الأحد ٣ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم محمد بروحو

سيدتي الشاعرة

الطريق، نعبره مرغمين. والمسافة الفاصلة بين المدرسة والفيلاج، تبعد بأميال كثيرة. مسافة كنّا نقدرها بخمسة فراسخ أو ما يزيد.. بعد ما نقطع نصفه. نكون قد أشرفنا على ربوع. تتسع إلى أمداد بعيدة، نطأ ترابها، بعد عبور النهر مباشرة، تتناثر على شساعتها مساكن تنتشر عن اليمين وعن الشمال.

نقطع الطريق صعودا، بين أشجار سامق علو ها، الى عنان السماء. من الأرز والصفصاف والزيتون.

كان الطريق ممتعا. تفترش مساحة الارتفاع، الذي كنا نصعده لاهثين، من مجرى النهر إلى قمة الهضبة. تاركين النهر يتبع مجراه نحو الخنادق. خنادق وشمها في التواءاته، الصبيب المندفع بقوة، أيام الشتاء الممطرة والعاصفة.

كم كانت لحظة جميلة، أحببتها كثيراً، أن أظل أطل على النهر، وأنا أصعد الربوة لاهثا، بين الفينة والأخرى. أتملى بجداول الماء التي تنساب صافية، محاذية، لجنبات الربوع الممتدة على طوله الملتوي..

وذات صباح، من أيام الخريف الرطبة، وأنا أطوي كعادتي، طريق الهضبة. تناهى إلى سمعي فجأة، جدال. على شكل ذبذبات موسيقية. كانت سنفونية لأصوات نسائية. صوت امرأة، تتقاذفه الرياح، من وراء الربوة، التي كنت أكاد أن أطل من علوها، على وجه الطريق.

لم أتبين مصدر الأصوات أول الأمر، لكن بتتابع الخطوات، بدأت ألتحم أكثر في هيجانها. وشيئا فشيئا.. بدت لي على مسافة غير بعيدة، امرأتان منتصبتان، اتخذت كل منهما مقاما لها، على ربوتين متقابلتين، تطلان على الطريق مباشرة. ذاك الطريق الذي كنت أسلكه مرة كل أسبوع.

كانت إحدى المرأتين، قد اتخذت مكانا لها، فوق الربوة، على الجهة الشرقية من الطريق، حيث ظلّت الأخرى تقابلها، في الجهة الغربية منه.

لم أتوقع أبدا، أن يكون ذاك الشجار، شجارهما، حامي الوطيس، على ذاك النحو. شجار يشخص من كلماته، ملحمة بطولية، سلاحها الكلمات، وخطتها نغمات، آتية من أصوات أنثويّة نسائية. يتردد صداها في قاع النهر، كنداء الزمان..
تحت شجرة زيتون مثمرة، اتخذت مكانا لي، قبعت به، أستفيئ بظلها ولأتتبع سجال هذه الحرب الكلامية، ومراحل تطورها. عراك نسوة، ذهبت السنون بكل أريحتهن، وضيعت الأيام رقّتهن. سجال في حضرة الأزواج. الأول يعتل بمعول، يشقّ به الأرض شقاً، بضرباته القوية المتتالية. والآخر ينسج حبالا من العزف. يتناسق التواءها ومهارة خفّة حركات يديه اليسرى.. القويتين والخشينتين.

يستمعان دون أن ينطقا.. صامتان.. جامدان كصنمين. وحده صوت المرأتين، هو مايحرك سكون النهر، هو ما كان يجلجل في شساعة الخلاء.
إنه سجال أدبي رائق. يشدك لتصيخ السمع، لشذراته المقفاة بلحن الحياة. أدركت ذلك وأنا أنصت إليهما. ثم وأنا أغادر المكان، لاهيا، ساهيا عن حاجاتي، التي سجلتها في ذاكرتي المتعبة..

يتردد صدى صوت المرأة الأولى شتماً وقدحا.. بقافية. تصاحبها نغمات موسيقية، متناوبة. شنّفت سمعي وأطربت أحاسيسي، واندهشت لها روحي أيما اندهاش، لتظل الثانية صامتة، تنصت في سكون. تنظر إلى الأفق البعيد بشموخ وبزهو وانتشاء.. وكأنها تقرأ طالع اليوم، لتعد لحربها خطة الإقلاع. ولاياتي ردها إلا بعد انتهاء الأولى.. واستخلاصها مما في جعبتها، من كلمات.. فتسجع الثانية، بقافية تغاير قافية المرأة الأولى. وبكلمات ترقى لتتخطى معاني كلماتها. تتراقص الكلمات والنغمات، وضفة النهر تحضننا، ومجراه يردّدها أسراراً وبوحا، في ثنايا أدهر الزمن.. المنتفض من حر الشمس..

تظل المرأتان كذلك لمدة.. حتى تحس كل منهما، أن نفسها قد ارتوت، من عناد الأخرى، فتخبو الأصوات، ويخف السّجال ويجف، وكأنه نهر تشبعت أتربته بلهب الحر، وتتوادعان. وتقفل كل منهما باب بيتها عليها، في وجه الأخرى. ولا يمكن أن يحدث ذلك، إلا وغروب الشمس، ينسج خيوط المساء، وهو يكاد ينتهي على أفق المغيب.
ولكم أثارني هذا السّجال الغريب، ولم أكن أتوقع، حدوثه في يوم ما، من أيام حياتي..

تابعت طريقي نحو الفيلاج ومضيت، وأنا أفكر بعمق، في أحدى المرأتين. تلك المرأة التي كانت تحتل الجهة الشرقية من الطريق، وفي ذاك المشهد المثير. لا أنكر أنه مشهد، طبع في نفسي إحساسا بالاعتزاز، وحب المرأة واحترامها. مشهد لطالما استهواني كثيرا وأنا أركب صورة وجهها، وقسماته التي طبع الزمان عليه أخاديده. فزادها وقارا، وصلابة وعزة.. وكم أثارتني تلك الطريقة الحوارية المنمّقة. التي ظل الحوار يدور فيها بينهما، والذي حبك ذاك السّجال، الذي دفن في نفسي، أريج الحياة وحب المرأة.
خمنت أنها أمسية شعرية لشاعرتين، ترددان فيها ما جادت به قريحتهما. استحسنت تلك الطريقة.

وكنت كلما مررت قرب بيتها، طوال مدة إقامتي هناك، أقف للحظة، أمام بابه المغلق استرجع فيها صدى كلماتها المتناثرة، عبر فضاء الوادي الموحش، كما هي بيوت القرية. وأنا أتأمل أبوابها وبيت المرأة، وأتساءل في صمت. أهي فطرة شاعرات، يوظفن إبداعهن وقت الغضب..؟ أم هي عفويتهن، تحرك في نفوسهن خيوط الإبداع، فتتفجر طاقة السّب والشّتم، شعرا وكلمات وإبداعا. ليبدعن الأحسن والأجود.!؟
كنت أفعل ذلك كل مرّة،كلما مررت من هناك. فأحاول أن أستقرئ جوابه، من وجه إحدى المرأتين، وأنا ألقاها في طريق العودة إلى القرية.

لا أنكر، أني كلما صادفتها، كنت ودون أن تشعر بي، أبجّلها تبجيلا.. وأقدرها تقديرا.. وأنا القي عليها تحيّة السّلام، في همس فأقول:

 سلام عليك سيّدتي الشاعرة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى