستاذ زياد الخطيب مُمثِّل الهيئة في سُورية.
وفي كلمته آنذاك ـ والَّتي ارتجلها ـ كان الشَّاب داوود يعقوب يتدفَّق حماساً تعبيراً عن أبناء جيله من الشَّباب؛ حيثُ قال: "لو أنَّ الله سُبحانه وتعالى جعل هذه القُوَّة الَّتي بألسنتنا، في سواعدنا، لكُنَّا الآن في الوطن المُغتصب أعزَّة كراماً، ولكُنَّا أقمنا هذا الاحتفال في القسطل".
وهو ما كان داوود يعقوب يتطلَّع إليه في إقامة هذا الاحتفال في القسطل بالذَّات؟
الكاتب ياسين معتوق


مشاركة منتدى

  • هل انا جاهل وامي إلى هذا الحد الشنيع؟ ام ان أمتنا العربية تغيب الأبطال وتنساهم؟

    لم اسمع، طيلة حياتي باسم يعقوب داوود. لعل وجودي الجغرافي - في الناصرة- بعيدا عن اليرموك اللاجئ حال دون معرفتي بأبطال بقامته؟

    سيرته الأدبية النضالية هزب مشاعري. يقتلنا الهم الفلسطيني فنموت قبل اواننا.

    ورثنا الهم والغم عن أجدادنا. عن جيل خاف علينا من النسيان فغنينا المجد على أوتار الفقد.

    والالم، عندما ينتقل من جيل إلى جيل يزداد مرارة وألم.

    لروحك يا أخي الف تحية وسلام. انت في القلب وفي الذاكرة. انت في فلسطين....

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى