الخميس ٦ آذار (مارس) ٢٠٠٨

هلوسات أم عشرينية تحت القصف

بقلم: مرفت أبو جامع

عشرة شهداء،عشرون،ثلاثون،أربعون، حمى الأرقام تتضاعف في ثوان معدودة،ولا يمل شريط الأخبار الذي يتحرك أسفل الشاشة الصغيرة من السير غير آبه بحالتي النفسية واستعداداتنا لتلقي الضربات الموجعة أو إدانات العطف التي لا تأتي بينما لو مات كلب من الغرب وقفت الدنيا ولم تقعد وتحركت مؤسسات حقوق الإنسان والحيوان، والأمم المتحدة المتخاذلة.

الشريط وحده كان كفيلا بأن يحرك كل شعرة في رأسي المشتعل بالشيب رغم أنني "في العقد العشرين من عمري "، كي يقف ويحتد ويشجب ويطلق صرخات يسابق تقارير الأمم النائمة والمتثاقلة والخجولة التي لا يهزها انفصال رأس عن جسد صاحبه بغزة او استغاثات النساء تحت الأنقاض وأنفاس عروس تحتضن فستان زفافها، وآخرون يلفظون في الطرقات الشهادة وبكاء الرضع وعويل الشيوخ .

الصمت يكبر كل يوم تتضاعف فيه الأرقام و ترتسم خلفها تفاصيل من الوجع فتنتفض الآهات المكتوية في صدر امرأة تصل الليل بالنهار كي يقف أولادها على أقدامهم في معرفة حروف الهجاء، وترسم صور تخرج لأطفالها الصغار المهندس والشرطي والدكتورة،الرسام،وبعض ملامح جدارن البيت مكتظة بالأوسمة وشهادات التفوق .

الصورة تبدو قاتمة وشاحبة، دماء،أشلاء متطايرة، وجوه رمادية وأخرى بدون ملامح، دعوات تنطق من حناجر مكلومة ترتطم ببكاء يسابق الرجال النساء إليه، على نوافذ غرف العمليات وأمام ثلاجات الموتى،نتساوى ونتوحد هنا في القلق والوجع والخوف وفي جرح واحد،خلف أطياف الشهداء، وفي العتمة ورائحة النار وغبار البيوت المتناثرة، وخيم العزاء .
تسمر أطفالي أمام شاشات التلفاز هجروا اللعب وقلوبهم تدمع من مشاهد أقرانهم في غزة وأخذوا يمطروني بوابل من الأسئلة، أيمكن أن يحدث هذا لنا،لماذا يموتون هكذا ؟ ماذا ارتكبوا ؟ هل أطلقوا الصواريخ على إسرائيل ؟أسئلة كثيرة سردوها أمامي بلكنة الطفولة، وأنا عاجزة إلا من إرسال دموعي في استقبال الأسئلة واهتزازي أمامهم كشجرة زيتون زارتها عاصفة،هممت من على أريكتي احتضنتهم وقبلت جباههم قبلات مودعة، كلما اقترب صوت الطائرة اف 16 من فوق رؤوسنا، لتزرع القلق والخوف وتبحث عن فريسة جديدة بتفاصيل مؤلمة تنتزع كلمات الإطراء، التي تجبر شعراء العالم، على اقتطاع أجازة من الطواف بقوام النساء ونهودهن وتضاريس أجسادهن،وتنظيم كلمات الحب وكذب الرومانسية، في زمن الصمت الذي يزيد لهيب المحرقة،التي تأكل كل شيء هنا،الحجر والبشر والشجر.

في كل تحليق لخفافيش الظلام اشعر أن نهايتي وأطفالي اقتربت،فأتخيل بيتي منهارا فوقنا، ولعب أطفالي،أوراقهم، كراساتهم وحقائب المدرسة وضحكاتهم تتناثر وتلتحم بالشظايا المتساقطة انكمش على ذاتي واغرق في متاهات من الصمت المميت .

يقتحم صمتي صوت الإذاعة المحلية التي تصدع من بيت جارنا المجاور غارة إسرائيلية على منزل لأحد المواطنين، أضحت روحي قلعة تسكنها أشباح الأسئلة الموجعة، بأي شكل سنظهر على الشاشة الصغيرة ومن من أطفالي سأنحاز إليه أكثر عبود ام ديما ام من سأحمل إن فاجأنا الموت بغتة .

لأدري ثمة هلوسات ام مهمومة يتهدد الشتاء الساخن مستقبل أطفالها، في عالم من الغابات الصمتية الكثيفة .
كانوا يلتفون هنا حول الطاولة المستديرة، يتلقون دروس الحساب والعلوم واللغة العربية وحل الواجبات والعقاب يشعلون المكان ضجيجا،ويوترون أعصابي،فأهم بضربهم .
ضحك عبود وقال :" سنرتاح يا ماما من عقابك هناك لا توجد واجبات،ولا حساب.
ابتسمت والدموع تبرق بعيوني،وأنا أراقب نظراتهم، بينما ترافقني مشاهد الأطفال على التلفاز وأذني تسترخي لإذاعة جارنا التي لا تكف عن الطواف بالأخبار العاجلة وأخرى تتوحد معها صور أطفالي والأطفال الذين سقطوا مضرجين بدمائهم أمام العدسات.

جال بعقلي خاطر أن ألبسهم جواربهم وجزمهم قبل النوم حتى لا يخدش أجسادهم ركام أم ثمة حجارة اذا ما تهدم البيت، تراجعت وكيف إذا خدشهم صاروخ او حتى مزقهم كيف سأقبل وجوههم وسأحملهم بين ذراعي.
بدأ ضميري يؤنبني واعتذرت لهم عن كل مرة ضربتهم فيها أو حرضت عليهم والدهم، لحل واجباتهم المدرسية اقترحت عليهم ان يكتب كلا منا وصيته .

سابق عبود الصغير وقبلني أنا أريد فقط بندقية كي أدافع عنكي وعن أخوتي،إذا اقتربت منكم الطائرة، أمطرت عيوني بالدموع وقلت ليت زعمائنا يتعلمون من نخوتك يا عبودي الجميل لقد كبرت واحتضنته بقوة.
أما الكبير فقال إن متت فعلقوا صورتي الجميلة وأنا ارتدي بزة الصاعقة واحمل البندقية واكتبي عليها الشهيد البطل ابن فلسطين أجمل بقاع الأرض.

أما رنا فحملقت في عيوني وقالت لا أريد أن أموت وكأنها تدرك أن الموت سيفرقها عن حضني الذي لازالت لا تجد الأمان إلا فيه .
فكرنا ان نترك الوصايا تحت الوسادة، وننام،أي نوم وصور النهار المؤلمة وحصاد الشهداء التسعون وأطياف الجنازات تسير بأحلامنا والغرابين تحوم حول رؤوسنا وتوزع الموت المجان في كل مكان.
، المكان في أي لحظة سيشتعل ثمة حركة دبابات تربك هدوئه وانا وحدي بعد أن سافر صغاري إلى أحلامهم البريئة،أحاول أن أغفو ساعة، بينما اهتزاز النوافذ من أصوات الانفجارات يوقظني،استطعت ان اسرق بعض النوم، رغم ثقل النهار الممزوج بأوجاع النساء وصرخات الأطفال في غزة ودموع أطفالي ووصياتهم، غفوت وإذا بي أسير الى غير هدى،تارة أصرخ وأخرى أنادي عبود ورنا " أين انتم "؟؟ نحن هنا يا ماما " كانوا قادمين كعصافير ملائكية بملابس بيضاء وجناحين من ضوء الشمس، وضحكات أزالت العتمة وتراقصوا حولي.

"صوت زلزل البيت من جانبه " تعالي يا أم عبود لا تخافي اخرجي نحن ننتظرك بالخارج،، فتحت عيوني لأجد أطفالي من حولي يصرخون :ماما يحترق سور البيت والمخزن،هيا ننزل إلى الطابق الأرضي ونغادر البيت، أيادي الجيران تمتد لنا هرولنا إلى هناك ضممتهم الى صدري وأنا أتفحص أجسادهم وأغرقهم بقبلات تخنقها العبرات وأٌقرأ عليهم التعويذات وحمدت الله انا نجونا من مذبحة ومن كاميرات إعلام الشاشة الصغيرة التي لن تعدنا الا رقما من بين الأرقام المكدسة .

بقلم: مرفت أبو جامع

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى