الأربعاء ٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
بقلم جورج سلوم

شاعر العصافير

 انتبه يا سيّد... أنت في تحقيقٍ مكتوب... انتبه لكل كلمة تقولها...

ولا يجوز الشّطب أو التعديل وكلّ عبارة نشطبها ونصحّحها يجب أن توقّع بجانبها.

 فهمتْ

 أنت متّهم بمخالفة قانون البيئة العامة ..تلوّث الحدائق بمفرزاتك وتلوث الأدب بكلامك وأشعارك ...هل تعترف؟

 لا

 من هم أصدقاؤك؟

 لا أحد

 من أعداؤك؟

 لا أحد

 ما هو آخر كتاب قرأته؟

 لا لم أقرأ منذ زمن ...وما أنا بقارئ حالياً.

 ومع ذلك تنظِم أشعاراً...ماذا تعملْ ...ومَن يدفع لك ...وماذا تملك؟

 لا أعمل شيئاً.. وجيوبي نظيفة ..وأملك الكثير الكثير... كلّ الحدائق العامة لي وأملك أشجارها وعصافيرها... أنا أقول أشعاري للعصافير وهي تحملها عني بأمانة.. تغرّدها بدون تحوير ...وتنقلها عبر الأثير .

 كلّ كلامك مسبوقٌ بلا!.. ابتعد عن هذه الكلمة.. لا تتهرّب.. ولا تُسهبْ وإذا ما شعرتُ بأنك غير متوازنٍ سأطلبُ لك استشارة طبيبٍ نفسي.

 يا سيدي.. أنا ببساطة.. لاشيئ ولا أحدْ ولا وزنَ لي ولا أهل ولا ولد.. أحبّ كلمة لا...أعشقها....أدمنتُ عليها!

عندما زُرعتُ في رحم أمي اغتصاباً... قالت لا.

وعندما حَبِلَتْ بي سمعتها تردّد لا ثمّ لا ...كانت لا تريد ذلك الحمل.

وعندما أُخْرجْتُ من بطنها عنوةً صرختُ بأعلى صوتي لا ...

لأنني لم أكن ْ أرغب بأن أولدَ في هذا الزمان.

وعندما سجّلوني في السجل المدني قالوا ( لا أب له )..باعتباره مجهول.

في طفولتي تعلّمت وردّدت كلمة (لالا) أكثر من كلمة (ماما)

وفي مدرستي كنت منبوذاً .. مُستبعداً من الجلوس واللّعب مع رفاقي.. وكبرتُ مرفوضاً وأصبحتُ رافضاً لكلّ شيء.

وحتى الآن أقول لا إذا ما خُيّرتْ.

فلا للظلم ولا للقتل ولا للجوع ..ولا للدّموع...لا وألف لا يقولها كلّ موجوع...

لا للحبّ.. لأنه سينتهي بالحمل ..وستلد لنا أجيالٌ مريضة مثلنا ..

لا للشمس .. لأنها مصرّة أن تغيب آخر النهار ..فتتركنا تحت رحمة الليل.

لا للابتسامة... لأنها إذا تكرّرت جرّحت وجهي بالأخاديد....

لا للمطر... لأنه سيبلل ثيابي ولا أملك غيرها ..فأجففها على جسدي وعلى حَرِّ بَرْدي.
لا للطعام... لأنه سيتحوّل في النهاية إلى برازٍ كريه الرائحة...

لا للماء... لأنه سيتحوّل بولاً.. يحصرك ويُجبرك أن تنأى بنفسك خلف شجرة الحديقة.. فيُلقون القبض عليك.. هذه هي جريمتي الأولى.. التبوّل في الهواء الطلق! ..ليس لدي جُحر يؤويني..فهل تستكثرون عليّ حَجَراً أسند رأسي إليه؟

أما أشعاري فلا أحد يسمعها سوى العصافير.. لأنها لا تمدح أحداً وغنية باللاءات.. لا تسرقوا ولا تكذبوا ولا تشهدوا بالزور ولا.. ولا.. ولا أريد منكم شيئاً...هذه هي جريمتي الثانية... أشعارٌ طائرة و لاءاتها فائرة.. كلماتي حائرة.. لكنها غير جائرة!.

لقد أحببتُ اللغة العربية لأنها تحوي الكثير من اللاءات مثل لا الناهية ولا النافية للجنس ..وكان أجدادنا العرب يؤكدون الرفض بقولهم (لا وألف لا ).

هزّ المحقق رأسه ..وأشار إلى الكاتب أن يُلغي المحضر باعتبار المتهم ليس سوياً..لكنه قرر إكمال الحديث للتسلية فقط ..قال:

 لا تسرق ولا تزنِ ولا ولا ..ليست جديدة ..سبقكَ إليها موسى النبي ..فهل تنوي أن تصبح نبياً مثلاً؟...

وتابع ساخراً:

 هناك أغنية لفيروز تقول(عاللا لا ولا لا ولا لا ) إذا أسمعتني شيئاً منها سآمرك بالانصراف.. لا وقت لديّ لأمثالك من العظماء.. عليك بالغناء فهو أفضل من الشعر.. على الأقل له جمهور .

ثم إلتفت إلى زميله هامساً:

 من أين جلبتم هذا ال........ اصرفوه أو أحيلوه إلى المشفى.

 لا .. لا أنا لست مجنوناً يا سيدي .... أيامنا هذه بلغ فيها الانحراف والظلم والفساد والإجرام مبلغاً لم يتخيّله موسى النبي ..لذلك كانت لاءاته محدودة بعشر ..وحفرها على حجر من الصخر .. أنا لاءاتي غير محدودة ..فأقولها (لاه) بتسكين الهاء لأختصر اللاءات جميعها ..أقولها من أعماق أعماق قلبي .. وتصبح الهاء ضميراً للغائب المجهول حيث لا أستطيع التصريح بالمعلوم .
وقد (لاهَ) الله الخلق جميعاً..ولست (بلاهٍ) عنه.

يجيب المحقق بعصبية ..بعد أن أطفأ سيجارته بقسوة:

 لم يكن ينقصني إلا سيبويه في هذا اليوم !..يا مواطن.. آهٍ منكَ.. وواهٍ عليك .أنا لاهٍ عنكَ..وبالله عليك اذهب عني والهُ في حديقتك ما شئت ..لا شأن لنا بلاءاتك نحن نبحث هنا عن (وَلاءاتك)... استشعر ما شئت مع عصافيرك... ومن صادق العصافير سينتهي في (العصفورية) بإذن الله.

وأتمنى من الله أن لا أراك بعد اليوم... وأن لا أسمع صوتك بعد الآن.... و لا حول و لا قوة إلا بالله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى