الاثنين ٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩

المرتجلة والارتجال في المسرح المغربي

بقلم: جمال الدين الخضيري

المدخل

من أهم الميادين التي اقترن بها التجريب أكثر من غيرها في بلادنا، ميدان المسرح لخصوصيته، ولكونه فنا مركبا يتسم بتعدد أدواته التعبيرية. فالمسرح هو حصيلة تداخل بين أفعال الأداء وعملية التلقي. لذا كان سباقا إلى الانغماس في الحركة التجريبية والبحث عن مواضيع جديدة، وتحقيق فرجة مغايرة. وهكذا تحول النص المسرحي المغربي إلى حقل للتجريب والتفكير في هذا التجريب في آن واحد. وكان طبيعيا أن تتخذ الممارسة التجريبية من المرتجلات مطية للتعبير عن قضايا مسرحية وجمالية، لاسيما وأنها تتطرق إلى مواضيع غير مألوفة، وتمتلك طرقا متميزة في علاقاتها مع الإبداع المسرحي نفسه. بل أكثر من ذلك، استطاعت هذه النصوص ترجمة مختلف القيم الفكرية والثقافية للحداثة الغربية.

ولقد أصبحت المرتجلة بامتياز منتوجا حداثيا في المسرح، تعبر عن موقف نبيل من حالات التردي الجمالي الذي يطبع المسرح من خلال هيمنة موجات التقليد والمحافظة ومن خلال انتشار التسلط . واتجهت مجموعة من النصوص المسرحية التي تبنت أسلوب المرتجلة إلى الفضح والتعرية، ليس تعرية الواقع المعيش فحسب، بل فضح لعبة الكتابة نفسها وتعرية مكونات العرض أمام الجمهور. فأثارت بذلك المتلقي وخلخلت أفق انتظاره. ودعته إلى اتخاذ موقف مما يقدم أمامه، لاسيما وأنها اتكأت بشكل أساس على الارتجال ودعت إليه بشكل صريح في جل النصوص التي تنتمي لهذا الأسلوب. لذا سنحاول في هذه المقاربة إبراز العلاقة بين فن المرتجلات والارتجال.

ويمكن القول إن ملامح هذه التجربة لم تبدأ بشكل مكثف إلا في فترة سنوات السبعين. حينما كانت «عروض مسرح الهواة خلال تلك الحقبة مرتعا خصبا للارتجال من جهة ومناسبة ملائمة لإثارة قضية المسرح المغربي وما يعانيه من داخل مؤسسة المسرح –أي داخل الجمعيات- ومن خارجها إداريا وماديا وهيكليا... إلخ» .

وسيترسخ هذا الأسلوب أكثر مع جل المنظرين المسرحيين المغاربة. فبالإضافة إلى بياناتهم، سيؤكدون ذلك من خلال نصوصهم المسرحية، ويعلنون عن تصوراتهم الفكرية والجمالية للعملية الإبداعية بشكل إجرائي.

ويمكن أن نذهب إلى أبعد من هذا، باعتبار بعض الأشكال التراثية أو الأشكال الماقبل مسرحية، التي تحمل في طياتها وعيا مبطنا بقضايا الفرجة بمثابة فرجات مرآوية تعكس نفسها وتمسرح ذاتها. ونخص بالذكر فرقة «أعبيدات الرما»، التي «تجسد مواقف اجتماعية في قالب كوميدي تتماثل في ذلك مع أحد الأشكال المسرحية العالمية وهي: الكوميديا ديلارتي الإيطالية» . وتحضر تيمة الغابة بشكل بارز في نصوص هذه الفرقة ومرتجلاتها*. إلا أن الشيء الذي يلفت الانتباه، وهو الشاهد عندنا، هو مسرحتها لحياتها وللشكل الفرجوي الذي تقدمه. ولعل هذا النص خير دليل على ذلك:

«درنا الميعاد مع الطلبة والرما

واتجمعنا كاملين
شي خيل حافو يصيدو
مع المقيطيعة هودوا
كيف أحنا بلا انتوما؟
كيف أنتوما بلا أحنايا؟
اللامة لامة الرما
والمقدم شيخ الرما» .

ويتوافر ريبرتوار المسرح المغربي على مجموعة من النصوص المسرحية يحضر فيها الوعي بأسلوب المرتجلات، مما يشكل اختيارا دراماتورجيا واعيا لدى مؤلفي هاته النصوص لصناعة الفرجة بالدرجة الأولى، والتفكير في قضايا المسرح وملابسات صناعته في بلادنا، بل السير نحو تجريب الارتجال المفكر فيه باعتباره صيغة حداثية.

2- مفهوم المرتجلات

تعتبر المرتجلات من الصيغ الحديثة التي تم تجريبها من لدن المسرحيين العرب متأثرين بذلك بالمرتجلات الغربية. وهي «أسلوب طارئ على المسرح المغربي، بل وعلى المسرح العربي برمته. وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى حداثة هذا الفن في التربة العربية.» .

إن معظم التعاريف التي أعطيت لمصطلح المرتجلة لم تخرج عن إطار ما هو متداول في المسرح الغربي. فالمرحوم محمد الكغاط الذي يعد رائد هذا الاتجاه في مسرحنا المغربي والعربي، اعتمد بشكل أساس على المرجعية الغربية. فهو لا يختلف كثيرا عما ذهب إليه باتريس بافيس في معجمه. فالمرتجلة عنده «مسرحية تقوم نظريا على الارتجال، وأنها تتناول في الغالب قضايا الكتاب والممثلين، ويمكنكم الرجوع إلى مرتجلة فرساي لموليير، ومرتجلة باريس لجيرودو، ومرتجلة ألما ليونسكو لتروا كيف يلتجئ الكتاب إلى المسرح من أجل عرض قضايا المسرح» . وإن كان الكغاط قد لجأ إلى هذا الأسلوب للحديث عن قضايا إنسانية من خلال تبليغ مواقف المسرحيين إلى الجمهور.

ولا نكاد نعثر على أثر لهذا المصطلح في القواميس العربية التي تعنى بشؤون المسرح. والغريب في الأمر أن نجد احمد بلخيري في مؤلفه القيم "معجم المصطلحات المسرحية" - الذي تجشم عناء ترجمة جزء كبير من معجم باتريس بافيس المسرحي- لم يترجم هذا المصطلح ويخلو كتابه منه.

ويبدو أن مجموعة من الدارسين المغاربة يتفقون على أن هذا المصطلح يشكل بعض الإشكال ويعتريه نقص في التحديد. وفي هذا الصدد يقول سعيد الناجي:

«سننطلق من أبسط تعريف للمرتجلة يمكن أن نقترحه بالنظر إلى التراكم المتحقق للمرتجلة في المسرح وهي أنها مسرحية مرتجلة تتخذ من المسرح موضوعا لها تفكر فيه وفي جوانبه المتعددة. ولكن هذا التعريف يبقى في نهاية المطاف ناقصا لا يفي بمحاصرة هذه الظاهرة التي بدأ فيها رجل المسرح يفكر علنا في مسرحه» .

كما أن التيمات التي تعالجها المرتجلات لا يمكن الإمساك بها بسهولة. فهي متنوعة ولا تشكل بنية ثابتة. إنها لا تعبر «عن واقع جاهز ولا تعكس جوهرا أو هوية وإنما تحكي عن صيرورتها وتاريخ تكوينها الخاص. فهي تمثل ذاتها وتحيل على نفسها وتجعل منها موضوعا لذاتها. وتنصهر كل هذه الإجراءات في قالب واحد هو الارتجال الذي تتخذه كوسيلة لتنسيب القيم والأفكار المسرحية وجعلها في حالة صيرورة وتحول دائمين» .

إننا نجد أحيانا، تداخل عدة مصطلحات مع مصطلح المرتجلة رغم الفروق الشاسعة بينها. ونخص بالذكر المصطلحات الآتية: ميتامسرح، ميتامسرحية، المسرح داخل المسرح، التمثيل داخل التمثيل...، إذ يصعب إبراز الحدود التي تفصل بينها بدقة. لذا فإن «مصطلح المرتجلة يصبح مرادفا لمصطلحات أخرى هي مصطلح الميتامسرح أو الميتامسرحية– وذلك عندما يركز المسرح على إشكالية المسرح، أي عندما يتحدث المسرح عن نفسه، ويقدم نفسه بنفسه- ومصطلح المسرح داخل المسرح وهي مسرحية تتخذ كموضوع لها عرضا مسرحيا، وبذلك فإن الجمهور الخارجي يشاهد عرضا فيه جمهور داخلي، أي يصبح الممثلون أنفسهم جمهورا يتفرجون على عرض داخل عرضهم» .
وربما هذا الخلط وعدم الوضوح في الرؤية راجع إلى أننا لا ننتج المصطلحات المسرحية الإنتاج الناتج عن الأبحاث التطبيقية من لدن الباحثين والنقاد، وإنما نستهلكها. لأننا لا نقرأ ولا نحلل النصوص والعروض المسرحية قراءة وتحليلا يمكن نعتها بالعلمية، استنادا إلى قراءات وتحاليل منهجية داخلية غير إسقاطية وغير اختزالية .
وهذا ما حدا بأحمد بلخيري أن يؤاخذ كثيرا من النقاد المغاربة على عدم استعمالهم للمصطلح المسرحي استعمالا سليما، لاسيما التمييز الدقيق بين كل من الميتامسرح الذي يعتبره مضمونا، والمسرح داخل المسرح الذي هو عبارة عن تقنية. فهو يرى أن حسن يوسفي في كتابه "المسرح والمرايا" أثناء حديثه عن هذين المصطلحين كان يقصد التقنية وليس المضمون .

وإذا عدنا إلى نصوص المرتجلات في المسرح المغربي، فإننا نجد عددا قليلا منها يحمل هذا الاسم، وهي كالآتي:

 "المرتجلة الجديدة" لمحمد الكغاط
 "مرتجلة فاس" لمحمد الكغاط
 "مرتجلة شميشا للا" لمحمد الكغاط
 "مرتجلة الدار البيضاء" لمحمد نظيف.

ويمكن أن نضيف إلى هذه الأعمال نص محمد بهجاجي وهو: "الحفل التنكري". فرغم أن عنوان هذا النص لا يحتوي على كلمة مرتجلة، إلا أن المؤلف يكشف عن صيغة المسرحية في متنها بشكل صريح، إذ يرى أن نصه ينتمي لصيغة المرتجلات؛ إذ جاء على لسان إحدى شخصيات مسرحيته: «سنؤسس لتجربة جديدة في ثورة الشخوص على مؤلفيها، آنذاك سيتحدثون عن صيغة أخرى لكتابة المرتجلات» .

كما أن المسرحي محمد عبد الفتاح في مسرحيته " الياقوت" يضع عنوانا فرعيا لهذه المسرحية ويحدد طبيعتها بعبارة مرتجلة المسرح. ثم إن المقدمة التي وضعها لمسرحيته يتحدث فيها بوضوح عن الارتجال والمرتجلة. وجاء متنه المسرحي واعيا بتاريخ المرتجلات ومساراتها على لسان شخصية المخرج الموظفة في المسرحية:

«المخرج: مزيان كتعرفوا الارتجال ، والإمكانات الهائلة اللي كيتيحها بالنسبة للمثل، وكتعرفوا بأن أعظم النصوص المسرحية في تاريخ المسرح العالمي هي مرتجلات: الضفادع ديال أرسطو فانيس ق6 ق.م، مرتجلات سوفوكليس، أورابيدس، أسخيلوس، مرتجلة فرساي ديال موليير، مرتجلة ألما لأوجين يونسكو، ست شخصيات تبحث عن مؤلف والليلة نرتجل لبرانديللو، ومرتجلة باريس لجورج جيرودو، الشميسة لالة، والمرتجلة الجديدة ومرتجلة فاس لمحمد الكغاط، لاكوميديا ديللارتي كلها قامت على الارتجال، هذا هو المسرح، كله ارتجال... » .

هذا بالإضافة إلى أن جل الاتجاهات التنظيرية المغربية: الاحتفالية، المسرح الثالث، النقد والشهادة، مسرح المرحلة سلكت هذا المسلك. فنصوصها صريحة في تمثلها لأسلوب المرتجلة. وأكيد أنها وجدت فيه مرتعا خصبا للإعلان عن مشروعها التنظيري بشكل إجرائي.

والظاهر أن هذه الاتجاهات تستند أكثر من غيرها على خلفية جمالية وفلسفية محددة والتي طالما قعدت لها في أوراقها التنظيرية. وفي هذا السياق أحصينا مجموعة من النصوص التي يحضر فيها الوعي بأسلوب المرتجلات.
ويمكن تحديدها في الآتي :

عنوان المسرحية المؤلف توثيق المسرحية
أحلام الفراشات الصغيرة إدريس الصغير دار البوكيلي للطباعة والنشر، ط1، 1995
لأرض والزيتون رضوان حدادو مطبعة الشويخ، تطوان،
ط1، 1979
إمبراطورية الشحاذين حسين الحوري مسرحية مرقونة
اسمع يا عبد السميع
عبد الكريم برشيد دار الثقافة، الدار البيضاء، 1987
أهل المدينة الفاضلة رضوان احدادو مطبعة ويدان، تطوان، 1998
الأيتام عبد النعيم الزعيم منشورات أمنية للطباعة والنشر، الدار البيضاء، 1998
البحث عن رجل يحمل عينين فقط المسكيني الصغير منشورات المسرح الثالث، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1993
بشار الخير محمد الكغاط مجلة فنون المغربية، ع1،
س6، 1979
بني قردون مصطفى رمضاني مطبعة تريفة، أبركان، 2007
تراجيديا السيف الخشبي محمد مسكين دار التسوكي للنشر، الرباط، 1983
تعب الخيل يوسف فاضل جريدة الاتحاد الاشتراكي
ع:140-27/07/1986
ثرثرة على ضفاف أبي رقراق بشير القمري البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع، القنيطرة،2007
جنائزية الأعراس عبد الحق الزروالي المنشأة العامة للنشر والتوزيع، ليبيا، 1985
الحشاشين عبد الكريم برشيد مسرحية مرقونة
الحفل التنكري محمد بهجاجي دار قرطبة للطباعة والنشر،
الدار البيضاء، 1996
حكاية بوجمعة الفروج
المسكيني الصغير مطبعة دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ط1، 2000
الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد مؤسسة اديفوست، الدار البيضاء، 2005
دعونا نمثل محمد إبراهيم بوعلو دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1977
رجعة ليلى العامرية بشير القمري قافلة الكتاب، الرباط، 1999
الرزامنة عبد المولى الزياتي ضمن كتاب" ثلاث نصوص مسرحية"، طوب بريس،2005
روح في مهب الريح عباس جدة ضمن كتاب" في ظلمة الليل، ونصوص مسرحية أخرى"،مطبعة وراقة سجلماسة مكناس الزيتونة،2007
زكروم الأدب عبد الحق الزروالي البوكيلي للطباعة، القنيطرة،
1993
سرحان المسكيني الصغير منشورات المسرح الثالث، مؤسسة بنشرة، الدار البيضاء
1990
عاش الجمهور اقتلوا المخرج أنور المرتجي البعث الثقافي، العدد1،
مارس، 1973
عتقوا الروح عبد الحق الزروالي دار وليلي للطباعة والنشر، مراكش، 1997
عطيل والخيل والبارود عبد الكريم برشيد مطبعة الأندلس، الدار البيضاء، 1977
العقرب والميزان المسكيني الصغير منشورات المسرح الثالث، مؤسسة بنشرة، الدار البيضاء
1990
عودة رأس الحسين سالم اكويندي جريدة الاتحاد الاشتراكي
ع:146-07/09/1986
في انتظار زمن الجنون رضوان احدادو المنشاة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ليبيان ط1، 1985
مدينة العميان محمد الوادي مطبعة رانو الدار البيضاء، ط1، 2002
مدينة بلا مسرح محمد الكغاط مجلة دراماالمغربية، ع1، 1992
الممثلون يتمرنون عبد الله شقرون المجموعة الخضراء، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2002
مهرجان المهابيل محمد مسكين منشورات دار الأطفال، الدار البيضاء، 1987
النزيف محمد مسكين منشورات دار الأطفال، الدار البيضاء، 1987
الياقوت محمد عبد الفتاح
يا ليل يا عين عبد الكريم برشيد مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2006

كما نجد مسرحات أخرى وهي عبارة عن عروض تقمصت أسلوب المرتجلات، ويمكن أن نذكر منها:

عنوان المسرحية المؤلف ملاحظات
ايمتا نبداو إيمتا عبد الواحد عوزري
الحلقة فيها وما فيها عبد القادر البدوي مقتبسة عن مسرحية المهرج للماغوط. عرضت بوزارة الثقافة سنة 1978. ترصد واقع الفنان المغربي ومشاكله ووجوده الخاضع للتهميش والإقصاء. والمسرحية عبارة عن سيرة ذاتية لتجربة البدوي

سويرتي مولانا عبد الواحد عوزري

عوزري عوزري
قاضي الحلقة أحمد الطيب لعلج
الوجه والمرآة عبد الحق الزروالي تدخل في إطار تجربة المسرح الفردي. وضع المؤلف في هذه المسرحية الشكل الدرامي في موضع تساؤل من خلال البحث عن مسرح متفائل
حفلة عشاء الطيب الصديقي كتب الصديقي هذه المسرحية باللغة الفرنسية Un dîner de gala، تطرق فيها إلى إقدام السلطات المغربية على هدم المسرح البلدي للدار البيضاء، مبررة ذلك بأسباب تقنية محضة مرتبطة بحالة البناية التي كانت تمثل خطرا على الجمهور
العرض المسرحي عبد الله المعاوي عرض مسرحي أنجزته جمعية الجيل الصاعد المراكشية، وشاركت به في عدة مهرجانات لمسرح الهواة. والمسرحية عبارة عن صراع مستمر بين جماعة من الممثلين ومخرج متسلط.
أزرع الصح ينبت محمد الشركي عرض مسرحي أنجزته فرقة محترف مسرح بسمة بوجدة، هذه المسرحية عبارة عن مونودراما عرضت في عدة مدن مغربية وحصلت على جائزة تنويه في مهرجان أسفي الدولي.

3- الارتجال صيغة جمالية

لا نجانب الصواب إذا قلنا إن أهم مكون من مكونات المرتجلات هو الارتجال، فهو عمودها الفقري وقطب الرحى فيها. لذا فإن بافيس اعتبر المرتجلة:، مسرحية مرتجلة أو على الأقل تقدم نفسها كذلك. أي أنها تتظاهر بالارتجال حول إبداع مسرحي ، تماما كما يرتجل الموسيقيون موضوعة معطاة .
وكما هو معلوم فإن الارتجال يقتضي سرعة البديهة، لذا فهو «يعني التركيب، والإنجاز أو القيام اللحظي والآني بشيء لامتوقع، وغير جاهز على اعتبار أن هذا الغياب للإعداد يستطيع بطبيعة الحال، أن يكون نفسه جاهزا ومتعمدا» .

والأكيد أن الارتجال قديم جدا، إذ إن العروض المسرحية اليونانية القديمة كانت تعتمد على التأليف الجماعي، ومن ثم عدم التشبث بنص جاهز. والعرب بدورهم عرفوا مصطلح الارتجال واستعمله النقاد القدامى في مجال الشعر. وكان يلصق فعل الارتجال بالناس العاديين وليس بالشعراء. والارتجال بخلاف الصنعة التي تتوافر على قوانين ضابطة. ونجد في" لسان العرب" أن «ارتجال الخطبة والشعر: ابتداؤه من غير أن يهيئه. وارتجل الكلام ارتجالا إذا اقتضبه اقتضابا وتكلم به من غير أن يهيئه قبل ذلك. وارتجل برأيه: انفرد به ولم يشاور أحدا فيه، والعرب تقول أمرك ما ارتجلت، معناه ما استبددت برأيك فيه» . ويبدو أن الارتجال لدى القدامى كان يعني الطبع. وفي هذا الصدد يقول الأصمعي بخصوص شعر الحطيئة: «وجدت شعره كله جيدا، فدل على أنه كان يصنعه، وليس هكذا الشاعر المطبوع، إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي الكلام على عواهنه؛ جيده على رديئه.»

ويرى ابن رشيق أن« الارتجال مأخوذ من السهولة والانصباب، ومنه قيل: شَعَر رَجْل إذا كان سَبْطًا مسترسلا غير جَعْدٍ، وقيل: هو من ارتجال البئر؛ وهو أن تنزلها من غير حبل » . فالارتجال لدى النقاد العرب القدامى وان ارتبط بالشعر، فانه كان يفيد نوعا من السهولة في الاداء المقرونة بالانهمار والتدفق الذي لا يتوقف فيه قائله تحت ضغط المقام والمقال.

وبخصوص الارتجال في مسرحنا المغربي، فيتجلى في مختلف الأشكال الفرجوية التي عرفها المغاربة باعتبارها مسرحا شعبيا، والتي أشركت الجمهور في عروضها. وترسخ هذا في المسرح الحديث المرتبط بالبناية، لأن عدة فرق مسرحية مغربية في بداية الاستقلال كانت «تقدم أعمالا مرتجلة، بمعنى أنها كانت تعتمد موهبة الممثل في خلق الحوار وإحداث العمل المشخص» .

ويبدو أن المسرح العربي منذ بداياته الأولى كان يطغى عليه جانب الارتجال، بطلب من المتفرجين أنفسهم. ولقد أثبتت عدة عروض مسرحية أن الجمهور العربي يميل إلى هذه التقنية. وفي هذا السياق يذكر يعقوب صنوع عدة أحداث مفاجئة كانت تجري في مسرحه، وكانت تثير الضحك، وأحيانا تبعث على ابتئاس أهل المهنة ولكن الجمهور كان يتمسك بها أشد التمسك، ويأمر أن توضع في صلب العرض المسرحي، وأن تتكرر الليلة بعد الليلة .

وهذا يدل على أن الجمهور هو الذي يفرض هذه الصيغة ويدعو إليها. ومن الطرائف التي يذكرها صنوع «ما حدث أثناء عرض مسرحية تسمى ليلى وكان فيها طاغية يقتل الأولاد لسيد من سادات القبائل. وكان بين المتفرجين شرطيان حديثا العهد بالخدمة، فانثنى إليهما هازل بين المتفرجين، وقال: أيرضيكما أن تقترف هذه الجرائم أمامكما؟ فهب الشرطيان واقفين، وقفزا إلى خشبة المسرح وقبضا على الممثل الطاغية، وضج الجمهور بالضحك والتصفيق» .

واعتماد الارتجال في نصوص المرتجلات يدل على نزعتها الحداثية وذلك من خلال تأكيد قيم الحرية والتمرد على قيود النص واستبداد المؤلف. والارتجال لا يعني الفوضى والابتذال ولا ينتج أحداثا من العدم. إنه ينتج خطابا ما، ويستجيب لأفق انتظار المتلقي. وإن كان يبدو أنه رفض للجاهز، فإنه «لا يتورع عن الارتماء في أحضان النموذج من أجل أن يضمن استمرارية مقبوليته. وبهذا المعنى ينحصر الارتجال في اكتساب تقنيات تمكن المرتجل من المبادرة بإنجاز فعل يكون هو نفسه خاضعا لنمطية معلنة أو خفية» .

ويكتسي فعل الارتجال في المسرح الحديث أهمية بالغة، فهو تقنية درامية وليس فوضى. إنه «تدريب يساعد على الوصول إلى الإبداع، وليس انفرادا بالرأي واستبدادا به، سواء كان هذا المستبد بالرأي فردا أو جماعة. فنانا أو فنيا أو إداريا» . ونشير هنا إلى أن الفرق المسرحية المغربية مافتئت تسعى إلى توظيف هذا الفعل واستثمار نتائجه. ولقد تميزت الدورة التاسعة عشرة للمهرجان الدولي للمسرح الجامعي بتقنيات جديدة لم يألفها مسرحنا، إذ تخللتها مباريات تتعلق بالارتجال المسرحي جمع بين فرق محلية ومهاجرين مغاربة مقيمين بهولندة .

وهذا يؤكد أن صيغة المرتجلات كتابة جديدة تثور على ما هو سائد في المسرح العربي. ولعل في تبنيها لتقنية الارتجال وسيلة ناجعة للفكاك من سلطة الماضي ومن كل الأشكال التقليدية. لأن الارتجال لا يقر بوجود سابق للفعل على لحظة الإنجاز؛ بل يرتبط بالآن و الهنا.

إن النص المسرحي بمجرد انتهاء المؤلف من صياغته يصبح جزءا من الماضي، لأنه منجز أصلا وخاضع لقواعد درامية خاصة. وفي المقابل فإن الارتجال يربط علاقة وطيدة مع الفعل المنجز، أي أثناء الارتجال، الذي يظل دائما فعلا غير مكتمل، ويتوق دائما إلى التجريب والارتجال من جديد، ومن ثم تتعدد العروض. لذا فإن المسرحية يتم بناؤها أثناء تلقيها. ويظل الارتجال يطمح دائما إلى الفعل الذي سيأتي المستقبل؛ وهو فعل مخترق للمنتظر والمتوقع.انه بمثابة نهر دائم الجريان ويتجدد باستمرار. ولتوضيح ذلك أكثر نضع الخطاطة الآتية:

4- تركيب

يمكن أن نخرج بمجموعة ملاحظات ونحن نشير إلى ثنائية المرتجلة والارتجال في المسرح المغربي نلخصها في الآتي:

أ- الارتجال جزء داخل الكل الذي هو فن"المرتجلة". وبهذا يصبح الارتجال عبارة عن تقنية أو جمالية يتم توظيفها، كما هو الشأن بالنسبة لباقي التقنيات التي تعتمدها المرتجلات من قبيل: المسرح داخل المسرح، التناص...

ب- إن المشهد الارتجالي ليس فوضويا فهو يعتمد على التداريب. وحتى إن استغنى عن النص المكتوب فإنه يستند على نص شفهي، وما يستوجب ذلك من تنقيح وتعديل للمشهد أثناء التداريب.

ج- الغاية من إبراز فعل الارتجال هو إثارة انتباه الجمهور إلى أن ما يقدم أمامه عبارة عن لعبة مسرحية، ومن ثم جعله على علم بأساليب التمثيل المسرحي. وهذا المنحى منحى تجريبي يقطع الصلة بالمسرح الكلاسيكي المتشبث بالنص، أو بالأحرى رد فعل ضد النظام السائد وثقافة النمط المعتمدة.

د- الارتجال يسعى إلى إشراك الجمهور والممثلين على حد سواء في التأليف والإيحاء بأن النص الدرامي مليء بالفراغات التي يجب ملؤها، وأن النص قابل للتجاوز. ويمكن اعتبار إثارة الانتباه إلى فعل الارتجال في المسرحية هو بمثابة حسن تخلص من صنمية الثابت سلطة النص التي أصبحت تعرفها بعض العروض المسرحية. والارتجال هنا يصبح بمثابة الرصاصة الأولى التي تسعى إلى اغتيال المؤلف.

 [1]

بقلم: جمال الدين الخضيري

[1

1 المرتجلة قلق المسرح، سعيد الناجي، ضمن المرتجلة في المسرح: الخطاب والمكونات، كتاب جماعي، منشورات مجموعة البحث في المسرح والدراما التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، ط 1، 2003، ص:54.
تجليات المرتجلة في المسرح المغربي، مصطفى رمضاني، ضمن المرتجلة في المسرح: الخطاب والمكونات، مرجع سابق، ص: 73.
مساحة الصمت: غواية المابينية في المتخيل المسرحي، خالد أمين، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، ط1، 2004، ص: 52.
* المقصود بالمرتجلة هنا، هو الكلام المرتجل الذي يصدر بشكل تلقائي دون سابق تحضير وما يوحي به الخاطر واللحظة بحسب المناسبة والمقام، وليس الصيغة المسرحية التي نحن بصدد دراستها.
نقلا عن: المسرح المغربي: بحث في الأصول السوسيوثقافية، حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 1، 1994، ص: 93.
تجليات المرتجلة في المسرح المغربي، مصطفى رمضاني، ضمن المرتجلة في المسرح، مؤلف جماعي، مرجع سابق، ص: 71.
المرتجلة الجديدة/مرتجلة فاس المقدمة، محمد الكغاط، مرجع سابق، ص: 16.
المرتجلة قلق المسرح، سعيد الناجي، ضمن المرتجلة في المسرح:الخطاب والمكونات، مؤلف جماعي، مرجع سابق، ص: 47.
المرتجلة والحداثة، حسن يوسفي، ضمن المرتجلة في المسرح: الخطاب والمكونات، مرجع سابق، ص: 32.
قضايا المسرح المغربي من خلال مرتجلات الكغاط، يونس لوليدي، ضمن المرتجلة في المسرح: الخطاب والمكونات، مؤلف جماعي، مرجع سابق، ص: 37-38.
نحو تحليل دراماتورجي، أحمد بلخيري، مطبعة رانو، الدار البيضاء، الطبعة 1، 2004، ص: 17.
المرجع نفسه، ص: 12.
لحفل التنكري، محمد بهجاجي، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، ط 1، 1996، ص: 19، 20.
الياقوت، محمد عبد الفتاح، ص: 23
النصوص المثبتة في الجدول مرتبة ترتيبا الفبائيا.
Dictionnaire du théâtre, Patrice Pavis, Dunod, Paris, 1996, P: 170.
أسطورة الارتجال المسرحي، ميشال برنار، ضمن المسرح والارتجال، حسن المنيعي، عيون المقالات، الدار البيضاء، ط1، 1992، ص:24.
لسان العرب، [مادة رجل]، الإمام أبي فضل جمال الدين محمد بن مكرم، ابن منظور، دار صادر، بيروت، المجلد الحادي عشر، [د.ت.ن]، ص: 272.
المزهر في علوم اللغة وأنواعها، عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، الجزء الثاني، 1986، ص: 498.
العمدة في محاسن الشعر وآدابه، أبوعلي الحسن بن رشيق القيرواني، تحقيق محمد قرقزان، مطبعة الكاتب العربي، دمشق، ط2، 1994، ص:361.
المرتجلة عند الكغاط والآخرين، إبراهيم الدمناتي، ضمن المرتجلة في المسرح:الخطاب والمكونات، مؤلف جماعي، مرجع سابق، ص: 113.
مسرح الشعب: الكوميديا المرتجلة – فنون الكوميديا – مسرح الدم والدموع، علي الراعي، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 1993، ص: 28.
مسرح الشعب، علي الراعي، مرجع سابق، ص: 28-29.
المرتجلة والارتجال: من انبناء النص إلى إعادة بناء الذات، عز الدين بونيت، ضمن المرتجلة في المسرح:الخطاب والمكونات، مؤلف جماعي، مرجع سابق، ص: 89.
المرتجلة الجديدة/مرتجلة فاس مقدمة المسرحية، محمد الكغاط، مطبعة سبو، الدار البيضاء، ط 1، 1991، ص: 5.
المسرح والدين والطقوس، عبد الرحيم نفتاح، أسبوعية الأيام، عدد:291، 28 يوليوز 2007، ص:26.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى